المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحكم المستنبطة من القصة - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌الحكم المستنبطة من القصة

‌الحكم المستنبطة من القصة

قضى الله أزلا أن آدم سيكون خليفته في أرضه، فلذا منحه العقل والقوى والغرائز المختلفة التي تجعله وذريته صالحين لهذه الخلافة.

ومع أن تلك القوى التي منحها الله، ضرورية لعمارة الأرض والخلافة عن الله فيها، فهي قابلة لأن تستعمل في غير ما خلقت له من الخير، فكما أنها قابلة للصلاح وإلإصلاح، فهي قابلة للفساد والإفساد. وبما أن كثيرًا منهم- بسبب ذلك- سيقع في المعاصى، بارتكاب ما نهى الله عنه، فلذا أَراد الله أَن يعلمهم- عن طريق أبيهم آدم إذا وقعت منهم المعاصي- كيف يتوبون ويرجعون إِلى ربهم، حتى يتوب عليهم كما تاب على أبيهم. فلذا ابتلى آدم بالنهى عن الأكل من الشجرة فأخطأ، باغراه الشيطان ومساعدة غرائزه، فتلقى من ربه كلمات علَّمه بها: كيف يتوب ويرجع إلى ربه، فلما عمل بمقتضاها، تاب الله عليه. وكان ذلك لتعليم ذريته كيف يتوبون إذا عصوا.

ويؤيد هذا أن الله لم يغضب على آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، بل كرمه وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وجعل له الأرض مستقرا، وجعل له ولذريته فيها معايش.

هذا إلى ما توحي به الآيات الكريمة، من أن الله فضل الإنسان بالعلم، فكلما ازداد علمه كان جديرا بخلافة الله في أرضه، وحمل أمانته بين خلقه، كما توحي بالسئولية الإنسانية، وأن من أخطأ استحق العقاب، ومن أطاع استحق الثواب، ومن تاب تاب الله عليه، وأن الإنسان لا يحكم في أمر وهو جاهل به.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)} .

المفردات:

{إِسْرَائِيلَ} : هو يعقوب عليه السلام، جد بني إسرائيل.

ْ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} : أدوا التكاليف التي عهدت بها إليكم وافية.

ص: 84

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} أعطكم ثوابى الذي عاهدتكم عليه وافيًا. والعهد: الوصية. والوعد: المَؤثِق.

{فَارْهَبُونِ} : فخافون.

التفسير

40 -

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ

} الآية.

بعد أن عدد الله نعمه العامة في الآيات السابقة، شرع يبين نعمه الخاصة ببنى إسرائيل، وهم أكثر الأُمم نعمة وأشدهم عصيانًا وكفرًا، مع أَنهم أهل كتاب، وكانت الطاعة أجدر بهم.

وإسرائيل: لقب يعقوب عليه السلام-وهى كلمة عبرية، مركبة من جزءين: اسرا، ومعناها: عهد، أو صفوةْ، وإيل معناها: الله.

{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي تذكروها بالشكر، ولا تكفروها بالمعاصي.

وستجد- بعد هذه الآية- ألوانا من الخطاب لبنى إسرائيل، تذكيبرًا بنعم الله عليهم مجملة أو مفصلة، وتوبيخا لهم على آثام ارتكبوها.

والخطاب- في كل ذلك- موجه إِلى المعاصرين منهم للنبى صلى الله عليه وسلم، مع أن بعض هذه النعم كانت على آبائهم، كالانجاء من الغرق، واغراق فرعون وجنوده، وبعض هذه المعاصى كانت من هؤُلاءَ الآباء أيضًا، كاتخاذ عجل السامري إِلها- لهم وقولهم لموسى سمعنا وعصينا.

وإنما ذُكِّر المعاصرون منهم بنعم الآباءِ، لأن أثرها واصل إليهم، وفضلها عائد عليهم.

وانما وبخوا على معاصيهم، لأنهم يعتزون بالانتساب إليهم. ومن اعتز بآثم فهو آثم مثله.

فكأنما فعل فِعْلَهُ، ولأن عار إِثم الآباءِ يلحق الذرية، ما داموا على سنتهم في الضلال.

فكأنهم فيه شركاء، ولأن المراد من نحو قوله تعالى ص للمعاصرين: {

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ

} (1)

بيان أن ارتكاب الكبائر أَمر كامن في جنسهم، فلا غرابة فى كفرهم بما جاءهم

(1) البقرة- من الآية: 92

ص: 85

به محمد صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه قوله تعالى:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (1).

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} : أَي افعلوا ما عهدت إليكم بفعله من الإيمان والطاعة والعمل الصالح، وَأَدُّوه وافيًا {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي}: با لإِثابة وحسن الجزاء.

