المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل: وأما من يأتى إلى قبر نبي أو رجل صالح، أو - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل: وأما من يأتى إلى قبر نبي أو رجل صالح، أو

‌فصل:

وأما من يأتى إلى قبر نبي أو رجل صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، يسأله ويستنجد به فهذا على ثلاث درجات:

إحداها: أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضى دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.

وإن قال: أنا أسأله لأنه أقرب إلى الله منى ليشفع لى في هذه الأمور؛ لأنى أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، ولذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي} [الزمر: 3]، وقد قال سبحانه:{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء ـ إلى قوله ـ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44]، وقال تعالى:{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]، وقال تعالى:{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . فبين الفرق بينه وبين خلقه. فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشفيع، فيقضى حاجته؛ إما رغبة، وإما رهبة، وإما حباً وإما مودة، وإما غير ذلك، والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه، والأمر كله له.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: " لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لى إن شئت،

ص: 178

اللهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له ". فبين أن الرب لا يفعل إلا ما يشاء، ولا يكرهه أحد على ما يختاره، كما قد يكره الشافع المشفوع إليه، وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه وآذاه. فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8] . والرهبة يجب أن تكون منه قال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، وقال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] . وقد أمرنا أن نصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.

وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله منى، وأنا بعيد من الله لا يمكن أن أدعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك هو من قول المشركين، فإن الله تعالى يقول:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . وقد روى: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: "يارسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية ". وفي الصحيح: "أنهم كانوا في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريباً، إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي} [الزمر: 3] .

ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على إجابة سؤالك أو أرحم بك من ربّك، فهذا جهل وضلال وكفر. وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم، فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخارى وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا هَمَّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إنى أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك

ص: 179

تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى في دينى ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاقْدُرْه لى، ويسره لى، ثم بارك لى فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لى في دينى، ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاصرفه عنى، واصرفنى عنه، واقْدُرْ لى الخير حيث كان، ثم رضِنى به".

وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى منزلة عند الله منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه: أن يثيبه ويعطيه، ليس معناه: أنك إذا دعوته كان الله يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت، فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبي أو الصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يبغضه الله، وإن لم يكن كذلك، فالله أولى بالرحمة والقبول منه.

وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيب لي إذا دعوته أنا، فهذا هو:

القسم الثانى وهو: ألا يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له. كما يقول للحى: ادع لى، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم، الدعاء، فهذا مشروع في الحى كما تقدم، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولا نحو ذلك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل الذى ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر استسقى عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون ". ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله، ادع لنا واستسق لنا، ونحن نشكوا إليك ما أصابنا، ونحو هذا. لم يقله أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة، ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، ثم إذا أرادوا الدعاء له لم يدعوا الله مستقبلى القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع.

وذلك أن في الموطأ وغيره عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اللهم لا تجعل

ص: 180

قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وفي السنن أيضاً أنه قال:" لا تتخذوا قبرى عيداً، وصلُّوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى ". وفي الصحيح أنه قال في مرضه الذى لم يقم منه: " لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا". قالت عائشة رضي الله عنها: "ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً ". وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك ". وفي سنن أبي داود أنه قال: " لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ".

ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المساجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئاً من الأشياء، لا من درهم، ولا زيت، ولا شمع، ولا حيوان، ولا غير ذلك، كله نذر معصية. وقد ثبت في الصحيح عن صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ". واختلف العلماء: هل على الناذر كفارة يمين؟ على قولين؛ ولهذا لم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة، ولا أن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في تلك البقعة، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند قبر، كان قبر نبي أو صالح سواء سميت [مشاهد] أو لم تسم.

وقد شرع الله ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء، فقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114]، ولم يقل: في المشاهد. وقال تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا "، وقال صلى الله عليه وسلم: " من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً

ص: 181

في الجنة ". وأما القبور فقد ورد نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك، وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين، وما ذكره البخارى في صحيحه والطبرى وغيره في تفاسيرهم، وذكره وَثِيمَة وغيره في قصص الأنبياء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ، قالوا: "هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثليهم أصناماً ". والعكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد ".

ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم على ألا يتمسح به، ولا يقبله، بل ليس في الدين ما شرع تقبيله إلا الحجر الأسود. وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: "والله، إنى لأعلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت الرّسول يُقَبِّلك ما قَبَّلتك ".

ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركنى البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر النبي صلى الله عليه وسلم لما كان موجوداً، فكرهه مالك رحمه الله وغيره؛ لأنه بدعة، وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر فعله. وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك أنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين.

وهذا مما يظهر منه الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وسلم والرجل الصالح في حياته، وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد إذا كان في حضوره، فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والصالحين لا يتركون أحداً يتبرك بهم بحضورهم، بل ينهونهم عن ذلك، ويعاقبونهم عليه، ولهذا قال المسيح عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا

ص: 182

أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال: "ما شاء الله وشئت": " أجعلتنى لله نداً؟ ! ما شاء الله وحده "، وقال:" لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد ". ولما قالت الجويرية: "وفينا رسول الله يعلم ما في غَدٍ. قال: " دعى هذا، وقولى ما كنت تقولين ". وقال:" لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله "، ولما صفوا خلفه قياما، قال:" لا تعظمونى كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا "، قال أنس:"لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه، وقال: " إنه لا يصلح السجود إلا لله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها ". ولما أتى عليٌّ بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار.

فهذا شأن أنبياء الله تعالى وأوليائه، وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً، كفرعون ونحوه، ومشائخ الضلالة الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد، والفتنة بالأنبياء والصالحين، واتخاذهم أرباباً، والإشراك بهم إنما يحصل في مغيبهم ومماتهم، كما أشرك النصارى واليهود بالمسيح وعزير.

فهذا مما يبين الفرق بين السؤال للنبي والصالح في حياته وبحضوره، وبين سؤاله في مماته ومغيبه، ولهذا لم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعى التابعين يتحرون الصلاة والدّعاء عند قبور الأنبياء والصالحين ويسألونهم، ولا يستغيثون بهم، لا في مغيبهم، ولا عند قبورهم، وكذلك العكوف.

ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل برجل ميت أو غائب، كما ذكره السائل، ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدى فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم الناس بقدره وحقه هم

ص: 183

أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك؛ لا في مغيبه، ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب، فإن الكذب مقرون بالشرك، قال تعالى:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30: 31] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عَدَلت شهادة الزور الإشراك بالله " مرتين، أو ثلاثاً. وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]، وقال الخليل عليه السلام:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 86: 87] .

فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه: إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وإن كشف غطاؤه رده عليه، وإن أي شيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخاً. وقد تغويهم الشياطين، كما تغوى عبّاد الأصنام كما كان جرى للعرب في أصنامها، ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر، كما يجرى للترك، والهند، والسودان، وغيرهم من أصناف المشركين؛ من إغواء الشياطين لهم ومخاطبتهم ونحو ذلك. فكثير من هؤلاء من يجرى له نوع من ذلك، سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين تتنزل عليهم، فتصيب أحدهم بمثل ما يصيب المصروع: من الأرعاد، والأزباد، والصياح المنكر، ويكلمه بما لا يعقله هو والحاضرون، وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.

وأما القسم الثالث: وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عبدك، أو ببركة فلان عبدك، أو لحرمة فلان عبدك، افعل كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغنى عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد العز بن عبد السلام. فإنه أفتى: بأنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى هذا الاستثناء أنه قد روى النسائى والترمذى وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: " اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا رسول الله، إنى أتوسل بك إلى ربى في حاجتى ليقضيها لى.

ص: 184

اللهم، فشفعه في ". فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل به دعاء للمخلوقين، ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة بالله، لكن فيه بجاهه، كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أنه يقول:" اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشراً ولا بطرا ً، ولا رياءً ولا سمعةً. خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".

قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه، وبحق ممشاه إلى الصلاة، والله تعالى قد جعل على نفسه حقاً، قال تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، ونحو قوله:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا} [الفرقان: 16] . وفي الصحيحين عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرى ما حق الله على العباد؟ ". قال: الله ورسوله أعلم، قال:"أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم ". وقد جاء في غير حديث: " كان حقاً على الله كذا وكذا " كقوله: " من شرب الخمر لم يقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد وشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخَبَال " قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال:" عصارة أهل النار "، وأمثال ذلك كثير.

