المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قال العراقي: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهم من - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل قال العراقي: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهم من

‌فصل

قال العراقي: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهم من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين ـ وأطال الكلام في الخوارج، وذكر بعض النصوص فيهم مع تصرف وعدم تحقيق ومعرفة للنقل ـ إلى أن قال ـ: فتبين لك أن علامة الخوارج تنزيلهم آيات القرآن النازلة في الكفار على المؤمنين من أهل القبلة. ولهذا ما ترى أحداً من أهل السنة يتفوه بذلك ولا يكفر أحداً، ومنشأ هذه البدعة من سوء الظن واتباع العقل ـ ثم ذكر حديث اعتراض ذي الخويصرة التميميّ على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قال له، ثم ذكر قول الخوارج:"لا حكم إلا لله" وقال بعده: وكذلك إخوانهم في هذا الزمان يقولون: "لا يعبد إلا الله" فنقول: صدقتم هذه كلمة حق، ولكن أين الذي يعبد غيره إذا كان مسلماً ناطقاً بالشهادتين، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج.

والجواب أن يقال:

إن الأحاديث والآثار التي جاءت بها السنة وصحت بها الأخبار في شأن الخوارج ووصفهم وذمهم، فهي معروفة مشهورة عند أهل العلم بالحديث والآثار، وقد ساقها مسلم في صحيحه من نحو عشرة أوجه، وهذا العراقي ليس من رجال هذا الشأن ولا يحسن الحكاية والنقل، ولا تمييز له بين مرفوعها وموقوفها، وصحيحها وسقيمها وغيره.

ص: 36

يوضحه قوله: والخوارج هم كما في البخاري ومسلم وغيرهما من سائر كتب الحديث أناس عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.

فهذا كلام غبي غوي لا يدري الصناعة ولا يعرف ما في تلك البضاعة، فإن هذا اللفظ ليس مرفوعاً باتفاق، وليس في سائر كتب الحديث والسنن الأربعة وصحيحي البخاري ومسلم، ليس فيها هذا اللفظ، فكلامه كلام جاهل بصناعة الحديث وروايته ولسنا بصدد بيان جهله وإفلاسه من العلوم، وإنما المراد كشف شبهه وردها.

وحاصل مقصوده ونقله: تشبيه أهل الإسلام والتوحيد بالخوارج في تكفيرهم من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله؛ لأن عباد القبور عنده أهل سنة وجماعة، وأهل الإسلام من جنس الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة، هذا حاصل إسهابه ومضمون خطابه، لكنه أطال بما لا طائل تحته.

ونحن نتكلم على بدء أمر الخوارج وحقيقة مذهبهم، ثم نتكلم على مذهب عباد القبور وما هم عليه، ثم نتبع ذلك بفصل نافع في بيان حال الشيخ محمد رحمه الله وتقرير مذهبه، وما كان عليه في المعتقد والدين، ليعلم الواقف على ما قررناه حقيقة المذاهب، وحاصل العقائد، فيما وقعت فيه الخصومة فنقول:

اعلم أنه لما اشتد القتال يوم صفين قال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان: هل لك في أمر أعرضه عليك، لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم، قال: نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبها، فتكون فرقة فيهم، فإن قبلوا رفعنا القتال عنا إلى أجل، فرفعوا المصاحف بالرماح، وقالوا: هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم. من لثغور

