المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وبما أن القرآن الكريم عودنا على أن لاتضارب بين نصوصه، - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: وبما أن القرآن الكريم عودنا على أن لاتضارب بين نصوصه،

وبما أن القرآن الكريم عودنا على أن لاتضارب بين نصوصه، فلدا يجب تأُويل آية البقرة التي يفيد ظاهرها تأَخر خلق السموات عن خلق مافى الأرض، ليتفق- مع الواقع الذي يفيده نص سورة النازعات، وهو تأخر دحو الأرض وخلق ما عليها، عن خلق السموات، وذلد بجعل {ثُمَّ} في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} : للعطف والترقى في الرتبة، لا للتراخي الزمنى، وكثيرا ما يستعمل لفظ {ثم} لذلك، تقول: النَّاس طبقهات، العامة ثم الخاصة، وتقول: الوزراء ثم رئيسهم ثم السلطان مُتَرَقِّيًا في ذلك من أدنى إلى أعلى.

ولا شك أَن القصد والاتجاه بالإرادة إلى خلق السموات وتسويتهن، أعلى مرتبة من ترتيب منافع الأرض فكأن قال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وكان منه قبل ذلك ما هو أعظم منه وهو أَنه قصد إلى السموات السَّبع فسواهن، أي خلقهن سويات قاليات من العيوب.

‌السماوات السبع

فسر المتقدمون السماوات السبع: بالأفلاك السبعة، والأفلاك جمع فَلَك بفتح اللام، وهو: مجرى النُّجوم- كما في القاموس.

ونقل الآلوسي- عن أرباب الأرصاد أن الأفلاك تسعة، وهل هي إلا سماوات- كذا قالوا- ولهذا يرى بعض العلماء أن تخصيص العدد بالسبع لاينفى الزيادد عليه، ومِمَّن قال بذلك يالإمام الرازى، وقال السَّالِيكُونِي إنه الحق.

وبعد أن سقنا ما رآه المتقدمون فى المراد من السموات وعددها، نقول: لعلهم يرون أن القرآن الكرأيم اقتصر كلى عدد السبع فى السموات لأن ذلك كان مفهوم العرب فيها، فعبَّر القرآن عن عددها كما يفهمون، حتى لايكذّبون الله ورسوله، ولذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن نخاطب الناس بما يعقلون، حتى لايكذبون الله ورسوله فيما يجهلون.

واعلم أن المناظير البعيدة المدى، أثبتت أن في السموات ملايين المجرات، وكل مجرة تحتوى على ملايين المجموعات الشمسية، ولا يزال هذا الملكوت تبرز فيه مجرات جديدة، من عالم الغيب.

ص: 69

فهل كل هذه المجرات تجرى في سبعة أفلاك أو تسعة، كما يقتضبه كلام القدامى من

الفلكيين- بحيث تجرى كل مجموعة ذات مستوى معين في فلك منها، أم أَنها تحتاج إلى

أفلاك أكثر، فتكون السماوات أكثر مما ظنوا. لا شك أن العلم بالحقيقة مقصور على الله،

وما يقوله الخلق عن ذلك عرضة للاهتزاز، ثم الانهيار، لأَن هذه الأجرام السماوية في أبعاد سحيقة، فلا نستطيع الاطمئنان إلى عندهم طبقاتها بسبع أو تسع أو غيرهما- وهم على ظهر الأرض- مهما كانت مناظير هم بعيدة المدى.

والذي يظهر لنا من القرآن الكريم، أَن السموات السبع شىءٌ آخر غير النجوم والكواكب والأفلاك النى تجرى فيها، فقدقال تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (1)} .

فهذا النص يقتضى أن المجرات بنجومها وكواكبها، هي المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا- أي الأولى- وحيث كانت زينة لها فليست هي السماء الأولى ولا غيرها من السموات السبع، ألا ترى أَن عِقْد اللؤلؤ زينة لصدر الفتاة، وليس هو صدرَ الفتاة بل غيرَه.

لهذا لم يكن عجبا ما قرأناه أخيرا، من أن بعض العلماء أثبت أن وراء المجرات عوالم عظيمة لم تتبينها المناظير بعد، والله تعالى أعلم بملكه وملكوته عن عباده.