فالعهد الأول: {بِعَهْدِي} مضاف إلى الفاعل، فإنه تعالى عد إليهم بالايمان والعمل الصالح: بإِرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأدلة. والعهد الثاني {بِعَهْدِكُمْ} مضاف إلى المفعول، أي بعهدى إياكم، فإنه سبحانه، وَعَدَهم الثواب على حسناتهم. وعاهدهم على ذلك.

{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} إياى وحدى ارهبونى. والرهبة: خوف مصحوب بالتحرز. والفاء تشير إلى معنى الشرطَ، أي: إن كنتم ترهبون أحدًا فارهبونى، وأَلا تنقضوا عهودكم معي.

والآية متضمنة للوعد والوعيد، ودالة على وجوب الشكر والوفاءِ بالعهد، وألا يخاف المؤْمن إلا الله تعالى.

وفي ذكر قصة بني إسرائيل- بعد قصة خلق آدم- تصوير لتسلط إبليس اللعين على بعض ذريِة آدم وتأثرهم بوسوسته، مع مزيد فضل الله عليهم، وأنهم لم يحذروه مع ما صنعه بجدهم من الإغواء، وما عرف عنه من العداوة له ولأولاده!

{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} .

(1) الصافات-الآيتان:70،69

ص: 86

المفردات:

{بِمَا أَنْزَلْتُ} : أي بالقرآن الذى أَنزلته.

{مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} : من التوراة.

{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} : لا تجعلوا بدلا من الإيمان بآياتى، منافع الدنيا، فإنها قليلة.

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ولا تخلطوه به.

التفسير

41 -

{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ

} الآية.

بعد أَن أموهم الله بالوفاء بالعهود، أَمرهم بالايمان بالقرآن الذى أنزل على محمد صلى الله علمِه وسلم. فإنه من الوفاء بالعهد الذي أخذ عليهم.

ومعنى كون القرآن مصدقًا للتوراة التي معهم: أنه يدعو إلى ما تدعو إليه من الإيمان باللهِ وتوحيده، والعدل بين الناس. والنهى عن المعاصى. كما أن فيه ما فيها من قصص المرسلين، والعمل ليوم الدين، وغير ذلك من الأصول.

وما بينهما من المخالفات في الفروع، فهو سبب اختلاف العصور. وليست هذه مخالفة في الحقيقة، بل هي موافقة من حيث إن كلا منهما حق في عصره، متضمن لِلحِكَم التي يدور عليها التشريع.

وليس في التوراة دليل على أبدية أحكامها الشرعية. ولا يصح أن يكون فيها ذلك؛

لاختلاف العصور المقتضى لتغييرها.

فالإيمان بالقرآن المنزل على النبي محمد - صلى الله عليه سلم- لا يتنافى مع ما أُنزل إلى اليهود، فضلا عن أنه واجب عليهم، إذ هو مما عهد الله به إلى جميع النبيين.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ (1)

}

(1) آل عمران - من الآية: 81

ص: 87

ويجوز أن يكون تصديقه للتوراة، أنه نازل حسبما نعت فيها. ومعنى قوله:{وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} لا تكونوا أول المبادرين بالكفر به مع علمكم بصدقه من كتابكم.

فإن قيل: إِن مشركى العرب سبقوهم إلى الكفر بالقرآن والنبى. فالجواب أن المراد، التعريض، كأنه قيل لهم: ينبغى أن تكونوا أول المومنين به؛ لما عرفتموه من صفاته في كتابكم، فأنتم تعرفونه كما تعرفون أبناءكم، وكنتم تبشرون به، وتستفتحون عل أعدائكم.

ويمكن أن يجاب بأن المعنى: ولا تكونوا أول كافر به من أَهل الكتاب، فإنهم سبقوا المسيحيين في الكفر به.

ووقوع {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} خبرًا عن ضمير الجمع في قوله {وَلَا تَكُونُوا} بتأويل: أول فريق كافر به.

{وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} الآيات: حى الدلائل التي أيد الله بها نببه عليه الصلاة والسلام، وأعظمها القرآن، والثمن القليل: هو ما كان رؤَساؤُهم من رجال الدين يحرصون عليه من الرياسة والمنافع المالية.

وإنما وصف الثمن بالقلة لأن كل ما عدا الحق قليل وحقير، فإن مَنْ جَانَبَ عزة الحق،

خسر عقله، وخسر منزلة الرضا عند ربه، وآثر ما يفنى على ما يبقى، وما اعظمها من

خسارة!

{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} : أي لا تتقوا غضب رؤَساثكم ومرؤوسيكم بدوامكم على الكفر، ولكن إياى وحدى فاتقون: بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن متاع الدنيا.

