الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للعدو آتية من الشام إلى مكة، لم يزد حرسها على أَربعين مقاتلا.
وهو أَمر لا يستحق من الاستعداد أَكثر مما استعد به جيش المدينة عندما غادرها للاستيلاءِ على القافلة.
ولقد كان المسلمون -وخاصة المهاجرين الذين هاجروا وكل واحد منهم صفر اليدين بعد أَن صادر مشركومكة كل أَموالهم- كانوا حريصين كل الحرص على الاستيلاء على هذه القافلة الضخمة التي تتأَلف من أَلف بعير محملة بمختلف السلع والأَرزاق.
وكان الصحابة يومها في ضيق من العيش، يدل على هذا أَن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته العير وانتهى إلى بدر قال:
اللهم إنهم جياع فأَشبعهم، اللهم إنهم حفاة فأَحملهم، اللهم إنهم عراة فأَكسهم (1).
فقد كانوا يريدون العير، ولكن الله أَراد غير الذي أَرادوا، حيث وجدوا أَنفسهم (بدلا من العير وما تحمله من أَرزاق وأَموال يحلمون بالاستيلاء عليها) أَمام جيش لجب عرمرم، لا يحمل تجارة ولا أَرزاقا، وإنما يحمل أَلف سيف يجرها أَلف مقاتل من صفوة شباب مكة وأَمهر قادتها بحثًا عن الموت، فأُجبروا على خوض معركة يفوقهم فيها العدو عددًا وعدة أضعافًا مضاعفة.
غير ذات الشوكة
وهذا هو الذي عناه الله تعالى بقوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (2).
(1) فقه السيرة ص 180.
(2)
الأنفال آية 7.
لقد أَراد المسلمون أَن تكون لهم العير التي لا شوكة لها.
ولكن الله أراد أَن تكون ملحمة لا غنيمة، وأَن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويباطل الباطل ويزهقه، وأَراد أَن يقطع دابر الكافرين، فيُقتل منهم فريق ويؤسر منهم فريق، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتدول دولتهم، تخفق راية الإِسلام عالية جهارًا نهارًا، عن استحقاق لا مصادفة، وبالجهد والجهاد، لا بالمال ولا بالأَنفال.
نعم أراد الله للفئة المؤمنة أَن تصبح أُمة وأَن تصبح دولة، وأَن يصبح لها سلطان وقوة، وأَراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أَعدائها، فترجح قوتها على قوة أَعدائها. وأَن تعلم أَن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد، إِنما هو بمقدار اتصال القلوب بالقوة الكبرى، التي لا تقف لها في الأَرض قوة، وأَن يكون هذا عن تجربة واقعية، لا كلامًا ولا اعتقادًا.
لتتزود الفئة المؤمنة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله، ولتوقن أَنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أَن تغلب خصومها وأَعداءَها مهما تكن هي من القلة فيكن عدوها من الكثرة. ومهما تكن هي من ضعف القوة المادية فيكن عدوها من الاستعداد والعتاد، وما كان هذا المعنى ليستقر في القلوب كما استقر بالمعركة الفاصلة بين قوة الإِيمان، وقوة الطغيان.
وينظر الناظر اليوم وبعد اليوم ليرى الآماد المتطاولة بين ما أَراده المسلمون لأَنفسهم يومذاك ، وما أَراد لهم الله ، بين ما حسبه المسلمون خيرًا، وما قدره الله من الخير.
ينظر فيرى هذه الآماد المتطاولة، ويعلم كيف يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أَن يختاروا لأنفسهم الخير، ما لم يوفقهم الله إليه، وحين يتضررون مما يريده الله لهم، وقد يكمن وراءَه الخير الذي لا يخطر لهم ببال ولا بخيال.
فأين ما أرادوه لأنفسهم مما أراده الله لهم؟ ؟ لقد كانت تمضى - لو كانت لهم غير ذات الشوكة - قصة غنيمة .. قصة قوم أغاروا على قافلة تجارة فغنموها (فحسب).
فأَما معركة بدر فقد مضت في التاريخ كله، قصة نصر حاسم، قصة فرقان بين الحق والباطل، قصة انتصار الحق على أعدائه، المدججين بالسلاح، المزودين بكل زاد، وهو في قلة العدد، وضعف في الزاد والراحلة، قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي، بل قصة انتصار حفنة من القلوب من حولها الكارهون للقتال، ولكنها بيقينها انتصرت على نفسها، وانتصرت على من حولها وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحانًا ظاهرًا في جانب الباطل، فقلبت بيقينها الميزان، فإذا الحق راجح غالب.
إلا أن غزوة بدر بملابساتها هذه، لتمضي مثلًا في التاريخ، ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة، وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة، الأسباب الحقيقية، لا الأسباب الظاهرة المادية، ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأَجيال في كل زمان وفي كل مكان، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها، فهي آية من آيات الله، وسنة من سننه الماضية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض (1).
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب ج 6 ص 83.