المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}

المفردات:

{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : أي وصلن إلى نهاية عدتهن، تمامًا من غير نقصان.

{فَلَا تعْضُلُوهُنَّ} : فلا تمنعوهن من الزواج.

التفسير

232 -

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ

} الآية.

‌سبب النزول:

روى البخاري وغيره، عن معقل بن يسار قال: "كانت لي أُخت، فأَتاني ابن عم لها، فأنكحتها إياه، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ ثم خطبها مع الخُطَّاب، فقلت له: يا لكع، أكرمتك بها وزوجتكها: ثم طلقتَها، ثم جئتَ تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدًا. وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله هذه الآية. قال: ففيَّ نزلت هذه الآية، فكفرت عن يميني، وأنكحتها

ص: 388

إياه". وفي رواية "فلما سمعها معقل قال: سَمْعًا لربِّي وطاعة" ثم دعاه، فقال: أُزوجك وأُكرمك".

المعنى: وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج، فبلغت المطلقات نهاية عدتهن، فلا تمنعوهن أيها الأَولياءُ، أن يتزوجن أزواجهن الذين طلقوهن، وصلا لما انقطع بينهم وبينهن، إذا وقع التراضي بينهم، بما عرف حسنه شرعًا ومروءة، فإن للزوجة حقًا ثابتًا في اختيار زوجها، لأَنها هي التي ستعيش معه.

وكما يحرم العضل بالنسبة إلى زوجها الأول، يحرم بالنسبة إلى زوج جديد: تم بينهما تراض شرعي.

{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} :

{ذَلِكَ} : النهي عن العضَل والإضرار، وما اتصل به من الأحكام. {يُوعَظُ بِهِ}: أي يذكر به.

{مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} : فيغلب جانب المصلحة على هوى نفسه، لأن شأن الإيمان: العمل بالأحكام، لهذا خص بالذكر.

{ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} :

أي ذلكم الاتعاظ بما كلفتم به من ترك العضل، أعظم بركة ونفعًا، وأطْهر لكم ولهم عن الريبة والتهم، بسبب ما قد يحصل بينهما من صلات غير مشروعة.

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} :

أي والله يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع. {وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ذلك فاتبعوا أمره، واجتنبوا نهيه.

ثم شرع في الحديث عن الولد وحقه بعد الحديث عن الزواج لأنه ثمرة له فقال:

ص: 389

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}

المفردات:

{الْمَولْودِ لَهُ} : أبو الولد. فإن الولد يولد له وينسب إليه.

{رِزْقُهُنَّ} : نفقتهن.

{وُسْعَهَا} : الوسعة، الطاقة والاحتمال.

{فِصَالًا} : فطامًا للولد عن الرضاع.

{جُنَاحَ} : الجناح، الإثم.

{أَن تَسْتَرْضِعُوا} : أن تطلبوا مرضعات لأَولادكم غير أُمهاتهم.

التفسير

233 -

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

} الآية.

المعنى: أفادت الآية: أن الوالدات يرضعن أولادهن، وهذا خبر يراد به الندب والاستحباب، ما لم يمتنع الصبي عن الارتضاع من غير أُمه، أو لا يوجد له مرضع سواها، أو يعجز الواد عن الاستئجار، فإنه يكون واجبًا على الأُم، ويكون الخبر في الآية مرادًا منه الأمر لها إلزامًا.

ص: 390

والمراد بالوالدات في الآية: جميعهن، سواءٌ كن زوجات لآباءِ أولادهن الرضعاء، أو كن مطلقات منهم.

وحتى لا يختلف الوالدان في مدة الرضاعة، بأن يريد الأب أن يقصر مدتها، حتى لا يمتد دفعة أجر الرضاعة، أو تعمل الأُم على إطالتها، انتفاعًا بأجر أكثر - حدَّد الله مدة الرضاع اللازمة للطفل، بقوله تعالى:{حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنٍ} : سنتين كاملتين بالتقويم القمري: شأن ما فيه حكم زمني من شئون الإسلام.

فمدة الرضاع: حولان كاملان تامان: ينفصل بهما النزاع.

ذلك التوقيت بالحولين {لِمَنْ أَرَ ادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} والمقصود بمن أراد أن يتم الرضاعة: والد الطفل. فهو المكلف بالإرضاع. والأُم ترضع له. فاللام في قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} لبيان من تَوَجه إليه الحكم، وهو الأب.

قال الشافعي: لا يلزم الإرضاع إلا والدًا أَو جدًّا وإن علا.

وسيأتي مزيد بيان لذلك في قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} .

وكون الإرضاع واجبًا على الأب أو الجد، لا ينافي أن يندب للأُمهات إرضاع أولادهن. وقد يجب عليهن، عند فقد المراضع أو وجودهن بأجر لا يطيقه الأب، أو امتناع الرضيع عن الرضاع من غير أمه كما تقدم.

وقد دل قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} على أن إرضاع الحولين ليس حتمًا، وأنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه - كما قلنا - تحديد لقطع النزاع بين الزوجين في مدة الرضاع. فلا يجب على الأب إعطاءُ الأُجرة لأكثر من حولين، ما لم تكن حالة الطفل الصحية: تقتضي ضرورة الزيادة في الرضاع عليهما، فيجب عليه إعطاؤُها.

وإذا أَراد الأب الفطم قبل تمام الحولين، ولم ترض الأُمّ - لم يكن له ذلك.

ويجب أن تكون مصلحة الصبي مقدمة على كل اعتبار.

ص: 391

وإذا كنت قد عرفت أن توقيت الرضاع بحولين كاملين، الغرض منه قطع النزاع بين الزوجين، وأنه بيان لأقصى مدة الرضاع، عند اعتدال صحة الطفل، وأنه يجوز إنقاصهما إلى ما دون ذلك عند اتفاق الزوجين، واستعداد صحة الطفل للفطام قبلهما - فإنك - حينئذ - تعرف الحكمة في قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا

} (1).

فإننا إذا اعتبرنا الحمل تسعة أشهر - أو عامًا، كما يحدث في بعض الحالات - فإن مدة الرضاع - في سورة الأَحقاف - تنقص عن حولين كاملين، لأننا إذا نقصنا تسعة أشهر من الثلاثين شهرًا، كان الباقي للرضاع ثمانية عشر شهرًا: أي سنة ونصفا، وذلك شاهد بصحة ما قلناه - من أن تحديد المدة بحولين - لبيان أَقصى مدة للرضاع، كما أنه لقطع النزاع بين الزوجين، وليس للتحديد الملزم.

ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وسيأتي الكلام عليه.

وقد دلت الآية: على أن الحرمة بالرضاعة، لا تثبت إلا بالإرضاع أثناءَ الحولين، فتجعل للرضيع فيهما حرمة النسب، وهذا هو الصحيح.

ومن العلماءِ من أثبت الحرمة بالرضاع بعد الحولين إلى شهر، وقيل: إلى شهرين. وقيل: إلى ثلاثة. وقيل: إلى ستة أشهر. وكل ذلك ضعيف لمخالفته نص الآية، ولحديث مالك في الموطأ:"لا رضاع إلا ما كان في الحولين". قال تعالى:

{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُ وفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} :

المراد بالمولود له: الأب، فإن الولد يولد له، ولم يعبر بالأب مع أنه أخصر: للدلالة على علة الوجوب مع ما فيه من معنى الانتساب، الذي تشير إليه اللام. ورزقهن: نفقتهن.

وقد أوجبت الآية على الوالد أن ينفق على أُمِّ رضيعِهِ ويكسوَها، سواء أكانت زوجة له أم مطلقة منه، وذلك أجرة لها على إرضاع ولدهما. بهذا قال الشافعي.

ص: 392

وعند الأحناف: لا تأخذ الزوجة أرة على الرضاع، مادامت في النكاح، أو في العدة، اكتفاءً بنفقتها المشروعة لها. وكل من النفقة والكسوة واجبان حسب المعروف بين الناس، بلا إسراف ولا تقتير، بحيث تكون في وسعه وطاقته، كما يدل عليه قوله تعالى:{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} فلا يلزم الوالد بما يشق عليه، بل يكون الأجر في حدود طاقته، ولا تلزم الأُم بالإرضاع دون أُجرة، أَوْ بأَجر غير كاف، لكي يستطيع كلاهما أن يقوم بأَعبائه نحو ولده.

ومعنى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّه بِوَلَدِهِ} : لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها، بأن تطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول له: اطلب مرضعًا، بعد أن ألفها الرضيع، ولا يضر مولود له - وهو الأب - زوجته المرضعة بسبب ولده، بأن يمنعها شيئًا مما وجب لها عليه من رزق أو كسوة، أو يأخذ منها الصبي - وهي تريد إرضاعه - أو يكرهها على الإرضاع.

ومعنى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} : أن والد الرضيع - إذا مات - قام وارثه - بالرزق والكسوة: بالمعروف - لوالدته التي ترضعه.

والمراد بوارث الأب: نفس الرضيع، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال، فعلى جده لأبيه إن وجد، فإن لم يوجد، فعلى الأُم. وقيل: الوارث هو ذو الرحم المحرم: قرأَ ابن مسعود: {وَعَلَى الْوَارِثِ ذِو الرَّحِمِ الْمَحرمِ مِثْلُ ذَلِكَ} وقيل: عصباته. وقيل: المراد بالوارث: وارث الصبي.

وفي الموضوع كلام طويل، يطلب من الموسوعات.

ذلك حكم الرضاع وما يجب فيه: على الوالدة، والمولود له، والوارث.

{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} :

أي: فإن اراد الوالد والأُم فطام الرضيع - قبل تمام الحولين - فلهما ذلك، دون إثم عليهما أو حرج، بشرط أن يتم ذلك عن تراض وتشاور بينهما، دون إضرار بالرضيع. وهذا الحكم من رحمة الله تعالى بعباده، حيث أرشد الوالدين إلى ما يصلح للطفل، ثم قال:

ص: 393

{وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ} :

يقول: وإن أَردتم - أيها الآباء - أن تسترضعوا مراضع أُخرى أَولادَكم غير الوالدات، لمصلحة الطفل، أو لأَي سبب آخر، فلكم ذلك، ولا جناح عليكم فيه، إذا سلمتم المراضع ما أردتم إيتاءَه من الأُجرة، بالوجه المتعارف المستحسن شرعًا، عن طيب خاطر، ليقمن بإرضاعه على خير وجه.

وهنا يقول الزمخشري: أُمروا أن يكونوا - عند تسليم الأجر - مُسْتَبِشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} :

الخطاب في {وَاتَّقُوا اللَّهَ} للآباءِ والأُمهات.

فيما فرض عليكم فلا تظلموا.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :

فلا تخفى عليه خافية من أحوالكم وأقوالكم، فاحذروا أن تخالفوا عن أمره، فلستم بمعجزيه. وفي الآية - من التهديد والتحذير - ما لا يخفى.

ولما انتهى من الطلاق وعدته، والولد - وما يجب له - شرع يبين عدة المتوفَّى عنها زوجها، فقال:

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}

المفردات:

{وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} : جمع زوج. ويستوي فيه المذكر والمؤَنث. والمقصود هنا - الزوجات، أي: يتركون زوجات لهم في عصمتهم وقت الوفاة.

{يَتَربَّصْنَ} : ينتظرن في بيت الزوجية.

ص: 394

التفسير

234 -

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

} الآية.

أي: والرجال الذين يموتون منكم - أيها المسلمون - ويتركون زوجات، يجب عليهن أن ينتظرن بعدهم بدون زواج، أربعة أشهر وعشر ليال بأيامها، وتسمى هذه المدة: عدة الوفاة.

ويستوي في قضاء هذه المدة كل زوجة: صغيرة كانت أو كبيرة: مدخولا بها، أو لا: وقال ابن عباس: لا عدة لغير المدخول بها.

وهو محجوج بعموم اللفظ.

وتكون المعتدة بعيدة عن الطيب والزينة أَثناءَ عدتها. وتمكثها في منزل الزوج، إن تيسر لها ذلك. ولها الخروج لحاجتها على هذه الحال نهارًا. وهذه المدة لغير الحامل.

