المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}: صيغتان للمبالغة في الرحمة، الأولى سماعية، والثانية قياسية، - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}: صيغتان للمبالغة في الرحمة، الأولى سماعية، والثانية قياسية،

{الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} : صيغتان للمبالغة في الرحمة، الأولى سماعية، والثانية قياسية، وتختص الأولى بالله - تعالى - ويجوز إطلاق الثانية على غيره.

التفسير

163 -

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .

لما ذكر الله في الآيتين السابقتين وعيد الكافرين، وختمه بأنهم خالدون في العذاب وأنهم لا يُخفف عنهم ولا يُنظرون، أتبعهما هذه الآية والتي تليها، ليرشدهم إلى توحيده - سبحانه - لعلهم ينقذون أنفسهم من هذا الوعيد الذي ينتظرهم، فهما مسوقتان لإثبات الألوهية لله - تعالى - وتفرده بها، وقد مرّ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى

} الآية. لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي كتموا شهادة الكتب السماوية بنبوته.

‌وسبب النزول

على ما نقله الآلوسي:

عن ابن عباس - رضى الله عنه -: أن كفار قريش قالوا: للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك، فنزل قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ومع أن السبب خاص، فالخطاب عام لكل من يصلح للخطاب، والسائلون في جملتهم.

والمعنى: وإله البشر الذي يستحق العبادة، إله واحد، هو الله - تعالى - لا إله إلا هو بليغ الرحمة، فقد عمت رحمته في الدنيا المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وعمت رحمته في الآخرة، هل الإيمان: من وفَّى منهم، ومن قصر وتاب.

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ

} (1).

ومن كان كذلك: فلا يصح أن يُعبد معه سواه، فإن سواه مجرد من صفات الأُلوهية محتاج إلى الله سبحانه وتعالى في خلقه وتدبيره، كما أنه عز وجل لو كان معه إله آخرن لفسد العالم.

(1) سورة الزمر: 53، 54.

ص: 245

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1)

والتعبير بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} بعد قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لتقرير وحدانية الإله وتأكيدها. ونفى الشريك عنه نفيًا حاسمًا، باستعمال أسلوب القصر.

وبعد أن ذكر هذه الآية الناطقة بتوحيد المعبود، أتبعها ما يدل على ذلك فقال:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}

المفردات:

{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : أي تعاقبهما، أو اختلافهما بالزيادة والنقصان وغيرهما.

{وَالْفُلْكِ} : اسم يُطلق على سفينة أو أكثر، بلفظ واحد. ومن الأول:{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (2) ومن الثاني: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (3).

{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} : أي ونشر فيها من كل نوع من الدواب. والدابة: ما يدب، ويمشي على الأرض.

{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} : أي تقليبها جنوبًا وشمالًا وشرقًا وغربًا، حارة وباردة، إلى آخر أنواعها.

{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} : المنقاد لله: يوجهه كيف يشاء.

(1) سورة الأنبياء: 22.

(2)

سورة الشعراء: 119.

(3)

سورة يونس: 22.

ص: 246

التفسير

164 -

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

} الآية.

بينت الآية السابقة: أن المعبود بحق يجب أن يكون واحدًا فقال كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟! وقالوا: هل من دليل على ذلك؟ فأنزل الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . رواه سفيان عن أبيه عن أبي الضحى.

وساء أصح هذا السبب في نزول الآية، أم لم يصح، فقد ذكر فيها أدلة جليلة على ما جاء في الآية التي قبلها، وهو: أن إلهنا إله واحد، تثبيتًا له وتأييدًا. فقد ذكر الله - تعالى - في هذه الآية أدلة كونية عظيمة، تدل من يعقلون، على وحدانية الله - تعالى - وأنه رحمنٌ رحيمٌ.

وأول هذه الأدلة: أنه - سبحانه - أبدع السموات والأرض متناسقة على غير مثال سبق.

قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (1).

كل ما في السماء عجيب نافع، فشمسها المشرقة نهارًا: تبث في أرضنا الدفءَ، وتنشر فيها الضوء، وتنبت الزرع، وتستخلص من مياهنا المالحة بخارًا حُلْوًا نَقِيًا، يصيره الله بقدرته سحابًا، ثم يعيده إلينا مطرًا عذبًا، فيسلكه في أعلى الأرض أنهارًا، ويسلكه في جوفها ينابيع، فنعيش به، ويعيش حيواننا، على ما أوجد الله بسبب الشمس من الماء والنبات {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (2){فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) سبحانه، هو أرحم الراحمين.

(1) سورة الملك: 3،4.

(2)

سورة فاطر: 3.

(3)

سورة المؤمنون: 14.

ص: 247

وقمرها المضيء ليلًا، خلقه الله ليهدي السائرين، ويرشد الحائرين.

ونجومها المنيرة السابحة وكواكبها اللامعة الزاهرة: جُعِلَت معالم للحيارى، ومراشد للمدلجين:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (1).

وفي هذه النيرات نجوم ملتهبة منيرة كشمسنا أو أكبر، وكواكب تدور حولها كمجموعتنا الشمسية، وتستمد ضوءَها منها، كما تستمد مجموعتنا الشمسية ضوءَها من شمسنا. وهذه وتلك، جاوزت أرقام الحساب التي عرفها البشر، وفاقت عظمتها ما يخطر بالعقول. وقد ارتبط بعضها ببعض، بنظام الجذب والدفع الذي حفظ الله به توازنها.

وكل ما في الأرض عجيب مفيد، فجبالها أوتادٌ لها، تحفظها من أن تميد بنا، وأنهارها وبحارها مصادر لأرزاقنا، ومعابر لسفننا، وسبب لحفظ حياتنا، ومعادتها نتخذ من بعضها حُلينا وعملتنا، ونتخذ من بعضها أوانينًا وأدواتنا ومواد بنائنا، وأسلحة دفاعنا وهجومنا على أعدائنا، والسهل من أرضها نزرع فيه أقواتنا، والتلال والهضاب نتخذ فيها الحصون والقلاع لنرد عادية خصومنا، وأشجارها وزرعها وطيورها وحيوانها لأرزاقنا ومنافعنا، وهواؤُها حياة لنفوسنا وحيواننا ونباتنا.

أفلا يدل ذلك على إله عليم قادر حكيم، رحمن رحيم لا شريك له فيما صنع! فإن وحدة الوجود وكماله واتساقه يشهد بوحدة الخالق المدبر، إذ التعدد مصدر للفساد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (2).

وثاني هذه الأدلة: {اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، واختلافهما: تعاقبهما، فبينما الليل يلف الأرض بظلامه، والناس فيه رقود ساكنون، إذ ينبعث النهار من تحت إهابه، فتسجع الأطيار، وتطير من الأوكار باحثة عن رزق الكريم الرحيم، ويهب النائمون من مراقدهم، يبحثون عن أرزاقهم، ويسعون في سبيل عيشهم.

وكما أن الليل والنهار يختلفان بالتعاقب، فإنهما يختلفان كلاهما بالطول تارة والقِصَر أخرى.

(1) سورة النحل: 16.

(2)

سورة ق: 37.

ص: 248

فمن أبدع ذلك لصالح خلقه سوى إله واحد قدير عليم، مهيمن حكيم؟!.

وثالث هذه الأدلة: {الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} فهذه الفلك: أرشد الخالقُ العقول البشرية إلى صنعها من خشب أو حديد، على نحو معين يسمح لها بأن تطفو فوق سطح الماء بما تحمله من أثقال، وأن تتحرك يَمنةً أو يَسرة، حسب الاتجاه الذي يُراد لها، وأن تجري بالريح التي تملأ أشرعتها وتدفعها، أو بالآلات والوسائل والأسباب التي يسر الله للعقول استحداثها، وهي تحمل أثقالنا وأنفسنا، وتجارتنا النافعة لنا، من قُطر إلى قُطر، وتربط البلاد بعضها ببعض:{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (1).

والله تعالى كما يمسك بنواصي النفوس، يمسك أسباب السلامة في رحلة هذه السفن. ولو شاء لأسكن الريح، {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (2)، ولو شاء لعطل آلاتها، فتغرق بمن فيها، أو يموت راكبوها جوعًا وظمأ. فمن الذي خلق المواد التي صُنعت منها؟ ومن الذي أرشد العقول إلى صنعها على نحو يُرجى فيه السلامة؟ ومن الذي يسَّر لها أسباب الأمان، سوى إله واحد قادر عليم، رحمن رحيم؟

ورابع هذه الأدلة: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} والسماء هنا: السحاب، والآية تشير إلى حجة عظيمة، تتجلى فيها الرحمة والشفقة بالعباد أو يتجدد فيها التعهد بالفضل والنعمة، كلما احتاجت الكائنات الحية إلى الماء: أصل الحياة وينبوعها. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (3)} .

فبينما نرى السماء صافية الأديم، إذا رحمة حانية من الخالق الكريم الحكيم، تبعث الرياح، فتثير سحابًا كونته قدرته تعالى من بخار المياه، فيبسُطه برحمته فوق أرجاء مختلفة من الأرض، ويوزعه بعدالته بين عباده الذين يعيشون على رحماته، وينزل مياهه - بحكيم تدبيره - على الروابي والبطاح والسهول والجبال، فتتخذ سبيلها إلى خزانات وأغوار فوق سطح الأرض أو تحت سطحها.

(1) سورة الشورى: 32.

(2)

سورة الشورى: 33.

(3)

سورة الأنبياء: 30.

ص: 249

فأَمَّا مياه الخزانات العلوية، فتتخذ سبيلها في أنهار وغدران، إلى أطراف البلاد. وأما مياه الخزانات السفلية. فتتفجر ينابيع، تجرب بالعذب الزلال، ويظل هذا الفضل ممدودًا، وتلك الرحمة مرسلة، ينهل منها من يشاء، ويغرس ويزرع على سلسبيلها من أراد أن ينشيءَ:{جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (1) يتغذى بأرزاقها، ويتفكه بفواكهها وثمارها، ويطعم منها دوابه المختلفة.

ولم تنس هذه العناية الرحيمة دواب الصحراء الشاردة، فقد أنبتت لهم في واحاتها المراعي المخضرة، دون أن يزرعها الزارعون، وأخرجت لهم المياه العذبة، دون أن يستنبطها المستنبطون. فمن الذي صنع هذا الجميل، وتعهد به عباده؟ إنه إله واحد عليم، رحمن رحيم!!

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} (2).

{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} (3).

{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (4).

وخامس هذه الأدلة: أنه: {بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} .

والدابة: ما يَدِب ويمشي على الأرض، ويدخل فيها الحيوان كله، حتى الطير. قال تعالى:

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} (5) .. الآية.

والدواب من آيات الألوهية، بخلقها ونشرها في أنحاء الأرض، لينتفع بها سكانها في مرافقهم وضروراتهم وحاجاتهم المختلفة. فقد علم الإله الرحيم: أن الإنسان لا غنى

(1) الأنعام: 141.

(2)

فصلت: 39.

(3)

الحج: 5.

(4)

الروم: 50.

(5)

النور:45.

ص: 250

له عنها، فخلقها إلى جواره، وذَلَّلَها له، لينتفع بها في أغراضه. فَمَنْ يقدر على ذلك سوى إله واحد رحمن رحيم، قادر عليم؟.