{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} :

هذه الجملة مقررة لما قبلها من خلق السمنوات والأرض على النمط البديع، والمنطوي على الحكم الفائقة، والمصالح العظيمة، فإن علمه بجميع الأشياء، وبما يليق بكل واحد منها، يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على النمط البديع الحكيم.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} .

المفردات:

{خَليفَةً} : الخليفة؛ من يخلف غيره وينوب عنه. فعيل بمعنى فاعل، والتاءُ للمبالغة. والمراد به آدم وبنوه.

(1) الملك من الآية: 5

ص: 70

وللخليفة معنى آخر؛ هو الحاكم ومنه قوله تعالى في: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ

} (1) ويكون المعنى على هذا: أن الله سبحانه، خلق لآدم وذريته ما في الأرض جميعًا، وسخره له، وجعله حاكما عليها لينشر فيها العدل، بما هداه الله إِليه من العلم.

{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} : أي يريقها والسفك مختص بالدم.

{نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} : نُبْعِدُ عنك ما لا يليق بك، اعتقادا أو قولًا وعملًا: متلبسين بحمدك، من سبح في الماء إِذا أَبعد فيه.

{وَنُقَدِّسُ لَكَ} :ْ أي ننزهك عمَّا لا يليق بك، من أجل ذاتك.

التفسير

30 -

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً

} الآية.

القصة المذكورة في هذه الآية - من خلق آدم عليه السلام، وجعله خليفة في الأرض- تتصل بذكر النعم السابقة من الله تعالى على الناس.

فإن خلق آدم وتكريمه، وتفضيله على الملائكة، وأَمرهم بالسجود له، كل ذلك: إِنعام من الله تعالى على أبيهم، ونعمة الآباء، نعمة على الأبناء.

وهذا توجيه ربط الآية بما قبلها.

وكلمة {أذْ} هنا: للظرفية في الماضي. أي: وا ذكر وقت أن قال ربك للملائكة.

وتوجيه الأمر بالذكر إِلى الوقت- دون ماوقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات- للمبالغة في إيجاب ذكرها.

والمقصود: تنبيه الكافرين إلى تذكر قصة خلق آدم عليه السلام؛ لينبَّهوا لبطلان ما هم فيه من الكفر بالرسول؛ وينتهوا عنه؛ فإن في هذه القصة من الغيبيات ما لا يعلمه إلا نبي موحى إليه من ربه.

وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى درجة الكمال - مع إضافته إلى ضمير خطاب النبي عليه الصلاة والسلام إِشارة إِلى مقام التشريف والتعظيم من الله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام.

(1) ص من الآية: 26

ص: 71

{لِلْمَلَائِكَةِ} : الملائكة جمع مَلَك. وهم: ذوات نورانية، خلِقو الطاعة الله فيما يأْمرهم به، لهم قدرة التشكل بالأشكال الحسنة المختلفة. ولهذا كان الرسل يرونهم. وهذا مذهب أكثر المتكلمين.

وقال الحكماءُ: هم جواهر مجردة. مخالفة للنفوس الناطقة بالحقيقة.

ومعنى قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إنى خالق في الأرض خليفة وهو آدم- عليه السلام وخواص بنيه من البشروهم الرسل، وذلك إن كان المراد بالخلافة: الخلافة من جهة اللُّه -سبحانه- في إجراء أحكامه بين الناس، وسياسة خلقه؟ لقصر استعداد المستخلف عليهم، وعدم لياقتهم لقبول الفيض الإلهى، فتختص باَدم والخواص من بنيه، فإن أُريدت الخلافة ممن كان في الأرض قبل ذلك، فالخليفة هو آدم وذريته جميعًا، صالحهم وطالحهم. فقد خلفوا من سبقهم في عمارة الأرض.

{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} هذا اسنئناف وقع جوابا عن سؤال تنساق! ليه الأذهان، كأَنه قيل: فماذا قالت الملاتكة بعد آن أخبرهم الله بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} ؟ فقيل جوابا لهذا السؤال: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا

} إلخ.

والمعنى: أنجعل فيها خليفةَ: مَن يفسد فيها؟ وقد عرفوا ذلك، إمّا قراءةً من اللوح المحفوظ الما سجل من مستقبل أعمالهم، وائا قياسًا لهم على من كان قبلهم، وهم الذين أَهلكهم الله وأحلهم محلهم، وائا من الغرائز التي سيخلقون بها، فإنها قد تدعو إلى الفساد.

