الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبب النزول:
أخرج الطبراني في الكبير، والبيهقي في سننه، وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم ما تلخيصه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطًا بقيادة عبد الله بن جحش إلى نخلة، فقال: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش، ولم يامره بقتال، وكتب له كتابًا قبل أن يعلمه أين يسير، فقال: اخرج أنت وأصحابك، حتى إذا سرت يومين فافتح الكتاب وانظر فيه، فما أَمرتك به فامض له ففعل، فإذ فيه أمرهم بالنزول بنخلة، والحصول على أخبار قريش. فتوجه بأصحابه نحو نخلة، فلقوا نفرًا من قريش فقتلوا أحدهم، وأسروا اثنين منهم، وأخذوا عيرهم وعادوا إلى المدينة فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام.
فأوقف الرسول الأسيرين والعير، فلم ياخذ منها شيئًا، فلما قال لهم رسول الله ما قال، سُقِطَ في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين.
وقالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمد الدم الحرام، وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الشهر الحرام.
فنزلت.
فأخذ رسول الله العير، وفَدَى الأسيرين.
واختلف في وقت حدوث ذلك، فبعض الروايات تقول: إن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة وهو حلال: ويليه شهر رجب. وهو شهر حرام.
وبعضها تقول: إنه كان في آخر يوم من رجب.
ولعل ذلك أرجح، فإن الآية تؤيده، إذ فيها أنهم سألوا عن حكم القتال في الشهر الحرام، كما أن الرواية التي تقول إنه كان في آخر يوم من جمادى، يناقض بعضها بعضًا، فقد ذكرت ما رويناه من أن الرسول حلف أنه ما أمرهم بالقتال في الشهر الحرام، وتوقف عن أخذ الغير، وأوقف الأسيرين، وأن الرسول لما قال لهم ما قال، سُقِطَ في أيديهم، وظنوا أنهم هلكوا، وأن المسلمين عنفوا عبد الله بن جحش وإخوانه على ما صنعوا، ولو كان ذلك في آخر يوم من جمادى ما حدث ذلك، ولو حدث لدافع عبد الله وإخوانه عن أنفسهم.
وكما أن السؤال في الآية دلّ على أن القتال كان في الشهر الحرام، فالجواب قرر ذلك. ولكنه عذرهم، إذ بين أنه وإن كان القتال فيه عظيم الوزر ولكن وزر المشركين أكبر، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} :
السائلون هم المسلمون، فقد سألوا عن حكم القتال في الشهر الحرام، بعد ما علموا بما كان من سريَّة عبد الله بن جحش.
والمعنى: يسألك المسلمون عن القتال في الشهر الحرام: أهو جائز أم لا؟ ثم كان الجواب:
{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} :
أي القتال فيه عظيم الوزر كبير الإثم.
وقد أَثبت هذا الجواب حرمة القتال في الشهر الحرام، وأَن ما اعتقده أَهل الشرك من استحلال الرسول القتال فيه باطل.
أما ما وقع من عبد الله بن جحش وأَصحابه، وفقد كان اجتهادًا منهم، فقد رأَوا أن قتال المشركين فيه حلال، لأنهم أخرجوهم من ديارهم، وصدُّوا عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام وعذبوهم وهم بمكة. ومن اجتهد وأَخطأَ، فله أجره، فكيف بمن اجتهد وأَصاب، حيث أَقَرَّ الله اجتهاده وعذره؟!
وإعادة لفظ القتال، للاهتمام بأَمر الحكم فيه. وتنكيره، للإيذان بأن أي قتال فيه مذموم وإنْ قلَّ، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} (1) وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (2)، فالقتال في الشهر الحرام نسخت حرمته بما ذكر.
(1) البقرة: 191
(2)
النساء:89
المعنى: وإذا كان القتال في الشهر الحرام إثمًا كبيرًا، فإن الصَّدَّ عن دين الله، والكفر به، والصدَّ عن زيارة المسجد الحرام بمكة للعمرة، وإخراج أهله المسلمين منه - مجردين من أموالهم - كل هذا أكبر جريمةً، وأبشع إثمًا عند الله - سبحانهُ - من القتال في الشهر الحرام.
وقد فعل المشركون هذا كله.
فقد قاوموا الدعوة الإسلامية، وعبدوا الأوثان، ومنعوا المسلمين من أداء شعائر العبادة بالمسجد الحرام، وعذبوهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بمكة.
فأي إثم أكبر من هذا؟
ثم عطف على الحكم الجزئي السابق، حكمًا كليًا: يتناول ما تقدم، كما يتناول ما يماثله مستقبلًا، فقال تعالى:
{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} :
أي ما يُفتن به المسلمون ويُعذبون به، أكبر إثمًا عند الله من القتل. وقد بالغ المشركون في إيقاع الأذى بالمسلمين، لصرفهم عن دينهم فقد عذَّبوا ياسرًا والد عمَّار: كانوا يكوونه بالنار ليرتَدَّ عن الإسلام، حتى مات في العذاب.
وعَذَّب أَبو جهل، سُميَّةَ أُم عمار زوجة ياسر، تعذيبًا شديدًا، ثم طعنها بين فخذيها بحَرْبَةٍ طعنةً قضت عليها.
وأُوذِيَ عمَّار بن ياسر في الله، حتى حملوه على كلمة الكفر فقالها تقية وغفرها الله له. وكان أُمَيَّةُ بن خلف يُعَذِّبُ بلالًا، فيجيعه ويعطشه ويطرحه في الرمضاءِ، ويضع على صدره الصخر، ويكويه بالنار، ليرتد عن الإسلام.
وغيرهم كثير، بل لم يَسْلَمِ النبي صلى الله عليه وسلم من إيذاءِ قومه. وأخيرًا تآمروا على قتله للقضاء على رسالته السماوية، فنجَّاه الله بالهجرة إلى المدينة.
ومن هنا، كانت الفتنة أكبر من القتل، لأَنها قتل بطيءٌ مصحوب بالتعذيب والتنكيل.
وقيل المراد بالفتنة: الشِّرك والكفر.
{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} :
أي هم لم يكتفوا بالصد عن سبيل الله والكفر به، ولم يقتنعوا بتعذيبكم وإخراجكم من دياركم، بل لا يزالون يفتنونكم، بشن الحروب عليكم لإبادتكم، أو صرفكم عن دينكم القويم إن استطاعوا، وسيظل شأْن الكفار مع المسلمين مستقبلًا كذلك.
ولا شك في أن مقابلة العدوان - بمثله - أمر مشروع.
والتعبير بحرف الشرط (إنْ) لاستبعاد استطاعتهم صرفَهم عن دينهم.
ثم حذرهم فقال:
أي من يستجيب منكم لهؤُلاء المشركين، فيرجع عن دينه إلى دينهم، فيمت وهو كافر: بطل كل عمل صالح قدمه، وخسر الدنيا والآخرة.
وفي هذا إنذار شديد، لمن تحدثه نفسه - من ضعفاء الإيمان - بالارتداد.
(وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ):
أي وأُولئك المرتدون عن دينهم أهل النار، هم فيها خالدون، إذا ماتوا وهم كافرون. ولا يغني عنهم إيمانهم السابق عن الردة.
أما من ارتد عن دينه، ولم يمت وهو كافر، بل تاب عن ردته وكفره، فالله يقبل توبته بفضله.
واستدل الإمام الشافعي بالآية: عن أن الردة لا تحبط الأعمال، حتى يموت صاحبها عليها.