وسادس هذه الأدلة: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} : أي تقليبها وتلوينها.

فأحيانًا تكون نسيمًا عليلًا طيبًا، ينعش الأرواح، وأخرى تكون جافة حارة تضيق بها النفوس، وتارة تجدها لينة رخاءً، وأخرى عاصفة هوجاء، وأحيانًا ريحًا عقيمًا: " {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (1) إلى غير ذلك: مما تقتضيه حكمة الحكيم: الذي أحسن كل شيءٍ خلقه، ورتبه على حسب مشيئته وما ينبغي لصلاح أرضه، ولو أمسك الريح ساعة لهلك كل شيء حي على سطحها، فمن فعل هذا سوى إله واحد: حكيم عليم، قهار مقتدر!!.

وسابع هذه الأدلة: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} .

فهذا السحاب جعله الله مصدر المطر الذي به حياة الكائنات الحية، ومخازن له متنقلة متجددة من آن لآخر، وهو يشبه الضباب الذي نراه صباحًا، في الأوقات التي يكون الجو فيها مشبعًا بالرطوبة.

وهو يتكون من بخار الماء، ويكون في الجو كالجبال، وقد سخره الله بقدرته وذَلَّلَهُ، وجعله مطواعًا للريح، تنقله إلى حيث شاء الله.

والسحاب في تكوينه، وتسخيره، وجعله بين السماء والأرض، ورعده، وبرقه، ومطره - آية عظيمة، من آيات الخالق سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (2).

ثم ختم الله هذه الآية بقوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن هذه الآيات الكونية السبع، لدلائل واضحة على ما جاء في الآية التي قبلها من صفات الله وهي قوله تعالى:

(1) الذاريات: 42.

(2)

النور: 43و44 وسيأتي شرحهما.

ص: 251

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وهي آيات لقوم يتفكرون، فإن من تأمل في كل آية مما سبق، وجدها مشتملة على وجوه كثيرة من الدلالات على وجوده تعالى ووحدانيته، ورحمته وسائر صفاته.

وفي الآية تعريض بجهل المشركين وغبائهم، لاقتراحهم على الرسول آية تدل على ذلك.

أخرج ابن أبي الدنيا وابنُ مردويه، عن عائشة رضى الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: "وَيْلٌ لِمنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَدَبَّر فِيهَا".

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}

المفردات:

{أَنْدَادًا} : الأنداد: جمع نِد، وهو النظير والشبيه. والمراد بها هنا: الأوثان.

التفسير

165 -

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ

} الآية.

لما عرض في آخر الآية السابقة، بعدم تعقل من يعبدون الأوثان العاجزة المصنوعة، ويجعلونها أندَادًا ونظراءَ لمن له تلك الأدلة الواردة فيها، الشاهدة بتفرده بالألوهية، أتبع هذا التعريض ببيان سائر أحوالهم مع هَؤُلاء الأنداد في الدنيا والآخرة.

والأنداد هنا: الأوثان، على ما رآه مجاهد وأكثر المفسرين. وإطلاقها عليها هو الشائع في القرآن الكريم.

وقيل: هم الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب. ومن الممكن أن يراد هنا بالأنداد: الأوثان والرؤساء الذين يصرفون الناس عن عبادة الله - تعالى - وحده، دون شريك. فلا مانع من إرادتهما معًا.

ص: 252

والمعنى: ومن الناس من يتخذ من غير الله الواحد - الذي وردت آياته الكونية العظمى في الآية السابقة - نظراء له وأمثالًا، فلا يقصرون الطاعة عليه - سبحانه - بل يطيعون معه أُولئك النظراءَ، ويحبونهم كحبهم لله الذي يؤمنون به، ويخلطون هذا الإيمان والحب بطاعتهم لرؤسائهم في الشرك والمعاصي وحبهم لهم.

{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}

والذين صدقوا بوحدانية الله، أَشَدُّ حبًّا له من حُبِّ أُولئك المشركين لأوثانهم ورؤسائهم، أو أشد حبًا لله - تعالى - من حب المشركين له، لأن المؤمنين لا يعبدون سواه. ويلجأون إليه في الرخاء والشدة ولا اتجاه لهم إلى غيره، أما هؤلاء: فقد وزعوا حُبَّهم بين أوثانهم وشركائهم، وبين الله - تعالى - والله لا يرضى عن هذا الشرك ولا يغفره {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1).

وهذه شهادة من الله للمؤمنين يعتزون بها، ويجب أن يكونوا أهلًا لها، بطاعته والإخلاص له فيها، وأن يحذروا الشرك الخفي، حتى لا يبغضهم الله ويتخلى عنهم.

ففي الحديث القدسي "أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُهُ وشريكَهُ".

{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}

المراد: بالذين ظلموا: هم هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، فهم ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب، وظالمون للحق بجعلهم لله أندادًا وهو غني عن العالمين. و"يَرَى" الأولى علمية، والثانية بصرية.

والمعنى - كما قال الزمخشري - ولو يعلم هؤُلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة لله على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين، لكان منهم مالايدخل تحت الوصف، من الندم والحسرة على ظلمهم وضلالهم.

ثم قال: فحذف الجواب هنا، كما في قوله:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (2) وكما في قولهم: لو رأيت فلانًا حين تأخذه السياط اهـ. أي: لرأيت أمرًا عظيمًا!

(1) النساء: 48.

(2)

الأنعام: 27.

ص: 253

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}

المفردات:

{الْأَسْبَابُ} معناها اللغوي: الحبال، جمع سبب والمراد بها في الآية: ما يصل الرؤساء والأتباع بعضهم ببعض من الصلات، كالدين الواحد والأنساب والأتباع.

{كَرَّةً} : رجعة إلى الدنيا.

{حَسَرَاتٍ} : جمع حسرة، وهي أشد درجات الندامة على شيٍ فات.

التفسير

166 -

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} .

الربط: في هذه الآية والتي تليها، حكاية لما سوف يحدث في الدار الآخرة، من العداوة بين التابعين والمتبوعين، وتبرؤُ كل فريق منهما من الآخر، حين يرون العذاب.

ومعنى الآية مع ما قبلها: ولو يرى المشركون الظالمون أن القوة لله جميعًا وقتما يرون العذاب، حينئذ، تنقطع بينهم الأسباب والصلات، فلا يهتمون بما كان يجمعهم بهم، من عقيدة أو نسب أو تبعية أو مصلحة، ويتبرأُ بعضهم من بعض، لعل ذلك يخفف عنهم العذاب، ويقول الرؤساء لله تعالى، في تبرئهم من تبعة شركهم:{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} (1) ويأتي بعد ذلك دور التابعين، وهو ما حكاه الله بقوله:

(1) القصص: 63.

ص: 254

167 -

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا

} الآية.

والمعنى: وقال التابعون: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا، فنتبرأ من هؤلاء الرؤساء المتبوعين، كما تبرءُوا منا، يريدون بذلك التمنى أن يعودوا إلى الدنيا، ويطيعوا الله - تعالى - حتى إذا ماتوا وحُشروا، استطاعوا أن يتبرءُوا منهم، وهم في حالة صالحة للتبرؤ.

وقيل: إنَّ المعنى: لو أنَّ لنا نحن وهم رجعة إلى الدنيا، فنتبرأ منهم فيها، كما تبرءُوا منا هنا ونخذلهم، ونتشفى فيهم.

{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} .

المعنى: مثل ذلك الذي بينته الآية من عذابهم وتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم التي عملوها، بتقديس الأنداد وإغواء التابعين، أو التبعية للرؤساء المشركين، إذ يجدونها حسرات وندامات عليهم.

والمقصود: أنَّ أعمالهم لا يجدون لها أثرًا من الخير، بل يبدلها الله حسراتٍ وزفراتٍ، حين يرون العذاب على كل عمل منها.

{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} بل يخلدون فيها أبدًا.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}

المفردات:

{حَلَالًا طَيِّبًا} : حلالا لا شبهة في حله، أو لا تعافه النفوس.

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : خطوات: جمع خُطوةٍ، بضم الخاء وفتحها، كما قال الفراءُ. والمراد بالنهي عن اتباع خطواته: ألا يسيروا تبعًا لوساوسهِ ومغرياتهِ.

ص: 255

{عَدُوٌّ مُبِينٌ} : أي عدو بيِّنُ العداوةِ وَاضِحُها.

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ} : أي ما يحرضكم إلا على ما يسوؤُكم، ويحزنكم في عاقبته وهو المعاصي.

{وَالْفَحْشَاءِ} : ما اشتد قبحه من الذنب.

التفسير

168 -

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

بعد أن ذكر الله - فيما تقدم - أن إله الناس واحد ورحمن ورحيم، وأقام الأدلة على ذلك، وحذر من عاقبة الإشراك، أتبعه إباحة الحلال الطيب. مما في أرضه - تعالى - لهم، وحذرهم أن يتبعوا الشيطان في أمرهم كله من عقائد وأعمال وأرزاقٍ، لعداوته لهم، ولأنه لا يأمر الناس بغير السوء والفحشاء، وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون.

وقد نزلت هذه الآية فيمن حَرَّموا طيبات أُحلِّت لهم، فالمشركون لم يقتصروا على الإشراك بالله - تعالى - بل ضموا إلى ذلك تحريم البَحِيرَةِ، والسَّائِبَة، والوَصِيلة، والحام، وهي أنواع من الإبل، حَرَّموا ذبحها وأكلها. وسيأتي بيانها في تفسير سورة المائدة آية (103).

واليهود كانوا يحرمون لحم الإبل على أنفسهم.

والآية الكريمة، وإن نزلت في هؤُلاء، فهي عامة الخطاب لهم ولمن على شاكلتهم، كالسيخ من أهل الهند الذين يحرمون ذبح البقر وأكل لحمها، لأنهم يعبدونها.

هؤُلاء جميعًا، يقول لهم ربهم - سبحانه - ما معناه:

يأيها الناس كلوا مما في الأرض، من حيوانها ونباتها وثمارها، حلالًا لا حرمة فيه، طيبًا لا تعافه النفوس، فلا تمنعوا أنفسكم من هذه المطاعم التي حَرَّمتموها وهي لكم حلال، كما لا تمنعون أنفسكم من غيرها، بشرط أن تكسبوها بطريق مشروع، وألا تكون محرمة لخبثها أو لعارض، كذكر اسم الأوثان عليها. والأمر في:"كُلُوا": للإباحة.

ص: 256

والتعبير بقوله: {فِي الْأَرْضِ} ، لتعميم دائرة الإباحة المذكورة، وإفساح مداها.

{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي لا تسيروا تابعين للشيطان في أُموركم كلها من عقائد واكتساب للأرزاق، وتناول للمطاعم والمشارب، وغير ذلك من العبادات والمعاملات.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي إنه عدو ظاهر العداوة لكم، فقد أخرج أبويكم: آدم وحواء من الجنة حَسَدًا لهما. والحسد كامن في نفسه لذرياتهما، والعداوة تابعة للحسد. فلا ينبغي لعاقل أن يستمع لما يزيِّنه له عدوه، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (1)؟!

169 -

{ِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}

علل الله النهي عن اتباع خطوات الشيطان بعلتين:

أولاهما: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وقد تقدمت.