والاستفهام ظاهره تعجب الملائكة من أنه تعالى، سيجعل في الأرض مَن يفسد فيها، أو

الاعتراض على ذلك وانكاره. ولكن هذا الظاهر كير مراد؛ لأن الملائكة كما قال تعالى:

{

عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (1) بل هو استفهام تعجب، قالو. استكشافًا لما خفِىَ عليهم من الحكم في خلق من بفسدون في الأرض، واستخبارًا عما يزيح شبهتهم، ويشدهم إلى معرفة ما فى آدم من الفضائل الق جعلته أهلا للخلافة هو وذريته، كسؤال المتعلم أستاذ. عما ينقدح في ذهنه؛ ليعلم الجواب فيستريح.

(1) الأنبياء من الآيتين: 26، 27

ص: 72

فليس سؤَالهم اعتراضًا على الله، ولا شكًّا في اشتمال جعله خليفته فى الأرض على الحكم والمصالح.

{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} : أي يقتل النفوس التي يحرم قتلها، والتعبير عنه بسفك الدماءِ، لأنه اقبح أنواع القتل.

{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} : هذه الجملة مقررة للتعجب السابق، ومؤَكدة

له، كأنه قيل: أتستخدم مَن شأن ذريته الفساد، مع وجود من هو مجتهد في طاعتك لا يعصيك أَبدا؟

والمقصود عرض أحقيتهم بالخلافة كما فهموا، والاستفسار عما رَجَّحَ بني آدم عليهم، مع ما يتوقع منهم من الفساد؛ ليعرفوا حكمته من الحكيم الخبير: الذي يضع كل شىء في موضعه.

وقد نظرت الملائكة في سؤَالها إلى الغرائز الداعية إلى الفساد نى بني آدم، وغفلت عن "العقل" الذي يمسك بها، ويصر فها إِلى الخير وتَعَرُّف أحوال الكائنات والانتفاع بها، وغير ذلك مما يصلح به أمر الخلافة في الأرض، إلى جانب استدلاله حها على الصانع جل وعلا.

ولا شك أن بني آدم- بكفاحهم لغرائزهم وشهواتهم، وصرفها ناحية الخير- يفضلون عوام الملائكة، لأنهم مخلوقون للطاعة، ولا شهوة فيهم.

والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لايليق به؛ اعتقادا وقولا وعملًا، وكذلك تقديسه.

والمعنى: ونحن ننزهك؛ متلبسين بحمدك على ما أنعمت علينا من فنون النعم، ونقدس لك تقديسا يليق بمقامك. وقيل: معنى نقدس لك؛ نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك.

وكان جواب الله عليهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي إنى أعلم ما لا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه، ولا يضير استخلافه وذريته أن بعضهم مفسد سفاك للدماء، لأن الله أودع فيهم الصلاحية لعمارة الأرض، والخير غالب فيهم.

على أن ما يقع من بعضهم من الشر هو ابتلاء من الله للجميع؛ ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وليثبت القائمين بإرشاد العصاة ثوابا عظيما: {

وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (1)

(1) الأنبياء من آية: 35

ص: 73

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}

التفسير

31 -

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا

}:الآية.

شروع في تفصيل الجواب الإِجمالى من الله للملائكة، ومعنى تعليم الله لآدم الاسماء كلها: أنه خلق فيه - بموجب استعداده- علمًا ضروريا تفصيليا، بأسماء جميع المسميات وأحوالها وخواصها اللائقة بكل منها، كأن يلقي فى روعه تفصيلا: أن هذا فرس، وشأنه كذا وكذا، وهذا بعير وحاله كيت وكيت. وكذا كل مادة وعنصر: عرف اسمه وخواصه وطريقة استعماله.

والاسم:- باعتبار الاشتقاق- ما يكون علامة للشىء ودليلا يرفعه إلى الذهن، من الألفاظ والصفات والأفعال.

ويستعمل- عرفا- في اللفظ الموضوع لمعنى؛ مفردا كان أو مركبا؛ مخبرا عنه أو خبرا، أَو رابطة بينهما. واصطلاحا فى المفرد الدال على معنى غير مقترن بالزمان. والمراد هنا الأول، أَو الثانى كما قاله العلامة أبو السعود.