وقالت طائفة: ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وبعد مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره، كما في صحيح البخارى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، فقال:"اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون ". وقد بين عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.

وذلك التوسل: أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، فيتوسلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك: "أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحواً من دار القضاء، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم

ص: 185

يخطب، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال:"يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل. فادع الله سبحانه أن يغيثنا. قال: فرفع الرسول يديه ثم قال: اللهم أغثنا. قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزع، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار إلا طلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً. قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكها عنا، قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: " اللهم، حوالينا ولا علينا اللهم على الآكَام والظِّرَاب وبُطُون الأودية ومَنَابِت الشجر ". قال: وأقلعت فخرجنا نمشى في الشمس". ففي هذا الحديث: أنه قال: "ادع الله لنا يمسكها عنا". وفي الصحيح: أن عبد الله بن عمر قال: "إنى لأذكر قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:

وأبيض يُسْتَسقى الغَمام بوجهه

ثِمَال اليتامى عِصمة للأرامل.

فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه كما كانوا يتوسلون به، ولم يتوسلوا به ويستسقوا به بعد موته، ولا في مغيبه ولا عند قبره، وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجُرَشى، وقال:"اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا. يا يزيد، ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ودعا، ودَعْوا، فسقوا ". ولذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير، فإذا كان من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء، ولا في غيره من الأدعية. والدعاء مُخُّ العبادة، والعبادة مبناها على النية والاتباع، وإنما يعبد الله بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقال تعالى:{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور ".

ص: 186

وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئا فاستغاث بشيخه، يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع، فهذا من الشرك الأكبر، وهو من جنس دين النصارى؛ فإن الله هو الذى يصيب بالرحمة ويكشف الضر، قال تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]، وقال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} الآية [فاطر: 2]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40: 41]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56: 57] . فبين أن كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا.

وإذا قال القائل: أدعو الشيخ ليكون لي شفيعا، فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان. والمؤمن يرجو ربه ويدعوه مخلصا له الدين، وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه؛ فإن أعظم الخلق قدراً النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره، وأطوع الناس له، ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الخوف أو الفزع أن يقول: يا سيدى، يا رسول الله، ولم يكونوا يفعلون ذلك في محياه ولا في مماته، بل كان يأمرهم بذكر الله ودعائه والصلاة والسلام عليه، قال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ـ إلى قوله ـ عَظِيمٍ} [آل عمران173، 174]، وفي صحيح البخارى عن ابن عباس:"أن هذه الكلمة قالها إبراهيم حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم". وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ". وقد روي أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته. وفي السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث َه أمر قال: " يا حى، يا قيوم، برحمتك أستغيث ". وروي أنه علم ابنته فاطمة عليها السلام أن تقول: "يا حى، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى كله، ولا تِكَلْنى إلى نفسى طَرْفَة عين، ولا

ص: 187

إلى أحد من خلقك ". وفي مسند أحمد وصحيح أبي حاتم لن حبان عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حَزَن فقال: اللهم إنى عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيتى بيدك، ماضٍ في حكمك، عَدْل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سَمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم رَبِيع قلبى، ونور بصرى، وجلاء حُزّنى، وذهاب هَمِّى وغمى، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحا ". قال: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن؟ قال:" ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن ". وقال لأمته: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يُخَوِّف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وذِكْر الله، والاستغفار ". فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة، ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم.

ومثل هذا كثير في سنته، لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر الله به؛ من دعاء الله، وذكر الله والاستغفار، والصلاة، والصدقة، ونحو ذلك. فكيف يعدل المؤمن بالله ورسوله عما شرع الله ورسوله إلى بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، تُضَاهى دين المشركين والنصارى؟ ! .

وإن زَعَم أحدٌ أن حاجته قضيت بمثل ذلك، فأنه مثل له شيخه ونحو ذلك، فعباد الكواكب ونحوهم من أهل الشرك يجرى لهم نحو هذا، كما تقدم، وقد تواتر عمن مضى من المشركين، وعن المشركين في هذا الزمان. ولولا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها، قال الخليل عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35، 36] .

