المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قال ابن جرجيس: النقل الثلاثون: "قال الشيخ في هذا الكتاب - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل قال ابن جرجيس: النقل الثلاثون: "قال الشيخ في هذا الكتاب

‌فصل

قال ابن جرجيس: النقل الثلاثون: "قال الشيخ في هذا الكتاب في موضع آخر: "وإذا اعتقد وجوب بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً أو كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده، واستفراغ وسعه في معرفة الحق، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له" انتهى.

والجواب أن يقال:

كلام الشيخ في الحكم بين الناس والقضاء فيما بينهم من الخصومات، لا فيما يعم أصول الدين، ودعاء الأموات، وسياق كلام الشيخ صريح في هذا، فإن هذه المسألة معروفة مشهورة، كما قال ابن عباس:"كفر دون كفر، وظلم دون ظلم" عند الكلام على قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44] .

وقوله: وإن جهل حكم الله فيها ـ إلى آخر العبارة: دليل على أن الكلام في المسائل الاجتهادية، فأين هذا من دعاء الأموات، والاستغاثة بغير الله؟ مع أن الشيخ قد قرّر على حديث القضاة ثلاثة: أن الجاهل الذي ليس له أهلية اجتهاد داخل في الوعيد، كما هو نص الحديث. فالعراقي ملبوس عليه، لا يفهم كلام الشيخ ومع ذلك فالهوى قد أعمى بصيرته، وحال بينه وبين الفهم، فسبحان من طبع على قلبه:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59] .

ص: 255

ثم قال العراقي: "النقل الحادي والثلاثون ـ وساق كلام ابن القيم في أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعدواة من وجهين مختلفين. ويكون فيه إيمان ونفاق، وإيمان وكفر، ويكون أحدهما أقرب منه إلى الآخر، فيكون من أهله؛ قال الله تعالى:{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: من الآية167]، وقال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] أثبت لهم الإيمان مع مقارنة الشرك، فإن كان مع الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله، ولو كان معهم تصديق برسله وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا يخرجهم من الإيمان بالرسل، فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر، وشركهم قسمان: جلي، وخفي، فالخفي قد يغفر.

والجواب أن يقال:

أي دليل في هذا على مسألة النزاع؟ فإن مراد الشيخ كما يعلم من تقريره وأول عبارته أن النفاق الأصغر وبعض شعبه، قد يوجد في شخص مع وجود بعض شعب الإيمان، وكذلك الكفر العملي الذي لا يخرج عن الإسلام قد يوجد مع بعض شعب الإيمان، ويكون أحدهما أقرب إليه وأولى به، وقوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} تفيد أن الشرك قد يوجد مع الإيمان بالربوبية، كما فسرها بعض السلف، لكنه لا يخفى في النجاة، بل لا بدّ من عبادة الله وحده لا شريك له. ولذلك قال الشيخ: فإن كان مع الشرك تكذيب للرسل لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله، ولو كان معهم تصديق للرسل، وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا يخرجهم من الإيمان. فهم مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر، فهذا الشرك الخفي، كما يدل عليه قوله، وأما الجلي فلا يغفر إلا بالتوبة وهذا كله لنا، مبطل لما ذهب إليه العراقي، ولكنه لا يفرق بين الشرك الأكبر والأصغر، ولا يتعقل معاني ما يقول:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصّبابة إلا من يعانيها

قال العراقي: النقل الثاني والثلاثون، قال الشيخ ابن تيمية في اقتضاء

ص: 256

الصراط المستقيم، وفيه أي في حديث أبي ذر وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن فيك لخصلة جاهلية" إن الرجل قد يكون مع علمه وفضله ودينه فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية، ويهودية، ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه.

وزعم العراقي أن هذا يفيد أن الشيخين لو أطلقا لفظ الكفر والشرك على فعل واحد، فمرادهما الكفر المجازي أو الأصغر. وهذا مع اعتراف الفاعل بالحق وعدوله عنه، وأما مع بذل الوسع والاجتهاد، فهو عندهم مأجور، ولو كان مخطئاً.

والجواب أن يقال:

تبّاً لهذا العراقي، وما أضله عن سواء الطريق. وما أجهله بكلام أهل الفضل والتحقيق، وما أكذبه على الله وعلى رسوله، وعلى أهل العلم والتصديق.