والثانية: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ

} الآية.

وخلاصة الآيتين: لا تتبعوا وساوس الشيطان، لأنه لا يأمركم إلا بما يسوؤكم ويحزنكم في العاجلة أو الآجلة، وبما اشتد فحشه وقبحه من الذنوب، كالإشراك بالله والزنى وعقوق الوالدين، وادعاء أن الله حرم ما لم يحرمه: كذبح البحيرة والسائبة، أو حلل ما لم يحلله: مثل شرب الخمر وأكل الربا، ومن كان شأنه الأمر بذلك، فلا يصح اتباع وساوسه.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}

ص: 257

التفسير

تمهيد: نهى الله الناس في الآيتين السابقتين عن اتباع خطوات الشيطان، لعداوته وأَمرِه بالسوءٍ والفحشاءِ، وذلك يستلزم أنهم مأمورون باتباع ما أنزل الله. فجاءت هذه الآية لتوضح حالهم عند الأمر باتباع ما أنزل الله، فقال تعالى:

170 -

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا

} الآية.

المعنى: وإذا قيل لهم: اتبعوا في دينكم ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قالوا معرضين: لا نتبعه، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا. وسواء قالوا ذلك بلسان المقال، أم قالوه بلسان الحال، فالمراد: أنهم أصروا على سلوك سبيل آبائهم البعيدة عن الهدى. وتركوا سبيل مولاهم الحق، وقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1) والآية عامة: تشمل كل أهل الباطل المقلدين لغيرهم فيه، ويدخل فيهم المشركون.

{أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} .

الهمزة في "أَوَ لَوْ": للإنكار. والمعنى: أيتبعوهم، ولو كان حال آبائهم أنهم لا يعقلون شيئًا، ولا يهتدون إلى رشاد، لتعطيلهم قوى الإدراك والهدى، إن هذا الاتباع الأعمى أمر تنكره العقول السليمة.

ما يُستنبط من الأحكام

التقليد: هو قبول قول الآخرين دون معرفة الحجة.

والتقليد في الباطل مذموم، لأن هذا هو الذي عابه الله على الكفار.

أما التقليد لأهل العلم لأهل العلم الأمناء في الحق فهو - كمال قاله القرطبي - فرض على العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أُصولها فيما يحتاج إليه، مما لا يعلمه من أمر دينه، عملًا بقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2).

(1) الزخرف: 23.

(2)

النحل: 43.

ص: 258

وحكى ابن عطية: أنَّ التقليد في العقائد مجمع على منعه. وحكى - فيه خلافًا - القاضي أبو بكر الباقلاني، وعثما بن عيسى، والشافعي وغيرهم.

هذا: والآيات السابقة تنهض بالعقول، وتحميها من إسار التبعية والتقليد للآخرين، وفقًا للقواعد المقررة في الإسلام: "أما ما زعمه الجهال كطائفة الحشوية من وجوب التقليد وحرمة النظر والاستدلال فباطل، لقوله تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) وغير ذلك من الأدلة.

وتعتبر هذه الآيات مصدرًا لتكوين الشخصية المستقلة الجديرة بالمسلم، بحيث لا يكون إمعة، أو تابعًا لسواه دون رويّةٍ أو تفكيرٍ.

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}

المفردات:

{يَنْعِقُ} : يصيح، والنعيق: التصويت على البهائم للزجر.

{دُعَاءً وَنِدَاءً} : الدعاء والنداء: استدعاء الآخرين. فهما بمعنى واحد، وقيل: الأول: لطلب القريب، والثاني لطلب البعيد.

{صُمٌّ} : لا يسمعون.

{بُكْمٌ} : لا يتكلمون.

التفسير

171 -

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} :

بينت الآية السابقة أنَّ الكفارَ يقلدون آباءَهم فيما هم فيه من الكفر، من غير تعقل، وأنَّهم إذا دعاهم داعٍ إلى ما أنزل الله أعرضوا، وأصروا على دين آبائِهم، ولو كان يعقلون شيئًا ولا يهتدون.

(1) يونس: 101.

ص: 259

وجاءت هذه الآية، لتمثيل حالهم هذه - مع من يدعوهم إلى الحق، وهم لا يعقلون ما يُقال - بحال البهائم مع الراعي الذي يدعوها ويحذرها، وهي لا تعي منه إلا مجرد الصياح والصراخ.

وفي الكلام مضاف مقدر، إما في جانب المشبه، والتقدير: مثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان، كمثل الذي ينعِق، أو في جانب المشبه به، والتقدير: ومثل الذين كفروا كمثلِ بهائم الذي ينعق. وسنأتي بالمعنى على الوجه الأول، ومنه يُفهم المعنى على الوجه الثاني.

المعنى: ومثل هادي الذين كفروا وداعيهم إلى الحق، وهم لا يعقلون، كمثل الراعي الذي ينعق بماشيته، ويصيح بها، ليكفها عن الرعي في مرعى وخيم يضرها. وكما أن البهائم لا تعي من الراعي إلا صوت الدعاء والنداء، دون أن تفهم غرضه وهو كفُّهم عن المرعى الوخيم العاقبة، فعدم تمييزها، فكذلك هؤلاء المقلدون، لم يدركوا من هاديهم وداعيهم إلى الحق ومحذرهم من الباطل سوى الدعاء والنداء، لانهماكهم في التقليد الذي أغلق عقولهم، فلم تدرك ما يقول، وكما أن البهائم وقعت في المرعى الوخيم العاقبة - بجهلها - فكذلك هؤلاء، وقعوا في مهاوي الردى، بإعراضهم عن الهدى.

ويجوز أن يكون المراد: تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم - جاهلين حقيقتها الأليمة - بالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفهم المراد منه.

ثم ذكرت الآية أنهم {صُمُّ} : لا يسمعون الدعوة إلى الحق لانصرافهم عنه. {بُكْمٌ} : لا يتكلمون بالحق لجهلهم إياه {عُمْىٌ} لا يُبصرون الحق لإغماضهم عيونهم عن أضوائه.

{فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} : لا يدركون شيئًا لفقدان الحواس الثلاث التي هي أبواب العلم. وليس المراد نفي هذه الحواء والعقل حقيقة، بل المراد: أنها لا يُنتفع بها فكأنها مفقودة.

ص: 260

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}

المفردات:

{مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} : المراد من الطيبات: المستلذات، أو الحلال من الرزق.

{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} : أي وما ذُبِحَ مذكورًا عليه اسم غير الله، وأصل الإهلال: رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أُطلق على رفع الصوت مطلقًا، ومنه إهلال الصبي عند الولادة.

{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} : فمن أجبرته الضرورة على تناول شيء مما ذُكر، لإنقاذ نفسه من الهلاك، غير ظالم لغيره.

{وَلا عَادٍ} : ولا معتد بتجاوزه ما يمسك الرمق ويدفع الجوع.

التفسير

172 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: أَبَحْنا لكم أن تأكلوا من المستلذات، وأن تنتفعوا بما أحللناه لكم من أرزاقنا التي مننا بها عليكم، وأمرناكم أن تشكروا الله على ما أنعم به عليكم، إن كنتم تخصونه بالعبادة، ولا تُشركون معه غيره فيها، فإن من شأن المؤمن الذي يخص ربه بالعبادة: أن يقتصر على ما أحله له، وألا يتوسع في تناوله، حتى لا تَطْغَى نفسُه وتتجاوز الحلال إلى الحرام.

ص: 261

173 -

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ...... } الآية.

بيَّن الله في هذه الآية: ما حرمه علينا من المطعومات، لأسباب تقتضيها.

وأول هذه المحرمات: {الْمَيْتة} ، فإذا ماتت بهيمة - سواء أكانت تحل مذبوحة، كالبقرة والشاة والطير، أم لا تحل كالخنزير - حرم أَكلها، مهما كان سبب موتها، فسواء في التحريم: أن تموت بمرض أو بغيره.

وحكمة التحريم في الموت بالمرض: ظاهرة، وفي الموت بسواه: الاحتياط للسلامة، فإن البهيمة التي تموت غريقة أو نحو ذلك، قد تكون مريضة وصاحبها لا يعلم مرضها، وإنما خلت الذبائح من الحيوانات التي يحل ذبحها، لأن الدم الذي يخرج منها بالذبح، يخرج معه ما عسى أن يكون فيها من أسباب الأمراض. فضلًا عن أنه - بدفعه لا بمسيله - أَمارةٌ على السلامة والحيوية في الذبيحة.

وفي حكم الميتة في التحريم: ما يقطع من الحيِّ من لحمه، أو أعضائه. فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه، عن أبي واقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قُطع من البهيمة، وهي حية، فهو ميتة".

ويُستثنى من تحريم الميتة: السمك والجراد، لما أخرجه ابن ماجة والحاكم، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"أُحلَّت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال". وفي العُرف أنه إذا قال قائل: أكل فلان الميتة، لم يتطرق إلى الذهن السمك والجراد.

ويحل الانتفاع بجلدها بعد الدبغ. وإذا ذُبحت أُنثى حيوان يحل أكله، وفي بطنها جنين - حلَّ أكله إذا وُجد ميتًا، لأن ذكاة الجنين بذكاة أُمه، فإن وُجد حيًا ذُبح ليحل أكله.

وثاني هذه المحرمات: (الدَّم) والمراد به: الدم المسفوح، لما صرحت به آية الأنعما:{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (1). أما الدم المعقود: وهو الكبد والطحال من الحيوان المذبوح، فيحل أكله.

(1) الأنعام: 145: المراد من الدم المسفوح: الدم السائل، أما الدم المعقود كالكبد والطحال فهو حلال.

ص: 262

واستدل بالآية: على نجاسة الدم المسفوح، ولو كان ذلك من السمك، وإنما حرم الدم، لأنه يشتمل على جراثيم الأمراض، ويتعرض للفساد بسرعة.

وثالث هذه المحرمات: {لَحْم الْخِنزِيرِ} ، لأَنه يحمل بويضات الدودة الشريطية، وهي أخطر أسباب الضعف وفقر الدم للإنسان، فإنها تمتص خلاصات الأغذية التي يتناولها، وهي على شكل شريط طويل، يمتد في الأمعاء، وهي شديدة النهم، ولا تكاد تشبع، وربما كان التحريم لحكم أُخرى، لا تزال مجهولة لنا.

ورابع هذه المحرمات: {مَا أُهل بِه لِغَيْرِ اللهِ} أي ما ذُبح، وقد ذكر عليه اسم غير الله، وإذا كانت المحرمات السابقة قد حرمت لخبث ذاتها، فمما ذكر اسم غير الله عليه، حُرّم، لخبثه معنويًا: فقد ذكر عليه اسم غير خالقه المنعم به عند ذبحه، ولولا ذلك لكان حلالًا، وسُمي الذكر إهلالًا: لما فيه من الإهلال أي رفع الصوت، والمراد بغير الله: ما يشمل الأصنام وغيرها.

