المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قال العراقي: فتبين أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل قال العراقي: فتبين أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة

‌فصل

قال العراقي: فتبين أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة.

جوابه أن يقال:

ليست هذه علامة على الخوارج والمروق من الدين، فإن جمهور الغلاة من أهل الأهواء يتأولون بعض الآيات التي أريد بها أهل الكفر والشرك في أهل السنة والجماعة، والعلامة تطرد وتنعكس، كما في حديث:"آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" ولا يصح هنا طردها ولا عكسها.

وهب أنها علامة كما زعمتـ فمن يثبت لك إيمان عباد القبور؟ بأي كتاب أم بأية سنة تحكم على أنهم من المؤمنين، ومن عباد الله الصالحين؟ بينك وبين إثبات هذا ما يدفع في صدرك؛ ويكبك على أمّ رأسك، من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجل دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي".

وإنما قيل: علامة أهل الشرك وعباد الأولياء والصالحين: تسمية الرسل وأتباعهم من أهل الإسلام صابئة، كما قاله أبو جهل وأبو لهب وغيرهما من كفار قريش؛ والصابئ بمعنى الخارجي والمعتزلي في عرفهم، فإن الصابئة في الأصل اسم لمن فارق ما عليه جمهور الناس في الديانة، وكان أهل الكفر وأصحاب المذاهب الضالة يرون أنهم أحق بالصواب، وأولى بالآثار والكتاب.

ص: 69

قال تعالى حاكيا عن اليهود والنصارى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:111ـ112] فهذه الآية كما وردت على اليهود والنصارى وأخرجتهم من الوعد والإثابة، فهي رد على عباد القبور والصالحين المستغيثين بغير الله، الداعين لسواه، لأن إسلام الوجه لله وإحسان العمل قد تخلف عنهم وفاتهم.

فما أحسن أحكام القرآن، ما ألطف خطابه وما أهناه وأشفاه في كل مقام وعند كل شبهة وخصام، قال تعالى:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] وأي هدى وأي سلطان وأي حجة على دعاء الصالحين مع الله، والاستغاثة بهم في الشدائد والكربات؟ هذا لم تأتِ به شريعة، ولم يقل بجوازه صاحب عقل يميز أقواله وصنيعه.

وما سيمر بك من الشبه العراقية من جنس شبه القرامطة والباطنية، على ما يزعمونه من الطريقة الخبيثة الكفرية، وسيأتيك رده مفصّلاً إن شاء الله تعالى.

وقوله: إن قول الشيخ وأتباعه: "لا يعبد إلا الله" من جنس قول الخوارج: "لا حكم إلا لله" وأنه يقال لهم ما قيل لأولئك: هذه كلمة حق، ولكن أين من يعبد غير الله، إذا كان مسلماً ناطقاً بالشهادتين يصلي ويزكي ويحج؟

والجواب أن يقال:

الخوارج مخطئون ظالمون فيما نقموا به على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الصّحابة ما حكموا سوى القرآن، وإنما الرجال يحكمون بالقرآن، فالتبس الأمر على الخوارج، ولم يفهموا أن جميع الأحكام الشرعية إذا صدرت عما في الكتاب والسنة فهما الحاكمان، ولا ينسب الحكم إلى الرجال إلا بقيد، وجاءت السنة بأن الطاعة في المعروف، وهو ما أمر الله به ورضيه من الواجبات

ص: 70

والمستحبات. وإنما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم، وكذلك سوالف البادية وعاداتهم الجارية. فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر. قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44]، وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين: أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر، لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم يتنازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة.

إذا عرفت هذا عرفت وجه قول أمير المؤمنين في مقالة الخوارج: لا حكم إلا الله "إنها كلمة حق أريد بها الباطل" وأما قول المسلم الحنيفي: لا يعبد إلا الله، فهي كلمة حق أريد بها حق؛ لأنّ دعاء الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم وتعلق القلوب بهم محبة ورجاء وخوفاً وطمعاً، هو العبادة بالإجماع. وقد مرّ لك أنهم صرفوا من العبادات لمعبوداتهم جميع ما يستحقه ذو العرش المجيد تقدس اسمه جل ذكره.