وأما قوله: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن فيك لخصلة جاهليّة" فهذا كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول ما قال هذا. وإنما قال:"إنّك امرؤ فيك جاهليّة" وهكذا رواه من خرّجه من أهل الدواوين الإسلامية. وشيخ الإسلام لم يقل هذا، بل أورده كما جاء من غير تحريف ولا تبديل. والعراقي ليس من أهل الصنعة بل هو ضال غبي، لا عناية له بهذا الشأن. والله المستعان.

وفرق بين النسبة إلى الجاهلية واليهودية والنصرانية، وبين إطلاق الكفر والشرك على الفاعل. فإن شعب الجاهلية ونحوها ليست كلها مكفرات، ولا يقال: إن تعيير الرجل بأمّه كفر، ويقال: هو جاهليّة. وكذلك أكل الرّشاء هو من اليهودية ولا يلزم أن يكون فاعله كافراً، والكفر والشرك هما أكبر الذنوب على اختلاف أنواعهما ولا كذلك التعيير بالأم ونحوه، مما ينسب إلى الجاهلية، مما دون الشرك والكفر.

وقوله: وأما مع بذل الوسع والاجتهاد والتقليد فهو عنده مأجور ـ فهذا القول مما يستبين به جهل العراقي، وسوء فهمه، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم عاب هذا على

ص: 257

أبي ذر، ولم يقل أحد من أهل العلم، ولا قاله عن نفسه: إنه مأجور، ولا أدخل هذه المسألة في مسائل الاجتهاد، وأي اجتهاد في التعيير بالأم؟ وقد قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: من الآية13] وهذا ضرب من الناس هم أعداء النصوص والعقول والفطر، قد استهوتهم الشياطين، وأزعجتهم إلى تبديل دين الله والكذب على أوليائه، ومعاداة حزبه و {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] .

قال العراقي: النقل الثالث والثلاثون: "قال الحافظ ابن رجب في شرح كلمة الإخلاص: "والإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً ورجاءً، وتوكلاً وسؤالاً ودعاءً، ولا يصلح ذلك كله إلا لله. فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأشياء التي هي من خصائص الإلهية. كان ذلك قدحاً في إخلاصه، وقدحاً في توحيده وهذا كله من فروع الشرك. ولهذا ورد إطلاق الكفر والشرك على كثير من المعاصي التي منشؤها من غير طاعة الله، أو خوفه أو رجائه أو التوكل عليه أو العمل لأجله، كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله. ولهذا أطلق الشارع على أكثر الذنوب التي منشؤها من هوى النفس إنها كفر وشرك، كقتال المسلم، ومن أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، ومن شرب الخمر في المرة الرابعة، وإن كان ذلك لا يخرج من الملة بالكلية، ولهذا قال السلف كفر دون كفر وشرك دون شرك" انتهى.

قال العراقي: والمقصود من هذا النقل قوله: إن هذه الأشياء من خصائص الألوهية، وأنه نقص في توحيده، وهذا كله من فروع الشرك، ويطلق عليه الكفر، ومع ذلك قال آخر العبارة: وإن كان ذلك لا يخرج عن الملة بالكلية، وإنه ليس بكفر وشرك مخرجين عنها، بل دون ذلك، وهذا على مذهبه اتباعاً للشيخين وأنه تلميذهما.

والجواب أن يقال:

هذا النقل ليس فيه ما يتمسك به المبطل، فإن كلامه صريح في أن الإله هو الذي يقصد بهذه الأمور، مع أن النقل اعتراه ما اعترى أمثاله من

ص: 258

التحريف، وإسقاط بعض الكلام المتصل، وترك ما فيه مما يرد على هذا العراقي ويبطل دعواه.

من ذلك: أنه حذف بعد قول المصنف: كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ـ فأسقط قوله: في قول لا إله إلا الله؛ لأنّ كلامه صريح في أن ما تقدم من العبادات صرفه لغير الله قدح في إسلام الفاعل، وقوله: لا إله إلا الله، وهذا قولنا بعينه، فأسقط حذراً من قيام الحجّة، وكذلك أسقط بعد قول المصنف ـ وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك ـ وكذلك أسقط قوله: "وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنّفع والضّر، كالطيرة والرقي المكروهة، وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون. وكذلك أتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه، قادح في تمام التوحيد ـ.