أما الحامل، فعدتها تنتهي بوضع الحمل، ولو كان ذلك يعد لحظة من الوفاة، لقوله تعالى:{وَأُلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1).

وهذا هو رأي الجمهور.

ويرى الإمام علي - وبعض الفقهاء - أن تمام عدتها: أبعد الأجلين. جمعًا بين الآيتين.

والجمهور: على الأول.

فقد صح أن آية الطلاق، نزلت بعد هذه الآية - كما رواه البخاري وغيره.

ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو ولدت وزوجها على سريره لم يُدفَنْ، لَحَلَّتْ".

وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لسبيعة الأسلمية بذلك.

(1) الطلاق: 4

ص: 395

والحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا - كما قال بن الأثير - احتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظرته - هذه المدة - ظهر إن كان موجودًا. كما جاء في حديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما:"إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُم يُجمَعُ في بطن أُمه أربعين يومًا نُطفةً، ثم يكونُ عَلَقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغةً مثل ذلك، ثم يُبْعَثُ إليه الْمَلَكُ فينفُخُ فيه الروحَ". فهذه أربعينات بأربعة أشهر. والاحتياط بعدها، لما قد ينقص من بعض الشهور، وانتظارًا لِظُهور الحركة بعد نفخ الروح فيه. والله أعلم بأسرار أحكامه.

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} :

أي: فإذا بلغن أجلهن، واستوفين عدة الوفاة الواجبة عليهن - كاملة دون نقص - واستبان حال الرحم، فلم يكن فيه حمل - فلا جناح عليكم - أيها الأولياء المسلمون - فيما فعلن في أنفسهن من زينة وغيرها، مما مُنِعْنَ عنه إِبَّان فترة العدة، إن كُنَّ قد فعلن ذلك بالمعروف، في حدود الشرع الشريف، بأن لم يخرجن عن حدوده، فإن خرجن عنه، فالإثم عليكم أيها الأولياءُ، لأن مراقبتهن واجبة عليكم.

وحداد الزوجة على زوجها - أي ترك الزينة والطيب ونحوه - واجب عليها مدة عدتها التي حددها الله - تعالى - كما ثبت في الصحيحين من غير وجه، من أُم حبيبة وزينب بنت جحش: أُمَّيِ المؤمنين رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر: أن تَحُد على ميت فوق ثلاث، إلى على زوجٍ أربعة أشهر وعشرا". وهذا هو رأي جمهور العلماء.

وقال الحسن بن أبي الحسن: ليس الإحداد بشيءٍ، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب.

وهذا رأي ضعيف لمخالفته للسنة.

ثم ختم الآية بقوله تعالى:

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} :

أي والله عليم بامتثالكم أمره أو مخالفته، مجازٍ لكم حسب عملكم، فاحذروه.

ص: 396

وبذلك حملت الآية المسلمين - جميعًا - مسئولية حماية الآداب العاملة، حفاظًا على المجتمع الإسلامي الفاضل.

ثم أتبع ذلك بيان الطريق المستقيم، لمن أراد الزواج بمن توفى عنها زوجها أو غيرها من المعتدات، فقال:

{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}

المفردات:

{عَرَّضْتُم} : التعريض والتلويح: إيهام المقصود بما لم يوضع له، حقيقة أو مجازًا. كقولك: جئتك لأسلم عليك، تلويحًا بأنك جئت لطلب دين أو عطاءٍ ممن تخاطبه.

{خِطْبَةِ النِّسَاءِ} : طلبهن للزواج قبل العقد. والمقصود هنا من النساءِ: المعتدات عن وفاة، بقرينة الآية السابقة، فأل فيه للعهد.

{أَوْ أَكْنَنتُمْ} أَو أخفيتم.

{لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} : لا تواعدوهن - في العدة - زواجًا.

{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} : ولا تقصدوا قصدًا جازمًا تنفيذ عقده.

ص: 397

التفسير

235 -

{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ

} الآية.

المعنى: ولا إثم عليكم - أيها المسلمون الذين تريدون خطبة أُولئك المعتدات - أن تُعرِّضوا بخطبة النساءِ، وتشيروا إليها - أثناء عدتهن من وفاة أزواجهن -: بأن يقول الرجل للمرأة قولا تفهم منه عرضًا أنه راغب فيها. وذلك كما رواه البخاري وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"إن أُريد التزوج، وإن لأُحب امرأَة من أمرها وأمرها - يعرض لها بالقول المعروف - وإن النساءَ لمن حاجتي، ولودِدتُ أن اله كتب لي امرأَة صالحة".

أما التصريح بخطبتها، فلا يجوز.

هكذا حكم المطلقة المعتدة في طلاق بائن.

فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس. حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حَفْصٍ آخر ثلاث تطليقات. فقد أمرها بأن تعتد في بيت أُم مكتوم. وقال لها: فإِذا حللت فأْذنيني. فلما حلت، خطبها لأُسامة بن زيد مولاه، فزوجها إياه.

أما المطلقة الرجعية، فلا خلاف في أنه لا يجوز في عدتها التصريح ولا التعريض بخطبتها.

وكما لا إثم عليكم في التعريض بخطبة المعتدات عن وفاة، فلا إثم عليكم إذا أخفيتم - في قلوبكم - نكاحهن بعد مضي عدتهن، ولم تعرضوا بخطبتهن أثناءَ عدتهن.

ثم ذكر حكمة الترخيص بذلك فقال:

{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} :

أي علم الله أنكم ستذكرونهن في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم، ورخص لكم - فيما ذكر - من التعريض بالخطبة، وكتمان النكاح في أنفسكم.

ص: 398

ثم نهى عن التصريح بخطبتهن فقال:

{وَلَكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} :

هذا استدراك على مقدر. فكأنه قيل: فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرًّا. والمراد بالسرّ هنا: النكاح، وأطلق عليه السرّ لأنه، يخفي وراءَه ما هو سر، وهو المباشرة.

أو المعنى: لا تواعدوهن ما هو سرّ في أنفسكم من الزواج بهن. والمقصود: نهيهم عن التصريح بالزواج والوعد به، أثناء العدة.

ثم استثنى من ذلك قوله:

{إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا} :

أي لا تواعدوهن نكاحًا مواعدة ما، إلا مواعدة بقول معروف، وهو ما كان بالتعريض. وهذا تصريح بما فهم من قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم} إلخ، لغرض التأكيد.

ثم قال ناهيًا - عن الزواج في العدة بأبلغ وجه -:

{وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} :

أي: لا تقصدوا - قصدًا جازمًا - تنفيذ عقد النكاح، حتى ينتهي ما كُتِبَ وفُرِضَ من العدة.

وإذا كان قد نهى عن العزم على العقد قبل فراغ العدة - فالنهي عن العقد من باب أولى. ومن المعلوم أن عقد النكاح - في زمن العدة - باطل. والمباشرة - حينئذ - زنى.

والتفريق بينهما واجب.

ثم ختمت الآية بهذا التحذير:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} :

من جميع الخواطر والعزائم، ومنها الرغبة فيهن، أو الميل إلى مخالفة ما نهاكم الله عنه.

ص: 399

{فَاحْذَرُوهُ} :

أي فاحذروا الله وخافوا أن تخالفوا أمره.

ثم لم يقنطهم من رحمته ومغفرته، فقال:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} :

لمن أذنب ثم تاب ورجع.

{حَلِيمٌ} :

لا يعجل بعقوبتكم إن أذنبتم، لعلكم تثوبون إلى رشدكم، فتتوبوا إلى ربكم.

وتكرير {وَاعْلَمُوا} للاعتناء بشأن الحكم.

ولا يخفى ما في ختام الآية من سعة رحمة الله تعالى.

{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}

المفردات:

{تَمَسُّوهُنَّ} : المسّ هنا، الجماع.

{أَوْ تَفْرِضُوا} أو هنا، بمعنى الواو.

{فَرِيضَةً} : الفريضة، المهر.

{وَمَتِّعُوهُنَّ} : المتعة، مقدار مالي، تُعطاه المطلقة قبل الدخول، قُصِدَ به أن يكون تعويضًا لها عما فاتها من زوجها، وجبْرًا لها، لما نالها من انكسار النفس.

{الْمُوسِعِ} : الغَنِيُّ.

{الْمُقْتِرِ} : الفقير.

{قَدَرُهُ} : طاقته وسعته.

ص: 400

التفسير

236 -

{لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً

} الآية.

{أَو} في قوله: {أَوْ تَفْرِضُوا} بمعنى الواو، كما في كقوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (1) أي وكفورًا.

المعنى: لا إثم عليكم أيها الأزواج، إن طلقتم الزوجات قبل الدخول بهن وفرض مهرٍ لهن.

أو: لا تبعة عليكم من المال، إن طلقتموهن عند انتفاء مباشرتهن وتقدير مهر لهن.

وقيل: {أَو} هنا بمعنى: إلا.

والمعنى - على ذلك - ولا تبعة عليكم من المال عند عدم الدخول بهن، إلا أن تفرضوا لهن فريضة من المهر.

ولكن {أَوْ} بمعنى الواو، هو الأنسب، لقوله تعالى:

{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} :

فإن المعنى: ومتعوا المطلقات عندما يجتمع لهن أمران، عدم الدخول بهن، وانتفاءُ تقدير مهر لهن: على الغني ما يقدر عليه، وعلى الفقير ما يقدر عليه.

وهذه المتعة، جبر لما أصابهن من الحرمان، وهي واجبة - في هذه الحالة - عند كثير من فقهاء السلف، ومنهم علي بن أبي طالب، وابن عمر، وسعيد بن جبير، والزهري وغيرهم، وقال بعض الفقهاء: إنها مندوبة.

فالآية ظاهرة في الرأي الأول.

أما غيرهن من المطلقات: فالمتعة مندوبة في حقهن عند الجمهور.

وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوبة في كل مطلقة - وإن دخل بها - إلا في التي لم يدخل بها، وقد فرض لها - فحسبها ما فرض لها، وهو نصف المهر المسمى. ولا متعة لها.

(1) الإنسان: 24

ص: 401

وليس للمتعة حَدٌّ معروف في الكتاب أو السنة. ولكنها - على ما قال الله تعالى:

{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} :

وقال ابن عمر: أدنى ما يجزيءُ في المتعة ثلاثون درهمًا.

{مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} :

أي تمتيعًا بما عرف حسنه شرعًا ومروءة.

{حَقًّا} : ثابتًا على من ينبغي له أن يحسن إلى نفسه - وهو المكلف - بالمسارعة إلى الامتثال.

وإطلاق وصف {الْمُحْسِنِينَ} على المكلفين، للترغيب والتحريض.

{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}

التفسير

237 -

{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِ يضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ

} الآية.

هذه الآية مسوقة لبيان حكم من سُمِّي لها مهر.

والمعنى: وإن طلقتموهن، من قبل الدخول بهن - الحال أنكم قد فرضتم لهن صداقًا معلومًا - فواجب عليكم أن تؤدوا نصف ما فرضتم لهن.

ص: 402

{إِلَّا أَن يَعْفُونَ} :

يعني: أن هؤُلاء المطلقات - قبل الدخول، وقد سمى لهن صداق - يجب لهن نصفه إلا في حال عفوهن، وتجاوزهن عنه، أو عن بعضه للزوج الذي أوقع الطلاق.

{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} :

المراد بهذا: الزوج. فهو الذي بيده أمر عقد النكاح، إن شاءَ أبقاه، وإن شاء أبطله بالطلاق. ومعنى عفوه: أن يترك - تكريمًا - ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كله إلى من طلقها، أو يعطيه إليها إن لم يكن أعطاه من قبل.

وقيل: المراد بمن بيده عقدة النكاح: هو ولي المرأة المطلقة الذي لا تتزوج إلا بإذنه، فإن له العفو عن نصف مهر البكر إذا طلقت، وإن لم تبلغ الحيض.

والتفسير الأول وهو المأْثور. وبه قال جمع من الصحابة. وهو الأَنسب لقوله تعالى:

{وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} :

الخطاب هنا للرجال والنساء، على ما رآه ابن عباس. أي وأن تعفو المطلقات عن حقهن في النصف، لأن الأَزواج لم يدخلوا بهن، وأن يعفو الأَزواج بالزيادة على النصف، جبرًا لخاطر المطلقات قبل الدخول - أقرب للتقوى. والباديءُ بالفضل أكرم. فإن إسقاط حق الغير، ليس من التقوى.

(وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ):

أي لا تجعلوا الفضل بينكم كالشيء المنسي، بأن تتركوا التعامل به بينكم.

والفضل - كما قال مجاهد - إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها.

{إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} :

أي بجميع أعمالكم ومجازيكم عليها.

ثم عقب هذا، بالأمر بالمحافظة على الصلاة، لأَنها تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، وتوجب العمل بما تقدم من التكاليف.

ص: 403

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}

المفردات:

{الْوُسْطَى} : تانيث الأَوسط، وهي الفضلى، ووسط الشيءِ: خيره وأعدله.

{قَانِتِينَ} : القنوت، الطاعة والعبادة. وأصله الدوام على الشيءِ. ومن هنا سمى المداوم على الطاعة: قانتًا.

التفسير

238 -

{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} :

المعنى: أمر الله بالمحافظة على الصلاة في هذه الآية الكريمة، فأصبح الناس - بهذا الأمر الكريم - مكلفين بتنفيذه: وقتًا فوقتًا.

والمحافظة عليها، تقتضي أداؤُها في أوقاتها: مستكملة لأركانها وشروطها: مشتملة على الخشوع والخضوع حين أدائها، تعظيمًا لله - تعالى - الذي يقف المصلي بين يديه، حتى تأتي بالغاية المنشودة التي شرعت من أجلها، وهي أنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، فإن العبد فيها يناجي ربه، ويقف بين يديه خمس مرات في اليوم والليلة. فإذا كان خاشع القلب فيها - استحيى أن يقف بين يدي مولاه عاصيًا.

وأمر أيضًا: بالمحافظة على الصلاة الوسطى. ورجح بعض العلماء أنها صلاة العصر، لما أخرجه مسلم، عن علي - كرم الله وجهه - أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب:"شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم نارًا".

وخصت بالذكر، لأَنها تقع وقت اشتغال بعض الناس - ولا سيما العرب - أو وقت الراحة والكسل، بالنسبة إلى طائفة أخرى من الناس.

وسميت الصلاة الوسطى، لتوسطها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل.

ص: 404

وقيل: المراد بالوسطى: المتوسطة كيفية: بين الإفراط والتفريط، حتى لا يمل الناس الصلاة إن أفرطت في الطول، ولا تكون كنقر الغراب إن فرط في كيفيتها.

{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} :

القيام هنا، مراد منه: الاهتمام والتشمير عن ساعد الجد، من قولهم: قام فلان بالأمر خير قيام، إذا أداه أحسن أداءٍ. أي: شمروا عن ساعد الجد في الصلاة، لأجل الله وحده، بلا رياء ولا سمعة، خاضعين لله خاشعين.

{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}

المفردات:

{خِفْتُمْ} : الخوف، الفزع من أي مصدر يبعث عليه.

{فَرِجَالًا} : جمع راجل، أي فَصَلُّوا راجلين.

{أَوْ رُكْبَانًا} : جمع راكب، أي راكبين على الإبل وغيرها، مما يركب، كالمصفحات والدبابات وغيرها.

التفسير

239 -

{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا

} الآية.

لما أمر الله - في الآية السابقة - بأداء الصلاة يف حال القنوت، وهو السكينة والخشوع: حيث يكون الأمن والطمأنينة، أتبعه ببيان أدائها حال الخوف الطارئة، للإيذان بأنها لا تسقط عن العبد، بأي حال.

والمعنى: هذه الصلاة المبينة في الآية، رخصة لنا في حال الخوف، سواءٌ كان سببه عدوًّا مقاتلا مسايفًا، أو كان سبعًا، أو عدوًّا يتبعه ليسرقه أو يقتله، أو سيلا يخاف الغرق منه، أو نحو ذلك.

ص: 405

ففي كل هذه الأحوال، يصلي الخائف فردًا بلا جماعة، سواءٌ أكان راجلًا أي ماشيًا على قدميه، أم كان راكبًا على أية وسيلة من وسائل الركوب، كالدواب وما استحدثه المخترعون من وسائل الانتقال المختلفة: برًّا وبحرًا وجوًّا، وتكون قبلته حيثما توجه، ويتقلب ويتصرف - بحسب نظره - في نجاة نفسه. ولا يلزمه ركوع ولا سجود إذا كان هذا يضره، ويكفيه عنهما الإيماء بالرأس، بطريقة لا تعرضه للتهلكة.

أما الصلاة التي يكون فيها إمام، وينقسم فيها الناس، فهي غير هذه، وسيأْتي بيانها في سورة النساء، في قوله تعالى:{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (1).

ولا ينقص عدد ركعات صلاة الخوف عن صلاة المسافر، وهي ركعتان في الرباعية، واثنتان في الصبح، وثلاث في المغرب.

هكذا قال مالك، والشافعي، وجماعة من العلماء.

وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعةً إيماءً.

روى مسلم، عن بكير بن الأخنس عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة".

وضعف هذا الرأي، بأن الأخنس انفرد بهذا الحديث، وليس بحجة عند الانفراد.

والصلاة أولى ما يحتاط فيه.

{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} :

أي فإذا زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة، فاذكروا الله بالشكر، لأجل تعليمه إياكم مالم تكونوا تعلمونه، من صلاة الخوف التي وقع بها الإجزاءُ، ولم تفتكم صلاة من الصلوات، فإن صلاة الخوف المذكورة: هي التي لم يكونوا يعلمونها من قبل. وهذا كما يقول لك قائل: اشكر معلمك كما علمك. أي لأجل ما علمك من العلم، فالكاف للتعليل.

(1) الآية: 103

ص: 406

وقيل إنها للتشبيه: والمعنى: فاذكروه تعالى بأن تشكروه شكرًا يماثل تعليمه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع، وكيفية الصلاة: حالتي الأمن والخوف.

والمعنى الأول أنسب.

ويجوز أن يكون المعنى: فإذا زال خوفكم، فصلُّوا لله صلاة الأمن، كما علمكم من شأنها ما لم تكونوا تعلمون على لسان نبيه، حيث عرفتم كيفيتها منه، ولم يكن لكم بها علم قبل هذا.

والكلام جار مجري الامتنان من الله عليهم بذلك، فقد كانوا من قبل يعبدون الأوثان ولا يعرفون هذه العبادة.

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}

التفسير

240 -

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُ ونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ

} الآية.

الربط:

بعد أن ذَكَّر الله المؤمنين بوجوب المحافظة على الصلاة: في حالتي الأمن والخوف، عاد إلى ذكر أحكام أُخرى لمن توفى عنهن أزواجهن من النساءِ.

وتوسيط الصلاة - بين تلك الأحكام المتجانسة - لأَنها أهم وسيلة في تقوى الله: التي تقتضي تنفيذ هذه الأحكام.

المعنى: والذين يتوقَّعون قرب الوفاة منكم أيها المسلمون، ويتركون بعدهم زوجات: كتب الله عليكم أيها الأَزواج - قبل الاحتضار - وصية لهن: بأن يُمتعن بعدكم - بالنفقة

ص: 407

والسكنى - إلى نهاية عام كامل بَعْدُ الوفاة، غير مخرجات من مساكنهن طيلة الحول، أي لا يخرجهن منه أَولياءُ الميت.

وسيأتي مزيد بيان لذلك، بعد الفراغ من شرح الآية.

{فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} :

يعني: فإن خرجن باختيارهن من مسكن عدة الوفاة - قبل تمام الحول - فلا إثم على أحد من ولي أو حاكم أو غيره - فيما فعلن في أنفسهن من معروف لا ينكره الشرع، كالتطيب والتزين للخطَّاب وترك الحداد، أو لا إثم عليكم في ترك منعهن عن الخروج، أو قطع النفقة عنهن.

وقد دلت الآية: على أنهن كن مخيرات بين ملازمة المسكن حولا وأخذ النفقة فيه، وبين الخروج وتركها.

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} :

أي والله قوي غالب على أمره ينتقم ممن خالف شيئًا من هذه الوصايا والأحكام.

{حَكِيمٌ} :

يرعى مصالح عباده.

وقد دلت هذه الآية: على أن المتوفَّى عنها زوجها: تتربص في بيت زوجها عامًا كاملًا، ينفق عليها فيها، من مال المتوفى.

وظاهر ذلك: أنها منافية لما سبق تفسيره من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .

وقد ذهب جماعة في التوفيق بينهما: إلى أن هذه منسوخة بالتي قبلها. فهي - وإن تأخرت تلاوة - فهي متقدمة في النزول على الآية السابقة.

وقالوا في كلامهم: إن المتوفى عنها زوجها: كانت تجلس في بيته حولًا، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة

ص: 408

عنها، ثم نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع والثمن في سورة النساءِ.

قاله ابن عباس، وقتادة، وغيرهما.

وذهب آخرون إلى عدم النسخ، وسلكوا طريقًا آخر في التوفيق بينهما.

قال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها. والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرًا. ثم جعل الله لهن وصية منه: سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة - هي تمام الحول - فإن شاءَت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءَت خرجت. وتلك الوصية - على سبيل الإحسان والندب - قائمة لم تنسخ.

قال القرطبي: ما ذكره الطبري عن مجاهد، صحيح ثابت.

خَرَّج البخاري عن مجاهد: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قال:

كانت هذه العدة، تُعْتَد عند أهل زوجها واجبًا (1) فأنزل الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إلى قوله: {مِن مَّعْرُوفٍ} قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية: إن شاءَت سكنت في وصيتها وإن شاءَت خرجت. وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}

المفردات:

{مَتَاعٌ} : المتاع، ما يمنحه الأَزواج للمطلقات، تطييبًا لنفوسهن.

(1) أي أمرًا واجبًا.

ص: 409

التفسير

241 -

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ

} الآية.

أي لجميع المطلقات - سواءٌ كن مدخولا بهن أم لا - متاع.

وينقسم هذا المتاع إلى قسمين: واجب، ويكون للمطلقة قبل الدخول، ولم يكن سمى لها مهر. وقد مرَّ بيانه في الآية (236) من سورة البقرة.

ومندوب: في غيرها.

وأَوجبه - في الجميع - سعيد بن جبير، وأبو العالية الزهري.

وقيل: المراد بالمتاع: نفقة العدة للمعتدات.

ومعنى كون هذا المتاع {بِالْمَعْرُوفِ} : أي يكون حسب العرف بين الناس، وبحيث يكون على نحو ما قال الله:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} (1).

ثم أكدت الآية الكريمة هذه المتعة فقالت:

{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} :

أي: متاعًا قد حقه الله وأثبته على المتقين لربهم، المسارعين إلى امتثال أمره - تعالى -.

والتعبير بقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} مع أنه حق على الجميع، قصد منه: الترغيب في البذل والإحسان، وترقيق القلوب: بالإيذان بأنه من الطاعات التي يتحلي بها المتقون، ويحفظون بها أنفسهم من عقاب الله.

242 -

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} :

مثل هذا البيان الواضح، لأحكام النكاح، والطلاق، والعدة بأنواعها، والمتعة، وغير ذلك - يبين الله لكم آياته - كلها - في شريعته، لكي تدركوا أسرارها، وتعقلوا أغراضها، فتنفذوها عن يقين واقتناع.

(1) البقرة: 236

ص: 410

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}

التفسير

243 -

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ

} الآية.

{أَلَمْ تَرَ} : كلمة تُذكَر لمن يعلم ما بعدها، لتعجيبه وتذكيره، وتقرير موضوع التعجيب بأهل الكتاب، وقراء التاريخ.

وتُذكَر - أيضًا - لمن لا يكون له علم بذلك، لتعريفه وتعجيبه، وللتقرير كذلك.

وقد اشتهرت في خطاب من لا يعلم، حتى أُجريت فيه مجرى الأمثال، بأن يشبه حال من لم ير الشيءَ بحال من رآه، في: أنه لا ينبغي أن يخفي عليه، وأنه ينبغي أن يتعجب منه. ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رأي، قصدًا إلى المبالغة في شهرته.

