الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب النصر الظاهرية
لا جدال في أن القوتين المتصادمتين في معركة بدر، قد كانتا غير متكافئتين من ناحية العدد والاستعداد والعُدد.
فقد كان عدد جيش مكة حوالي ألف مقاتل خرجوا من مكة وهم مستعدون لحرب، بينما كان عدد جيش المدينة ثلاثمائة مقاتل يزيدون قليلا، غادروا المدينة وهم على غير استعداد للحرب، إذ لم يدر بخلَدَ أحد منهم أنه سيخوض مثل هذه المعركة الرهيبة.
فما هي (إذن) أسباب النصر الرئيسية في هذه المعركة، وقد انعدمت - في جانب المسلمين - كل الأسباب المادية التي بها عادة يتم النصر في المعارك؟ .
مجمل الأسباب
يمكننا - على ضوء الاطلاع على مراحل المعركة منذ البداية - أن نلخص أسباب هذا النصر - بعد التأييد الإلهى فيما يلي:
1 -
عدم التحمس في جيش مكة .. فبالرغم من أن هذا الجيش اللجب (1) قد خرج من مكة وهو يتدفق حماسًا للقتال دفاعًا عن العير، وحفاظًا على سمعة قريش التي سيصيبها الانهيار لو أن محمدًا تمكن من الاستيلاء على تلك القافلة القرشية الضخمة، فإن هذا الجيش قد فتر حماسه للقتال عندما بلغته أَنباءُ نجاة العير من قبضة جيش النبي صلى الله عليه وسلم.
لا سيما بعد أن جاهر كثير من قادة هذا الجيش في رابغ وفي بدر
(1) اللجب -بفتح الجيم- صهيل الخيل وكثرة أصوات الأبطال، وجيش لجب، أي ذو كثرة وجلبة.
نفسها بضرورة عودته دونما اصطدام بجيش المدينة، حيث يعد أي مبرر لهذا الاصطدام بعد نجاة العير التي خرجوا لإنقاذها.
وهذا كان رأى الأَخنس بن شريق الثقفي الذي انشق على جيش مكة في رابغ ورجع بجميع حلفائه من أفراد قبيلة بني زهرة، عندما لم يصغ أبو جهل لنصحه، كما كان هذا الرأي أيضًا، رأى عتبة بن ربيعة وغيره من أشراف مكة الذين قاموا بمحاولة صادقة وهم في بدر لكى يتجنب جيش مكة خوض هذه المعركة، ونادوا علنًا داخل معسكر قريش بأنه من غير الصواب خوض معركة تصطدم فيها الأُسرة الواحدة، دونما داع لها ولا مبرر (1)، ولكنهم غلبوا على أمرهم، حيث تغليت الرعونة على الرزانة والتعقل.
وهذا يعني أن جيش مكة أو أكثره قد خاض هذه المعركة على كره منه، أو غير متحمس لخوضها على الأقل، وهذا في علم الحروب وفلسفة المعارك من أهم الأسباب التي تؤدى إلى الهزائم العاجلة.
2 -
الاعتداءُ .. لقد كانت الحروب من أكره الأشياء إلى النفوس في كل زمان ومكان، ولذا كانت الكريهة اسما من أسمائها، وكان العقلاءُ (في كل عصر) لا يخوضونها إلا لأسباب موجبة قاهرة، لأنهم يعلمون تمام العلم أن الباغى هو المصروع عادة.
ومعركة بدر هذه، كان البغي والعدوان والخيلاءُ والغطرسة باعثها الأول من جانب قادة قريش وإن شئت قل، من جانب أبي جهل السيد المشئوم المطاع.
(1) كان مما قال عتبة بن ربيعة - ناصحًا قريشًا بالعدول عن قتال محمد وصحبه - يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون شيئًا بأن تلقوا محمدًا وأصحابه، والله لأن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، لأنه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته.