42 -

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} :

أي لا تخلطوا الحق الذي علمتموه، بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه، حتى يشتبه أَولهما بالآخر، أَو: لا تجعلوا الحق ملتبسًا على أتباعكم وخفيا عليهم، بسبب الباطل الذي تكتمونه في أثنائه، أو تذكرونه في تأْويله.

{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} : معطوف على تلبسوا، داخل معه تحت النهى السابق، أي: لا تجمعوا بين الجريمتين؛ لبس الحق بالباطل وكتمانه، فكل منهما كبيرة في الجرائم.

ص: 88

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} : أي والحال أنكم عالمون بالحق، وليس لكم عذر بالجهل. وما أَقبح صدور الذنب ممن يزتكبه وهو عالم!

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}

المفردات:

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : اجعلوها قائمة باستكمال متطلباتها.

{وَآتُوا الزَّكَاةَ} : أعطوها لمستضيها.

{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} : صلُّوا في جماعة.

التفسير

43 -

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} :

بعد أن دعاهم الله إِلى الإيمان بما أنزل على محمد، أمرهم بالأعمال الصالحة، فإن الإيمان كالأَساس، والعمل الصالح كالبناء عليه.

وذكر في الآدة عملين من الأعمال الصالحة:

أولهما: الصلاة؛ وهي عنوان العبادة البدنية، ومعراج الأرواح للمناجين ربهم.

وهي عماد الدين.

والثاني: الزكاة؛ وهن العبادة المالية، وهي أَثر من أجل آثار الإيمان، تعالج مرض الشح والبخل في النفس، وتعتبر من أهم عوامل الإصلاح الاجتماعى، وعنوان الشفقة من أَغنياء المؤْمنين على إخوانهم الفقراء والمساكين. واقتصر عليهما لأهميتهما بين أركان الإسلام.

و"أل" في (الصَّلَاة) و (الزَّكاَة) للعهد. والمعهود صلاة المسلمين وزكاتهم. أمرالله بهما اليهود- بعد أمرهم بالإيمان وعدم كتمان الحق- ليجمعوا بين الإيمان والعمل الصالح.

{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي صلوا مع المصلين جماعة، فإنها تفضل صلاة الفذ بسبع وعشربن درجة، لِماَ فيها من اجتماع النفوس وتآلف القلوب.

ص: 89

والتعبير عن الصلاة بالركوع: احتراز عن صلاة اليهود التي لا ركوع فيها، وهو من إطلاق الجزء على الكل، ويصح أن يكون المعنى: واخضعوا مع الخاضعين، فإن من معانى الركوع: الخضوع، قال الشاعر:

لا تحقرن. الضعيف علَّك أن

تركع يومًا والدهر قد رفعه

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} .

المفردات:

{بِالْبِرِّ} : بالتوسع في الخير.

{الْكِتَابَ} : التوراة.

{لَكَبِيرَةٌ} : لثقيلة

{الْخَاشِعِينَ} : الخاضعين.

{يَظُنُّونَ} : يعتقدون

{مُلَاقُو رَبِّهِمْ} في الآخِرة لنيل ثوابه

التفسير

44 -

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ

} الآية.

هذا توبيخ من الله لبني إسرائيل، وتعجب من شأنهم، والخطاب فيه- وان كان خاصا بهم فهو عام من حيث المعنى: يرادبه توبيخ كل واعظ يأمر بالخير ولا يأْتمر، ويزجر عن

ص: 90

الشر ولا ينزجر. والبر: يتناول جميع أصناف الخير، فيشمل عبادة الله، والإحسان للاقارب والغرباء، وغير ذلك.

والخطاب لعلماء اليهود، فإنهم كانوا يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه. ومن ذلك أنهم كانوا يأْمرون بالصدقة ولا يتصدقون.

{وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} : النسيان؛ السهو الحادث بعد العلم، والمراد به هنا: الترك؛ لأَن أحدا لا ينسى نفسه، بل يحرمها من البرويتركها، كما يتْرك الشئ المنسى، مبالغة في الغفلة وعدم المبالاة بما ينبفى أَن يفعله في حقها.

{وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} تقرءون التوراة وتدرسونها.

{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} : هذا استنكار واستهجان لعدم تعقلهم؛ إذ نصحوا سواهم وتركوا أنفسهم. والعقل في الأصل: المنع والإمساك. سمى به النور الروحى، الذي به تدرك العلوم الضرورية والنظرية، لأنه يمسك النفس؛ ويمنعها عن تعاطى ما يقبح، ويعقلها على ما يحسن.