والخطاب فيه هنا، لمن يعلم ولمن لا يعلم ويتأَتى منه العلم، للأَغراض السابقة. والرؤية فيه علمية، وتعدت بإلى في قوله:{إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} لتضمينها معنى الوصول والانتهاءِ.

والمعنى: ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم أُلوف - وكانوا فوق عشرة آلاف - لأن العشرة فما دونها جمع قلة، فيقال فيها: آلاف، ولا يقال أُلوف، إلا لجمع الكثرة، الذي يزيد على العشرة ..

ص: 411

ولذا، روى عن ابن عباس: أنهم كانوا أربعين ألفًا، كما في بعض الروايات عنه. وكان خروجهم بهذه الكثرة، خوفًا من الموت، حذرًا منه، مع أن الحذر لا يمنع القدر، فإذا جاءَ أجلهم معًا - أو متفرقين - لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.

ويرى بعض المفسرين: أَن هذه الآية الكريمة: تنبئنا عن قوم من بني إسرائيل، دُعوا إلى الجهاد في سبيل الله، فخرجوا من ديارهم فرارًا منه، حتى لا يموتوا - مع أنهم كانوا أُلوفا، فلا ينبغي لهم أن يفروا - لأن من عادتهم أن يجبنوا عن القتال، كما حدث عندما أمرهم موسى عليه السلام بقتال الجبارين، فقالوا له:{اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} (1). فأماتهم الله جميعًا، عقابًا لهم على فرارهم، ثم أحياهم ليبين لهم قدرة الله عليهم، وأنه لا ينفعهم الفرار من القتال، إن كان الموت فيه مكتوبًا عليهم، فقد يموت المرءُ بدون قتال كما حدث لهم.

ويقول صاحب هذا الرأي: إنه - تعالى - بعد أن أحياهم، أمرهم بالجهاد بقوله لهم:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} (2) لعلهم يعتبرون بذلك، فيخلصوا في الجهاد.

وقال ابن عطية منكرًا لهذا وأمثاله من القصص: وهذا القصص كله لين الأسانيد. وإنما اللازم من الآية أن الله - تعالى - أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إخبارًا في عبارة التنبيه والتوقيف، عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا - هم وكل من خَلَفَ من بعدهم - أن الإماتة إنما هي بيد الله - تعالى - لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وقد جعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره للمؤمنين من أُمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد. هذا قول الطبري. وهو ظاهر معنى الآية.

(1) المائدة: 24

(2)

البقرة: 244

ص: 412

ويرى الشيخ محمد عبده: أن هذا مَثَلٌ لا قصة واقعية، وأن الموت هنا مجازي.

وخلاصة رأيه: أن هؤلاءِ القوم فروا أمام أعدائهم دون قتال، وتركوا أوطانهم غنيمة للأعداءِ، فعاشواء أذلاءَ مشردين، في حياة أشبه بالموت. فلما عرفوا جنايتهم على أنفسهم - عادو إلى جهاد أعدائهم، وتحرير أوطانهم، فاستردُّوا كرامتهم، وعاشوا حياة كريمة جديرة بالمجاهدين الأبطال.

ويرى آخرون: أنها تتحدث عن قوم نزل ببلادهم وباءُ الطاعون، فعمها بأَسباب الموت، فظنوا أن فرارهم من هذا الوباءِ، سيكفل لهم النجاة من الموت، فأَماتهم الله عقابًا لهم، فلكل أجل عن الله كتاب وقدر. وقد فاتهم أنهم سينقلون معهم وباء الطاعون، إلى بلاد خالية منه. وتلك جريمة أُخرى. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا السُّقم، عُذِّب به الأُمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع - بأرض وأنتم فيها - فلا تخرجوا فرارًا منه

" إلخ. أخرجه الإمام أحمد عن عمر. ولِلشَّيخين نحْوهُ.

وهذا الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم مطابق لأحدث النظم الصحية، وهو ما يعرف اليوم بالحجر الصحي.

والتعبير بقوله - تعالى -: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} : إما على ظاهره، وإما مجاز عن تعليق إرادة الله تعالى بموتهم دفعة واحدة.

وقيل: هو تمثيل لإماتتهم ميتة نفس واحدة، في أسرع زمان، بأمر مطاع لمأمور مطيع. والله يعلم مقدار المدة التي ظلوا فيها أمواتًا. ولكنها لابد متراخية فترة عن إماتتهم، كما يوحي به العطف بثم في قوله تعالى:{ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} : أي ثم أعادهم الله إلى الحياة مرة أُخرى، بعد فترة موت، ليستوفوا آجالهم، وليؤمنوا بقضاء الله وقدره، وليكونوا عبرة يعتبرون بها هم وغيرهم، وليظهر فضل الله الذي عبر عنه قوله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} :

بما أَنعم به عليهم من نعمة الخلق، ونعمة البقاء والرزق، وبما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، التي تنفعهم في دينهم.

ص: 413

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} :

فَضْلَ الله عليهم، بالاعتراف بهذه النعم، والعمل بوجبها.

هذا وقد تناول الإصحاح السابع والثلاثون، من سفر حزقيا، هذه القصة. فارجع إليه إن شئت. وكذلك راجع هذا التفسير للآية (259) من البقرة.

وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأَ من الله إلا إليه، فإن هؤُلاءِ فروا من الموت طلبًا للحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءَهم الموت من حيث لا يشعرون، وظهر لهم أنهم قد فروا من قضاء الله إلى قضاء الله.

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}

المفردات:

{سَبِيلِ اللهِ} : السبيل، الطريق، يذكَّر ويؤنَث. وإذا أُطلق، انصرف إلى الجهاد.

{يُفْرِضُ} : الإقراض، إعطاءُ شخص ما لا لغيره، ليرده إليه بعد حين.

{يَقْبِضُ} : يُضيِّق على من يشاءُ في الرزق.

{وَيَبْسُطُ} : يُوسِّع على من يشاءُ.

التفسير

244 -

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :

هذه الجملة معطوفة على جملة {أَلَمْ تَرَ} من جهة المعنى، فإن {أَلَمْ تَرَ} بمعنى: انظروا وتفكروا.

ص: 414

وإنك لترى الأمر بالجهاد منثورًا في هذه السورة، ضمن آيات الأحكام، مذكرًا به من آن لآخر، لأنه من أشق التكاليف، وعليه يدور بقاءُ هذا الدين، الذي يتربص به أعداؤُه. فلو لم يجاهدوهم لهلكوا، وضاع دينهم.

وقد بدأَ الحديث عن الجهاد - في هذه السورة - بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ} (1) حتى وصل إلى هذا التكليف الكريم، ثم ينتهي في آخر السورة: بالحث على الإنفاق في سبيله.

والخطاب هنا، لأُمة محمد صلى الله عليه وسلم.

والجهاد في سبيل الله: هو ما كان لإعلاء كلمة الله، فلا يكون الجهاد في سبيل الله، إلا إذا كان همُّ المقاتل ومقصده - إحياء دينه ونشره والدفاع عنه. فإن لم تكن تلك نيته، فإنما يقاتل لأمر دنيوي. ومن كان كذلك، لا يحصل على الثواب العظيم: الذي أعده الله لمن يجاهدون في سبيله.

وفي مضمون الآية الكريمة: تحذير لكل مسلم من أن يجبن عن القتالِ حذر الموت، بقوله:

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} :

فإن الموت قدر لابد منه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (2). إذ الموت أجل يبلغه المرءُ فيموت: سواءٌ أكان على فراشه، أم كان في حرب ضروس.

كما أن فيها رمزًا إلى وعدهم بحسن الجزاء. وكأَنه يقول: واعلموا أنه سميع عليم، فلا يخفى عليه مجاهد أو قاعد. فمن قعد عنه، عوقب أشد العقاب. ومن جاهد، جوزي أعظم الجزاء.

ثم حرَّضهم على الإنفاق في سبيل الله بأموالهم، بعد أن أمرهم ببذل أنفسهم، فقال:

245 -

{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً

} الآية.

(1) البقرة: 156

(2)

الجمعة: 8

ص: 415

بهذا الأسلوب الاستفهامي البليغ، يدفعنا الله - تعالى - دفعًا إلى المشاركة بالمال، في الإعداد للقتال: إعدادًا نرهب به عدو الله وعدو دينه، لتكون كلمة الله دائمًا هي العليا.

وقد صورت الآية إعطاءَ الباذل ماله في سبيل الله: يبتغي ثوابه، بصورة تقديم قرض إلى مقترض، للإيذان بأن ثوابه محقق، ولازم لزوم أداءِ الدين ..

وفي الآية: لطف من الله بعباده، وتوثيق لثوابه، وأنه لازم الأداء: تفضلًا منه وتحقيقًا لوعده الذي لا يتخلف، حيث جعل نعمته التي أنعم بها على عباده - إذا أنفقوا في سبيل الله - كأَنها قرض يقدمونه له - سبحانه - مباشرة، مع أنه غني عن عباده، فهو الذي يقول:{وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} (1).

والمراد يكون القرض حسنًا: أن يكون الغرض منه وجهَ الله، لا الرياء والسمعة، وأن يكون حلالًا طيبًا. ومع أن القرض مع الناس يؤَدي بمثله، فإنه - تعالى - بيّن لعباده أن القرضَ معهَ يؤدي مضاعفًا، إذ قال:

{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} : عوضًا عن هذا القرض الذي قدموه خالصًا لله. وتلك المضاعفة، تكون في وقت تشتد فيه حاجتهم إلى هذا الربح الوفير، وهو يوم القيامة.

وقد بيَّن الله هذه المضاعفة في أواخر السورة إذ يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2).

{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} :

أي يضيِّق الرزق على بعض، ويوسعه على بعض، أو يضيقه تارة، ويوسعه أُخرى، حسبما تقتضيه الحكمة.

وإذا علمتم أنه - تعالى - واهب الأرزاق، يوسعها ويضيقها كما يشاءُ، وأن ما عندكم هو من بسطه وعطائه، فأنفقوا مما وسع عليكم، ولا تبخلوا بما هو من فضله، فإنه مجازيكم على إنفاقكم جزاءً مضاعفًا، حسبما وعدكم.

(1) محمد: 38

(2)

البقرة: 161

ص: 416

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}

المفردات:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ} : الملأُ من القوم، وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه. سموا بذلك، لأنهم يملأون القلوب مهابة، والعيون حسنًا وبهاءً، والمقصود به هنا - وفي كل القرآن - الرجال: كالقوم، والرهط، والنَّفر.

والرؤْية - هنا - علمية كسابقتها: ضمنت معنى الانتهاء. فعديت بحرف الجر {إِلَى} .

والاستفهام: للتعجيب والتشويق لهذه القصة. ومعنى {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} : فقد قاربتم عدم القتال إن كتب عليكم كما يتوقع منكم، فعسى للتوقع. والمراد: تقرير أن المتوقع منهم كائن. ولابد من وقوعه.

التفسير

246 -

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَ ائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

} الآية.

كان العبرانيون جيرانًا لبني إسرائيل. وكان يحكمهم ملك يُقَالُ له: جالوت - ولما فسق بنوا إسرائيل، وقتلوا أنبياءَهم - سلطهم الله عليهم، فهزموهم، وظهروا عليهم، وأخذوا كثيرًا من بلادهم، وأسروا من أشرافهم عددًا كبيرًا، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، واستباحوا نساءَهم. فلما رأوا ما حلّ بهم - عادوا إلى رشدهم، وقالوا لنبيهم يوشع عليه السلام: أقم علينا ملكًا يضم شتاتنا، وتنصاع له جماعتنا، ونقاتل

ص: 417

تحت لوائه في سبيل الله وشريعته، وفقد كفانا ما لقيناه من ذل الهزيمة والاستعباد. وكان الملك فيهم هو الذي يسير بالجموع.

أما النبي، فهو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه، فيطيع الملك أمره كسائر بني إسرائيل.

والخطاب في قوله {أَلَمْ تَرَ} : لكل من تتأتي منه الرؤية والعلم. (1)

{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} :

هل: هنا - للتحقيق فهي بمعنى {قد} ، و {عسى} تفيد التوقع، وأُدخلت {هل} عليها لتحقيق ما يتوقعه النبي، و {أَلَّا تُقَاتِلُوا}: خبر {عسى} .