وذهب عطاءٌ والحسن ومكحول والشعبي وسعيد بن المسيب، إلى تخصيص التحريم بما ذكر عليه اسم الصنم ولهذا أباحوا ذبيحة النصراني، إذا ذُكر عليها اسم المسيح، وقد خالفوا بذلك ظاهر النص، وما عليه الجمهور من التحريم، وقد شمل حكم الآية: ذبيحة الوثني، والمجوسي، وكذا ذبيحة المعطل الذي لا يعتقد في الله - تعالى - فهي حرام كذبيحة من ذكر اسم غير الله عليها.

{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} :

في هذا الجزء من الآية، إباحة هذه المحرمات للمضطر، وهو من أُكره على تناولها ليعيش. والمضطر هنا، هو الجائع جوعًا مهلكًا، ولا يجد غير تلك المحرمات، ومثله من كان في يد عدُوٍّ، أكرهه على أكل لحم الخنزير وغيره.

ومعنى {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} ، كما قال السدي: غير طالب لأكلها شهوة وتلذذًا، ولا عادٍ: باستيفاء الأَكل إلى حد الشبع اهـ.

ومن كان في مجاعة مستمرة فله الشبع من هذه المحرمات، استبقاءً لنفسه.

ص: 263

وعند الشافعي وأبي حنيفة: أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، لأن الإباحة للاضطرار.

وذهب مالك: إلى أنه يأكل منها حتى يشبع ويتزود، فإن وجد غيرها طرحها. والكلام مبسوط في المطولات.

وقد استفيد من الآية: أنه لا إثم على المضطر في الأكل مما ذكر في الآية. أما وجوب الأكل منها لحفظ حياته فلا يُؤخذ منها، بل من قوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1).

وليس المراد من الآية حصر التحريم فيما ذكر، فإن المحرمات أوسع منها، ولكن المقصود رد اعتقاد المشركين أن الأكل منها حلال.

وختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : للإيذان بأن الحرمة باقية، إلا أنه تعالى، أسقط الإثم عن المضطر وغفر له، لاضطراره.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}

المفردات:

{وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} : ويأخذون بدله عوضًا قليلًا.

(1) البقرة: 195.

ص: 264

{مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} : أي ما يأكلون من الطعام المشترى بهذا العوض إلا ما يؤدي بهم إلى النار.

{وَلَا يُزَكِّيهِمْ} : ولا يطهرهم من دنس الذنوب.

{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} : باعوا الهدى بالضلالة، وجعلوها مكانه.

التفسير

174 -

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

نزلت هذه الآية - كما روى عن ابن عباس - في علماء اليهود. كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي الموعود منهم. فلما بعث من غيرهم، كتموا، وغيروا صفته صلى الله عليه وسلم في كتابهم، خشية أن يتبع، فتزول رياستهم، وتنقطع هداياهم.

وإطلاق النار على الرشوة، لأَنها تُؤَدى بهم إليها.

أو نزلت فيهم، لأنهم كتموا من الكتاب أحكام المحللات والمحرمات من الأطعمة، كما أشارت الآية السابقة.

والآية - وإن نزلت فيهم - فهي عامة في كل من يكتم شيئًا من كتب الله التي أنزلها على رسله. ولا يبين أحكام الله لعباده لقاء عرض من أعراض الدنيا الفانية.

والمعنى: إن الذين يخفون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام، في مقابل عرض قليل من أعراض الدنيا - وكل عرضها قليل وإن كان كثيرًا - هؤلاء ما يأكلون في بطونهم من هذا العرض الدنيوي إلا ما يؤدي بهم إلى النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة كلام رحمة، وإن كان يكلمهم بلسان ملائكته كلام سخط ومؤاخذة.

ص: 265

{وَلَا يُزَكِّيهِمْ} : أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : أي ولهم عذاب مؤلم، بسبب كتمانهم الحق عن عباد الله.

175 -

{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} .

المعنى: أُولئك المستحقون لهذا العذاب الأليم، هم الذين استبدلوا في الدنيا الضلالة التي ارتضوها لأنفسهم، بالهدى الذي رفضوه، وكتموه عن غيرهم، واستبدلوا في الآخرة العذاب بالمغفرة، فأي شيءٍ أصبرهم على النار، مع أنها لا يمكن الصبر عليها.

و (مَا) في قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} : استفهامية، لغرض التعجيب، كما قال الفراءُ.

176 -

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .

ذلك الذي تقدم من الجزاء الشديد المترتب على الكتمان، حاصل بسبب أن الله نزل القرآن بالحق، فلا يصح أن يكتم أمره وأمر من جاء به، ولا أن يُفْتَرَى عليه، وإن الذين اختلفوا في شأنه لفي خلاف بعيد عن الحق، موجب لأشد العذاب، فإن منهم من يقول: هو سحر، ومنهم من يقول: هو شعر، ومنهم من يقول: أساطير الأولين، ومنهم من يقول: افتراه على الله كذبًا، أم به جِنة، ومنهم من يقول: إنما يُعلمه بشر.

ويرى بعض المفسرين: أن المراد من الكتاب: جنس الكتب التي أنزلها الله، وأن المعنى: ذلك العذاب بسبب أن الله نزَّل كتبه بالحق، فلا جرم أن يعذب من يكتمها، أو يكذبها.

وإن الذين اختلفوا في كتب الله، بأن آمنوا ببعضها، وكفروا بالبعض الآخر، وأساءوا تأويل بعضها، وكتموا بعضها الآخر - إن هؤلاء - لفي خلاف بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشد العذاب.

ص: 266

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}

المفردات:

{الْبِرّ} : اسم جامع لكل أعمال الخير.

{الْبَأْسَاء} : المشقة، أو الفقر، أو الداهية.

{الضَّرَّاء} : كل ضرر يصيب الإنسان، فيؤلمه إيلامًا شديدًا، مثل: المرض، أو فقد عزيز.

{وَحينَ الْبَأس} : وحين جهاد الأعداء.

التفسير

177 -

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ

} الآية.

بعد أن أوضحت الآيتان السابقتان: أن من الناس طائفة يشترون الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، ومنهم من يختلفون في فهم الكتاب، ويقعون في شقاق بعيد. أوضحت هذه الآية وجوه البر، توضيحًا دقيقًا، لا يقع بسببه فيها لبس أو خلاف.

والخطاب لأهل الكتاب، فإنهم كانوا أَكْثَرُوا الْخَوض في أمر القبلة، حين حُوِّلت إلى الكعبة، فقال الله لهم ما معناه: ليس البر في أن تولوا وجوهكم، في أية ناحية من نواحي الأرض حَتَّى يكون ذلك موضع اهتمامكم، ومثار فتنتكم للمؤمنين بغير حق.

ص: 267

{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} :

يعني: ولكن البر الذي يحق الاهتمام بشأنه، والجد في تحصيله، هو في: إيمان مَن آمن بالله وحده، إيمانًا بريئًا من شائبة الشرك، لا إيمان اليهود الذين أشركوا بقولهم: عُزير ابن الله، ولا إيمان النصارى الذين أشركوا بقولهم: المسيح ابن الله، لأن نسبة ابن إليه - تعالى - نوع من الإشراك به.

والبر الحقيقي أيضًا في: تصديق من صدق بالله واليوم الآخر، وما فيه من جزاءِ كل امريءِ على حسب عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأن المشركين هم أصحاب النار خالدين فيها أبدًا، لا كما زعم اليهود: أن النار لن تمسَّهم إلا أيامًا معدودات. وأن آباءَهم الأنبياء يشفعون لهم. فهم خالدون في جهنم، لا يبرحونها، لشركهم بالله، وكذا النصارى، فهم على شاكلتهم.

وفي: إيمان من آمن بالملائكة، وأنهم عباد الله المكرمون لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون، وأنهم سفراء الله إلى أنبيائه ورسله، وأن حبهم جميعًا واجب، وأن عداوتهم أو عداوة بعضهم كفر، كما حديث من اليهود لجبريل عليه السلام.

وفي: إيمان من آمن بالكتب السماوية كلها، فلا يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعل اليهود والنصارى، إذ كفروا جميعًا بالقرآن، وكفر اليهود بالإنجيل.

وفي: تصديق من آمن بالنبيين جميعًا، دون تفرقة بين أحد منهم، لا كما فعل أهل الكتابين، بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم وكما فعل اليهود بالنسبة إلى عيسى عليه السلام.

{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} .

وفي: تَصَدُّق من أعطى المال الذي يحبه، ذوي قرابته، فالإنفاق عليهم من أكرم الأموال: يُضاعف ثواب الصدقات.

روى النسائي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى الرحم اثنتان: صدقة وصلة".

ص: 268

وفي حديث آخر، رواه الطبراني، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الصدقة على ذي قرابة يضعف أجرها مرتين".

ويلي ذوي القربى في الإحسان: "اليتامى" فالبر بهم عطف عليهم ورعاية لهم. وهم أولى بالعطف والرعاية عوضًا عما فقدوا من الآباء. وقد أعظم النبي صلى الله عليه وسلم فضل كافل اليتيم، فقال:"أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بسبابته والوسطى"(1).

وقد عني الإسلام بالحض على رعاية الأيتام، ليكونوا - في مستقبلهم - نافعين لأنفسهم وأُمتهم، بدل أن يُهملوا، فينشأُوا في أنفسهم عُقَدٌ نفسية، فيكون منهم: اللصوص وقطاع الطريق، والفاسدون والمفسدون، ولذلك يقول الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (2).

ثم يلي ذلك "البر بالمساكين" وهم: الذين لا يجدون ما يحفظ حياتهم إلا بشق الأنفس. ومن كان عمله لا يفي بحاجته فهو مسكين. قال تعالى: "أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر"(3).

وفي الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، ولكنَّ المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيهن ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدَّقُ عليه".

ثم يلي ذلك في العطاء: "أبناء السبيل"، وابن السبيل هو المسافر إلى بلد المتصدق، أو المارّ به، أُطلق عليه هذا الاسم لملازمته له حين التصدق عليه. ولا يدفع له من الزكاة، حتى يدّعي أنه لا مال معه وأنه محتاج. ويقدح في حاجته قدرته على الكسب - ويشترط في استحقاقه: أن يكون سفره مُباحًا. ويعطي لو كان له مال في بلده يصعب الحصول عليه وهو مغترب. ويمكن معرفة أحكام ابن السبيل تفصيلًا من كتب الفقه.

ثم يلي ذلك إعطاء السائلين. وهم الذين يسألون الناس، والسائل ينبغي إعطاؤُه إلا إذا تحققت أنه غير محتاج.

(1) رواه البخاري وغيره.

(2)

البقرة: 220.

(3)

الكهف: 79.

ص: 269

ثم يلي هؤلاء في العطاء، تحرير الأرقاء فقد شرعه الله - تعالى - للمسلمين، لينقذوا إخوانهم في الآدمية، من العبودية التي استحدثها الناس فيهم، مع أنه - تعالى - خلق الناس أحرارًا.

وقد حُثَّ على تحرير الرقيق، وشرعه في الكفارات، وجعل من خصالها عتق الرقاب - ودعا المسلمين إلى مساعدة المكاتبين من الأرقاء، وهم من كاتبهم مالكوهم على قدر معلوم، يؤدونه لهم، نظير عتقهم وتحريرهم، وقد أوصى الله المؤمنين بهذه العاطفة الكريمة، فقال:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (1).

وأَوجب سبحانه لتحرير الأرقاء نصيبًا في مصارف الزكاة.