قال ابن عباس وغيره: علَّمه أَسماءَ جميع الأشياءِ حتى القصعة والقصيعة، والجفنة والمِخْلَب.

{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} : أي عرض المسميات المدلول عليها بالأسماء، وضمير جمع العقلاء لتغليبهم على غيرهم، وقد جاء في الحديث أنه عرضهم عليهم كأمثال الذر.

عن ابن عباس- رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام بمنان- يعني بعرفه- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها

ص: 74

فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا وقال: {

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ

} إلى قوله: {

بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (1) هذا حديث صحيح الإسناد (2)

قال أبر السعود رحمه الله: ولعل الله عز وجل عرض عليه من أفراد نوع ما يصلح أن يكون نموذجًا: يتعرف منه أحوال البقية وأَحكامها.

{فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} : أي قال-تبكيتًا لهم واظهارًا لعجزهم عن اقامة ماعلقوا به رجاءهم من أمر الخلافة- أخبرونى بأسماء هؤلاء فإن تدبير شئون هذاه المسميات موقوف على معرفنها وجميع خواصها وأحوالها، فمن لم يعرفها، لا يصلح للخلافة فيها وولاية أمرها. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في زعمكم أَنكم أحقاء بالخلافة ممن أَستخلِفُه.

32 -

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا

}: الآية.

قال الملائكة لربهم: {سُبْحَانَكَ} أي نسبحك وننزهك التنزيه اللائق بك، فلا يمكن أَن تخلو أفعالك من الحكم، ومن جملتها استخلاف آدم، وما سألنا إلا لنتعلم ونعرف الحكمة، وقد عرفناها بمرفة مزايا من استخلفته. {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ونحن لم نتعلم ذلك، بل تعلمنا العلوم اللائقة بعالمنا كما علمتنا {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} بما ينبغى لكل شئ {الْحَكِيمُ} في تقديره وتدبيره.

{قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}

التفسير

33 -

{قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ .... } : الآية.

بعد أن أقروا لله بعجزهم أراد -سبحانه- أن يبين لهم فضل آدم عليهم {قَالَ يَا آدَمُ

(1) الاعراف من الآيتين: 172، 173

(2)

(المستدرك جـ2 ص544).

ص: 75

أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}:أَخْبِرهم بأسماءَ هذه المسميات التي عجزوا عن معرفتها {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} وظهر فضله عليهم بالعلم. {قَالَ} الله لهم بعد ذلك: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يقروا به جوابه السابق لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وفي هذا إلتقرير، تفصيل لما أجمل سابقا، وعتاب لهم على تركهم ما كان أَولى بهم، وهو أَن يتوقفوا: متزصدين أَن يبين اللهُ لهم ما لا يعلمون، بدلًا من توجيه السؤَال له- بهذه الصوره-.

والهمزة في: {أَلَمْ أَقُلْ} للاستفهام الإِنكاري. وفيها معنى، النفي، دخلت على حرف النفي {لَمْ} فكان ذلك بمنزلة نفي النفي، فيفيد إِثباتًا وتقريرًا كما قلنا، فالمعنى قلت لكم:{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .

أَي أعلم ما فيهما من أَسرار لا تعلمونها {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} من قولكم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} ، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} في نفوسكم من أنكم أَفضل منهم وأولى بالخلافه، أو من أمتثالكم الذي أَضمرتموه في أَنفسكم.

وفي هذه الآية إِشارة إِلى أَن الإنسان اعطىَ الاستعدادَ لِتَعرفِ الأشياء وإدراك نواميس الكون؛ ليسخرها له بمقتضى ما منحه اللهَ هن الأَسباب.

وفيما تقدم من ألَايات، دليل على شرف الإِنسان، وعلى فضل العلم، وأَنه في مقدمة العبادات، وأنه مناط الخلافة والنيابة عن الله في الأرض، وأَن ألحكمة أمر زائد على العلم، لأن الملائكة وصفوا الله تعالى بالحكمة بعد العلم، وإِلا لزم التكرار. وقد دلت الآية الاخيرة على أن الله سبحانه يعلم الأَشياءَ قبل حدوثها.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}

التفسير

34 -

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ .... } الآية.