والمعنى: قال لهم نبيهم مجيبًا لهم: أتوقع عدم قتالكم، إن كتب عليكم القتال، وذلك التوقع محقق عندي وثابت، وقد بنى توقعه هذا على تاريخهم في الجهاد، وجبنهم طول حياتهم أمام عدوهم، وقولهم لموسى عليه السلام حينما دعاهم للجهاد {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا

} (2) فأَجابوا نبيهم:

{قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} :

والمعنى: وأي شيءٍ يمنعنا من أن نقاتل في سبيل الله، ويصرفنا عنه مع وجود مقتضيه، فقد أخرجنا الأعداءُ من ديارنا، وطغى علينا قومُ جالوت، فاستباحوا أبناءَنا ونساءَنا، وهذه حالٌ تقتضي الجهاد، الذي تركناه طلبًا للعافية والسلامة ففقدناهما، فاسأل ربك ما طلبناه منك: من تنصيب ملك علينا: نقاتل معه، لنستردَّ أرضَنا، وكرامتنا، ومقدساتِنا.

{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} :

أي: فلما فُرض عليهم قتال أعدائهم - بعد ما اختار لهم نبيهم ملكًا كطلبهم وبرزوا لقتاله، وشاهدوا جده في قتالهم - وَلِّوْا فرارًا وَجُبْنًا، إلا نفرا قليلًا منهم: آثروا أُخراهم على دنياهم، طمعًا فيما عند الله، وإيمانًا بأَن آجالهم قد قدرت عليهم،

(1) راجع ما كتبناه عن مثلها في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} البقرة: 243.

(2)

المائدة: 24

ص: 418

فلا ينجيهم من الموت فرارٌ، إن كان مكتوبًا عليهم، فصبروا مع ملكهم طالوت على قتال عدوهم جالوت.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} :

أي جميعًا، ومنهم الذين تركوا القتال من بني إسرائيل، ونافت أعمالُهم أقوالَهم، فهو مجازيهم على ظلمهم، بتوليهم وسائر معاصيهم.

وهذه الآية إجمال، يأتي تفصيله في الآيات التالية:

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}

المفردات:

{أَنَّى يَكُونُ} : كيف يكون؟

{سَعَةً مِنَ الْمَالِ} : بسطة فيه.

{التَّابُوتُ} : صندوق فيه ألواح التوراة، وبعض مقدساتهم.

{فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَّبِّكُمْ} : في التابون طمأنينة لقلوبكم من ربكم، لما فيه من علوم وشرائع.

ص: 419

التفسير

247 -

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا

}:

أي قال لهم نبيهم: إن الله قد اختار لكم طالوت ملكًا يدبر أمركم، وتصدرون عن رأيه في القتال، واسمه في العهد القديم: شاول (1)، ولم يكن طالوت من سبط الملك - يهوذا - ولا من سبط (لاوى) الذي فيه الأنبياءُ، ولا من الأغنياء، ولهذا ضاقت نفوسهم به، فاعترضوا على تنصيبه ملكًا عليهم.

{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} :

أي قالوا لنبيهم - مستنكرين - كيف يتملك علينا ذلك الرجل وهو لا يستحق الملك في نظرنا، لوجود من هو أحق بالملك منه بيننا، فنحن الملأ من بني إسرائيل {أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}: نَسَبًا وَحسبًا! ولأَنه لم يؤْت سعة من المال، وتلحقه بالأشراف. والملك عندهم، يتوقف على الحسب واليسار. ونسوا أنهم سألوا الله أن يبعث لهم ملكًا يلي أمرهم، ويقودهم في حربهم، وأن الله هو الذي اختاره لهم - لا النبي - ولا مَلِك أَصلح لهم ممن اختاره الله، فلا سبيل إلى تغييره.

{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} :

واختاره ملكًا لكم، والله أعلم به منكم، وذكر لهم مزاياه التي ترشحه للملك فقال:

{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} :

أي سعة فيهما. وهاتان الميزتان أصلح للملك من سواهما.

{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} :

أي والله وحده صاحب الخيرة: لا يُسأل عَما يَفعل: يؤتى ملكه من يشاءُ من خلقه، بمقتضى حكمته، وينزعه عمن يشاءُ من خلقه. (وَاللَّهُ وَاسِعٌ): فضله، يختص برحمته وحكمته من يشاءُ. {عَلِيمٌ}: بمن يستحق الملك والقيادة ممن لا يستحقه.

(1) راجع قصة في العهد القديم: سفر صموائيل الأول من الإصحاح الثامن، والحادي عشر.

ص: 420

ثم بين لهم نبيهم علامة تدل على صحة ملك طالوت، وقد طلبوها منه، وذلك ما حكاه الله بقوله:

248 -

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّ بِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَ كَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُ ونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ

} الآية.

المعنى: قال لهم نبيهم إن علامة صحة ملك طالوت لكم وأنه من عند الله: أن يأتيكم التابوت ويرجع إليكم على يديه: في إتيانه طمأنينةٌ لكم، أو فيه ما تسكنون وتطمئنون إليه، هو التوراة وغيرها من مقدساتكم.

وقيل: إنهم كانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه، في القتال - أمام جيوشهم - فينصرهم الله بسببه. وكانوا يجدون فيه - كلما نظروا إليه - سكينة لقلوبهم، يطمئنون إليها، ويتبركون بها.

والآية الكريمة، تصرح: بأن الملائكة تأتيهم بالتابوت حاملة له. والظاهر أن ذلك على الحقيقة، ليروه ويطمئنوا.

روى ابن جريج عن ابن عباس: "قال جاءَت الملائكة تحمل التابوت بين السماءِ والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون".

وقيل: إن الحمل مجاز عن الإيصال، كما تقول: حمل فلان متاعه إلى مكة، أي أوصله إليها.

فلما رأوا ذلك آمنوا بصدق نبيهم، ورضوا بطالوت ملكًا عليهم. وكان ختم الآية:

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} :

أي علامة لكم على صدقي، فيما أمرتكم به من طاعة طالوت.

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} : أي: مصدقين.

وفي التعبير بلفظ {إِنْ} إشارة إلى أصالة الشك في نفوسهم، وأنهم سيتمردون على أمر الله، ولن يطول بهم القرار على الخضوع له، كما سيأتي، فهي تفيد الشك في تحقيق مفهوم خبرها.

ص: 421

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}

المفردات:

{فَصَلَ} : خرج.

{مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} : أي مختبركم به، ليظهر الصادق منكم والكاذب في طاعة الملك، والجهاد في سبيل الله، لإخراج العدو من البلاد التي أخذها منكم.

{يَطْعَمْهُ} : يذق طعمه.

{اغْتَرَفَ غُرْفَةً} : الغرفة، ما يغرف.

{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} : لا قوة لنا على حربه، فضلا عن الانتصار عليه.

ص: 422

{يَظُنُّونَ} : هي هنا بمعنى، يوقنون بالبعث، على حدِّ قوله تعالى:{إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (1).

{مُلَاقُو اللهِ} : أي مبعوثون إليه.

{بَرَزُوا} : ظهروا واصطفوا للقتال، على بارز من الأرض.

التفسير

249 -

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ

} الآية.

فلما خرج طالوت بالجنود من بيت المقدس، لقتال أعدائهم، قال لهم: إن الله مختبركم وممتحن مقدار صدقكم - في لقاءِ عدوكم، واستجابتكم لأوامر قائدكم - {بِنَهَرٍ} يعترض طريقكم: أطلب منكم عدم الشرب منه، ليظهر منكم المطيع والعاصي، فإن طاعة القائد شرط أساسي للنصر، فمن غلبته شهوته وشرب من مائه، فليس من أتباعي: لأنه إذا عصاني اليوم، فهو أحرى أن يعصي أمري وقت اشتداد الحرب، فتحدث الهزيمة. ومن لم يذق ماءَه استجابة لهذا الأمر وصبر، لإنه مِنِّي، ضالع معي في لقاء العدوّ، والرغبة في الانتصار عليه.

ثم استثنى من القسم الأول وهو: من شرَب من النهر فقال: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) يبلُّ بها ريقه في هذه الفلاة وشدة العطش، فلا بأس عليه في ذلك.

قالوا - في حكمة الأمر بالاكتفاء بالغرفة - إنه اختبار لطاعتهم كما تقدم، كما أن فيه سلامة الجندي، فإن الإسراف في الشرب - عند مناجزة العدو - يضر ضررًا بليغًا.

{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} :

أي: فلم يمتثلوا ما أمرهم به طالوت، بل شربوا منه أكثر مما أمرهم به، إلا قليلًا منهم، نفذوا أمره فاغترف كل واحد منهم لنفسه غرفة واحدة.

(1) الحاقة: 20

ص: 423

{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} :

المعنى: فلما جاوز طالوت النهرن وتركه هو والذين آمنوا معه، وهم القليل الذي نفذ أمره، وصدق إيمانه بربه، ونظروا إلى كثرة عدوهم وهم قليلن فأوجس بعضهم خيفة، وقالوا {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ} بقتال {جَالُوتَ وَجُنُودِهِ} أي: لا قدرة لنا على محاربتهم، فضلًا عن غلبتهم. وهؤلاء - وإن كانوا من المؤمنين معه، المنفذين لأمره في اغتراف الغرفة - إلا أنهم قالوه إظهارًا لواقع الحال، ورجاءَ المعونة من الله، وليس نكوصًا وامتناعًا عن القتال.

{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ} :

أي قال أفضلهم وخلصاؤهم، الذين يتيقنون أنهم ملاقوا جزاء الله يوم القيامة.

{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَ ةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} :

أي كم من جماعة - قليلة العدد والعُدد - استعصمت بإيمانها بالله، وتوكلت عليه - غلبت فئة كثيرة العدد والعُدد، بإرادة الله ونصره؟ فإن النصر من عند الله، لا بكثرة الجنود. فلا ينبغي لنا أن نستقل أنفسنا فنجبن عن لقاءِ عدونا.

ثم ختمت الآية بهذه البشرى: {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): أي معهم بالنصر والتأييد.

وهذه الجملة إما: من جهته - تعالى - تقريرًا لكلامهم، ودعاء للسامعين إلى مثل حالهم، وإما من كلام هؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقو الله، قالوها تشجيعًا وترغيبًا في الصبر.

250 -

{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} :

ولما واجه حزب الإيمان أعداء الله، وصاروا إلى براز الأرض، المتكشف منها، متأهبين لحرب جالوت وجنوده قالوا ذاكرين عبوديتهم:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} عظيمًا غامرًا من عندك، يشملنا ويعمنا، ويقوي نفوسنا.

ص: 424

{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} : بطمأنينة نفوسنا عند اللقاء، فإن طمأنينة النفس تهب القوة، وتثبت الأقدام. {وَانصُرْنَا}: بفضلك، وأعنا بقوتك {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: الجاحدين لأُلوهيتك ونعمك المتوالية عليهم.

251 -

{فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ

} الآية.

أي: فاستجاب الله دعاءهم، فهزموهم بإرادة الله - تعالى - ونصره لهم، بسبب إيمانهم واعتمادهم عليه، وصبرهم في ملاقاة العدو، واستمساكهم بأسباب النصر، وعدة الحرب {وَقَتَلَ دَاوُدُ}: أحد جنود طالوت {جَالُوتَ} : زعيم العبرانيين، وانتصرت القلة المؤمنة، على الكثرة الكافرة.

وفي ذلك ترغيب للمؤمنين في الجهاد، وتحذير من الضعف والفرار حذر الموت. ثم مات طالوت ملك بني إسرائيل، فتولى داود الملك بعد {وَآتَاهُ اللهُ} - بسبب شجاعته وعقله ودينه - الملك، ووهبه الحكمة، وعلمه مما يشآءُ الله تعليمه إياه، من العلم الذي اختصه به عليه السلام.

وبذلك دفع الله بداود عن بني إسرائيل معرة الجبن والهزيمة.