ثم أَتبع ذلك ألوانًا أُخرى من البر، فقال:

{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} : أي وفي أداء الصلوات بأركانها وشروطها.

{وَآتَى الزَّكَاةَ} : أي وفي إعطاء الزكاة المفروضة لمستحقيها.

أمَّا ما مرّ من إيتاء المال على حبه، فالمقصود منه: التنفل بالصدقات. قُدِّم على الفريضة، مبالغة في الحث عليه.

أو المراد بهما المفروضة: الأول: لبيان المصارف، والثاني: لبيان وجوب الأداءِ.

{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} :

أي: والبر في الموفين بعهدهم، إذا عاهدوا سواهم، فمن أبرز أنواع البر: الوفاءُ بالعهود، قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (2).

روى البخاري، أنه عليه الصلاة والسلام قال:"آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". والعهد يكون بين العبد وربه، كما يكون بين المؤمن وجماعة المؤمنين، وبين المسلمين وسواهم.

والمجتمع الفاضل المتمسك: هو الذي يسوده الوفاءُ بالوعد والعهد. أما المجتمع الذي يفشو فيه الغدر والخيانة والغش والخداع، فمآله التفكك والانحلال.

(1) النور: 33.

(2)

لإسراء: 34.

ص: 270

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع مثل، في صلح الحديبية، في الوفاء بالعهد، على الرغم مما كان فيه من إجحاف بالمسلمين، فعوَّضه الله بسبب هذا الوفاءِ، وأثابه فتحًا مبينًا.

{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} .

البأساءُ: الفقر والشدة. والضراءُ: المرض والشيخوخة ونحو ذلك، والبأس: الجهاد في سبيل الله، أُطلق عليه ذلك. لما فيه من البأس أي الشدة.

وقد أفاد هذا النص: أن الصبر في البأساء والضراء وحين الجهاد، من خلال البر. والصبر: صفة في النفس - خِلقية أو مكتسبة بالرياضة - تبعث على تحمل المشاق والمتاعب، رجاء الفرج من الله تعالى. وهو أساس الفضائل، إذ يعين على أداء الواجب للخالق والمخلوق، وعلى قمع الشهوات، واحتمال النكبات، ووأد الفتن، وعلى مشاق الجهاد.

ولهذا ورد في الآية منصوبًا على المدح، بتقدير فعل مناسب، نحو وأمدح الصابرين في البأساءِ

الخ.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} :

هؤلاء الذين اجتمعت فيهم صفات البر كلها، كما ذكرتها الآية الكريمة، هم الذين صدقوا في الدين، واتباع الحق، وتحرى البر، وأُولئك هم الذين اتقوا الكفر، وسائر الرذائل، دون سواهم، ممن كانوا ينازعون في أمر القبلة، ومن على شاكلتهم.

والصدق هنا: هو الإخلاص. ويطلب في العبادات والمعاملات.

والتقوى: المراد بها الخوف من الله - تعالى - فإذا امتلأ بها قلب العبد، وأخلص لربه في السر والعلن، والغضب والرضا، والحب والبغض، واليسر والعسر.

ونلاحظ: أن هذه الآية الكريمة - على إيجازها - صورت جميع مكارم الأخلاق. فقد جمعت بين الإيمان والعمل، وبين حقوق الله وحقوق العباد، وبين جهاد النفوس وجهاد الأعداء، وبين صلاح الأفراد والجماعات.

ص: 271

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}

المفردات:

{الْقِصَاصُ} : توقيع العقوبة على الجاني بمثل جنايته.

{عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} : أي ترك له القصاص في مقابل الدية.

التفسير

178 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى

} الآية.

ستجد في هذه الآية، وما يليها حتى آخر السورة. أحكامًا شرعية. ينبني عليها أمر المعاش والمعاد، وهي تعتبر نصف السورة تقريبًا. وقد وصفت الآية السابقة الأبرار: بالأوصاف الكريمة التي بها صلاح الأُمم.

غير أن المجتمعات لا تخلو من منحرفين ضالين، لأن الصراع بين الحق والباطل من سنة الحياة. والله - تعالى - يقول:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (1)، فكان من الحكمة تأديبهم والقصاص منهم، فنزلت الآية لتنظيم القصاص، وعدم الغلو أو القصور فيه، والقضاء على ما كان عليه العرب من المغالاة فيه، بقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة، والجماعة بالواحد، والعظيم بالحقير، فهم يتركون القاتل ويقتلون أعز منه. كما نزلت لتشريع الدية والعفو عن القصاص.

(1) سبأ: 13.

ص: 272

وكان في شريعة اليهود القصاص، ولم يكن لديهم العفو إلى الدية، فكان تشريعها في الإسلام فيه رفق بالمجتمع، وتهيئة فرصة التوبة للجاني، والتسامح والتصالح مع أُسرة المجني عليه، وذلك يؤدي إلى حقن الدماء، وعدم معاودة القتل بين الأُسر.

روى البخاري عن ابن عباس، قال:"كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله - تعالى - لهذه الأُمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد".

{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُ وفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} : أي فعلى أهل القتيل أن يطالبوا القاتل بدية المقتول، بالمعروف من غير تعنيف، وعلى المعفو عنه أن يؤدي الدية إلى أهل القتيل بإحسان، من غير مماطلة وبخس.

{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ من رَّ بِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} : حيث عدل عن القصاص إلى الدية.

{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : أي فمن قتل بعد قبول الدية أو بعد العفو، أو قتل غير القاتل، أو قتل القاتل إذا لم يقبل العفو عنه إلى الدية، فله عذاب أليم في الآخرة.

وذكرت الآية الكريمة حكم القصاص في النوع الواحد، ولم تتعرض لحكم ما إذا اختلف القاتل والقتيل نوعًا، كما إذا قتل حر عبدًا، أو رجل امرأة، أو العكس.

والأحناف يرون أن النفس بالنفس مطلقًا، ويشاركهم في ذلك: داود والكوفيون وغيرهم، لهذه الآية، ولقوله تعالى:

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) فإنَّ شرع من قبلنا يجب العمل به إذا لم يرد في شرعنا ما ينسخه، ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي بالدين أو بالدار، وهما سواءٌ فيها، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم

" (2). رواه

(1) المائدة: 45.

(2)

رواه ابن ماجة.

ص: 273

وما قاله الأحناف، من قتل الرجل بالمرأة، والعكس، إذا كان من الأحرار المسلمين، أمر مجمع عليه، كما قال القرطبي.

أما قتل الحر بالعبد، أو المسلم بالكافر فيمنعه مالك والشافعي وغيرهما.

ودليلهم في ذلك: ما روى عن على - رضى الله عنه -: "أن رجلًا قتل عبده، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة". وما روى عنه أنه قال: "من السنة ألا يقتل مسلم بذي عهد، ولا حر بعبد".

ومن حججهم التنويع والتقسيم في الآية، وأنه إذا كان لا قصاص بينهما في نحو الأطراف، فكيف يقتل الحرب بالعبد قصاصًا؟ إلى غير ذلك من الأدلة.

أما قتل العبد بالحر فلا خلاف فيه، وكذا قتل الذمي بالمسلم، أما العكس، وهو: قتل المسلم بالذمي، فقد قال به الكوفيون، والثوري، للآية التي نحن بصدد شرحها، ولقوله تعالى:

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ولأَن المسلم يقطع إذا سرق مال الذمي. وهذا يدل على أن ماله قد ساوى مال المسلم، فدل ذلك على مساواة دمه لدمه، إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه، إلى غير ذلك.

والجمهور: على أنه لا يُقتل مسلم بكافر، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يُقتل مسلم بكافر". أخرجه البخاري عن علي.

ومن أراد التعمق في بحث الموضوع، فليرجع إلى المطولات في الفقه والتفسير.

واستثنى جمهور الفقهاء، من وجوب القصاص: الأب إذا قتل ابنه، لأن الابن قطعة من أبيه، فالخسارة واقعة عليه.

وفي العصر الحديث: ارتفعت أصوات بعض المشرعين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، تنادي بإلغاء عقوبة الإعدام لفظاعتها، ولأَن أَغلب مرتكبيها واقعون تحت تَاثير أمراض نفسية، وينادون بعلاجهم لا بقتلهمن ولأن القضاة بشر: يُخطئون ويصيبون، وخطؤهم لا يمكن إصلاحه، في حالة الإعدام.

ص: 274

وأخذت بعض الدول الحديثة، بهذه المبررات، فألغت عقوبة الإعدام.

ولكن أكثر العلماء، ورجال الدين عارضوا هذا الإلغاء، لأنه يشجع على سفك الدماء، والاستهانة بالأرواح، إذ الهدف من العقوبة هو الردع.

وذهب بعض علماء الاجتماع: إلى أن الإعدام أخف من السجن المؤَبد، المصحوب بالأعمال الشاقة.

والقرآن الكريم فرض القصاص، ولكنه فتح أبوابًا للرحمة، أهمها:

1 -

القتل الخطأ: لا قصاص فيه. وعقوبته تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلَّمة إلى أهله، إلا أن يتصدقوا، بتنازلهم عنها.

وللحاكم أن يضيف إلى هذا، عقوبة التعزير.

2 -

لأولياء القتيل حق العفو عن القصاص في القتل العمد، مقابل الدية، ولهم - أيضًا - حق التنازل عنها، لأنهم هم الذين وقع عليهم الضرر.

3 -

إذا عفا البعض من أولياء القتيل، وخالف البعض الآخر، سقط القصاص، وعاد الأمر إلى الدية أو الإحسان بالعفو.

4 -

أرجأَ الإسلام تنفيذ القصاص في الحامل، حتى تضع حملها، إنقاذًا للجنين، ورجاءً لعفو أولياء الدم، أو قبولهم الدية.

5 -

حبب الإسلام في العفو حيث قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُ وفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وسيأتي شرحه. وقال: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (1).

هذا، وقد قرر الفقهاءُ: أن الجاني إذا كان معروفًا بالشر، أو ظهر للإمام أن المصلحة العامة تقتضي عقابه، فعليه أن يعاقبه العقوبة المشروعة، ولا يعفو عنه، صيانة للمجتمع من شره.

(1) النور: 22.

ص: 275

{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} المراد من أخيه: ولي الدم، أي فالجاني الذي عُفِي له من ولي الدم شيٌ من العفو، ولو أقل قليل. كأن يعفو بعض الورثة، عن حقهم في القصاص، فإن ذلك يُسقط القصاص، كالعفو التام، وسماه "أخاه" استعطافًا، بتذكير أُخوة الدين.

وقيل المراد بأخيه: المقتول. والمعنى: فمن عفى له من دم أخيه شيٌ. والمراد ما تقدم بيانه.

{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} : أي فليطالب العافي بالدية، بالمعروف من غير تعنيف ولا إيذاءٍ.

{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} : يعني: وليؤد الجاني الدية إلى ولي الدم بإحسان من غير مماطلة ومن أراد معرفة أحكام القصاص والدية في حق المسلمين وغيرهم. فليرجع إلى كتب الفقه.