في هذه الآيَة، تذكير بنعمة أُخرى على أبينا آدم عليه السلام، ناطقة بالتعظيم لقدره،

ص: 76

والتنويه بشأْنه، حيث أمر الله الملائكة بالسجرد له. والآية معطوفة على ماقبلها، عطف القصة على القصة. فقد عطفت فيها قصة السجود على قصة الخلق، لتستكمل بها نعمه -تعالى- التي تفضل بها على خلقه.

ومعنى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} أي واذكر لهم يا محمد، وقت قولنا للملائكة:{اسْجُدُوا لِآدَمَ} أي: عظموه اعترافا- بفضله، وأداءً لحق تعليمه لكم الأسماءَ، واعتذارا عما وقع منكم فى شأنه {فَسَجَدُوا} عطف على {قُلْنَا} ، والفاءُ لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال {إِلَّا إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجد ولم يمتثل. وسيأْتى بيان امتناعه في الآية الكريمة.

وظاهر استثنائه من الملائكة الذين سجدوا أنه منهم، ولكنه ليس كذلك، فإنه جِنَّىٌّ؛ لقوله تعالى في آية أُخرى عنه: {

كَانَ مِنَ الْجِنِّ

} (1)، ولأنه لو كان من الملائكة، لما امتنع عن امتثال أمر ربه، لأنهم {

لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2)

ولهذا، يحمل استثناؤُة منهم على أنه لما كان بينهم، عابدا بعبادتهم، جعل منهم. فإن من طالت اقامته مع قوم واندمج فيهم، اعتبر منهم وان لم يكن من قبيلتهم.

وعلى هذا التأويل، يعتبر استثناؤة متصلًا، ويجوز اعتبار الاستثناء منقطعا.

ومعنى {أَبَى} امتنع اختيارا. {وَاسْتَكْبَرَ} طلب الكبرياءاستعلاءً وادعاءً، فإن الكبرياءَ حق الله وحده.

ومعنى قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وصار من الكافرين بسبب عصيانه على حد قوله في شأن ابن نوح: {

فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (3)

واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية- والتي في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ

} (4) وكذا ما في سورة الإسراء. وطه والكهف- أن سجود الملائكة، إِنما ترتب على الأمر التنجيزى، الوارد بعد خلقة وتسويته ونفخ الروح فيه.

(1) الكهف من الآية:50

(2)

التحريم من الآية: 6

(3)

هود من الآية: 43

(4)

الأعراف من الآية:11

ص: 77

أَما ما جاءَ في سورالحِجر {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)} فهو إخبار منه تعال للملائكة. بأنه سيخلق آدم، ويكلفهم بالسجود له، إذا أتم تسويته ونفخ الروح فيه. فالأَمر بالسجود فيها معلق على تسويته ونفخ الروح فيه، فهم غير مكلفين بالسجود له، حتى يتم ذلك، فيؤْمروا بأَمر تنجيزى جديد، حمعًا بين هذه الآية والآيات إلاخرى التي نبهنا إليها.

أَما قوله في سورة الحجر- عقب هذا الأَمر التعليقي،-:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فمحمول على أنهم سجدوا له بعد تمام خلقه ونفخ الروح فيه، وأَمرهم بعد ذلك بالسجود تنجيزا، بعد أمره به تعليقًا .. وكذلك يفسر ما جاءَ سورة (ص).

{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}

المفردات:

{اسْكُنْ} : أقم فيما تسكن فيه النفس وتطمئن.

{الْجَنَّةَ} : البستان. {رَغَدًا} : واسعا.

{الشَّجَرَةَ} : مجهولة النوع، وعِفم ذلك عند الله تعالى.

التفسير

35 -

: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ .... } : الآية.

لما كفر إِبليس بعصيانه أَمْرَ ربه بالسجود لآدم، أَبعده الله عن الجنة بقوله: {

اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا

} (1) وقال لآدم: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ .... } (2) تكريما لهما.

(1) الأعراف من الآية: 18

(2)

الأعراف من الآية: 19

ص: 78

والسكن: الإقامة في مكان تسكن فيه النفس، أي تطمئن فيه.