ومعنى الآية: لا ينبغى لكم يا بني إِسرائيل. أن تامروا الناس بخصالْ الخير. وتتركوا أنفسكم فلا تزكوها بصفات البر، وأَنتم تتلون كتاب التوراة: التي توجب البر على النفس وعلى الناس، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعم شرعا لمخالفته ما تتلونه في التوراة، وعقلا؛ لأن تطويع النفس للبر والخير يجب عقلا أن يسبق تطويع الناس لهما، فإن الناس لا يأخذون كرائم الأخلاق، ولا يعملون بها إلا إذا رأوا الدعاة إليها يعملون بها قبل غيرهم.

45 -

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ

} الآية.

لما أمرهم الله سبحانه وتعالى بترك الضلال والإضلال، والتزام الشرائع- وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من مخالفة الطبع، وحب الرياسة والجاه والمال - طلب منهم أَن يستعينوا بالصبر والصلاة، فإنهما كفيلان بتذليل الصعاب وإزاله العقبات التي تعترض في سبيل الهدى والبرالمأْمور بهما.

والصبر: ضبط النفس والسيطرة عليها، بحيث تحتمل ما تكره انتظارًا للفرج، وتمننع عن لذائذها وشهواتها إن لم تكن من حقها.

ص: 91

وهو صفة الصالحين، فهم لا يقنطون من رحمة الله. إِذا مسهم البلاء، ولا يندفعون في المعصية، ولا يطغون إذا مستهم النعماء. قال تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} (1).

والصبر: دعامة كل عمل صالح، ومعين على اجتياز المصاعب. وقد أمر الله تعالى بالاستعانة بالصبر فى كل الأُمور؛ بأن نصبر على مشقة الطاعات، وصعوبة البعد عن الشهوات وعن اللذات الآثمة، وعلى مكاره الشدائد والمحن، امنثالا لأمر الله في الأُولى، وصبرا على بلائه فى الأُخرى. كما أَمر بالاستعانة بالصلاة، لما فيها من العبادة النفسية والبدنية وإظهار الخشوع لله. وكل ذلك يزكى النفس ويقويها على احمال التكالف والشدائد.

ولذا حث الله نبيه وأمته عليها بقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} (2) وكان النبي- صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة.

ويحتمل أن المراد بالصلاة: معناها اللغوى؛ وهو الدعاءُ، فإنه من خير ما يستعان به.

والخطاب موجه إلى اليهود بعد دعوتهم إلى الإيمان والعمل الصالح.، ليجمعوا- إِلى.

الإيمان المطلوب- هذه العبادات. فكأَنه قيل: ولا تكتموا الحق- وهو نبوة محمد- فأعلنوه وآمنوا به؛ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصلوا مع المصلين من المسلمين، بعد ايمانكم، ولا تأَمروا الناس بالبر على حين تهملون أنفسكم.

وأول خصال البر والخير هو الإيمان، واستعينوا بالصبر والصلاة على الأمر كله.

وللخطاب مفة العموم فى الحكم لجميع المسلمين أيضًا، كما سيأْتى.

{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} : الضمير في {إنَّهاَ} عائد إلى الصلاة، أي وإن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين الخاضعين بقلوبهم لله، أو عائد إلى جميع الأُمور؛ التي أمر بها بنو إسرائيل، والتي نهوا عنها، في قوله تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الآيات.

(1) هود.

(2)

طه من الآية: 132

ص: 92

ومعنى كونها كبيبرة: أنها صعبة {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} : وهم المتواضعون الخاضعون بقلوبهم.

وإنما لم تثقل عليهم لأنهم يرونها حقًّا لله، ويتوقعون حسن الجزاء عليها، فتهون عليهم.

ولذا قيل: مَن عَرَف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أَيقن بالخلف، جاد بالعطية.

والخشوع: حالة فى النفس، تستتبع في القلب التسليم لأحكام الله، وفي الجوارح السكون والتواضع على الوجه اللائق. والخشوع المتكلف- بالتباكي وطأْطأَة الرأس- مذموم شرعا. فهو من الرياء، يفعله الجهال؛ لِيُرَوا بعين البر والإجلال.

ولهذا قال عمر لشاب نكس رأسه: "يا هذا، ارفع رأسك" فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب.

46 -

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ

} الإَلة.

الظن هنا: بمعنى العلم والتيقن، ومنه قوله تعالى:{إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (1) وقيل: الظن بمعناه المعروف، وهو إدراك الطرف الراجح، على أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت، لأنهم يلقون بعده ربهم، ويكون المراد: ونها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يتوقعون الموت في كل لحظة، ويعلمون ما وراءه من البعث والحساب، فهؤُلاء لا يكون الصبر على الطاعة وعلى ترك المعاصى كبيرة على نفوسهم، كما لا تكون الصلاة ثقيلة على نفوسهم أيضًا، حذرا من العقاب- بعد البعث- على معصية الله.