فقد خرج جيش مكة وغايته الأساسية الدفاع عن ألف بعير بأحمالها، وإنقاذها من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وهذا وحده (في نظر جيش مكة) مما يسبغ الشرعية على المعركة وينفي عنصر البغي عنها، ويجعل هذا الجيش يخوضها وهو مقتنع بضرورة خوضها. ولكن هذا الجيش لما وصل إلى رابغ وهي تبعد عن مكان المعركة حوالي مائة وخمسة وعشرين ميلا بلغه نبأُ نجاة القافلة، فزال الموجب والمبرر للقتال، ونادى العقلاءُ بعودة الجيش إلى مكة من مكانه في رابغ، كما حاولوا مرة أخرى موادعة محمد صلى الله عليه وسلم (وقد تقابلوا معه وجها لوجه) والعودة إلى مكة دونما قتال، ولكن أبا جهل أصر (أمام كلا المحاولتين) على أن تخوض مكة هذه المعركة باغية معتدية، فخاضتها وكانت نتيجة يتوقعها العقلاءُ دائمًا لكل جيش يقاتل بدافع الباغي والعدوان.
3 -
العقيدة، وهي أم أسباب النصر .. لقد خاض المسلمون هذه المعركة وهم على صلة وثيقة بالله سبحانه وتعالى.
فقد خاضها كل واحد منهم وهو على يقين بأنه لا شك فائز بإحدى الحسنيين، إما الموت، وهو الشهادة التي بها يدخل الجنة ويعيش فيها عيشة أشرف وأفضل من عيشة الحياة الدنيا من جميع الوجوه (1) وإما
(1) ولقد عبر عن صدق هذه العقيدة السامية الراسخة التي لا يقف في طريق حاملها شيء، عبر عنها أصدق تعبير، عمير بن الحمام الذي كان واقفًا في الصف يوم بدر والذي قذف بتمرات من يده كان يريد أكلهن، قذف بهن وقال (بخ بخ) أفما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلى هؤلاء ثم أخذ سيفه وغاص في جيش المشركين يقاتل حتى قتل رضي الله عنه، وذلك بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخطاب الذي ألقاه على جيشه قبيل المعركة بقليل، والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم (أي المشركين) اليوم رجل صابرًا محتسبًا، مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
النصر الذي به يعود مرفوع الرأس موفور الكرامة وقد ساهم في نشر العقيدة التي في سبيل نشرها استطاب الموت واستعذب موارده.
وهذا دونما شك من أهم بواعث الروح المعنوية التي يعتبرها العسكريون (في كل زمان ومكان) من أهم العناصر التي يجب أن تتوفر في كل جيش لضمان النصر في أية معركة يخوضها.
فالعقيدة الصادقة هي مصدر الزخم والقوة لكل أُمة دخلت التاريخ من باب المجد واستوت في قمة الزمان على عرش السؤدد المقامة دعائمه على المحبة والعدل والنزاهة، وهذا هو الذي سجله التاريخ العرب (قبل غيرهم) عندما ساروا في حربهم وسلمهم على هدي العقيدة الصحيحة والمبدإ الثابت السليم الذي جاء به الإسلام.
أما المشركون فليسوا كالمسلمين - يدافعون عن عقيدة صحيحة أو يقاتلون في سبيل مبدإ سليم - وإنما يقاتلون بطرًا ورياء وسمعة وسفها (1) فحسب.
وهذا لا يمكن البتة، أن يكون باعثًا لشيء من الروح المعنوية الحقة التي هـہي العنصر الضروري الذي يجب توفره للحصول على النصر في أية معركة حربية.
فالروح المعنوية - التي معدنها الفياض العقيدة الصالحة - إذا انعدمت في جيش فإن أمل قادته في النصر على أعدائهم، الزاحفين
(1) ولا أدل على ذلك من خطاب أبي جهل الذي ألقاه في رابغ - عندما حاول العقلاء العودة بالجيش إلى مكة بعد نجاة العير - والذي قال فيه، والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فتقيم عليها ثلاثًا. فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا.
تحت لواء العقيدة الصحيحة، يكون ضعيفًا هو الذي حدث فعلًا في بدر، ويحدث غالبًا في كثير من المعارك حتى يومنا.