والجنة التي أمر بسكناها: هي دار الثواب، عند الجمهور، لأَنها كذلك في عرف نصوص الشريعة: وقيل هي جنة بأرض فلسطبن، أو بين فارس وكرمان أو في غيرهما، خلقها الله امتحانا لآدم عليه السلام، وحمل الإهباط منها على النقل منها إلى أرض أخرى، كما في قوله تعالى:{ .... اهْبِطوا مِصْرًا .... } (1) لأن خلقه كان في الأرض بلا خلاف. ولم يذكر في قصته رفعه منها إلى السماء حيث جنة الجزاء. ولو وقع ذلك، لكان أولى بالذكر؛ ولأنها لو كانت دار الخلود، لما دخلها إبليس.

ذكره أبر السعود والآلوسى، والله أعلم.

ومعنى قوله: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} : أي تمتعا بالأَكل منها أكلا واسعا، في أَي مكان شئتماه من الجنة.

ْوقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} نهي أُريد به أختبار آدم وحواء، وتعلق النهي بالقرب من الشجرة، للمبالغة في الإبعاد عن الشجرة نفسها، فإن انتفاء القرب يستلزم عدم الوقوع في الأكل وهو المقصودمن النهي.

والمشار إليه بـ (هذه) يحتمل أن يكون شجرة بعينها، ويحتمل أن يكون جنسها. فتدخل فيه هي ومثيلاتها.

وبين هذين الاحتمالين وقع التأويل من آدم بسبب الوسوسة. فالمظنون أنه تأَوّل النهي بأنه عن شجرة بعينها من الجنس، فَتَرَكَ المشارَ إلى شخصها وأكل عن جنسها؛ مع أن المقصود هو النهى عن الجنس، إذ لا فرق ببن شجرة منه وشجرة أُخرى.

ونحن نمسك عن تعيين شخصها أو نوعها؛ لعدم وجود دليل لهذا التعيين.

وكان الأكل منها سببا في اخراجهما من الجنة عقوبة على مخالفة النهى.

{فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} : المراد من ظلمهما ظلم أنفسهما، فإن مخالفة النهي، كانت سببا فىْ حرمانهما مما كانا فيه من نعيم الجنة.

(1) البقرة من الآية: 61

ص: 79

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} .

المفردات:

{فَأَزَلَّهُمَا} : أَوقعهما في الزلة.

{عَنْهَا} : أي بسبب الأكل من الشجرة.

ْ {مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار.

{وَمَتَاعٌ} : تمتع وانتفاع.

التفسير

36 -

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا

} الآية.

أي جعلهما الشيطان يقعان في الزلة عن هذه الشجرة، أي: بسببها؛ لأَنهما خالفا النهى عن الأكل منها، فأَكلا استجابة لوسوسته.

وقريءَ {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} : أي أبعدهما عن الجنة، فالضمير في هذه القراءة للجنة، وفي القراءة السابقة للشجرة.

ويجوز أن ترجع القراءَ ة الأولى إلى الثانية، وذلك بأن يكون معنى {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}: أبعدهما عن الجنة؛ فإن الإزلال يستعمل بمعنى الإبعاد.

وقد يقال: كيف توصل إبليس إلى إزلالهما بالوسوسة وهما في الجنة، بعد أن قيل له:

{

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (1)} فخرج منها فعلا. ومن عوقب بالإخراج من الجنة مطرودا لا يدخلها؟

- وأُجيب بأنه مُنِعَ من دخول الجنة تكريما ولم يمنع من الدخول وسوسة، للابتلاءِ.

(1) الحجر من الآية: 34

ص: 80

وقيل: غير ذلك.

والأَولى إحالة ذلك إلى الله تعالى، وكل تأْويل فى ذلك رجم بالغيب.

وقد ترتب على هذه الزلة ما أشار الله إليه بقوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} : أي من النعيم الذي كانا فيه، بعد أن تم الابتلاءُ والوقوع في الزلة؛ ليتحقق ما كان مقدرا في علم الله تعالى ومرتبا على هذه الزلة، مِن هبوط آدم ليكون خليفة في الأرض، فصدر أمر الله بالهبوط إليهما، ومعنى قوله:{اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} : اهبطوا حال كون بعض أولادكما عدوًّا للآخر؛ بما ركزه الله فيهم من غرائز صالحة لاخير والشر، يسشغلها الشيطان فيوسوس لهم ويزين القبيح حسنا، فتندفع الغرائز نحو البغي والعدوان على الناس، إلا من اعتصم بالشرع وحكَّم العقل، فكان من المخلصين، كما قال تعالى: {

وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (1)}.