{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّ بِّكُمْ وَرَ حْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} :

فتح الله بابًا للرحمة والتخفيف وحقن الدماء، بإجازته أخذ الدية، وتوعُّدِهِ من يعتدي بعد ذلك - أي بعد أخذ الدية، بأن يقتص من الجاني، أو يقتل غيره - بالعذاب الأليم، لأنه غاش ومخادع.

والمراد بالعذاب الأليم: العقاب في الدنيا بالقصاص، وفي الآخرة بالنار.

وقال أبو الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى عذابه في الآخرة.

وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام، يصنع فيه ما يرى.

وقيل غير ذلك.

ووجه التخفيف بأخذ الدية: أن أهل التوراة، كان لهم القتل، ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو، ولم يكن لهم قَوَد ولا دية، فجعل الله - تعالى - ذلك تخفيفًا لهذه الأُمة، فمن شاء قتل، ومن شاءَ أخذ الدية، ومن شاءَ عفا. قال القرطبي.

ص: 276

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}

المفردات:

{الْأَلْبَابِ} : جمع لب، وهو: العقل.

التفسير

179 -

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ

} الآية.

هذه الآية تعليل لإيجاب القصاص الذي مر بيانه في الآية السابقة، وتوضيح لمحاسنه على وجه بديع، حيث جعل الشيء سببًا في ضده.

فقد ذكرت في إيجاز معجز، الهدف من القصاص، وهو حياة المجتمع في أمن وسلام، ولهذا خاطبت أُولي الألباب، أي: أصحاب العقول الخاصة من العلماء والأذكياء.

فإذا انحرف بعض الأفراد، اقتضت المصلحة العامة للجميع استئصال المنحرف، محافظة على سلامة غيره فالقصاص من الجناة حياة آمنة للأُمة. وإلى هذا أشارت الآية الكريمة:

{مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْ ضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (1).

فالأصل: هو القصاص. أما العدول عنه إلى قبول الديات أو العفو، فمتروك لأولياء الدم.

وقد عنى علماء البلاغة والمفسرون بالموازنة بين التعبير القرآني: "ولكم في القصاص حياة"، وبين الحكمة العربية:"القتل أنفى للقتل".

وأورد السيوطي في كتابه: "الإتقان" عشرين وجهًا، لتفضيل العبارة القرآنية. ومن أبرز وجوه امتيازها على العبارة العربية: أنها واضحة الهدف وهو حياة الأمة، وأن القتل فيها للقصاص.

(1) المائدة: 32.

ص: 277

أما العبارة العربية: فليست كذلك، كما أن القصاص قد يكون بغير قتل، ذلك عند إصابة بعض الأعضاء. وليس في العبارة العربية تعرض له.

وسبب الحياة بالقصاص: أن من يفكر في القتل، ويعلم أن سيُقتص منه إذا قتل، يمتنع عن القتل، فيتسبب ذلك الامتناع في حياة نفسه، وحياة من يريد قتله، فإذا عم هذا التفكير بين الناس، ساد فيهم الأمن والسلام، وتوفرت لهم الحياة، كما أنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد، فإذا اقتص من القاتل وحده سلم الباقون، فيكون ذلك سببًا لحياتهم.

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}

التفسير

180 -

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ

} الآية.

بعد أن تناولت الآية السابقة حقوق أولياء الدم في القصاص أو الدية أو العفو، تناولت هذه الآية حقوق بعض أولياء الميت فيما ترك من خير وهم: الوالدان والأقربون، فذكرت: أن من تَوقَّعَ النهاية، فعليه أن يوصي بتركته لوالديه وبقية أقاربه، بما يعرف العقلاء حسنه فلا يحرم بعضهم بدون حق.

وجمهور المفسرين القدماء - وفي مقدمتهم ابن عباس وابن عمر - على أن هذ الآية منسوخة بآيات الميراث في سورة النساء. وسندهم في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال: "إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية". أخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجة.

وكذلك ما أخرجه الإمام أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أُمامة الباهلي. سمعت رسول الله - صلى

ص: 278

الله عليه وسلم - في حجة الوداع في خطبته، يقول:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث".

فهذا الحديث وذاك، أفهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن آية المواريث نسخت وجوب الوصية للوالدين والأقربين، المأخوذ من هذه الآية.

والقائلون بنسخ وجوب الوصية اختلفوا:

فمنهم من قصر النسخ على الذين يرثون، وأبقى وجوبها فيمن لا يرثون، كأن يكون الوالدان أو الأقارب كافرين، أو يكونوا مؤمنين، ولكنهم حجبوا من الميراث، كابن الأخر الذي حرم بأخ، وكذوي الأرحام.

فالوصية واجبة لهؤلاء وأمثالهم عند بعض من قال بالنسخ. وممن قال بذلك: ابن عباس وعلى - رضى الله عنهما - روى عن على أنه قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية.

ومنهم من قال: إن الوجوب نسخ في حق الجميع، ولكنها مستحبة في حق الذين لا يرثون، وإلى هذا الرأي ذهب الأكثرون.

وقيل إن هذه الآية لم تُنسخ بآيات المواريث، بل حدد بها ما كان الموصى حرًا في تحديده بمقتضى هذه الآية. فقد رأى الحكيم - سبحانه - أنه قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي به لكل واحد من أقاربه، ولا يعرف من هو أولى بالوصية من سواه، وقد يقصد المضارة. فتولت حكمته تعالى بيان ذلك الحق، بما أنزله من آيات المواريث متفقًا مع الحكمة والمصلحة، حيث حصر الأنصباء في النصف والربع والثمن، والثلثين والثلث والسدس وعين أصحابها، وما فضل - بعد أصحاب الفروض - أعطاه لأولي الذكور العصبات، وَبَيَّنَ دَرجاتهِم، فتحول التقسيم بآيات المواريث من الموصي - كما كان شائعًا - إلى المولى سبحانه وتعالى، فقال في سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ

} (1) الخ أي يوصيكم في ورثتكم -

(1) النساء: 11.

ص: 279

وقد عجزتم عن تحقيق المصلحة بينهم بأنفسكم - بأن يكون تقسيم أموالكم بينهم على النحو المبين في الآية، وذلك كمن أمر غيره بإعتاق عبده، ثم أعتقه هو بنفسه.

ومن أراد المزيد من تحقيق الموضوع، فليرجع إلى الموسوعات في تفسير تلك الآية الكريمة:{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي هذه الوصية: جعلها الله حقًا، يلتزم به من اتقى الله وراعاه.

{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}

المفردات:

{إِثْمُهُ} : الإثم: ارتكاب ذنب.

{خَافَ} : الخوف هنا بمعنى العلم.

{جَنَفًا} : الْجَنفَ: الجور والميل عن الحق.

التفسير

181 -

{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ

} الآية.

هذا تحذير من الله، لمن يبدل وصية الميت من الأوصياء والشهود، بعد ما تأكد من صدورها عنه، وإنذار له بأنه آثم مرتكب لكبيرة من الكبائر. ومن كان كذلك، عُوقب عقاب كبائر الذنوب، لأنه أعان على قيام باطل، بدلًا من الإعانة على تنفيذ حق شرعه الله. وتبديل الوصية: يكون بإنكارها، أو بالنقص فيها، أو بتغيير صفتها، أو بغير ذلك.

{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيسمع أقوال المبدلين والموصين، ويعلم نياتهم، فيجازيهم على حسبها، وفي هذا وعيد مؤَكد للمبدلين، ووعد للموصين العادلين.

ص: 280

واستدل بالآية: على أن وجوب الوصية يسقط عن الموصى بنفس الوصية وأنه لا يلحقه تبعة، إن لم يعمل بها.

182 -

{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ

} الآية.

والمعنى: فمن علم من المسلمين جورًا من موصٍ في وصية، بأن أَوصى بالمال إلى زوج ابنته، أو ابن ابنته - مثلًا - لينصرف المال إلى ابنته، رغبة في حرمان وارث، أو أوصى لبعيدِ وترك القريب، فأصلح بين الموصى لهم وبين غيرهم ممن وقع الجور عليهم، بتعديل الأَنصباء التي في الوصية، لصالح من جار عليهم الموصى فلا إثم على هذا المصلح، في مخالفة الوصية، لأَنها جائرة، ولا ينطبق عليه الإنذار الإلهى، في قوله تعالى:{فمَنْ بَدَّلَهُ} ، لأنه تبديل للمصلحة، لا تبديل للهوى.

وقيل: المراد أنه فعل الإصلاح بينهم في حياة الموصى. بأن أَمر الموصى بالعدول عن جوره في وصيته، وتحقيق العدل بينهم.

وعلى كلٍّ، فالإصلاح بينهم فرض كفاية، يأثم الجميع بتركه، فإذا قام به أحد المسلمين، سقط الإثم عن الباقين.

{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} :

هذا تذييل، قصد به الوعد بثواب من أصلح على إصلاحه، وذكر المغفرة مع أن الإصلاح طاعة، والمغفرة إنما تليق بمن عصى، لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة. ولذا حسن ذكرها. يعني: أنه - تعالى - غفور للآثام، فلأن يكون رحيمًا بمن أطاعه أولى!

وقيل: المعنى: إن الله غفور للمصلح ما يفرط منه في الإصلاح، كأن يكذب للمصلحة، أو غفور لجور الموصى بعد ما أصلح الوصى، بين من أوصى لهم وبين غيرهم.

وقيل: غير ذلك.

ص: 281

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}

المفردات:

{الصِّيَامُ} : الإمساك عن الشيء. ويقول البيضاوي: إنه الإمساك عما تشتهيه النفس.

{يُطِيقُونَهُ} : يحتملونه بمشقة كبيرة. وسيأتي بيان آراء الفقهاء في ذلك.

التفسير

183 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ

} الآية.

تناولت الآية السابقة بعض الأحكام، ولا يزال حديث الأحكام موصولًا، فقد ذكرت هذه الآية وما تلاها: كثيرًا من أحكام الصيام.

وقررت هذه الآية أن الصيام فرض على المؤمنين، كما كان مفروضًا في الديانات السابقة، وإن اختلف الصيام في كل أُمة في الكيفية أو المُدة.

قال صاحب الكشاف، في تفسير قوله تعالى:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} : على الأنبياء والأُمم، من لدن آدم إلى عهدكم.

وقال علي - رضى الله عنه -: "إن الصوم عبادة قديمة، أخلى الله أُمةً من افتراضها عليهم".

ص: 282

وإنما فرضه الله على كل أُمة، لما له من فوائد جسمية وروحية.

والحكمة في تشبيه فرضه علينا بفرضه على من كان قبلنا، هي تخفيف مشقته على الصائمين، فإنه إذا كان شريعة عامة في جميع الديانات، كان ذلك أدى إلى الصبر عليه، وعدم التقصير فيه. ولأهميته جُعِل الركن الرابع من أركان الإسلام، كما في الحديث الصحيح المجمع عليه:"بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصومِ رمضان، والحجِّ". رواه ابن عمر عن ِّالرسول صلى الله عليه وسلم.

والصوم لغة: الإمساك، ومنه الصوم عن الكلام، كقول مريم عليها السلام:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (1).

وشرعًا: الإمساك عن الطعام والشراب ومباشرة النساء، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع تبييت النية.

وللصيام آثار حسنة كثيرة.