ص: 37

الشّام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس: قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعلم بهم منكم، والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة. قالوا: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، وقال لهم علي: إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله ونسوا عهده. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء: يا علي أجب إلى كتاب الله عز وجل إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان، فلم يزالوا به حتى نهى الناس عن القتال، ووقع السباب بينهم وبين الأشتر وغيره ممن يرون عدم التحكيم. فقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً، فجاء الأشعث بن قيس إلى علي، فقال: إن الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، إن شئت أتيت معاوية، قال على: ائته، فأتاه، فسأله لأي شيء رفعوا المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه، تبعثون رجلاً ترضون به، ونبعث رجلاً نرضى به، فنأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوان عنه، فعاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا. فقال أهل الشام: رضينا عمرو بن العاص، وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعريّ فراودهم علي على غيره، وأراد ابن عباس، فقالوا: والله لا نبالي أنت كنت حكمها أم ابن عباس، ولا نرضى إلا رجلاً منك ومن معاوية سواء، وألحوا في ذلك وأبوا غير أبي موسى، فوافقهم علي كارهها، وكتب كتاب التحكيم (1)، فلما قرئ الكتاب على الناس سمعه عروة بن أدية أخو أبي بلال. فقال: تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله، وشد بسيفه فضرب دابة من قرأ الكتاب، وكان ذلك أول ما ظهرت الحرورية الخوارج وفشت العداوة بينهم وبين عسكر علي، وقطعوا الطريق في إيابهم بالشتائم والتضارب بالسياط، تقول الخوارج: يا أعداء الله

(1) كان ذلك يوم الأربعاء 13 صفر من سنة 37 من الهجرة، على أن يوافي الحكمان بدومة الجندل في رمضان من هذه السنة.

ص: 38

داهنتم في دين الله. ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا. ولم يزالوا كذلك حتى قدموا العراق، فقال بعض الناس من المتخلفين: ما صنع علي شيئاً، ثم انصرف بغير شيء. فسمعها علي، فقال: وجوه قوم ما رأوا الشام، ثم أنشد:

أخوك الذي إن أحوجتك ملمة

من الدّهر لم يبرح ببابك واجما

وليس أخوك الذي إن تشعبت

عليك الأمور ظل يلحاك لائما

فلما دخل الكوفة ذهبت الخوارج إلى حروراء فنزل بها اثنا عشر ألفاً على ما ذكره ابن جرير (1)، ونادى مناديهم: إنّ أمير القتال شبث بن ربعي التميميّ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكريّ، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلما سمع ذلك علي وأصحابه قامت إليه الشيعة، فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. قالت لهم الخوارج: أسبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، أهل الشام بايعوا معاوية على ما أحب؛ وأنتم بايعتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى، يريدون أن البيعة لا تكون إلا على كتاب الله وسنة رسوله، لأن الطاعة له تعالى، وقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط على يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم خالفتموه جاءت شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. ونحن كذلك وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل.

وبعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل:{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} الآية [النساء: من الآية35] فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؟

قالوا له: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم. وما حكم هو فيه فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني

(1) في الجزء السادس من التاريخ في حوادث سنة 37هـ.

ص: 39

مائة جلدة، وفي السارق قطع يده فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: من الآية95] .

قالوا: تجعل الحكم في الصيد والحرث وما يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدل عندك عمرو بن العاص، وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا بعدول. ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجل وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحربه أن يقتلوا أو يرجعوا. وقبل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله فأبوه؟ ثم كتبتم بينكم وبينهم كتاباً، وجعلتم بينكم وبينهم الموادعة وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.

فجاء علي وابن عباس يخاصمهم فقال: ألم أكن نهيتك عن كلامهم حتى آتيك؟ ثم تكلم رضي الله عنه فقال: اللهم هذا مقام من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة وقال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء، فقال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين، فقال: أنشدكم الله أتعلمون أنهم حينما رفعوا المصاحف فقلتم نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين، وذكّرهم مقالته، ثم قال: وقد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالفه، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء.

قالوا: فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.

قالوا: فخبرنا على الأجل لماذا جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، فادخلوا مصركم رحمكم الله.

فدخلوا من عند آخرهم.

ص: 40

فلما جاء الأجل وأراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي، وحُرقوص بن زهير السعدي، فقالا له: لا حكم إلا لله، وقالا له: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربّنا.

فقال علي: قد أردتكم على ذلك فصيتموني. قد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً، وشرطنا شروطاً، وأعطينا عهوداً. وقد قال الله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: من الآية91] .

فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه.

قال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز في الرأي وقد نهيتكم عنه.