فإذا قال الجاهلون عباد القبور: فأين من يعبد غير الله؟

قيل لهم: أنتم وأمثالكم من عباد القبور والصالحين جمهور من سكن الغبراء وأظلته الخضراء، لا سيما أهل العراق عباد علي والحسين والكاظم وعبد القادر والحسن والزبير وأمثالهم من الأولياء والصالحين. ولست أعني خصوص الرافضة، بل عبادة القبور والصالحين ليس من خصوص الرافضة في هذه الأزمان، وفي بلاد الفرس ومصر والشام من عبادة القبور ودعائها وجعلها أنداداً لله ربّ العالمين ما لا يخفى على من عرف الإسلام، ولكن قد تقدم غير مرة التنبيه على جهل هذا الرجل وأمثاله بالمسميات والحدود، وعندهم أن العبادة مجرد السجود، مع أنه قد وقع منهم أيضاً لأهل القبور، ولكنهم يكابرون في الحسيات، وقد صار من يدعي العلم وينتسب إليه في كثير من البلدان دعاة إلى الشرك والتوسل بدعاء الصالحين وتعظيمهم برفع القبور وتشييدها واتخذاها

ص: 71

مساجد، والتوجه إلى من فيها والطواف بقبره، وبعض علمائهم يحتج على تركها مرفوعة أو على رفعها وبنائها بحديث:"سدوا عني كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر" فانظر هذا الجهل المتناهي، جعلوا القباب التي هي من وسائل الشرك وأفعال الجاهلية من جنس ما يخص به العبد الصالح من ترك خوخة أو نحوها في جدار المسجد. والذي هو نص في المسألة لا يقبل التأويل حديث أبي الهياج: أن علياً قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً إلا سوّيته" والحديث أشهر من أيذكر وقد عمل به الإمام المفضل الأكبر. ومع هذا فلا يعرجون عليه في الاستدلال، ولا يبالون بما فيه من الأمر الواضح بهدم أماكن الجهل والضلال. وما ذاك إلا لأنّهم نشأوا في حجر عباد القبور وحزبهم؛ وغذوا بلبان جهلهم وكفرهم، وألفته طباعهم وأنست به أوضاعهم، ولولا ذلك لما قيس رفع القباب وإبقاؤها على المقابر على إبقاء خوخة الصديق، وترك سدّها، مع عدم الاشتراك في العلة والمناط، وبعد ما بينهما وتباينه.

وأما قوله: إذا كان مسلماً ناطقاً بالشهادتين إلى آخره.

فقد تقدم لك أنه لا يشترط في التكفير أن يكفر المكلف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة ـ والعياذ بالله ـ أن يأتي بما يوجب ذلك، ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من أهل كل مذهب، وهو من عجيب جهل العراقي وأمثاله؛ لأنه يعرفه المبتدئون في الفقه والعلم، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر والردة فعليه بما صنف في ذلك، كالإعلام لابن حجر الهيتمي، وما عقده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة السنية: لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه، مع عباداته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه،

ص: 72

حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية (النساء:171) ، وعلى بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذغوا فيها واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر الصحابة. وقصتهم معروفة عند العلماء. وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه. فإن تاب وإلاّ قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو صورهم ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية3)، ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: من الآية18) ، فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الاسراء: 56 ـ 57) . قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فأنزل الله هذه الآية. ثم ذكر آيات في المعنى. انتهى.

والمقصود منه: أنه جعل عباد القبور من شر الخوارج المارقين، فهم شر أصناف الخوارج، وقد توقف بعض السلف في تكفير الخوارج، قيل لعلي: أكفار هم؟ قال: من الكفر فرّوا.

وعباد القبور ما رأيت أحداً من أهل العلم الذين يرجع إليهم توقف في كفرهم، غاية ما قالوا: لا يقتل حتى يستتاب، أو لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة أو نحو هذا الكلام.

ص: 73