4 -
الأُسلوب الجديد في القتال.
لقد دخل المسلمون معركة بدر بأُسلوب جديد يعرفه العرب في تاريخهم، وقد فاجأ النبي أعداءه في بدر بهذا الأسلوب، فكان لهذه المفاجأة أثر كبير في انتصار المسلمين، ويمكن تلخيص هذا الأسلوب المبتكر فيما يلي:
1 -
القيادة
…
قال السيد اللواء الركن محمود شيت خطاب (1) في كتابه (الرسول القائد): كان النھبي صلى الله عليه وسلم هـہوالقائد الأعلى للجيش، وكان المسلمون يعملون في المعركة، كَيَدٍ واحدة تحت قيادة واحدة، يوجههم في الوقت الحاسم للقيام بعمل حاسم، وهذا هو واجب القائد الكفء.
وكان ضبط المسلمين تجاه تنفيذ أوامره مثالًا رائعًا للضبط الحقيق المتين، وإذا كان الضبط أساس الجندية، وإذا كان الجيش الممتاز
(1) الواء الركن محمود شيت خطاب من كبار ضباط الجيش العراقي، ذو نزعة إسلامية قوية، رجل صلب العود يعتبر مثالا حيًّا للثبات على العقيدة، نال من التعذيب والتنكيل من الشيوعيين في عهد قاسم ما لا يمكن البشر أن يتحمله إلا من كان على مستواه في متانة العقيدة وقوة الإيمان، والسبب في تعذيبه أنه مسلم يكفر بالشيوعية وكل مبدأ يخالف الإسلام، ظل صامدًا في وجه الشيوعية والديكتاتورية رافضًا التعاون مع قاسم طيلة حكمه حتى ثورة أربعة عشر رمضان التي كان أحد العاملين فيها، وقد شغل أخيرًا منصب وزير البلديات: يعد كتابه (الرسول القائد) من أروع ما خطته الأقلام المسلمة في تاريخ الرسول العسكري، حيث لم يسبقه أحد إلى الطريقة التي سلكها في وصف المعارك التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أثبت للقارئ (بفلسفة عسكرية شيقة) أن محمدًا -بالإضافة إلى كونه نبيًّا مرسلًا- هو أعظم قائد عسكري عرفته البشرية. أكثر الله من أمثال هذا الضابط المؤمن في رجالنا العسكريين.
هو الذي يتحلى بضبط ممتاز، فقد كان جيش المسلمين حينذاك جيشًا ممتازًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني.
إن معنى الضبط - فيما أرى - هو إطاعة الأوامر وتنفيذها بحرص وأمانة وعن طيبة خاطر.
وقد كان المسلمون ينفذون أوامر قائدهم بحرص شديد وأمانة رائعة وبشوق وطيبة خاطر، ومن حقهم أن يفعلوا ذلك لأن قائدهم يتجلى بصفات القائد المثالى.
ضبط للأعصاب في الشدائد، وشجاعة نادرة في المواقف ومساواة لنفسه مع أصحابه واستشارتهم في كل عمل حاسم.
كما أن النبي قد أنشأ له قيادة جعل مقرها رابية تشرف على ساحة المعركة وجعل لهذا المقر حرسًا بقيادة قائد مسئول (هو سعد بن معاذ).
أما المشركون فلم تكن لهم قيادة عامة، حيث كان أكثر قادة مكة مع جيش المشركين ولكن الذي يظهر أن أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة هما أبرز ما في القادة، وكان يمكن أن يكون أحدهما قائدًا عامًا لجيش مكة ، لولا الاختلاف بينهما في وجهات النظر والعداوة العنصرية التي كانت بينهما، ولهذا قاتل جيش مكة قتالا فوضويًا دونما قيادة موجهة أو تنظيم سابق.
2 -
تعبئة جديدة .. قال صاحب كتاب (الرسول القائد)(1).