ويجوز أن تفسر ملاقاة الرب بملاقاة ثوابه، وذلك مظنون فالزاهد العابد، لا يقطع بكونه ملاقيا ثواب الله. بل يظن ذلك، ليحمله هذا الظن على كمال الخشوع. والأول أولى؛ لقوله تعالى عقبه:{وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} : أي ويعلمون أنهم إلى ربهم راجعون للحساب والجزاء، فإن الإيمان بالبعث وما وراءه، لا ينفع فيه الظن، بمعناه المعروف، إذ لا بد فيه من القطع واليقين، الذى هو العلم.

وهذه الآيات الثلاث - وإن نزلت في علماء بني إسرائيل - فالحكم فيها عام، يشترك فيه علماءُ الإسلام، ورجال جميع الديانات السماوية من قبل. فهو مبدأ مقرر فيها، فَمَن

(1) الحاقة الآية:20

ص: 93

أمرَ بالبر، ينبغى له أن يسبق من يدعوه إِليه، فلا ينسى نفسه ويذكر الناس، وعليه أن يستعين بالصبر والصلاة على قهر النفس وتطويعها للبر، وعل تحمل مشاق الحياة ومتاعبها، فإنهما يمنحان النفسى قوة الاحمّال، ويسهلان لها صعاب الأُمور.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)} .

المفردات:

{نِعْمَتِيَ} : المراد بها؛ جميع مما انعم الله به عليهم.

{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} : أي على عالمى زمانهم، قبل أن يضلوا، وتنسخ شريعتهم بما بعدها.

{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} : أي لا تقضى عنها شيئًا من الحقوق.

{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} : أي ترد شفاعة من يشفع لها، لو فرض أنها وجدت شفيعًا.

{وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} : أي ولا هم يمنعون من عذاب الله لهم.

التفسير

في هاتين الآيتين، يذكر الله تعالى، بني إسرائيل بنعمه التي انعمها عليهم، ويطلب منهم أن يقوا أنفسهم ويحموها من العقاب، بالايمان والعمل الصالح. ويخبرهم: أنهم إن جاءُوا بشفاعة شفيع، فلن تقبل منهم، أو أعْطَوْا فديةً فلن تؤْخذ منهم، أو حاولوا الخلاص بالقهر، فلن يتمكنوا منه. فلا منجاة من عذاب الله لمن يستحقه. وفيما يلي تفصيل ذلك:

ص: 94

47 -

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ

} الآية.

كرر نداءهم وتذكيرهم بنعمته عليهم؛ للتوكيد وربط ما بعده - من الوعيد الشديد- بتجاهلها، {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}: أي فضلت آباءكم الذين كانوا قبل نسخ شريعتكم.

وإنما وجَّه الخطاب- بالتفضيل- إلى المعاصرين للنبى- صلى الله عليه وسلم باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم.

والمراد بالعالين: سائر الوجودين في وقت التفضيل.

وتفضيلهم عليهم، إنما كان بما منحهم الله. من النعم؛ المشار إليها بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا

} (1).

ْولأنهم كانوا وقتئذ، أصحاب دين سماوي، وغيرهم كانوا يعبدون الأَوثان. فلذا، فضلوا غيرهم.

ولا يفهم من الآية تفضيلهم على النبي محمد- صلى الله عليه وسلم وامته.

بل هو عليه السلام وأُمته أَفضل مننهم.

قال تعالى. موجها كلامه لأُمة محمد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

} (2)

48 -

{وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

} الآية.

المراد: من اتقاء اليوم، اتقاء ما يحصل فيه من العقاب والشدائد، بالإيمان والعمل الصالح.

{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} : أي لا تقضى نفس عن نفس شيئًا من الحقوق في هذا اليوم. فالحقوق منوطة بأصحابها التزامًا وقضاء. تقول: جزى عني- هذا الأمر، أي قضاه عنى.

وقرأ أبو السماك {لَا تَجْزِي} من أجزأ عنه، إذا أغنى. أي لا تغنى نفس عن نفس شيئًا، من الإغناء، ولا تجديها نفعًا.

(1) المائدة عن الآية: 20

(2)

آل عمران من الآية:110

ص: 95

وفي الآية من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى.

{وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} : الضمير في {مِنْهَا} للنفس الثانية، وهي الكافرة؛ لأَنها

أقرب مذكور، وليوافق قوله بعد:{وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} ولأنه المتبادر من قوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أَي أن النفس الكافرة، لو استأذنت ربها في شفاعة شفيع، فإنه لا يجيبها إلى رغبتها.