كلّ هذا أسقطه العراقي، وكذلك قوله: وقد أطلق الشارع على أكثر الذنوب، فهذا تحريف، والعبارة: على كثير من الذنوب، وأسقط: وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع. قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: من الآية23] ، وأسقط ما ساق الشيخ من الأحاديث وكلام السلف.

وأسقط قول الشيخ: فدل على أن كل من أحب شيئاً أو أطاعه، وكان من غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله وعادى لأجله فهو عبده، وذلك الشيء معبوده وإلهه. ويدل عليه أيضاً أن الله سمي طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان. كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يّس: من الآية60]، وقال حاكياً عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال لأبيه:{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] إلى غير ذلك مما في الرسالة من الفوائد الرادة عليه المبطلة لإفكه وضلاله، ولم أر من بلغ هذه الغاية في الكذب والتحريف وتغيير العبارات، بحذف بعضها ونقل بعضها، وتبديل كلام أهل العلم اللهم إلا ما حكى الله عن اليهود، وما جاءت به السنة من أوصافهم، فهم سلف العراقي وأئمته الأولون.

ثم عباة الشيخ ابن رجب تشهد لكلام شيخنا رحمه الله، فإن قوله:

ص: 259

"وإن كان ذلك لا يخرج عن الملة بالكلية ـ ليس راجعاً إلى كلّ ما ذكر، بل هو راجع إلى قوله: ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي منشؤها من اتباع هوى النّفس أنها كفر وشرك، كقتال المسلم ومن أتى حائضاً إلى آخر عبارته، وهذا بين بحمد الله. وليس المقصود أن دعاء الموتى ومحبتهم مع الله وحوفهم ورجائهم ونحو ذلك يكون شركاً دون شرك، هذا لا يفهمه كلامه، ولا يدل عليه بوجه، فإن ابن رجب أعلم بالله ودينه من أن يتكلم بهذه الفضيحة التي لا يقولها مسلم.

ورأيت على النسخة التي رفعت إليّ عن هذا العراقي على قول ابن رجب: "والإله هو الذي يطاع فلا يعصى" إلى آخره، ما نصه: لا يلزم أن هذه الأشياء إذا استعملت في غير الله أن يكون غيره إلهاً، كما تتوهمه الخوارج المكفرون للأمة المحمدية، وهذا إذا كانت موجودة في غير أمر الشرع باستعمال هذه الأشياء معه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بطاعته كقوله:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: من الآية59] وكذلك التعظيم والإجلال في قوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: من الآية9] وكذا غير ذلك، كما في الكتاب والسنة مما بينته في غير هذا الكتاب، فلا يهولنّك ما في حنك العبارة، فإنه اصطلاح لابن تيمية وذويه. انتهى.

فالظاهر أن هذا من كلام العراقي، لأن ألفاظه ركيكة، وتركيبه مظلم ينادي بأنه تركيب جاهل، وهكذا كلام العراقي ليس له لسان طالب علم حتى في التعبير.

وجواب هذا أن يقال:

التعريف للإله من حيث هو: ولذلك أشرك من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وسمى الشارع معبودهم إلها. قال الله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يّس:74]، وقال:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86] ونحو ذلك كثير في القرآن وقال في القاموس: أله يأله إلهة وألوهية: عبد يعبد عبادة

ص: 260

وعبودية. وكل من عبد شيئاً فقد اتخذ إلهاً. فإن كان قصد غير الله بالطّاعة والهيبة والإجلال والمحبة والخوف والرجاء، والتوكل والسؤال والدعاء لا يصيره إلها، فإن هذا وهم للخوارج المكفرين لهذه الأمة فليهن قوم نوح وعاد وثمود، وقوم فرعون ومشركي أهل الكتاب والعرب هذا الحكم الذي نفى به العراقي عنهم اتخاذ إله مع الله، ولو صدر منهم ما صدر من العبادات لغير الله، الله أكبر. ما أغفل هذا العرقي وما أجهله. فإن عوام المشركين من أهل الكتاب والأميين يعلمون أن من عبد شيئاً فقد اتخذه إلها. قال قوم نوح:{لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: من الآية23]، وقالت عاد:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [لأعراف: من الآية70] ، ،قالت قريش:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [صّ: من الآية5]، فكل هؤلاء المشركين وأمثالهم يعلمون أن الإلهية تدور مع هذه العبادات حيث دارت. وهذا الثور الكبير يقول: لا يلزم أن هذه الأشياء إذا استعملت في غير الله أن يكون هذا الغير إلها، فعلى عقله التباب والعفاء، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وأما قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: من الآية92] فطاعة الرسول طاعة للمرسل، فهي طاعة لله من أجل الطّاعات. قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: من الآية7] وكذلك ألو الأمر من العلماء والأمراء، إذا أمروا بالمعروف يطاعون تبعاً لطاعة الله ورسوله.