{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} :

وهكذا يدفع الله بالصالحين - من الناس - المفسدين في الأرض، المعطلين مصالح العباد، ولولا ذلك لفسدت الأرض، ووقع الناس في الفوضى.

{وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} : فيدفع الله بعضهم بقوة بعض، رحمة بهم.

ص: 425

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}

التفسير

252 -

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} :

المعنى: تلك يا محمد، قصص قصصناها عليك، تحكي لك شأن الجهاد والمجاهدين والعاصين والمنافقين، من بني إسرائيل.

{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} : الثابت، لتكون حجة لك على الناس، ودليلًا واضحًا على صدق نبوتك.

{وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} : بشهادة إخبارك عن الأمم الماضية: من غير مطالعة كتاب، ولا اجتماع بأحد يخبرك عنها، ويدارسك بها.

هذا، وقد وردت هذه القصة مفصلة في سفر صموائيل الأول - من الإصحاح الثامن إلى آخر الإصحاح الحادي عشر - والنبي فيها هو صموائيل، وطالوت هو - شارل - وجالوت هو - جليات - والله أعلم.

ص: 426

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}

المفردات:

{تِلْكَ} : يشار بها إلى المؤنث، ويعامل جمع الذكور معاملة المؤنث بتأويله بالجماعة لهذا أُنث اسم الإشارة هنا. أي تلك جماعة الرسل.

{مَن كَلَّمَ اللهُ} : أي كلَّمه بلا وساطة، ومن غير سفير، وهو موسى عليه السلام.

{الْبَيِّنَاتِ} : الحجج والأدلة.

{بِرُوحِ الْقُدُسِ} : أي بالروح المقدس. أي المطهر، وهو جبريل عليه السلام.

التفسير

253 -

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضِ

} الآية.

لما ذكر الله قبل هذه الآية مباشرة قوله عز من قائل: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} . عقبه بتفصيل الحديث من شأن هؤُلاء الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام -.

ومعنى الآية: هؤلاء الرسل الكرام - الذين بعثهم الله تعالى إلى الناس برسالاته وهداه في مختلف البقاع والأزمان - فضل الله تعالى، بعضهم على بعض: في المكانة والمعجزات. وإن كانوا جميعًا، قد تآخوا في شرف النبوة والرسالة.

ص: 427

{مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ} :

أي منهم من فضله الله بتكليمه مباشرة ودون وسيط مثل: موسى عليه السلام ومثل محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ليلة الإسراء والمعراج، كما سيرد في تفسير أول سورة الإسراء. ومنهم من كلمه بغير ذلك كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ

} (1).

{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} :

فمنهم أُولو العزم، ومنهم خليل الله، ومنهم كليمه، إلى غير ذلك مما يمتاز به بعض الرسل عن بعض.

وعلينا أن نكف عن الموازنة بينهم، تكريمًا لهم عن أن يكونوا مجالًا للمناقشة والجدال، والتعصب الجنسي أو الديني، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ

} (2) الآية.

والإجماع منعقد على أن أفضل الرسل جميعًا محمد صلى الله عليه وسلم لأن رسالته عامة للبشرية جمعاء، ممتدة من عصره إلى آخر الزمان.

أما كل منهم فرسالته محصورة في قوم، وتنتهي رسالته ببعثه خلفه، ولأن الله تعالى أخذ عليهم العهد - جميعًا - بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، وبرسالته، ومناصرته إذا أدركوا بعثته. قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُ نَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (3).

وقال صلى الله عليه وسلم: "أَنا سَيِّدُ وَلدِ آدمَ يومَ القيامةِ، وأول من ينشقُّ عنه القبرُ، وأَوَّلُ شَافِع، وأَوَّلُ مُشَفَّع"(4). وقال صلوات الله وسلامه عليه: "أنا سَيَّدُ وَلَدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخْرَ، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فَخرَ. وما من نَبي يومئذ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي، وأنا أَوَّلُ شافَعٍ، وأولُ مُشَفَّعٍ ولَا فَخْر"(5).

(1) الشورى: من الآية 51

(2)

البقرة: من الآية 285

(3)

آل عمران: الآية 81

(4)

رواه مسلم وأبو داود

(5)

رواه أحمد والترمذي وابن ماجه

ص: 428

أما ما رواه الشيخان من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُفضِّلوني على الأنبياء .. " فإن ذلك من باب تواضعه صلى الله عليه وسلم، وأن الأنبياء إخوة في الرسالة، والأخ لا يُفَضِّلُ نفسه على أخيه، ولأن اللجاج والخصام في هذا التفضيل قد يقود المتخاصمين إلى النيل من بعض الأنبياء، وفي هذا كفر صريح.

ومردُّ التفضيل - بعد هذا كله - إل الله وحده.

ومع أن الإجماع منعقد على أفضلية محمد صلى الله عليه وسلم فمن الواجب على المسلمين: ألَّا يخوضوا في الجدال حول تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض، تمسكًا بآداب القرآن.

{وَآتَيْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} :

أعطينا عيسى بن مريم عليه السلام الآيات الواضحة الدالة على نبوته. وهي: المعجزات التي أجراها الله على يديه: كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله - تعالى - وقوَّاه الله كذلك على دفع أذى أعدائه بروح القدس. وهو جبريل عليه السلام قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ

} (1).

وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى صفته، أي الروح المطهر.

ولما كانت هذه الآية واردة عقب قصة بني إسرائيل مع طالوت، ومخالفتهم لأمره - خص الله عيسى بالذكر من بين الرسل، بالتنبيه على بعض معجزاته، للرد عليهم إذ كذبوه ووصفوه وأمه بأوصاف فيها بهتان عظيم. كما قال تعالى: " {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (2).

{وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} :

ولما كان جوهر الديانات السماوية واحدًا، وهدفها واحدًا، فلذا كان الواجب على أتباع كل رسول: أن يؤمنوا بالرسول الذي جاء بعده، وألا يختلفوا معه ولا مع أتباعه. ولكنهم تفرقوا واختلفوا، واقتتلوا، من بعد ما جاءتهم البينات، والآيات المؤيدة لرسالته. ولو أراد الله

ص: 429

ألا يحدث ذلك ما حصل. ولكنه ابتلاهم، ليميز الخبيث من الطيبن والمؤمن من الكافر.

وهذا ما قاله الله تعالى:

{فَمِنْهُم مَّنْ آمَن وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللهُ مضا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} :

أي: فانقسموا بالابتلاء إلى فريقين: فمنهم من آمن لطيب سريرته، وحسن اختياره. منهم من كفر لخبث نيته، وسوء رأيه. ولو شاء الله لآمنوا جميعًا، ولم يقتتلوا. ولكن الله يفعل ما يريد من ترك عباده لاختيارهم، وحتى يتبين الخبيث من الطيب، ويدفع المؤمنون شر الكافرين وفسادهم، ثم يجزي كلا على حسب عمله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ

} (1).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}

المفردات:

{خُلَّةٌ} : الخلة، الصداقة والمحبة للقرابة أو غيرها.

{شَفَاعَةٌ} : الشفاعة، طلب التجاوز عن السيئة.

التفسير

254 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ

} الآية.

هذه الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها، فقد دلت الآية السابقة: على أن القتال بين أهل الحق وأهل الباطل، من سنن الله تبارك وتعالى فلهذا ناسب أن يعقب تلك الآية بمناشدة أهل الحق: أن يجاهدوهم بأموالهم التي رزقهم الله إياها من فضله.

والمعنى: ينادي الله عباده الذين آمنوا به وبكتابه وهدي رسوله، ويأمرهم: بأن ينفقوا - في سبيل الله ووجوه الخير - بعض ما آتاهم الله من فضله، وأنعم به عليهم من رزق حلال

(1) البقرة: من الآية 251

ص: 430

طيب، ما كانوا عليه بقادرين لولا فضل الله وتوفيقه، وذلك بأن يُعطوا الزكاة الواجبة عليهم إلى مستحقيها، ويتطوعوا بالتصدُّق عليهم بما يستطيعونه فوق الزكاة الواجبة، ويأمرهم بالمسارعة إلى ذلك، قبل أن ينتهي الأجل المجهول لديهم، ويقبل عليهم يوم الحساب بالثواب أو العقاب، وهو يوم القيامة، الذي لن يجدوا فيه ما يتقربون به حينئذ إلى الله تعالى، أو يتداركون به ما فاتهم. فلن يجدوا فيه بيعًا لحسنات ترجح بها موازينهم، ولن تنفع فيه صداقة مهما قويت. ولن تجدي فيه شفاعة شفيع إلا بإذن الله ورحمته. وإنما يأذن الله في ذلك للمستحقين بعلمه وحكمته. (1)

{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} :

والذين كفروا بالله جل جلاله هم الظالمون لأنفسهم وللمجتمع.

فكافحوهم بالقتال: بالأنفس والأموال التي أمركم الله بإنفاقها في سبيله.

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}

المفردات:

{الْحَيٌّ} : الباقي، الدائم البقاء، الذي لا يناله الفناء.

{الْقَيُّومُ} : الدائم القيام بتدبير الخلائق وحفظهم.

{سِنَةٌ} : ما يكون قُبيل النوم من فتور يشبه النوم. والوسنان: هو من يكون بين النائم واليقظان.

(1) راجع في موضوع الشفاعة تفسير الآية 48 من البقرة.

ص: 431

{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} : المراد منه، الدنيا، أو ما كان قبلهم، أو المستقبل.

{وَمَا خَلْفَهُمْ} : الآخرة. أو ما يكون بعدهم. أو الماضي.

{كُرْسِيُّهُ} : الكرسي، علم - تعالى - أو عرشه. وقيل: هو تمثيل لِمُلكِ الله تعالى وسلطانه، وقيل: هو فلك يحيط بالسماء والأرض.

{وَلَا يَؤُودُهُ} : أي ولا يثقله، ولا يشق عليه.

التفسير

255 -

{اللَّهُ لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

} الآية.

دعت الآية السابقة إلى الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه، ولا تنفع فيه صداقة ولا شفاعة. وإنما ينفع الإنسان عمله، ومرضاته لربه.

وهذه الآية بينت لهم: أن الله الذي دعاهم إلى الإنفاق: هو الإله الواحد، القيم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شيء علمًا، وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه.

وتُعْرَفُ هذه الآية بين المسلمين، باسم: آية الكرسي، لأن ذكره ورد فيها.

وقد بدأت الآية الكريمة هذه باسم {الله} جل جلاله، وأخبرت أنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأنه {الْحَيُّ}: أي الذي له الحياة الكاملة الأزلية، فلا أول لها، الباقية فلا آخر لها، وهو {الْقَيُّومُ}: أي الدائم القيام بتدبير شئون الخلائق وحفظهم.

{لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} :

لا تعتريه غفلة ولا نوم عن خلقه، فذلك شأن الحادث الضعيف، الذي يحتاج إليهما، ليسترد قُوَّتَه ونشاطه.

{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} :

له - سبحانه - كل ما في السموات، وكل ما في الأرض من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، وكل كائن.

{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} :

لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد عند الله تعالى، إلا إذا أذن الله له. وإنما يأذن بعلمٍ

ص: 432

وقد نص القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، على أن الله لا يأذن بالشفاعة إلا لمن ارتضى من عباده كالملائكة. وعلى أن الشفاعة العظمى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (1)

وجملة {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} : فيها رد على المشركين، حين قالوا عن الأوثان: {

هَؤلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ .. } (2).

وفيها وعيد للمستخفين بأوامر الله تعالى، المُصِرِّين على المعصية، اتكالا منهم على أنه سيُشفع لهم، وذلك بإقناطهم من قبول الله لشفاعة أحد عنهم.

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} :

والله تعالى يعلم أمور الدنيا والآخرة: ظاهرة كانت أو خفية. فاحذروا أن تقعوا في المعاصي التي لا تغني فيها شفاعة الشافعين.

{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} :

أي أن الخلق لا يعرفون أي شيء من معلومات الله - سبحانه - إلا ما يشاء لهم أن يعرفوه: بفضله وتوفيقه.

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} :

سعة الكرسي للسموات والأرض: كناية عن نفوذ سلطان الله تعالى فيهما، وسعة علمه لهما، ولجميع ما فيهما. فإنه تعالى أحاط بكل شيءِ علما.