طبق الرسول في مسير الاقتراب من المدينة إلى بدر، تشكيلًا جديدًا لا يختلف بتاتًا عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء.
كانت له مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة، واستفاد من دوريات
(1) ص 77.
الاستطلاع للحصول على المعلومات، وتلك هي الأساليب الصحيحة لتشكيلات مسير الاقتراب في حرب الصحراء.
أما في المعركة فقد قاتل المسلمون بأُسلوب (الصفوف) بينما قاتل المشركون بأُسلوب الكر والفر، ولابد لنا من بيان الفرق بين الأُسلوبين، لمعرفة عامل من أهم عوامل انتصار المسلمين.
القتال بأُسلوب الكر والفر، هو أن يهجم المقاتلون بكل قوتهم على العدو، النشابة منهم (1) والذين يقاتلون بالسيوف ويطعنون بالرماح مشاة وفرسانًا، فإن صعد لهم العدو أو أحسوا بالضعف نكصوا، ثم أعادوا تنظيمهم وكروا، وهكذا يكرون ويفرون حتى يكتب لهم النصر أو الفشل.
والقتال بأُسلوب الصفوف، يكون بترتيب المقاتلين صفين أو ثلاثة أو أكثر، على حسب عددهم، وتكون الصفوف الأمامية من المسلحين بالرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف المتعاقبة الأُخرى من المسلحين بالنبال لتسديدها على المهاجمين من الأعداء.
وتبقى الصفوف في مواضعها بسيطرة قائدها، حتى يفقد زخم المهاجمين (2) بالكر والفر شدته .. عند ذلك تتقدم الصفوف متعاقبة. للزحف على العدو.
يظهر من ذلك أن أسلوب الصفوف يمتاز على أسلوب الكر والفر بأنه يؤمن الترتيب (بالعمق) فتبقى دائمًا بيد القائد قوة احتياطية يعالج بها المواقف التي ليست بالحسبان، كأن يصد هجومًا مقابلا للعدو أو
(1) النشابة: هم الذين يرمون بالقوس.
(2)
الزخم: الدفع الشديد.
يضرب كمينا لم يتوقعه أو أن يحمى الأجنحة التي يهددها العدو بفرسانه أو بمشاته ثم يستثمر الفوز بالاحتياط من الصفوف الخلفية عند الحاجة.
إن أُسلوب الصفوف يؤمن السيطرة على القوة بكاملها، ويؤمن احتياطًا للطوارئ ويصلح للدفاع والهجوم في وقت واحد، أما أسلوب الكر والفر (1)(وهو ما سارت عليه قريش في حربها يوم بدر) فيجعل القائد يفقد السيطرة ولا يؤمن له أي احتياط للطوارئ.
ويقول اللواءُ الركن (محمود شيت خطاب) إن تطبيق الرسول لأُسلوب الصفوف في معركة بدر، عامل مهم من عوامل انتصارهم على المشركين، والتاريخ العسكري يخبرنا بأن انتصار القادة العظام - كالإسكندر وهنيبال قديمًا، ونابليون ومولتكهـ ورومل ورنشتد حديثًا، هو أنهم طبقوا أُسلوبًا جديدًا في القتال غير معہروف، أو قاتلوا بأسلحة جديدة غير معروفة. اهـ.
وهكذا صار للخطة التي ابتدعها الرسول في التعبئة وسار عليها في حربه يوم بدر وامتاز بها على المشركين الذين لم يسبق لهم أن ساروا على مثلها في شيء من حروبهم، صار لها أثر كبير في انتصار المسلمين في هذه المعركة.
هذه الأسباب الأربعة (في نظرنا) هي - الناحية العسكرية - أهم الأسباب التي أدت إلى هزيمة المشركين في هذه المعركة، تلك الهزيمة الساحقة التي بها بدأ الانهيار في صرح دولة الشرك .. وحققت للمسلمين ذلك النصر الرائع الذي به دخل المسلمون التاريخ من بابه الخالد.
(1) أسلوب الكر والفر هو الأسلوب المتبع عند الهنود الحمر بأمريكا.