وأما التعزير والتوقير فالمقصود منه ما يليق بالمنصب الشريف النبوي، وليس المقصود ما يختص بمقام الربوبية، ويدخل في تعريف العبادة، ولو قيل ذلك للزم جواز عبادته صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران: من الآية80] والأرباب هنا هم المعبدون.

وقوله: فإنه اصطلاح لابن تيمية وذويه ـ يطلعك على جهل العراقي وعدم معرفته بنصوص أهل العلم؛ فإنّ هذا التعريف مجمع عليه لا ينازع فيه مسلم فضلاً عن عالم.

ثم قال العراقي: النقل الرابع والثلاثون: قال ابن القيم في المدارج:

ص: 261

"قلت: أما المستحل فذنبه دائر بين الكفر والتأويل، فإنه إن كان عالماً بالتحريم فكافر، وإن لم يكن عالماً فمتأول أو مقلد".

والجواب: إن هذا تقدم، فذكره محض تكرير، وتقدم أن الكلام في الأحكام التي يحكم بها الحكام بين الناس، فالمستحل للحكم بغير ما أنزل الله كافر إن كان عالماً بالتحريم، وإلا فمتؤول أو مقلد، وهذا القسم فيه تفصيل كما تقدم فيما نقلناه عن ابن القيم نفسه رحمه الله.

ثم قال العراقي: النقل الخامس والثلاثون في الكتاب المذكور: "وكفر الجحود كفران: كفر مطلق، ومقيد خاص، فالمطلق أن يجحد جملة ما أنزل الله ورسالة الرسول، والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام، أو محرماً من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبراً أخبر الله به يجحد ذلك عمداً، أو تقديماً لقول متبوعه عليه، لغرض من الأغراض، وإن كان جحد ذلك جهلاً أو تأويلاً يعذر صاحبه فلا يكفر، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، مع هذا فقد غفر له الله ورحمه بأهله، إذ كان الذي فعل هو مبلغ علمه. ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً وتكذيباً.

والجواب أن يقال:

هذا من جنس ما قبله، وقد تكرر الجواب عنه، وتقدم أن الجاهل والمتأول لا يعذر إلا مع العجز، ولذلك قيده الشيخ ابن القيم بقوله: تأويلاً يعذر صاحبه، فليس كل تأويل وكل جهل يعذر صاحبه. وليس كل ذنب يجري التأويل فيه ويعذر الجاهل به، وقد تقدم أن عامّة الكفار والمشركين من عهد نوح إلى وقتنا هذا جهلوا وتأولوا، وأهل الحلول والاتحاد كابن عربي وابن الفارض والتلمساني وغيرهم من الصوية تأولوا، وعبّاد القبور والمشركون الذين هم محل النزاع تأولوا، وقالوا: لا يدخل على الملك العظيم إلا بواسطة، وقالوا إذا تعلقت روح الزائر بروح المزور فاض عليها مما ينزل على روح المزور، كما ينعكس شعاع الشمس على المرايا والصور.

ص: 262

والنصارى تأولت فيما أتته من الإفك العظيم والشرك الوخيم، فقاتل الله العراقي ما أعظم جهله، وما أشد عداوته لتوحيد الله وعباده المؤمنين.

وفي العبارة التي نقلها عن ابن القيم وتقسيمه الكفر إلى مطلق وخاص مقيد: ما يرد على هذا العراقي في زعمه أن عباد القبور مسلمون، كما قال إخوانه من الضالين، محتجين بأنهم يؤذنون ويصلون ويصومون، ولم ينظروا إلى ما معهم من الكفر الخاص والضلال البعيد، والعراقي كعنز السوء تبحث عن حتفها بظلفها.