قال زرعة: يا علي لئن حكّمت الرجال لأقاتلنّك، أطلب بذلك وجه الله.

فقال له علي: بؤساً لك، وما أشقاك، كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح.

قال: وددت لو كان ذلك. وخرجا من عنده يقولان: لا حكم إلا لله.

وخطب علي ذات يوم فقالوها في جوانب المسجد. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغني عنه. اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إذهان في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عمّا قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صليا.

وخطب علي يوما آخر، فقال رجال في المسجد: لا حكم إلا لله، يريدون بهذا إنكار المنكر على زعمهم. فقال علي: الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل، أما إن لكم علينا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا، وإنا ننتظر فيكم أمر الله. ثم عاد إلى مكانة من الخطبة.

ص: 41

ثم إن الخوارج لقي بعضهم بعضاً واجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبيّ، فخطبهم وزهّدهم في الدّنيا، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة. فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع في هذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك. فلا تدعونكم بزينتها وبهجتها إلى المقام بها. ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم. فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فقال حمزة بن سنان الأسدي: يا قوم إن الرّأي ما رأيتم: قالوا: ولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها. فعرضوا ولايتهم على زيد بن حصين الطائي وعلى حرقوص بن زهير وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبوها، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فراراً من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال فكان يقال له ذو الثفنات، فاجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسيّ، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها وننفذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها؛ ونأخذ بأبوابها ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا، فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعوكم، ولكن اخرجوا وحداناً مستخفين. فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا بجسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي، فكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم ليعلمهم ما اجتمعوا عليه ويحثهم على اللحاق بهم فأجابوه. فلما خرجوا صار شريح بن أوفى العبسي يتلو قوله:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} إلى {سَوَاءَ السَّبِيلِ} وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم إلى عامل على أمير المدائن يحذره، فحذر، وضبط الأبواب، واستخلف عليها المختار بن أبي عبيد وخرج بالخيل في طلبهم، فأخبر ابن وهب خبره، فسار على بغداد ولحقهم سعد بن مسعود

ص: 42

بالكرخ في خمسمائة فارس، فانصرف إليهم ابن وهب الخارجي في ثلاثين فارساً له. فاقتتلوا ساعة وامتنع القوم منهم، فلما جن الليل على ابن وهب عبر دجلة وسار إلى النهروان، وصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وتفلت رجال أهل الكوفة يريدون الخوارج، فردهم أهلوهم. ولما خرجت الخوارج من الكوفة عاد أصحاب علي وشيعته إليه. فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي. فقال له: أبايع على سنة أبي بكر وعمر؟ فقال علي: ويلك، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه، ونظر إليه فقال: أما والله لكأني بك قد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك قد وطئتك الخيل بحوافرها، فكان ذلك وقتل يوم النهر مع خوارج البصرة.

وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل وجعلوا عليهم مسعر بن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي فلحقهم بالجسر الأكبر، فتوافقوا حتى حجز دونهم الليل وأدلج مسعر بأصحابه، وسار حتى لحق بابن وهب.

فلما انقضى أمر التحكيم وخدع عمرو بن العاص أبا موسى وصرح عمرو بولاية معاوية بعد أن عزل أبو موسى علياً بخدعة عمرو وهرب أبو موسى إلى مكة قام علي فخطبهم، وقال في خطبته: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم. وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين ـ يعني أبا موسى وعمرو بن العاص ـ وفي هذه الحكومة أمري ونحلتكم رأي، لو كان لقصير أمر، ولكن أبيتم إلا ما أردتم. فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

ص: 43

ألا إنّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنة ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين.

وكتب للخوارج من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس، أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمين قد خانا كتاب الله واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله فلم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكماً. فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه والسلام.

فكتبوا إليه: "أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك. فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء. إن الله لا يحب الخائنين".

فلما قرأ كتابهم أيس منهم ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى قتال أهل الشام. فقام في أهل الكوفة فندبهم إلى الخروج معه وخرج معه أربعون ألف مقاتل وسبعة عشر من الأبناء وثمانية آلاف من الموالي والعبيد.