وقد استدل المعتزلة - بعموم الآية- على أنه لا شفاْعة لأهل الكبائر. وهو مردود بما ورد في الكتاب والسنة من قبول الشفاعة بإذن الله تعالى، قال الله تعالى: {

مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ

} (1) وقال تعالى: {

وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (2) إلى غير ذلك من الآيات.

وقد ثبتت الشفاعة للمؤْمنين المقصرين نصُّا، فيما رواه البخاري عن النبي- صلى الله عليه وسلم حيث قال:"أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة، من قال: لا إلَه إلا الله، خالصًا مخلصًا من قَلْبِهِ" وفي رواية: "مِن نَفْسِه".

وفيما رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر، والطبراق عن ابن عباس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم:"شفاعتى لأهل الكبائر من أمتي"إلى غير ذلك من الأحاديث.

وقد وردت أحاديث الشفاعة مطولة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري. وفي باب الإيمان في صحيح مسلم وغيرهما.

فالمراد من قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} اليهود، فإن الخطاب معهم لردهم عما يعتقدونه من شفاعة آبائهم الأَنبياء لهم.

ومثلهم في حكمهم: جميع الكفار من النصارى والوثنيين ومن لا عقيدة لهم.

وإنما يقبل الله الشفاعة للمؤْمنين المقصرين. رحمة بهم بسبب إيمانهم الذي خلطوه بعمل صالح وآخر سيئ. وهؤُلاء قد وعدهم الله بالغفران إن تابوا. قال تعالى: {

خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ

} (3).

(1) يونس من الآية: 3

(2)

الأنبياء من الآية: 28

(3)

التوبة الآية: 102

ص: 96

والشفعاءُ الذين تقبل شفاعتهم بإذن الله، هم: الأنبياءُ والملائكة والصالحون.

{وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} : أي فدية، كما قال ابن عباس.

قال الآلوسي: وأصل العدل -بفتح العين- ما يساوى الشيءَ قيمة وقدرًا. وإن لم يكن من جنسه- وبكسرها- المساوى في الجنس والجرم. انتهى. سميت به الفدبة؛ لأَنها تساوى المفدى وتجزىءُ عنه.

ومعنى الآية: أن النفس الكافرة إِن جاءت بشفاعة شفيع، لم تقبل منها، ولو أَعطت فدية لم تؤخذ منها.

{وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} : النصر؛ العون، فالمعنى: ولا هم يعانون بالقوة حق يفلتوا من العقاب، فهم ونصراُّوهم مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى.

وقد سدت الآية عليهم - بما تقدم - طرق الإفلات من العقاب، إذ دلت على أنهم لا ينجون منه يشفاعة شفبع لهم، ولا بفداء يقدمونه، ولا بنصير يحمبهم ويخلصهم من العذاب بقوته وجاهه.

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}

المفردات:

{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} : بوقعون بكم العذاب السيِّءَ.

{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} : يبفونهن أَحياءَ.

{بَلَاءٌ} :اختبار، أو مشقة ومحنة.

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} : فصلناه.

ص: 97

التفسير

49 -

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} :

أي واذكروا نعمتى، وقت إنجائكم من عدوكم فرعون، فى عهد موسى عليه السلام.

والحقيقة أَن الإنجاء منه كان لآباء المخاطبين بهذا التذكير، وهم من كانوا في عهد نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم من اليهود ولكنهم- لما نجوا منه بإنجاه آبائهم- اعتبر إنجاء آبائهم نعمة عليهم. فلهذا ذكرهم الله بها. وآل فرعون: أهله. والمراد:

نجيناكم من فرعون وآله، وهم من ينسبون إِليه والمراد: رعيته، ويطلق على من يؤُول

إليك؛ في قرابة أو رأى أو مذهب، فألفه بدل من الواو كما قال يونس: ويخص- في غالب الاستعمال- بالإضافة إلى من له خطر وشان، ولا يضاف إلى مؤَنث، فلا يقال آل عَزَّةَ مثلا، وقد يضاف إلى من لا خطر له كآل الكوفة وقد لا يضاف، نحو: هم خير آل.

وفرعون: لقب لمن ملك مصر، ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان

لملك الترك، وتُبَّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة.

ويرجح بعض الباحثين: أَن فرعون موسى هو منفتاح بن رمسيس الثاني، ارتكازا على بعض عبارات مأْثورة عثر عليها في لوحة في "تل العمارنة" حديثًا.

{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بمعنى: يبغونكم العذاب ويطلبونه لكم. من: سامه

خسفا. إذ أولاه ظلما. وسوء العذاب: سيئه. وأفظعه. وهو من اضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي يُذيقونكم العذاب السيِّيء الفظيع، وهو ما في قوله تعالى:{يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} فهو بدل من {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} و {يُذَبِّحُونَ} - بالتشديد- على التكثير. فقد كان فرعون يذبح الأطفال الذكور، ويبقى البنات، كما كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه، والتجمع لإفساد أمره.

