المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل واستدل العراقي على دعواه أن عباد القبور لا يكفرون بقوله - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل واستدل العراقي على دعواه أن عباد القبور لا يكفرون بقوله

‌فصل

واستدل العراقي على دعواه أن عباد القبور لا يكفرون بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: من الآية94) ، وزعم أن سبب نزول هذه الآية قتل رجل كافر كان قصده الإسلام، ولم يتلفظ بالشهادة. قال: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة المحمدية وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت، ولم يكن نية فاعلها إلا خيراً، وهذه الأشياء التي يكفرون بها ما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلاً عن التكفير بها.

والجواب أن يقال:

زعمه أن سبب النزول قتل رجل كافر كان قصده الإسلام ولم يتلفظ بالشهادة فهو كذب بحت، وقول على الله وعلى كتابه بغير علم. وفي الحديث:"من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" وفي رواية: "برأيه" وهذا الرجل لا يتحاشى الكذب والترويج على الجهال. قال البيضاوي: " {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} لمن حياكم بتحية الإسلام. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة: {السلم} " وفسّره البيضاوي بالاستسلام والانقياد، وفسر به السّلام أيضاً، وجزم بأنه استسلم وانقاد للإسلام على القراءتين. وقال في قوله:{لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: من الآية94) : "أي إنما فعلت ذلك متعوّذاً، فظهر أنه أظهر لهم الإسلام، وإنما أتوه من جهة ظنهم عدم صدقه". وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن بكير

ص: 74

وحسين بن محمد وخلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: "مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسوق غنماً، فسلم عليهم. فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية". وقال أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد قال: "بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أضم مرَّ بنا عامر بن الأضبط على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبرناه نزل فينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: "كان رجلاً مؤمناً يخفي إيمانه مع قوم كفار فقتله كذلك كنت تخفي إيمانك بمكة" وهذه الجملة الأخيرة من الحديث رواها البخاري في صحيحه تعليقاً.

وبهذا يتبين جهل العراقي وكذبه، وجميع كلامه من أول كتابه إلى آخره من هذا القبيل ظلمات بعضها فوق بعض.

وأما قوله: فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة وعلمائها ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبهة أوهن من بيت العنكبوت؟

فجوابه: أن خيار الأمة وعلماءها لم يكفرهم أحد من أهل الإسلام،

ص: 75

لا من أهل نجد ولا غيرهم، حتى إن المخالف في أصل الملة كاليهودي والنصراني والمجوسي والوثني لا يكفرهم، بل غايته أن يعتقد أنه على حق وأنهم أخطأوا في إنكار دينه وتكفيره، والخوارج كفّروا بعض خيار الأمة، وبعض العلماء لم يطلقوا تكفير الخيار والعلماء. هذا لا يُعرف عن أحد ولا ادّعاه أحدٌ قبل العراقي. لكنه جاهل يخفى عليه ما في عبارته من العموم المستفاد من الإضافة، وأظنه يريد بعض من ينتسب إلى الدين والعلم من عباد القبور. ولذلك قال: بتوسلهم ودعاء الصالحين، وعبادتهم عنده توسل لا يكفر فاعله. وقد تقدم الكلام على ردّ هذا. ويأتي له مزيد بحث وأن التوسل صار مشتركاً، وهو في عرف عباد القبور يستعمل في دعاء الصالحين وعبادتهم، وبيان التكفير بذلك وما يستدل به عليه قد مرّ بعضه ويأتيك عند كلام العراقي عكس القضية فسمى عباد القبور خيار الأمة وعلماءها، وسمّى أهل الإسلام والتوحيد الذين لا يدعون مع الله آلهة أخرى خوارج، يكفرون خيار الأمة!. ومن وصل به الجهل إلى هذه الغاية والحد فقد استحكم عليه الضلال، وفقد إدراكه وإحساسه، ولا علاج له غير الاطراح والتضرع بين يدي الله في أوقات الإجابة وتحري الأدعية الواردة النبوية أن يرده الله إلى الرشد. ولا سبيل إلى ذلك مع اعتقاد أنه من أهل العلم والفضل والدين، وأنه يصلح معلما ومربيا وداعياً.

وقوله: بشبهة هي أوهن من بيت العنكبوت.

إن كان يريد ما استدل به المسلمون أهل التوحيد من الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية في المنع من دعاء الأولياء والصالحين، وتحريم عبادتهم بالحب والخضوع والتوكل والدعاء والنسك والرجاء، ونحو ذلك من العادات، فتسميته أدلة ذلك وأدلة تكفير فاعله: شبهة أوهن من بيت العنكبوت: صريح في كفره؛ لمسبته لآيات الله وحججه وبياته، ولا يخفى كفر فاعل ذلك على أحد من المسلمين، قال تعالى فيمن قال ما دون ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من القرّاء:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية (التوبة: من الآية65) ، فكفرهم بما لا

ص: 76

نسبة بينه وبين كلمة العراقي، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والمسلمون يحتجون على مثل هذه المسائل بمثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية (البقرة: من الآية21)، وقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)، وقوله:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} الآية (يونس: من الآية106)، وقوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآية (الاسراء:56)، وقوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون:117)، وقوله:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18)، ونحو ذلك كثير. وبقوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" والقول المراد هنا الصادر عن علم بمعناها وانقياد لأصول مقتضاها، لا كما ظنّه عباد القبور من أن مجرد اللفظ يكفي مع المخالفة الظاهرة، وعباد الأولياء والصالحين، فإن شهادتهم والحالة هذه وقولهم شبيه بشهادة المنافقين برسالة سيد المرسلين، وقد مرّ لك ما فيها.

وبالجملة: فأدلة تحريم دعاء الصالحين من دون الله لا يمكن حصرها ولا تستقصى، وقد قال هذا الملحد: إنّها شبهة أوهن من بيت العنكبوت، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} (الكهف: من الآية5) .

وأما قوله: هذه الأشياء وما أجمعت الأمة على تحريمها، فضلاً عن التكفير بها.

فهذا مبلغ علمه ومنتهى إيمانه وفهمه، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.

فيا منكراً هذا تأخر، فإنه

حرام على الخفاش أن يبصرالشمسا

ونقول: اجتمعت الأمة على تحريم هذا وعلى كفر فاعله إجماعاً ضرورياً، يعرف بالضرورة من دين الإسلام، وبتصور ما جاء به الرسل، واتفاق دعوتهم، فإن كل رسول أول ما يقرع أسماع قومه بقوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: من الآية59) ، كما تقدمت أدلة ذلك.

قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية

ص: 77

الحراني رحمه الله ورضي عنه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعاً.

قال شارح الإقناع من كتب الحنابلة منصور بن يونس البهوتي المصريّ: لأنه فعل عابدي الأصنام، قائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية (الزمر: من الآية3) ، نعم عباد القبور يخالفون في هذا، كما يخالف الخارجيّ فيما اجتمعت عليه الأمة من عدم التكفير بالذنوب التي دون الشرك، وكما يخالف القدري أهل السنة في تكفير غلاتهم، وكما يخالف الجهمي معطل الصفات في تكفيره وتبديعه، وكما ينازع الحلولي والاتحادي في التكفير بمذهبه الخبيث، ومن نسب إلى الشيخ رحمه الله تكفير أحد من أهل الإسلام والتوحيد فهو من أعظم الناس كذباً وبهتاناً وافتراءً وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين، بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (لأعراف:152) .

ص: 78