وأما أهل البصرة فتثاقلوا ولم يخرج إلا ثلاثة آلاف. وبلغ عليا أن الناس يرون قتال الخوارج أهم وأولى، فقال لهم علي: دعوا هؤلاء وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكاً ويتخذوا عباد الله خولاً.

فناداه الناس: أن سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت.

ثم إن الخوارج استعر أمرهم وبدأوا بسفك الدماء وأخذوا الأموال وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوه سائراً بامرأته على حمار فانتهروه وأفزعوه ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم، قالوا حدثنا عن أبيك خباب

ص: 44

حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله ينفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً" قالوا: لهذا سألناك. فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً، فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقاً في أولها وآخرها. وأشد توقيّاً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة فأخذها أحدهم فقذف بها في فمه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها، ثم مر بهم خنزير فضربهم أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير وهو من أهل الذمة فأرضاه، فلما ذلك ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما رأى فما علي من بأس، إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، ولقد أمنتموني قلتم: لا روع عليك، فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا على المرأة فقالت: إنما أنا امرأة، ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنه وقتلوا أم سنان الصيداوية وثلاثاً من النساء، فلما بلغ ذلك عليّاً بعث الحارث بن مرة العبدي يأتيه بالخبر فلما دنا منهم قتلوه، فألح الناس على عليّ في قتالهم، وقالوا: نخشى أن يخلفونا في عيالنا وأموالنا فسر بنا إليهم، وكلمه الأشعث بمثل ذلك، واجتمع الرأي على حربهم، وسار علي يريد قتالهم فلقيه منجم في مسيره فأشار عليه أن يسير في وقت مخصوص، وقال: إن سرت في غيره لقيت أنت وأصحابك ضرراً شديداً، فخالفه علي، فسار في الوقت الذي نهاه عنه المنجم. فلما وصل إليهم قالوا: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا نقتلهم ونترككم. فلعل الله يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه. فقالوا: كلنا قتلهم: وكلنا مستحل لدمائهم ودمائكم. وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فقال: عباد الله أخرجوا إلينا طلبتنا منكم وادخلوا في

ص: 45

هذا الأمر الذي خرجتم منه، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيماً من الأمر، تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين.

فقال له عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا فلسنا متابعيكم، أو تأتونا بمثل عمر. فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ قالوا: لا. قال: نشدتكم الله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لا أرى الفتنة إلا وقد غلبت عليكم.

وخطبهم أبو أيوب الأنصاري فقال: عباد الله إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إن بايعناكم اليوم حكّمتم غداً، فقال: إني أنشدكم الله لا تجعلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في القابل قابل.

وأتاهم علي رضي الله عنه فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاج وصدها عن الحق والهوى، وطمح بها، وأصبحت في الخطب العظيم. إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غداً، صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضاب هذا الغائط، بغير بينة من ربكم ولا برهان مبين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، ونبأتكم أنها مكيدة وأن القوم ليسوا بأصحاب دين، فعصيتموني. فلما فعلتم أخذت على الحكمين واستوثقت أن يحييا ما أحييا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب، فنبذنا أمرهما، فنحن على الأمر الأول، فمن أين أتيتم؟.

قالوا: إنا حكّمنا فلما حكّمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت فنحن معك ومنك، فإن أبيت فإنا منابذوك على سواء.

قال علي: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم وابر، بعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله أشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.

وقيل: كان كلامه: يا هؤلاء إن أنفسكم قد سولت لكم فراقي بهذه

ص: 46

الحكومة التي أنتم ابتدأتموها، وأنا لها كاره، وأنبأتكم أن القوم إنما طلبوها مكيدة ووهناً، فأبيتم عليّ إباء المخالفين، وعدلتم عني عدول عيب النكد العاصين، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم، وأنتم معاشر أخفاء إلهام، سفهاء أحلام، فلم آتي ـ لا أبا لكم ـ حراماً والله ما خبلتكم عن أموركم، ولا أخفيت شيئاً من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا دنيت لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهراً، فأجمع رأي مثلكم أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بالحق ولا يعداونه، فتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، والتقية دينهماـ حتى خالفا سبيل الحق وأتيا بما لا يعرف فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا، وتضعون سيوفكم عن عواتقكم ثم تستعرضون الناس تضربون رقابهم؟ إن هذا لهو الخسران المبين. والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرام؟

فتنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة.