فهو يربي الوازع النفساني، وينمي الإرادة، ويبعث على الخير، ويقمع الشر، ويُعلم الصبر، ويحقق المساواة بين الفقير والغني في الجوع، ويذكر الغني أخاه الفقير، فيعطف عليه، ويعينه .. إلى غير ذلك من الفضائل. وله فوائد صحية عديدة، أجمع عليها الأطباءُ.

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : لعلكم بالصوم تتقون المعاصي، فإنه يذكر الصائم بخشية ربه، ولذا حببه الرسول إلى الشباب الذين لا يجدون مئونة الزواج.

فقد جاء في الصحيحين: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاءٌ". (2)

(1) مريم: 26.

(2)

أي دفع للشهوة وقمع لها.

ص: 283

وقد بينت السنة فضائله.

ومن ذلك: ما رواه الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه". وما رواه مسلم في حديث قدسي:

"كل عمل ابن آدم له، يُضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به".

184 -

{أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ

} الآية.

أي كتبه أيامًا قليلة تُعد.

والمراد بالأيام المعدودات: شهر رمضان، الذي سيصرح به في الآية التالية، وهذا هو رأي ابن عباس، وأكثر المحققين وأحد قولي الشافعي، فيكون الله قد أخبرنا - أولًا - بأنه كتب علينا الصيام، ثم بين عدته بيانًا يُقصد به التخفيف، بقوله:(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) ثم بينه بيانًا تامًا بقوله: {شَهْرُ رَمَضانَ}

الخ.

والتعبير عن الشهر: بأنه أيام معدودات، لتقليل مدته، والتيسير على الصائمين وكأنه - تعالى - يقول: فرضناه شهرً تُعَدُّ أيامه: ولم نفرضه أكثر من ذلك، رحمة بكم، وتيسيرًا عليكم.

وقيل: المراد بالأيام المعدودات: ثلاثة أيام من كل شهر قمري في وسطه، وهي أيام الليالي البيض: الثالث عشر والتاليان له، ونسخ صيامها بشهر رمضان، ونسب هذا الرأي إلى ابن عباس وجماعة.

والراجح الأول.

ويكن تحقيق دليل كلٍّ في المطولات.

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِ يضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : أي فمن مرض منكم أو سافر فله أن يفطر مدة المرض أو السفر، ثم يقضي أيامًا بعدة أيام فطره.

وتقدير المرض والسفر، فيه خلاف بين الفقهاء.

فقد ذهب بعضهم: إلى أن أي مرض أو سفر، يبيح الفطر.

ص: 284

وذهب الجمهور: إلى أن المرض المبيح للفطر، هو الذي يشق احتمال الصيام معه، ولا يحتمل عادة. ومثل المرض الشديد: الخوف من استمراره، أو زيادته أو توقع حدوثه إن صام، بحكم عادة أو مشورة طبيب عادل. وهذا هو الراجح. وقيل: غير ذلك.

وأما السفر، فحدده بعضهم بثمانية وأربعين ميلًا، بينما نزل به البعض الآخر إلى ثلاثة أميال. وقيل: غير ذلك. ويشترطون فيه ألا يكون سفر معصية.

وعلى المسلم أن يحتاط في تقدير المرض، فالصوم أمانة بين العبد وربه، كما عليه أن يحتاط في تقدير مشقة السفر، وبخاصة في هذا العصر الذي توافرت فيه سبل الراحة بالمواصلات السريعة. وحسبه قوله تعالى:{وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فينبغي له أن يصوم كلما أمكن الصوم، وإن انطبقت عليه الرخصة.

وإذا أفطر المترخص بالسفر أو المرض، فلا ينبغي أن يعيب عليه من صام، ومع وجود الرخصة له.

فقد روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِب الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِر، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِم".

{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .

يقول كثير من المفسرين: إن الصيام في أول الإسلام كان بالخيار للقادر عليه، لأنهم لم يكونوا معتادين الصيام قبل الإسلام، فكان فرضه مع الإلزام فيه مشقة عليهم، فرخص لهم الفطر مع الفدية، وقَدْرُها طعام مسكين في اليوم، عن كل يوم. وقدَّرَها أهل العراق: بنصف صاع من بُرٍّ (أي قمح) أو صاع من غيره، وقدَّرَها أهل الحجاز: بِمُدٍّ (1) لكل يوم.

ويُستدل من قال: إن الصيام أول الإسلام كان اختياريًا، وأن الآية نزلت لتخيير من قدر عليه بين الصيام وبين الفدية المذكورة، بما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عن

(1) المُد بضم الميم: مكيال خاص وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز، ورطلان عند أهل العراق، وقدره بعض الباحثين بنصف قدح مصري.

ص: 285

سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} كان مَنْ شاءَ مِنَّا صَامَ، ومن شاءَ أَفطرَ وَيَفْتَدِي - فُعِلَ ذَلِكَ - حتى نزلت الآيةُ التي بعدها فَنَسَختْهَا:{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

ومن العلماء من لم يقل بالنسخ، ويفسر {يُطِيقُونَهُ} بمعنى: يصومونه جهدهم وطاقتهم، وهذا مبني على أن الوسع هو القدرة على الشيء مع السهولة، والطاقة هي القدرة عليه مع المشقة، فيصير المعنى: وعلى الذين يصومونه مع الشدة والمشقة - إن أفطروا - فدية إلخ. ويدخل فيهم: الشيخ الضعيف والحامل والمرضع ونحوهم.

ويقول بعض أصحاب هذا الرأي: إن الهمزة في أشق للسلب، فمعنى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} على هذا الرأي: وعلى الذين تسلب طاقتهم بالصيام فدية

إلخ، وذلك كما في: قسط بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل، وترب بمعنى افتقر، وأترب بمعنى استغنى. ونحو ذلك.

{فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرً افَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} . أي فمن زاد على القدر المذكور في الفدية، أو زاد على من يلزمه إطعامه، بأن أطعم مسكينين فصاعدًا، أو جمع بين الإطعام والصيام، فهو خير له.

{وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} :

الخطاب بذلك لمن أُبيح لهم الفطر، على أي وجه مما سبق، أي: وأن تصوموا خير لكم من الفطر، وإن كنتم تعلمون ما في الصوم من الفضيلة.

روى الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من عبد يصوم يومًا، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا".

وإنما يُفضل الصوم الفطر، إذا لم يتعرض به الصائم إلى الخطر، فإن كان يفضي صومه إليه، فالفطر واجب بالإجماع، لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1).

ومذهب الظاهرية: وجوب الإفطار لعذر السفر والمرض مطلقًا، وأن من صام في سفر، أو مرضٍ، لا يصح صومه هو رأي مرجوح، لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في بعض الحالات، تشريعًا لأُمته.

(1) البقرة: 190.

ص: 286

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}

{الْفُرْقَانِ} : الفارق بين الحق والباطل.

{شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} : علم به بأي وجه من وجوه العلم.

{الْيُسْرَ} : السهولة.

{الْعُسْرَ} : المشقة.

التفسير

185 -

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

} الآية.

هذه الآية بينت أن الأيام المعدودات في الآية السابقة هي شهر رمضان، وذكرت أن الله تعالى شرف هذا الشهر بإنزال القرآن الكريم فيه، وكان ذلك في ليلة القدر، قال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) أي بدأنا إنزاله فيها. وعن ابن عباس وابن جبير والحسن، أنه أُنزل فيها إلى سماء الدنيا جملة، ثم أُنزل منجمًا في ثلاثة وعشرين عامًا حسب الوقائع.

(1) سورة القدر: 1.

ص: 287

{هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي: أنزل الله القرآن الكريم في شهر رمضان، هداية للناس إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى مصالح المعاش والمعاد، وآيات واضحات من جملة الكتب الهادية إلى الحق، الفارقة بينه وبين الباطل.

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} :

أي فمن حضر منكم في الشهر، ولم يكن مسافرًا فليصم فيه، أو من علم هلال الشهر بأَيِّ وسيلة من وسائل العلم به فليصمه.

روى الشيخان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكمِلوا عدة شعبان ثلاثين".

كانت رؤية العين هي الوسيلة الوحيدة للعلم به في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته.

وبعض الفقهاء العصريين يرى: أن رؤْية العين غير دقيقة، وأن علم الفلك قد تقدم، وأصبح بالإمكان تحديد الأوقات بالثانية والدقيقة عن طريقه، وأصبح اعتمادنا في تحديد أوقات الصلوات عليه، ويرى ارتكانًا على هذا: اعتبار أول رمضان على أساس حسابه الدقيق.

وقال بهذا الرأي - عند الغيم - من القدامى مطرف بن عبد الله، وهو من كبار التابعين، وابن قتيبة، وهو من كبار المحدثين، فقد قال:"يُعَوَّل على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل، واعتبار حسابها في صوم رمضان".

وقد قرر مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية: الاعتماد على الرؤية في حال الصحو، والاعتماد على المراصد الفلكية في حال الغيم، إذ الرؤية فيها رؤية. ومع هذا فلا يزال المسلمون يعتمدون على الرؤية بالعين المجردة، ومن لم ير الهلال في دولته اعتمد على رؤيته في دول مجاورة.

{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : بعد أن عظَّمت الآية شأن الصوم، أعادت إباحة الترخيص في الإفطار، توكيدًا لأمره، وذلك عند من يقول: إن الصوم كان واجبًا من غير تخيير، منذ أول التكليف به، وأما عنا من يقول: إنه كان على التخيير، ثم نسخ التخيير بالإلزام في قوله:{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} :

ص: 288

فإن إعادة الترخيص بالفطر للمريض والمسافر، لإفادة إباحة الفطر لهما عند الإلزام، كما كان التخيير، حتى لا يظن زوال هذا الترخيص، بالإلزام بالصيام.

والأيام الأُخَرُ، تتم في غير رمضان والعيدين، ويكون صيامها بعدد أيام الفطر.

واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعًا ومتفرقًا، وأنه ليس على الفور، خلافًا لداود، كما استدل بها على أن من أفطر رمضان كله، قضى بعدد أيامه، فلا يجزئه صيام شهر عدده تسعة وعشرون يومًا، مكان رمضان الذي كان ثلاثين يومًا، بل يزيد عليه يومًا.

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} :

تخفيفًا عنكم بهذا الترخيص. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (1).

{وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} : لغاية رأفته، وسعة رحمته فلا يُكلفكم ما لا تطيقون فإنه:"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"(2).

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

أي شرع لكم ما ذكر من الأحكام في هذه الآية، لتكملوا عدة شهر رمضان أداءً أو قضاءً، فلا تنقصوا من عدته يومًا أو أكثر، فإن صيامه كله مفروض عليكم، ولتعظموا الله بالحمد والثناء على ما هداكم إليه، من صيام هذا الشهر المبارك، والترخيص بالفطر عند العذر، وطريقة قضاء الصيام عند زوال العذر، ولعلكم تشكرون الله على نعمة الصيام المشتمل على فوائد خلقية واجتماعية وصحية عديدة، وعلى نعمة الترخيص بالفطر للعذر، وقضاء ما أفطرتموه عند زواله.

(1) النساء: 28.

(2)

البقرة: 286

ص: 289

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}

التفسير

186 -

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

} الآية.

ورد في سبب نزول هذه الآية: أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِ يبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .

والآية متصلة بعبادة رمضان، إذ هو شهر صيام وقيام، حافل بالعبادة والدعاء، ولهذا وردت آية الدعاء بين آيات الصيام. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الصائم لا تُرَدُّ دعوته" رواه الترمذي.

ومعنى {فَإِنِّي قَرِيبٌ} : فقل لهم: إني، والمراد بالقرب: الإحاطة والعلم، لا القرب المكاني.

وقد وعد الله - تعالى - في الآية أنه يجيب دعاء من دعاه ويحققه. وقيد الله إجابته بقوله: {إِذَا دَعَانِ} للإشارة إلى أنه - تعالى - يجيبه إذا اتجه إليه وحده بالدعاء.

ولا تقتضي الآية أنه يجيب الدعاء دائمًا. فهي وعد بالإجابة في الجملة، إِذ الإِجابة

ص: 290

تابعة لمشيئة الله - تعالى - طبقًا لحكمته، قال تعالى:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (1).

وقد يُبدّل الله للعبد خيرًا مما طلبه، أو يدخر له دعاءَه في الآخرة، فيحط عنه من سيئاته ما شاء، أو يوليه فضلًا منه ورحمة.

ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يدعو بدعوة، ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث: إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه السوء بمثلها. قالوا: إذن نكثر، قال: الله أكثر".

رواه مالك في الموطأ، كما رواه غيره.

والدعاء: ترجمان العبودية والخضوع والاستسلام من العبد لربه، وإيمانه بأن الأُمور كلها بِيَدَيْ مولاه - سبحانه -.

ولذا صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدعاءُ مخ العبادة". وللدعاء آداب هامة، ذكرها الإمام الغزالي في الجزء الأول من الإحياء.

{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} : أي فليطلبوا إجابتي بالدعاءن لأن السين والتاء للطلب، أو فليجيبوني إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أني أُجيبهم إذا دعوني لحاجاتهم.

واستجاب وأجاب بمعنى واحد، غير أن الاستجابة أقوى.

{وَلْيُؤْمِنُوا بِي} : أي وليدوموا على الإيمان بي.

{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} : أي ليهتدوا إلى مصالح دنياهم وأُخراهم.

وقد عقبت أحكام الصيام المذكورة بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ

} الآية، للإيذان بأنه تعالى خبير بأفعالهم، سميع لأقوالهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيدًا لتلك الأحكام وحثًّا عليها.

(1) الأنعام: 41.

ص: 291

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}

المفردات:

{الرَّفَثُ} : كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة، قاله الزجاج. وفي الكشاف: هو الإفصاح بما ينبغي أن يكنى عنه بين الرجل والمرأة، ورفث في كلامه: أفحش. والمراد من الرفث في الآية: المباشرة الزوجية.

{تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الاختيان: الخيانة البليغة.

التفسير

187 -

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ

} الآية.

سبب نزول هذه الآية كما رواه البخاري: "لما نزل صوم رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله:

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} .

وعن ابن عباس، قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء، حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن أُناسًا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام

ص: 292

في شهر رمضان بعد العشاء، منهم: عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله - تعالى -:

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} .

وعن ابن عباس - أيضًا - قال: إن الناس كانوا - قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيه - يأكلون ويشربون، ويحل لهم شأن النساء، فإذا نام أحدهم، لم يطعم ولم يشرب ولا يأْتي أهله، حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم، وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال: وماذا صنعت؟ قال: إني سَوَّلَت لي نفسي فوقعت على أهلي بعد ما نمت، وأنا أُريد الصوم، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما كنت خليقًا أن تفعل"، فنزل الكتاب:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ذكره ابن كثير.

ومن ذلك يُفهم: أن الأكل والشرب والجماع، كانت محرمة عليهم من العشاء، أَو من بعد النوم إلى الفجر، فخالفوا - وهم بشر - قبل أن يُشَدد الإسلام النكير على المخالفين في ذلك، ويستدلون للتحريم السابق، بقوله تعالى:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} .

وقد دلت هذه الآية: علىلا جعل الصيام من الفجر إلى المغرب، بنص الآية. وهذا يدل على أن الصيام قبل ذلك لم يكن بهذه الصورة. ويشهد لذلك أيضًا قوله:

{كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} .

وبعضهم فسَّر الآية بأنَّ بعض الصحابة خالف ما اعتقد أنه واجب الأداءِ، وهو بدءُ الصيام من العشاء.

أما جُملة {أُحِلَّ لَكُمْ} فلا تدل على أنه كان حرامًا، وإنما لتقرير إباحته، مثل قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (1).

والمراد من الرفث إلى النساءِ: جماعهن.

(1) المائدة: 96.

ص: 293

والمعنى: أُحل لكم أيها المؤمنون، جماع زوجاتكم ليلة الصيام دون حرج.

{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} : هذه الجملة في قوة التعليل للإباحة، وهي مجاز عن أن كليهما يمنع الآخر عما لا يحل، فكما يمنع اللباس الحر والبرد، فكذلك كل من الزوجين يمنع الآخر، ويستره عن الفاحشة، بما أحله الله له من المباشرة.

وقا ابن عباس معناه: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن.

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} : بغشيان نسائكم وإنقاص حَظَّ أنفسكم من الثواب وتعريضها للعقاب بفعل ما تعتقدونه محرمًا عليكم.

{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} : أي قبل توبتكم {وَعَفَا عَنْكُمْ} : أي محا أثره عنكم، فلم يَعُدْ فعله خطيئة لكم.

{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} : بهذا أزال الله عن المؤمنين الحرج، فأباح لهم أن يباشروا نسائهم ليلة الصيام، مع مراعاة أن الهدف ليس إرضاءَ الشهوات فحسب، بل إعفاء الزوجين، وحفظ النوع الإنساني، فينبغي أن ينوي ذلك بالمباشرة كما سنَّها الله.

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .

أحلت هذه الآية للصائمين: أن يباشروا زوجاتهم، وأن يأكلوا ويشربوا عن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. والخيط الأبيض: كناية عن الشعاع الضوئي الممتد بعرض الأُفق، فإذا بدأ ظهوره، تميز من فوقه الليل أسود اللون، وهو الذي كنَّتْ عنه الآية بالخيط الأسود، فإذا اجتمعا على هذا النحو، كان الفجر.

فالفجر: عبارة عن مجموع الخيطين الأبيض والأسود. ولذا بينهما الله مجتمعين بقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ولكون الفجر مجموع الخيطين، قال الشاعر:

وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يبْدُو قبلَ أَبيَضِهِ. . . . .

أي: سواده يظهر فوق بياضه.

ص: 294

فمتى جاء الفجر على هذا النحو، وجب الإمساك عن هذه المباحات.

{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} :

حين يبدأ الإمساك عن المفطرات، فعلى الصائم أن يتم صومه إلى الليل. وله في الليل ما أحل الله له، إلا أن يكون معتكفًا في مسجد لطاعة الله، فمحظور عليه ليلًا مباشرة النساء - مراعاة لحرمة المسجد - لا الطعام والشراب، فإنهما مباحان.

والمباشرة المنهي عنها - حينئذ -: هي الجماع، أما نحو اللمس والقبلة، فإن كان بغير شهوة فمباحان، ولكن يكرهان. وإن كانا بشهوة وتلذذ، فسد الاعتكاف.

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} : {تِلْكَ} إشارة إلى ما تقدم من أحكام، وسماها حدودًا، لأَنها حجزت بين الحق والباطل، والنهي في {فَلَا تَقْرَبُوهَا} آكد من لا تعتدوها، لأنه يشير إلى البعد عنها، حتى لا ينزلق المؤمن في غفلة منه، فيتجاوز الحد، فمن حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه.

ولم ينهنا الله - تعالى - عن مقاربة حدوده، إلا في هذه الآية وآية الزنى، وآية مال اليتيم، فإن غريزة الجنس، وغريزة حب المال، تعصفان بالإنسان، إلا من التمس أن يعصمه الله.

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} : وعلى هذا النحو الدقيق: وضح الله الأحكام للناس حتى لا يلتبس عليهم الحق بالباطل، وبهذا تصح عبادتهم، وتسمو نفوسهم ويتمسكوا بتقوى الله.

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (1).

وهكذا نرى آيات الصيام مختومة بالتقوى، مثلما انتهت بها آيات الأحكام السابقة. لأَنها الهدف الأسمى للمؤمنين.

(1) النور: 52.

ص: 295

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}

المفردات:

{تُدْلُوا بِهَا} : تلقوا بها.

{الْإثْم} : الذنب.

التفسير

الربط: الصوم يفضي إلى القناعة والعدالة الاجتماعية، والمال موطن الظلم والطمع والجور. فلذا حذرنا الله من فتنته بهذا النهي الحكيم.

188 -

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ

} الآية. فقد تناولت الآية في سياق ما أوردت الآيات السابقة من أَحكام - حكمًا جديدًا، يتعلق بحرمة الأموال.

فإنها تنهي عن أكل أموال الآخرين، عن طريق غير مشروع. والمراد من الأكل ما يعم الأخذ والاستيلاء وغيرهما. وعبر به لأنه أهم أغراض المال.

والمعنى: ولا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، وتلقوا بالخصومة فيها إلى الحكام: فإن في ذلك خراب البيوت.

وقيل معنى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} : ولا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة.

{لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : أي لا تأخذوا أموالكم بينكم بغير وجه حق، وتلقوا بالخصومة فيها إلى الحكام، لتبرروا أكل بعض أموال الناس، بسبب يوجب الإثم والذنب، كشهادة الزور، واليمين الفاجرة، والرشوة، وأنتم تعلمون أنكم مبطلون، وقد استدل بقوله:

ص: 296

{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} : فمن لا يعلم أنه يأكلها بالباطل، لظنه أنه حق له وحكم له الحاكم بأخذها، فهي له حلال.

ولكن على المسلم أن يتحرى في كسبه البُعْد عن الشبهات، فإن الجهل بالجرائم لا يُبرر ارتكابها. وعبارة (وأنتم تعلمون) لإظهار بشاعة تعمد ارتكاب الآثام.

وسبب نزول هذه الآية، على ما رواه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير مرسلًا: أن عبد الله بن أشوع الحضرمي، وامرأ القيس بن عابس، اختصما في أرض، ولم تكن بينة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس، فهمّ به، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (1) فارتدع عن اليمين، وسلم الأرض، فنزلت.

واستدل بالآية: على أن حكم القاضي لأحد بما ليس له، لا يجعله حلالًا في الواقع.

وجاء في ذلك حديث رواه البخاري ومسلم، عن أُم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلىَّ، ولعل بعضكم أن يكون أَلحنَ بِحُجَّتِهِ من بعض، فأَقضِيَ له على نحو ما أَسمعُ منه، فمن قضيتُ له بشيءٍ من حَقِّ أخيه، فلا يأخُذَنَّه، فإنما أقطعُ له قِطْعَةً من النار".

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}

المفردات:

{الْأَهِلَّةِ} : جمع هلال، وهو القمر أول الشهر العربي.

{مَوَاقِيتُ} : معالم زمنية بوقت بها الناس شئونهم، ويعرفون بها وقت حجهم.

(1) البقرة: 174

ص: 297