والضمير في {اهْبِطُوا} لآدم وحواه، بدليل ما جاء في لآية أخرى {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا

} (2) وضمير الجمع منظور فيه إلى ذرياتهما في ضمنهما، فكانهما الجنس كله، أولَهُمَا ولإبليس بعد ما دخل للوسوسة. وكان قد طرد منها قبل ذلك.

أَما القول بأنه راجع إليهما، وأريد بالجمع ما فوق الواحد، فليس حسنا، فإن آدم لم يكن عدوًّا لحواء.

{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} :

أي لكم فيها استقرار أو موضع استقرار، {وَمَتَاعٌ}: أي تمتع بالعيش وانتفاع به

{إِلَى حِينٍ} :- هو حين انتهاء آجالكم بالموت.

واعلم أن النهى عن الأكل من الشجرة، ثم الأكل منها بإغواء إبليس، كان مقررا في العلمِ الأزلي، ولكن ترتيبه عليه في الوقوع، كان من ربط المسببات بأسبابها، ابتلاءً وتحقيقًا لمشيئة الله تعالى.

(1) الحجر من الآ يتين: 40،39

(2)

طه من الآية: 123

ص: 81

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

المفردات

{فَتَلَقَّى آدَمُ} : أي استقبل.

{كَلِمَاتٍ} : هي كلمات التربة التي ألهمه الله إِياها.

{فَتَابَ عَلَيْهِ} : قَبِل توبته.

التفسير

37 -

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ

}: الآية.

أي ألقى الله في روع آدم؛ أن يتوسل إِليه بكلمات ألهمه إياها؛ ليتوب الله عليه، فاستقبلها بالأخذوالقبول. والعمل بها حينما تعلمها.

{فَتَابَ عَلَيْهِ} التر بة. لغة الرجوع. والمعنى: رجع عليه بالرحمة، بأَن قبل توبته، وإ نما وحد الضمير في {عَلَيْهِ} مع أن حواءَ شريكة له في الذنب، بإجماع العلماء؛ لأن حواءَ تابعة له في الحكم إذ النساء شقائق الرجال في الأحكام. ولذا طوى ذكرهن في معظم الكتاب والسنة اكتفاء بذكر الرجاك بإزاء الأحكام.

ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . تعليلا لقوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} .

وصف الله نفسه بأنه هو التواب أي: كثير قبول التربة. وهي صيغة مبالغة من التوب بمعنى الرجوع فإذا وصف به الله، كان بمعنى الرجوع عن العقاب إلى المغفرة وقبول التوبة. وإذا وصف به العبد، كان بمعنى الرجوع عن المعصية. {الرَّحِيمُ}: العظيم الرحمة.

وبذلك فتح الله للعصاة طريق التربة إِذا عصوا، ليتوب عليهم كما تاب على أَبيهم آدم، لأنه -سبحانه- التواب الرحيم.

ص: 82

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}

التفسير

38 -

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا

}: الآية.

كرر الأمر بالهبوط، إيذانا بأنه محتوم لا بد منه، وأن قبول التوبة لا يدفعه؛ ولأن الهبوط

الأول مشوب با لعقاب، وإسكان دار البلاء، والعداوة وعدم الخلود، والثاني مشوب بالرحمة بإيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة.

{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِّنِّي هُدًى} : شرط، جوابه جملة الشرط الثاني، وهي. قوله:{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} والمرادمن قوله: (هُدَايَ) كتُبُ الله وآياته ورسُله.

والمعنى: فمن تبع هداى: أي بالإيمان والقول مع العمل الصالح، فلا خوف عليهم- في المستقبل- من لحوق مكروه، ولاهم يحزنون على فوت مطلوب، بل يستمرون على السرور والابتهاج.

39 -

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

هذ. الآية معطوفة على قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} كأَنه قيل: ومن لم يتبع هداى بل كفر باللهِ وكذب بآياته القرآنية والكونية ....

وقوله: {أولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} بيان لجزاء من كفر باللهِ وكذب بآياته.

ومعنى أصحاب النار: أهلها ومستحقوها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} : لا يخرجون منها- والجمع فيما تقدم باعتبار ذرية آدم وحواءَ.

ص: 83