فرجع علي عنهم، ثم إنهم قصدوا جسر النهر، فظن الناس أنهم عبروه.

فقال علي: لن يعبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، والله لا يقتلون منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة.

فتعبأ الفريقان للقتال: ورفع علي راية أمان مع أبي أيوب، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، فانصرف فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة فارس، وخرجت طائفة أخرى متفرقين، فبقي مع عبد الله بن وهب ألفان وثمانمائة، فزحفوا إلى علي، وبدأوه بالقتال، وتنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة، فاستقبلهم الرماة من جيش علي بالنبل والرماح والسيوف، ثم عطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة؛

ص: 47

وعليها أبو أيوب الأنصاريّ، وعلى الرجالة أبو قتادة الأنصاري، فلما عطفت عليهم الخيل والرجال وتداعا عليهم الناس ما لبثوا أن أناموهم، فأهلكوا في ساعة واحدة، فكأنما قيل لهم موتوا فماتوا. وقتل ابن وهب وحرقوص وسائر سراتهم، وفتش علي في القتلى والتمس المخدّج الذي وصفه له النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الخوارج، فوجده في حفرة على شاطئ النهر، فنظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى، فلما رآها علي قال:"الله أكبر، والله ما كذبت ولا كذبت، والله لولا أتنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم متصبّراً في قتالهم، عارفاً للحق الذي نحن عليه" وقال حين مرّ بهم وهم صرعى: "بؤساً لكم، لقد ضرّكم من غرّكم" قالوا: يا أمير المؤمنين، من غرّهم؟ قال:"الشيطان، ونفس أمارة بالسوء غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون" هذا ملخص أمرهم.

وقد عرفت شبهتهم التي جزموا لأجلها بكفر علي وشيعته، ومعاوية وأصحابة، وبقي معتقدهم في أناس متفرقين بعد هذه الوقعة، ثم اجتمعت لهم شوكة ودولة فقاتلهم المهلب بن أبي صفرة، وقاتلهم الحجاج بن يوسف، وقاتلهم قبله ابن الزبير زمن أخيه عبد الله، وشاع عنهم التكفير بالذنوب، يعني ما دو نالشرك.

وبهذا تعرف حقيقة الحال، ويزول الإشكال الذي نشأت منه الشبهة، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في نونيته:

ومن العجائب أنهم قالوا لمن

قد دان بالآثار والقرآن

أنتم بذا مثل الخوارج إنهم

أخذوا الظواهر، ما اهتدوا لمعان

وهذا داء قديم من أهل الشرك والتعطيل: من كفّر بعبادتهم غير الله وتعطيل أوصافه وخقائق أسمائه، قالوا له: أنت مثل الخوارج، يكفرون بالذنوب ويأخذون بظواهر الآيات.

ص: 48

ومعلوم أن الذنوب تتفاوت وتختلف، بحسب منافاتها لأصل الحكمة المقصودة بإيجاد العالم، وخلق الجن والإنس، وبحسب ما يترتب عليها من هضم حقوق الربوبية، وتنقص رتبة الإلهية، وقد كفّر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من جنس الذنوب كالشرك وعبادة الصالحين وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أكبر الكبائر، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك". فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الآية [الفرقان: 68] ".

فمن أنكر التكفير جملة فهو محجوج بالكتاب والسنة. ومن فرّق بين ما فرّق الله ورسوله بينه من الذنوب، ودان بحكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في الفرق بين الذنوب فقد أنصف، ووافق أهل السنة والجماعة، ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجّة، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، كما حكاه في الأعلام لابن حجر الشافعي.

ص: 49