وقيل في سبب ذلك: إن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل، ففعل ما فعل، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان- هو ورعيته- إلى جانب ذلك يستخدمونهم في الأعمال الشاقة المهينة.

ص: 98

{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} : أي يستبقون بناتكم- يا بني إسرائيل- أحياءَ لخدمتهم.

{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} : الإثارة راجعة إلى العذبيح والاستحياء، أو إلى الانجاءِ أو إلى الجميع، فإن البلاء: الاختبار. وهو يكون بالضار لبصبروا، وبالسار ليشكررا، وبهما جمبعا ليشكروا على السار وبصبروا عل الضار.

ولا نخلو اختباراته تعالى وبلاؤُه. لعباد. من حِكَم. {مِنْ رَبِّكُمْ} : أي من مالك أموركم. الذي يبلوكم بالشر والخير فتنة وامتحانا؛ ليثيب من شَكر على السراء. ويحرم الثواب من لم يصبر على الضراء.

والإشارة إلى المخاطبين في عهد محمد- صلى الله عليه وسلم لأن ما أصاب آباءهم،

فكأنما أصابهم، {عَظِيمٌ}: صفة، وتنكير {بَلَاءٌ عَظِيمٌ}: للتفخيم.

50 -

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ

} الآية.

هذ. نعمة أخرى غير ما تقدم {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} : فَصَدنا بين مياهه، حتى صارت فيه مسالك لكم. والباءُ في {بِكُمْ} بمعنى اللام، أي فرقنا لأجلكم البحر لكي ننجبكم من فرعون وقومه، وتلك نعمة كبرى، تقتضى منهم مزيد الشكر عليها؛ بالإيمانْ والعمل الصالح.

وقيل: الباء للملابسة أي فرقنا البحر حال كونه ملتبسا بكم.

والبحر كما قيل: هو بحر القلزم، ويطلق على الذى ماؤُه ملح والذي ماؤه عذب، ومنه قوله تعالى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (1).

{فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} في الكلام مُقَدرٌ: يدل عليه ما عرف من القصة

في نواحى القرآن. وحذف ما يعلم جائز وبليغ. والتقدير: واذ فرقنا بكم البحر وتبعكم

فرعون وجنوده، فأنجيناكم من الغرق، ومن إدراك فرعون وآله لكم، ومما تكرهون،

إذ أخرجناكم منه سالمين، وأغرقنا أعداءكم: فرعون وآ له- من القواد والجنود الذين تبعوكم

{وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} : أي تنظرون جميع ما مر، وفي ذلك تقرير {للنعمة} عليهم، والخطاب لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارأنهم أبناءُ مَنْ صنع الله بهم هذ. النعمة الكبرى.

(1) الرحمن الآية:19

ص: 99

وهذه الواقعة، من الآيات الملجئة إلى العلم؛ بوجود الصانع الحكيم، وتصديق موسى، عليه السلام، ولكنهم كفروها إِذ عبدوا العجل بعدها-، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً

} (1) وغير ذلك من سيئاضهم فلا كر، بة في أن يكفر معاصروهم للنبى محمد صلى الله عليه وسلم برسالته ومعجزاته. فالجحود فيهم فرض قديم.

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)} .

المفردات:

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ْ أعطيناه موعدا أن ننزل التوراة عليه بعد أربعين ليلة.

{اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} : أي جعلتموه إلها.

{مِنْ بَعْدِهِ} : أي من بعد موسى. والقصود: من بعد مضيه لتلقي التوراة.

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} : أي حين تبتم.

{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} : من بعد الاتخاذ.

التفسير

51 -

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

} الآية.

في هذه الآية: إِنعام آخر على بني إسرائيل، بعد ما جاوزوا البحر. فقد وعد الله موسى عليه السلام أن يعطيه التوراة بعد أربعين ليلة، وقَبِلَ موسى، فالمواعدة- على هذا- من الجانبين. فهي هن الله وعد، ومن موسى عليه السلام، قبول. على حد قول الطبيب: عالجت ألمريض، فالعالجة من الطبيب فعل ومن المريض قبول.

(1) البقرة - من الآية: 55

ص: 100

ويجوز أَن تكون المفاعلة على غير بابها، فتكون المواعدة بمعنى الوعد من جانب واحد، وذلك مأْلوف في كلام العرب مثل: عاقبت اللص وشاهدت الحديقة، فتكون. المواعدة من الله خاصة لموسى، إذ هي بمعنى: وعدنا موسى.

وتدل له قراءة أبى عمرو {وَاعَدْنَا} .