فإن أُريد بالكرسي: الفلك المحيط بالسموات والأرض - كما قال بعض العلماء - فسعته لهما، على الحقيقة.

وقد أَخذوا ذلك من ظاهر النص، ومن حديث رواه ابن مردويه عن أبي ذَرّ قال: قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، ما السموات السبع، والأَرضون السبع عند الكرسي إلا كحَلْقةٍ ملقاةٍ بأرض فلاة. وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحَلْقة"(3)

(1) راجع تفسير الآية 48 من سورة البقرة.

(2)

يونس من الآية: 18

(3)

الحديث المذكور أورده ابن كثير في تفسيره: 1 - 310 وقد عزاه إلى أبي بكر بن مردويه بسنده إلى أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحديث.

ص: 433

وهذا يدل على أن العرض غير الكرسي، وأنه أعظم منه.

{وَلَا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا} :

ولا يثقله سبحانه حفظ السموات والأرض. وهذا ناطق بدوام حفظه وتدبيره لهما، لا يتخلى عن ذلك طرفة عين.

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} :

وهو سبحانه الذي يتعالى عن الشبيه والنظير. ويتعالى عن النقص والعجز، وهو العظيم قدرًا وشرفًا.

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}

المفردات:

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} : لا إجبار، ولا قسر على الإيمان.

{الرُّشْدُ} : الصواب، أو الهدى، أو الحق.

{الْغَيِّ} : الخطإ، أو الضلال، أو الباطل.

{بِالَّطاغُوتِ} : الشيطان، أو كل ذي طغيان، أو كل معبود سوى الله تعالى.

{بِالْعُرْوَةِ الْوثْقى} : العروة: ما يُتعلق به، كالمقبض. والوثقى، مؤَنث الأوثق، وهو الأَشد الأحكم.

{لَا انفِصَامَ لَهَا} : لا انقطاع لها.

ص: 434

التفسير

256 -

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ

} الآية.

ذكرت الآية السابقة صفات الله السامية، المقتضية لتفرده بالأولوهية واستحقاق العبادة. ولم يعد - بعد ما جاء فيها - مجال للمكابرة أو الإنكار، أو إكراه أحد على الإيمان، لأن أدلتها القوية تدعو إليه، دون قسر أو إكراه، فلا يحتاج العاقل إلى الإكراه أو الإلزام، بل يختار الدين الحق من غير تردد .. ولذا قال تعالى عقبها:

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} :

أي لا ينبغي أن يحتاج عاقل إلى الإكراه على دين الإسلام، لوضوح أدلته، فعليه أن يتجه إليه باختياره.

ويجوز أن يكون النفي بمعنى النهي للمسلمين عن إكراه أحد على الدِّين. ولذا قال تعالى: {

أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1). وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ

} (2). وقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ

} (3). إلى غير ذلك من الآيات.

والمعنى: لا تكرهوا - معشر المسلمين - أحدا على الإسلام، لأن الحق فيه واضح بَيِّن، لا يحتاج إلى إكراه أحد عليه.

{قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} :

تعليل للحكم السابق مقرون بكلمة التحقيق {قَدْ} ، لتأكيد مضمونه أي: قد تبين الرشد والحق في دين الإسلام، كما تبين الغي والضلال فيما عداه. فلا حاجة للإكراه على الإسلام.

(1) يونس: من الآية 99

(2)

البقرة: من الآية 272

(3)

المائدة: من الآية 99

ص: 435

{فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ} :

أي فمن يكفر بما يعبد من دون الله، ويؤمن بالله وحده - بعد ما تبين له الحق من الباطل بالحجج الواضحة -.

{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} :

فقد صار ممسكا بالسبب الأوثق الذي يصله بالحق.

{لَا انفِصَامَ لَهَا} :

أي لا انقطاع لهذه الصلة القوية. وبذلك يكون آمنا من التهلكة ومن كل مكرُوه.

{وَاللهُ سَمِيعٌ} :

أي شامل السمع، لا يغيب عن سمعه شيءٌ.

{عَلِيمٌ} :

واسع العلم: يحيط علمه بكل شيء.

وهذه الآية الكريمة: تنزه الإسلام عما زعمه أَعداؤُه من قيامه على القتال. فما كانت حروب المسلمين إلا دفاعية أو وقائية. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا

} (1). وقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا

} (2).

فإن جنح أعداء الإسلام إلى السلام سالمناهم. قال جل شأنُه: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا

} (3).

وأَساليب الدعوة الإسلامية، تقوم: على الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الرقيق. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

} (4).

(1) البقرة: 190

(2)

الحج: 39

(3)

الأنفال: 61

(4)

النحل:125

ص: 436

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}

{وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} : متولي أُمورهم، يهديهم ويعينهم.

{الطَّاغُوتُ} : المراد به، الشياطين.

{يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} : يخرجونهم من نور الحق إلى ظلمات الكفر.

التفسير

257 -

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ

} الآية.

الله جل جلاله هو معين المؤمنين الطائعين، ومتوليهم بتوفيقه وتأييده وهدايته إلى طريق الحق، فيخرجهم - بلطفه ورحمته - من ظلمات الحيرة والضلال والكفر، إلى نور الاستقرار والهداية والإيمان.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} :

والذين كفروا بالله جل جلاله وأنكروا رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم، أولياؤهم الشياطين: يوسوسون لهم، ويضلونهم عن صراط ربهم، ويبعدونهم عن طريق الهدى، ويوقعونهم في ظلمات الضلال والشر، ويحجبونهم عن فطرة الإيمان في نفوسهم. فكأَنهم يبعدونهم عن طريق مضيء منير، ويوقعونهم في طرق كثيرة الظلمات، فلا يهتدون سبيلا.

وعبر عن دين الإسلام بالنور، تشبيهًا له به، لأنه يهدي إلى الحق والسعادة. كما يهدي النور إلى طريق السلامة.

والتعبير عن الشرك بالظلمات: تشبيه له بها، لأنه يُضِل عن الحق والسعادة، كما يُضِل الظلام عن طريق السلامة.

ص: 437

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} :

أولئك الضالون، هم الذين يستحقون عذاب النار لا يفارقونها. بل يستقرون فيها، ويدوم عليهم عذابها.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}

المفردات:

{أَلَمْ تَرَ} : عبارة استفهامية لطلب التعجب.

{حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} : خاصمه وجادله في شأن ربه.

{فَبُهِتَ} : فتحير وانقطعت حجته.

التفسير

258 -

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ

} الآية.

اتضح مما سبق: أن الرشد قد تبين من الغي، وأن الله يتولى المؤمنين فيهديهم، وأن الشيطان يتولى الكفار فيضلهم.

لتوضيح هذه المعاني، ذكرت هذه الآية - وما بعدها - ثلاث قصص واقعية، تدور حول الموت والحياة، وإبراز قدرة الله:

الأولى: قصة رجل كافر تبين له الحق، ولكنه أصرَّ على كفره.

الثانية: قصة رجل تبين له الحق فاقتنع به، واعترف بأن الله على كل شيءٍ قدير.

ص: 438

الثالثة: قصة نبي أظهره الله على بعض آياته، فازداد إيمانًا وتثبيتًا.

وفيما يلي بيان القصة الأُولى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} :

أي هل رأيت في الضلال مثل ذلك الملك الطاغية الكافر، الذي جادل إبراهيم عليه السلام تجبرا منه وطغيانا بسبب ما أعطاه الله من سعة الملك، وقوة السلطان.

{إِذْقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} :

كانت المحاجة، حينما أعلن إبراهيم: أن ربه هو الذي يحيي ويميت، لأنه هو الإله الخالق القادر على كل شيء دون سواه: فأجابه الطاغية - وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا - قائلا: أنا أُحيي بالعفو عن محكوم عليه بالموت، وأُميت بقتل إنسان حي. ظانا بجهله أن قتله الإنسان إماتة، وعفوه عنه إحياءٌ. فاقتضت حكمة إبراهيم أن يغلق باب الجدل ويجابهه بما لا يستطيع أن يجادله فيه.

{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} :

قال إبراهيم: إن الله تعالى، يظهر الشمس في أول النهار من جهة المشرق، فإن استطعت فأظهرها من جهة المغرب، لتعود إلى الإشراق والإضاءَة، وينعكس بذلك نظامها. فيكون شروقها من جهة المغرب، وغروبها من جهة المشرق!!

{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} :

فانقطعت حجة الطاغية، وسكت متحيرا، ولم يستطع الاستمرار في التمويه. فظهر الحق، واندحر الباطل، عن طريق محاورة إبراهيم النافعة، التي كشفت الفرق بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب؟!

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} :

والله العادل، لا يعطي الهداية لغير مستحقيها من أُولئك الكافرين المعاندين، فهم ظالمون. والله تعالى لا يهدي القوم الظالمين، أي لا يوفقهم إلى حجة يغلبون بها أَهل الحق.

ص: 439

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}

المفردات:

{أَوْ} : للتخيير والتنويع في التعجيب بين ما جاء في هذه الآية والتي قبلها من العجائب. والكاف بمعنى اسم بمعنى: مثل. مفعول لفعل محذوف دل عليه {أَلَمْ تَرَ} السابق. والتقدير: أوَ رأيت مثل الذي مر على قرية. والجملة معطوفة بلفظ {أَوْ} على جملة:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}

{قَرْيَةٍ} : اسم للموضع الذي يسكن فيه الناس ولو كبيرا، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا

} (1) وقوله: {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى

} (2).

{خَاوِيَةٌ} : أي ساقطة من: خوت الدار، إذا سقط بنيانها.

{عَلَى عُرُوشِهَا} : العرش، السقف. والمراد: أنها متهدمة أو {خَاوِيَةٌ} بمعنى خالية. والمراد حينئذ: أن القرية خالية من أهلها - مع بقائها، قائمة سليمة العروش - لموت أَهلها.

{نُنشزُهَا} : مضارع أنشز، أي نركب بعضها فوق بعض وننشئها. وقريءَ {نَنْشُرُهَا} بالراء بمعنى: نبعثها إلى الحياة من جديد، من النشر. وهو إعادة الحياة بعد الموت.

(1) يوسف: من الاية 82

(2)

الشورى: من الآية 7

ص: 440

التفسير

259 -

{أَوْكَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا

} الآية.

تناولت هذه الآية القصة الثانية عن الموت والحياة. فقالت ما معناه: أرأيت يا محمد مثل ذلك الرجل الذي مَرَّ على قرية مات أهلها، وسقطت على سقفها: بأن سقطت العروش أولا، ثم الحيطان عليها! أو المعنى: أنه مر عليها - وهي خالية من أهلها مع بقائها قائمة على عروشها لم تنهدم ولم تسقط - فقال في نفسه متعجبًا، أو بلسان حاله:

{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} :

على معنى: كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم؟. أو كيف يرد الحياة إلى أهل هذه القرية، بعد الخراب الشامل؟!

والسؤال هنا عن كيفية الإحياء، لا عن وقوعه.

لم يَرِد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، ما يعيِّن صاحب هذه القصة، ولا اسم القرية التي مرّ عليها ذلك الرجل، لأن العبرة هنا، في إحياءِ موتاها، لا في اسمها واسم من مرَّ عليها. وإن كان بعض المفسرين قد ذهب إلى أن هذا الرجل نبي، وأنه: عزير بن شرخيا، كما ذهب إلى أن هذه القرية هي التي وردت في قصتها في الآية الكريمة: {أَلِمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ

} (1).

ولعلهم قد استندوا في ذلك إلى ماجاءَ في: العهد القديم. عن هذه القصة، فقد وردت في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر حزقيا، على نحو قريب مما جاءَ في الآية المذكورة.

وقيل: هي المؤْتفكة. وقيل: غيرها.

ونحن نفوض الأمر في علمها - وعلم أهلها - إلى علَّام الغيوب، ونسكت عما سكت عنه القرآن الكريم، ولم تشر إليه السنة النبوية المطهرة.

(1) البقرة: من الآية 243

ص: 441

قال تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} :

جعله الله ميتا مائة سنة، ثم ردَّ إليه الروح، فعادت إليه الحياة بعد تلك المدة الطويلة، وقد أعاده إلى الحياة مهيَّأً للتفكير والتدبر، بدليل هذا الحوار، وطلب منه النظر.