فكان كعنز السوء قامت بظلفها

إلى مدية تحت التراب تثيرها

قال العراقي: في النقل السادس والثلاثين، قال ابن القيم في المدارج: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق، والحلف بغير الله ـ إلى أن قال: ومن أنواعه: سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه: النذر لغير الله، ومن أنواعه: الخوف من غير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره، ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بنفسه، فهذا صريح كلامه: أن الاستغاثة بالموتى وطلب الحوائج منهم، والنذر لغير الله، والسجود لغيره، والحلف بغيره، كل هذا من نوع الشرك الأصغر عندهم، لا الأكبر المخرج من الملة، وهم شرطوا أنه إنما يكون محرماً إذا يكن فاعله مجتهداً ولا مقلداً ولا مؤولاً، ولا له شبهات يعذره الله فيها، ولا جاهلاً، ولا له حسن قصد، كما تقدم عن الشيخين في عدة نقول.

والجواب أن يقال:

من زعم أن هذا النوع الذي هو السجود للشيخ والنذر والتوكل والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من عند غيره، وطلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم: من الشرك الأصغر فهو من أجهل الناس بدين الله وأضلهم عن سبيله، وكلام الشيخ لا يدل على هذا وليس

ص: 263

فيه ما يتمسك به المبطل، فإنه لما عد الشرك الأصغر وفرغ من المقصود منه قال: من أنواع الشرك، وهذا رجوع إلى ما ذكر من الشرك الأكبر، ويدل عليه أو الكلام والسياق.

وقال رحمه الله: أما الشرك فهو نوعان أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. وهو أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد ربّ العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش لا ينكر ذلك. ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده. وهكذا كان عباد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهما اتخذوها من البشر (1)، قال تعالى حاكياً عن أسلاف هؤلاء:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: من الآية3] ، فهذه حال من اتخذ من دون الله أولياء، يزعم أنهم يقربونه إلى الله زلفى، وما أعزّ من تخلص من هذا، بل ما أعزّ من لا يعادي من أنكره.

والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع عند الله لهم (2) ، وهذا عين الشرك وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له.

(1) الذي لا شك فيه أن الأولين لم يتخذوا آلهتهم من الحجر إلا على أنها تمثل أولياءهم ومعتقديهم من البشر، ولذلك سماها الله أولياء، وقال {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [لأعراف: من الآية194] ، فالشرك في كل زمان واحد وإن اختلفت الأسماء، وقد صرّح بذلك الإمام ابن القيم في غير موضع من كتبه.

(2)

وما قام هذا في نفوسهم إلا بما أوحى إليهم شياطينهم: أن أولياءهم من نور الله الذي فاض منه سبحانه وتعالى، وأنهم بهذا صاروا من جنسه ولهم صفاته وخصائصه من الحياة والسمع والبصر والقدرة وغيرها. وأن لهم بذلك دالة عليه، كأبناء الملوك وأقاربهم وهم لذلك يسمونهم أهل الله، ومن هنا كان دعاؤهم إياهم ولجوءهم وعبادتهم، وهو الشرك القديم=

ص: 264

ثم ذكر الشيخ رحمه الله فصلاً طويلاً في تقرير هذا الشرك الأكبر. ولكن تأمل قوله: "وما أعزّ من تخلص من هذا، بل ما أعزّ من لا يعادي من أنكره" يتبين لك إن شاء الله بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد، إذ زعم أن كلام الشيخ في هذا الفصل ـ أعني الفصل الأول ـ في الشرك الأكبر، وذكر الآية التي في سورة سبأ:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: من الآية22]، وتكلم عليها ثم قال:"والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنون في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثاً، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، كما قال عمر: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وهذا لأنه لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وما ذمه وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة يرى ذلك عياناً، والله المستعان.

وهذا بعينه فعل عباد القبور، وهم المقصود بهذا الكلام، بل شركهم انتهى إلى توحيد الربوبية والأفعال، يعرف ذلك من عرف القوم وما هم عليه من الكفريات الشنيعة، إذ يزعمون أن لأوليائهم الرفع والخفض والقبض والبسط.

وقال ابن القيم في كلامه على هدم اللات في كتاب الهدي: "وكان يفعل عندها ما يفعل عند هذه المشاهد، من النذر لها والتبرك بها، والتمسح بها وتقبيلها، واستلامها، هذا كان شرك القوم بها، ولم يكونوا يعتقدون أنها خلقت السموات والأرض بل كان شركهم بها كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه".

فقف وتأمل هل يكون هذا في الشرك الأصغر؟!.

=والوثنية في كل عصورها تتلون بألوان مختلفة، وحقيقتها واحدة لأنها من وحي واحد هو وحي الشيطان. كما أن التوحيد واحد عند كل رسول لأنه من وحي الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ص: 265