ويجوز أن يكون واعدنا بمعنى: وافينا، أي: وافيناه بالتوراة بعد أربعين ليلة. وموسى: اسم أعجمى لكليم الله، الذي بعثه لبنى إِسرائيل، وهو منهم.

وتعبير الله عن ميقاته بقوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} إما لأن افتتاح الميقات كان من الليل، أو لأن الأشهر القمرية تربئ بالهلال، والهلال يرى ليلًا. وأكثر توقيتات القرآن بالليل.

{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} : أي صنعتموه من ذهب على شكل العجل، أَو جعلتموه إلها.

وعلى المعنى الأول: يتعدى إلى مفعول واحد وهوْ العجل.

وعلى الثاني: يتعدى إلى مفعولين والثاني محذوف تقديره "إلها" وهو المقصود.

فكلهم عبدوه-، إلا هارون وقلة معه، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام في ميقات ريه. والعرب. تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها. والعجل: ولد البقرة الصغير. وقد رأى السامري- عند بني إسرائيل- رغبة جامعة، في عبادة العجل، كما كانوا يفعلون بمصر في عهل الفراعنة، إذ كانوا يعبدون معهم العجل (أبيس) فانخذ من الْحُليِّ تمثالا على صورة العجل، وجسمه ووضعه في مستقبل الريح، فإذا دخلته أحدثث صوتا كخوار العجل، فعبدوه الهذا.

وفى الآية تسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم لماكان يشاهد من جحودهم؛ لنبوته وللكتاب الذي أنزل عليه، وإيذان بان عليه أن يصبر كما صبر موسى في هذه الواقعة، فإن بني إسرائيل- بعد أَن خلصهم الله من فرعون، وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت- اغتروا بتك الشبهة الواهنة التي لا تقتضى أُلوهية العجل، فعبدوه. ثم إن موسى- إذاكان قد صبر على ذلك- فلأن يصبز محمد- صلى. الله عليه وسم- على أَذى قومه أولى؛ لأنه سيد أولي العزم.

ص: 101

{وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} :أي في إشراككم، إذ وضبتم العبادة في غير موضعها، وعرضتم أَنفسكم بذلك لعقاب الله.

والظلم لغة: وضع الشىء فى غير موضعه ومجاوزة الحد. والجملة حال أو تذييل، لإفادة أنهم قوم عادتهم الظلم، وقد أكد تمكن الظلم منهم، بالجملة الاسمية المفيدة للاستمرار.

وفي الآية تنبيه إلى أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم، لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم بتعريضها للعفاب.

52 -

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ

} الآية.

العفو لغة: المحو والإزالة. والمراد به هنا: غفران ذنبهم، وشركهم بعبادة العجل، بعد توبتهم منه.

والتعبيربلفظ {ثُمَّ} للإيذان بالتفاوت الكبير بين إشراكهم القبيح، وبين لطفه تعالى؛ بالعفو عنهم لما تابوا.

والمعنى: ثم محونا عنكم عقوبتكم على اتخاذكم العجل إلهاْ، بعد توبتكم منه.

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : لعل هنا للتعليل، أي: لكي تشكروا نعمة عفوه تعالى، بالاستمرار على طاعته، والعدول عن معصيته.

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)} .

المفردات

{إذْ} : ظرف للوقت الماضي.

{آتَيْنَا} : أعطينا.

{الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} أي التوراة الجامعة ببن كونها كتابا، وكونها فارقة ببن الحق والباطل.

ص: 102

التفسير

53 -

{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} :

هذا هو الإنعام الرابع على بني إسرائيل. والمراد بالكتاب والفرقان: التوراة، فهي جامعة بين كونهاِ كتابا سماويا وفارقة بين الحق والباطل، والعطف لتغاير العنوان، وذلك على حد قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفُزقَانَ وَضِيَاء وَذكْرًا

} (1). أو المراد بالكتاب: التوراة. وبالفرقان: معجزات موسى عليه السلام، لأَنها فرقت بين الحق والباطل، أو النصر على فرعون وقومه بإغراقهم. فهو فارق بينهم وبين بني إسرائيل، كما سمى يوم بدر: يوم الفرقان.

والمعنى: ولقد آتينا موسى التوراة وما يفَرِّق بين الحق والباطل، لكي يهتدي بذلك بنو إسرائيل إلى الحق، ويرجعوا عما هم فيه. من ضلالة.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}

المفردات

{بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} : أي بعبادة تمثال العجل.

{بَارِئِكُمْ} : خالقكم.

{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : فاصنعوا بها ما يشبه القتل، وهو الحسرة والندم واللوم الشديد.

{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} : فقبل توبتكم.

(1) الأنبياء - من الآية: 48

ص: 103