ولم تذكر الآية ما حدث لجثته أثناءَ هذه الفترة. أَبُلِيَتْ وتحللت. أم ظلت محتفظة بتكوينها؟

{قَالَ} له الله تعالى: {كَمْ لَبِثْتَ} ؟:

كم مكثت في رقدتك؟ والله يعلم كيف كانت هذه المساءلة. أكانت على لسان ملك جاءَ في صورة بشر، أم كانت على لسان نبي ذلك الزمان، أم كانت إلهامًا نفسيًا، كما حصل لأُم موسى عليه السلام أم كان ذلك الرجل نبيًا؟

والسؤَال لم يكن من الله لهذا الرجل مباشرة، لأنه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْيُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ

} (1). وإنما سأله الله هذا السؤال - وهو عالم بجوابه - ليظهر عجزه التام عن الإحاطة بشئون الله تعالى. بل بشئون نفسه هو، وليبين له قدرته تعالى على إحياءِ خلقه.

وقد أجاب ذلك الرجل:

{قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} :

مكثت في رقدتي هذه يومًا أو بعض يوم. ولعله قال ذلك، لأَنه لم يشاهد في نفسه، ولا في طعامه تغيرا، حتى يظن أنه مكث مدة طويلة. ولعله ظن أنه كان نائما فقدر زمنين متقاربين، من المحتمل أن يستغرق الإنسان أحدهما في نومه.

{قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} :

أي لم تلبث هذا القدر اليسير الذي ظننته. بل مكثت - ميتا - مائة عام، ليظهر الله لك قدرته على ما سألت.

(1) الشورى: منت الآية 51

ص: 442

ولهذا أمره الله أن يتدبر ويفكر، فقال:

{فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} :

والفاءُ في قوله تعالى: {فَانظُرْ} للإفصاح، لأَنها أفصحت عن شرط مقدر

بمعنى: إذا علمت أنك مكثت مائة عام ميتًا، ثم بعثت - فانظر إلى هذه الآيات البينات، وتبصر فيها. وقد أمره الله أن ينظر إلى طعامه وشرابه اللذين كانا معه لزاده - وقد مر عليهما مائة عام - ومازالا صالحين للتناول، لم يلحقهما أي تغيير، مع أن شأنهما المعتاد هو سرعة التغيير والفساد.

وذلك دليل على أن المؤثر هو الله تعالى، لا الأسباب بذاتها، ولذا تخلف تأثيرها في الطعام والشراب، اللذين مكثا مائة عام، لم يتغير فيهما شيءٌ منهما. وهذا هو موضع الاعتبار الأول. وقد أفرد الضمير المستتر في قوله:{لَمْ يَتَسَنَّهْ} مع أنه راجع إلى الطعام والشراب، لاعتبارهما غذاءً واحدًا، لتلازمهما.

{وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} :

وأمره الله أن ينظر إلى حماره، كيف نخرت عظامه، وتفرقت أوصاله. على حين بقى الطعام والشراب على حالهما لم يتغير فيهما شيٌ؟ وذلك هو موضع الاعتبار الثاني، الناطق بقدرة الله على الإحياءِ والبعث.

وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ} :

معطوف على مقدر يقتضيه المقام. أي: فعلنا ذلك من إحيائك، وحفظ طعامك وشرابك، وبِلَى عظَام حمارك، لتدرك صدق إخبارنا: أنك بقيت ميتًا مائة عام، ولنجعلك - أنت وهذه الأُمور - آية وعلامة يستدل بها الناس الموجودون - وقت بعثك - على عظيم قدرتنا على البعث، وإحياء الموتى. ويستدل على ذلك أيضًا - مَنْ يأتي بعدهم ممن يؤْمن بالوحي السماوي، الذي يروي هذه القصة.

ص: 443

ثم أمره أن ينظر نظرًا ثالثًا، فقال:

{وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} :

المراد من العظام: عظام حماره البالية المتفرقة .. طلب إليه أن ينظر كيف يعيد الله تركيبها كما كانت عليه، بعد إعادة الصلاحية لها، بأَن يرفع بعضها فوق بعض على الشكل الذي كانت عليه، قبل موت ذلك الحمار. ثم يكسوها لحما، ثم ينفخ فيه الروح فيعود كما كان جسمًا وصورة وحركة وصوتًا، ليعرف - بالمشاهدة - قدرة الله على إحياء هذه القري، التي سأل عنها متعجبًا:

{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} !!

ويرى بعض المفسرين: أن الحمار بقي حيًا لم يمت، على الرغم من مرور هذا الزمن الطويل، دون أن يأكل الحمار أو يشرب: حفظه الله حيًا كما حفظ الطعام غضًّا، والشراب سائغًا هنيئًا. وأن العظام - التي أُمر أن ينظر إلى إعادتها وكسوتها باللحم - هي عظام أهل هذه القرية التي مر عليها، وهي خاوية على عروشها، لأن التعجب الصادر منه، كان بشأن كيفية إعادة سكانها إلى الحياة!

وقيل: هو منظر عظام الأجنة، وكيفية تكوينها، ثم إكسائها باللحم، ثم سريان الحياة فيها بعد هذا التكوين.

وفي قراءة: {نَنشُرُهَا} بالراءِ أي: نبعثها، ونحييها بعد الموت. والمؤَدَّى في القراءتين واحد. فأمر الإحياء - على الصورة السابقة - يصدق فيه الانشاز والنشر. فكلاهما فيه إحياء بعد موت!.

{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :

والمعنى: فلما ظهرت أمامه هذه الآيات الثلاث، واتضح له - بالمشاهدة - كيفية إحياء الله أهل هذه القرية بعد موتهم، قرر - في ثقة وإيمان - علمه بأَن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه على كل شيء قدير، وفي جملته: إحياءُ هذه القرية بعد موتها!!

ص: 444

قال الآلوسي: والإتيان بصيغة المضارع {أَعْلَمُ} ، للدلالة على أن علمه بقدرة الله على كل شيء مستمر، لأَن أَصله لم يتغير. بل تبدل وصفه بالعيان.

فالآلوسي يرى: أن هذا السائل، كان مؤمنا بقدرة ربه على كل شيءٍ. ومن جملته: إحياءُ هذه القرية بعد موتها. وأن المعاينة لم تنشيء عنده علما جديدًا بذلك. ولهذا عبَّر بصيغة المضارع المفيد للاستمرار. وأن الذي تغيّر عنده هو وصف العلم. فبعد أن كان علما ناشئا عن استدلال، انتقل إلى علم ناشيء عن المشاهدة والعيان. فسؤَال هذا الرجل، لا يقتضي أن يكون كافرًا، لأن يقول:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} !

أي كيف يحييها؟ وذلك يشعر بعجزه عن معرفة طريقة إحياء الله تعالى للموتى بعد فناء لحومهم، وبِلَى عظامهم، وأن يبغي معرفة كيفية إحيائها. وذلك لا يدل على أنه كان كافرًا. بل الظاهر أنه مؤمن بالله. فقد نطق باسمه الكريم: فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} ؟ وإنما سأل عن كيفية الإحياء، ليراها فيزداد يقينًا بقدرة الله على رد الحياة بعد اليأس. على حدِّ قول إبراهيم عليه السلام لربه: {

رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

} (1).

ولعل اقتران القصتين، كان من أجل اشتراكهما في هذا الغرض.

أما القول بأنه كان كافرًا، فلا دليل عليه .. بل ما جرى منه في القصة، يبعد أن يجري على لسان الكافر. ففي تحريه الصدق بقوله:{لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْبَعْضَ يَوْمٍ} . ثم قوله بعد ذلك: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ما يرجح إيمانه.

هذا، ومغزى القصة: أن هذا الرجل تولاه الله، فبين له الرشد من الغي، فاستجاب لهذا التوجيه، وازداد إيمانه، ولم يركب رأسه عنادًا كالكافر المذكور في القصة السابقة.

(1) البقرة من الآية: 260

ص: 445

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}

المفرادت:

{بَلَى} : إيجاب لما بعد النفي السابق. والمراد: نعم، آمنت.

{لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : ليزداد يقينًا بالقيامة، بعد خبر الوَحْي والبرهان.

{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : أَمِلْهن واضممهن إليك.

التفسير

260 -

{وَإِذْقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى

} الآية.

هذه هي القصة الثالثة عن الموت والحياة. وهي القصة الثانية: عن إبراهيم عليه السلام.

وقد جاء ترتيب النصوص الثلاث في تناسق تصاعدي.

فالأولى: قصة كافر تبيَّنَ له الرشد من الغيِّ، فأَصَرَّ على الكفر.

والثانية: قصة رجل التمس معرفة كيفية البعث، فلما بينها الله له أقر بعلمه بقدرة الله تعالى.

والثالثة: قصة نبي زاده الحق إيمانًا وتثبيتًا.

والعبرة بأغراض القصص الثلاث، لا بالتتابع التاريخي أو الزمني.

ص: 446

ولهذا ذكرت القصة الثانية بين قصتي إبراهيم عليه السلام. قال تعالى:

{وَإِذْقَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}

والمعنى: واذكر يا محمد، حين نادى إبراهيم عليه السلام ربه، طالبا منه أن يريه - عمليًا - كيفية إحياء الموتى.

والسؤال يدل على أنه يؤمن بإحياء الموتى، ولكنه يطلب رؤية طريقة الإحياءِ عمليًا، ليزداد إيمانًا ويقينًا.

{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}

أي لقد آمنت .. فلماذا تسأل هذا السؤال؟.

{قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} :

اعْلَمْ أن الله تعالى عليم بإيمان نبيه وخليله إبراهيم، وليس بحاجة إلى استفهام عنه. لكن الحكمة في ذلك: أن يعلن إبراهيم إيمانه العميق بقدرة الله، حتى لا يتطرق إلى الأذهان، أن إبراهيم حين سأل ذلك - خطر له أي شك في الله.

فالسؤال في الحقيقة: سؤال تقرير.

ولهذا أجابه إبراهيم مؤكدا إيمانه، نافيًا عن نفسه أية خاطرة من الشك أو الارتياب.

فقال: بلى. آمنت. ثم علل سؤاله لربه بحرصه على الاطمئنان القلبي - عن طريق المشاهدة والعيان، إلى جانب طريق الوحي والبرهان - ليزداد ثباتًا فوق ثبات.

والله يثبت إيمان أنبيائه وأوليائه دائمًا فيقول: {

كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (1).

(1) الفرقان: من الآية 32

ص: 447

ويقول جل شأنه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ

} (1).

ولهذا، ثبت الله إيمان إبراهيم وطمأنه، فأراه كيف يحيي الموتى، كما سيأْتي بيانه.

{قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} :

أمره الله سبحانه، أن يأخذ أربعةً من الطير، وأن يضمهن إليه، ليتأمل في كل منها فيعرف - معرفة يقينية - مميزات كل طائر عن غيره، حتى إذا ذبحها وفرق أجزائها - مختلطة على الجبال التي حوله - ضَمَّ الله أجزاء كل طائر، وأعاده إلى ما كان عليه: جسمًا وصورة وحركة.

ويروي: أن كل طير كان من نوع يخالف نوع الآخر.

وقال أبو السعود: وناهيك بالقصة دليلا على فضل الخليل، ويُمْنِ الضراعة في الدعاء، وحسن الأدب في السؤال، حيث أراه الله تعالى ما سأل - في الحال - على أيسر ما يكون من الوجوه. ا. هـ.

ولما كانت هذه القصص الثلاث، مسوقة للدلالة على قدرة الله على بعث الموتى وإحيائهم للحساب والجزاء - ختمها مخاطبًا كل مكلف بقوله:

{وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} :

أي واعلم أيها المكلف - بعد تلك الحجج القاطعة - أن الله تعالى غالب لا يعجزه شيٌ أراده. حكيم في أفعاله.

وإذا كان الأمر كذلك، وجب الإيمان بالبعث، وإدراك الحكمة فيه، وهي: أن يجزي الله المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

(1) إبراهيم: من الآية 27

ص: 448