ويقال: إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة " عمرو بن لُحِىِّ الخزاعى "،الذى رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعاءه في النار. وهو أول من سَيَّب السوائب، وغَيَّر دين إبراهيم. قالوا: إنه ورد الشام، فوجد فيها أصناما يزعمون أنهم ينتفعون بها في جَلْب منافعهم ودفع مضارهم، فنقلها إلى مكة، وسَنَّ للعرب الشرك وعبادة الأصنام.

ص: 188

والأمور التى حرمها الله ورسوله، من الشرك، والسحر، والقتل، والزنا وشهادة الزور، وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات، قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة، أو دفع مَضَرَّة، ولولا ذ لك ما أقدمت نفس على المحرمات التى لا خير فيها بحال، وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل أو الحاجة. فأما العالم بقبح الشىء والنهى عنه فكيف يفعله؟ ! والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيها من الفساد، وقد تكون بهم حاجة إليها، مثل الشهوة إليها، وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجلهلهم أو لغلبة أهواؤهم حتى يفعلوها، والهوى الغالب يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئاً، فإن حبك للشىء يُعْمِى ويُصِمُّ.

ولهذا كان العالم من يخشى الله، قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: من الآية 17] . فقالوا: "كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب ". وليس هذا من مواضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة، وما في المأمورات من المصالح الغالبة، بل على المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن الله لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته منه إليهم، ولا نهاهم عمّا نهاهم بُخْلاً به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم؛ ولهذا وصف نبيه بأنه {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] .

وأما التمسح بالقبر أىّ قبر كان وتقبيله، وتمريغ الخد عليه، فمنهى عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعله أحد من السّلف والأئمة، بل هذا من الشرك، قال الله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} الآية [نوح: 23 ـ 24] ، وقد تقدم أنها أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، وأنهم عَكَفوا على قبورهم مدة، ثم طال عليهم الأمد فصَوَّروا تماثيلهم؛ لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به. وقد تقدم ذكره، وما فيه من

ص: 189

الشرك، وبينا الفرق بين الزيارة البدعية التى يشبه أهلها بالنصارى والمشركين والزيارة الشرعية.

وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فهذا مما لا نزاع بين الأئمة في النهى عن ذلك، وفي المسند وغيره عن معاذ بن جبل:"أنه لما رجع من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما هذا يا معاذ؟ ". فقال: يا رسول الله، رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: " كذبوا يا معاذ، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، يا معاذ، أرأيت إذا مررت بقبرى أكنت ساجداً؟ ". قال: لا. قال: " فلا تفعل "، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

بل قد ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه: "أنه صلى بأصحابه قاعدًا لمرض كان به، فصلوا قيامًا، فأمرهم بالجلوس، وقال: " لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا "، وقال: " من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار ". فإذا كان قد نهاهم مع قعوده وإن كانوا قاموا في الصلاة حتى لا يتشبهوا بمن يقومون لعظمائهم، وبين أن من سره القيام له كان من أهل النار فكيف بما هو شر من ذلك السجود له؟ ومن وضع الرأس، وتقبيل الأيدي ونحو ذلك؟ ! وقد كان عمر بن عبد العزيز وهو خليفة على الأرض كلها قد وكل عمالاً يمنعون الداخلين من تقبيل الأرض، ويؤدبهم إذا قبّل أحد الأرض.

وبالجملة، فالقيام والركوع والسجود حق للواحد المعبود؛ خالق السموات والأرض، وما كان حقًا خالصًا لله لم يكن لغيره فيه نصيب؛ مثل الحلف بغير الله. قال الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم:" من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت ". متفق عليه. وقال أيضًا: " من حلف بغير الله فقد أشرك ".

فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [البينة: 5] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إن الله يرضي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا

ص: 190

تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ". وإخلاص الدين لله هو أصل العبادة.

ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرك دقِّه وجلِّه، ووجليه وخفيه، كبيره وصغيره، حتى إنه قد تواتر عنه النهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها بألفاظ متنوعة؛ تارة يقول:" لا تَحَرُّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ". وتارة ينهى عن الصلاة بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وتارة يذكر أن الشمس إذا طلعت طلعت بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ونهى عن الصلاة حينئذ؛ لما فيه من مشابهة المشركين في كونهم يسجدون للشمس في هذا الوقت، وأن الشيطان يقارن الشمس حينئذ ليكون السجود له، فكيف بما هو أظهر شركًا ومشابهة للمشركين من هذا؟ ! وقد قال فيما أمره الله أن يخاطب به أهل الكتاب:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله: {مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ، وذلك لما في ذلك من مشابهة أهل الكتاب من اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، ونحن منهيون عن مثل هذا، ومن عدل عن هدي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى ما هو من جنس هدي النصارى، فقد ترك ما أمر الله به ورسوله.

وأما قول القائل: فقضيت حاجتي ببركة الله وبركتك. فمنكر من القول؛ فإنه لا يقرن بالله في مثل ذبك غيره، حتى إن قائلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال:" أجعلتني لله نِدّا؟ ! بل ما شاء الله وحده "، وقال لأصحابه:" لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد ". وفي الحديث: "أن بعض المسلمين رأى قائلا يقول: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تنددون. أي: تجعلون لله ندًا. يعني: تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك ". وفي الصحيحين عن زيد بن خالد، قال:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر بالحديبية في إثر سَمَاء من الليل، فقال: " أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ ". قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: " قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا

ص: 191

بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ". والأسباب التي جعلها الله أسبابًا لا تجعل مع الله شركاء وأندادًا وأعوانًا.

وأما قول القائل: ببركة الشيخ، وإنه قد يعني بها دعاءه، فأسرعُ الدعاءِ إجابة دعوة غائب لغائب. وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد يعني بركة اتباعه له على الحق، وقد يعني بركة معاونته له على الحق، وموالاته في الدين، ونحو ذلك. وهذه كلها معان صحيحة.

وقد يعني بها دعاء الميت والغائب؛ واستقلال الشيخ بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه، أو غير قاصد له، فمتابعته أومطاوعته على ذلك من البدع المنكرات، ونحو هذه المعاني الباطلة. والذي لا ريب فيه أن العمل بطاعة الله تعالى، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، ونحو ذلك، هو نافع في الدنيا والآخرة، وذلك بفضل الله ورحمته.

وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع، فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام؛ مثل تفسير بعضهم: أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى قد يقولوا: إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته. فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه. وهذا كفر صريح، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته؛ ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العشرة الذين قد يزعمون أنها الملائكة، وما يقوله النصارى في المسيح ونحو ذلك، كفراً صريحاً باتفاق المسلمين.

وكذلك إن عني بالغوث ما يقوله بعضهم: إنّ في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وقد يسميهم النجباء، منهم سبعون هم النقباء، ومنهم أربعون هم الأبدال، ومنهم سبعة هم الأقطاب، ومنهم أربعة هم الأوتاد، ومنهم واحد هو الغوث، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة والبضع عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين،

ص: 192

والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد. وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب؛ فإن لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم: إنه ينزل من السماء على الكعبة خضر باسم غوث الوقت، واسم مصره على قول من يقول منهم: إن الخضر هو مرتبة، وإن لكل زمان خضرًا، فإن لهم في ذلك قولين وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم. ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كانوا خير الخلق في زمنهم، وكانوا بالمدينة، ولم يكونوا بمكة.

وقد روى بعضهم حديثًا في هلال غلام المغيرة بن شعبة، وأنه أحد السبعين. والحديث كذب باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في حلية الأولياء، والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا تغتر بذلك؛ فإنهما يرويان الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والكذب، ولا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع. وتارة يروونه على عادة أهل الحديث الذين يروون ما سمعوه ولا يميزون بين صحيحه وباطله، وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:" من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ".

وبالجملة، فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل الرغبة والرهبة؛ مثل دعائهم عند الكسوف والاستسقاء لنزول الرزق، ودعائهم عند الكسوف، والاعتداد لدفع البلاء، وأمثال ذلك، إنما يدعون في ذلك الله وحده لا يشركون به شيئًا، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله، بل كان المشركون به في جاهليتهم إذا اشتد بهم الكرب يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفَتَرَاهم بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ} الآية [يونس: 12]، وقال:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} الآية [الإسراء: 67]، وقال تعالى:

ص: 193

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ} الآية، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} إلى قوله: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 40: 43] .

والنبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقي لأصحابه بصلاة الاستسقاء، وبغير صلاة، وصلاتهم للاستسقاء كصلاة الكسوف، وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك أئمة الدين ومشايخ المسلمين، مازالوا، على هذه الطريقة؛ ولهذا قال العلماء المحققون: ثلاثة أشياء مالها من أصل: باب النصارى، ومنتظر الرافضة، وغوث الصوفية؛ فإن النصارى تدعي في الباب (1) الذي لهم ما هو من هذا الجنس؛ وأنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، ولكن دعوى النصارى فيه باطلة. وأما محمد بن الحسن العسكري منتظر الرافضة في سرداب سامرا، والغوث المقيم بمكة عند الصوفية، ونحو هذا، فإنه باطل ليس له أصل في الوجود، ولا وجود له.

وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله، ويعرفهم كلهم، ونحو هذا، فهذا باطل. فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله وعددهم، فكيف هؤلاء الضالين المفترين الكذابين؟ ! والرسول صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما يعرف في الآخرة الذين لم يكن يراهم في الدنيا بسيما الوضوء، وهو الغُرَّة والتحجيل، ومن هؤلاء أولياء الله من لا يحصيه إلا الله. وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله له:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر:"وأنَّي بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم". فكان قد بلغه اسمه وخبره، ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إن الخضر نقيب الأولياء، وأنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل.

والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه

(1) وبقول النصارى قال البهائية الذين كفروا بكل دين واستباحوا كل المحرمات بوحي الشيطان بابهم وبهائهم لعنه الله ولعنهم.

ص: 194

أن يؤمن به، ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكونبمكة والمدينة، وكان يكون حضوره مع الصحابة رضي الله عنهم للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليدقع سفينتهم، ولم يكن أحد من خير أمة أخرجت للناس مختفياً، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم.

ثم ليس للمسلمين به وبأمثاله حاجة لا في دينهم ولا دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي علمهم الكتاب والحمكة، وقال لهم نبيهم:" لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ". وعيسي ابن مريم إذا نزل من السماء إنما يحكم فيها بكتاب ربهم وسنة نبيهم. فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره؟ ! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسي من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال:" كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسي في آخرها ". فإذا كان هذان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة، لا عَوَامِّهم ولا خَوَاصِّهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ ! وإذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط، ولا أخبر به أمته، ولا خلفاؤه الراشدون؟ !

وقول القائل: إنه نقيب الأولياء. فيقال له: من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وليس فيهم الخضر؟ وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات أكثرها كذب، وبعضها مبني على وهم رجال؛ مثل شخص رأي رجلا توهم أنه الخضر، أو وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصًا تتوهم أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك، وروي عن الإمام أحمد أنه قال: ـ وقد ذُكر له الخضر ـ: "من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسن الناس إلا الشيطان". وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

وأما إذا قصد القائل بقوله: القطب الغوث الفرد الجامع أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أن يكون في الزمان اثنان

ص: 195

متساويان في الفضل، بل وثلاثة وأربعة، وأكثر، ولا يجزم بألا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحدًا، وقد يكون جماعة بعضهم أفضل من بعض بوجه من وجوه، وبعضهم أفضل من بعض، وتلك الوجوه، إما متقاربة وإما متساوية.

ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان فتسميته الغوث الفرد الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعضهم أنه أفضل أو من أفضل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا سيما أن من المنتحلين لهذا الاسم من يدعي أن أول هؤلاء الأقطاب هو: الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما ثم يتسلل الأمر إلى من دونه إلى بعض مشايخ المتأخرين، وهذا لا على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة. فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلى والسابقون من المهاجرين والأنصار؟ ! والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قارب سن والاحتلام.

وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا الاسم: إن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله، وقدرته على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر عليه الله. وزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كذلك، وأن هذا انتقل عنه إلى الحسن، فيتسلسل إلى شيخه. فبينت له أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوى هذا في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كفر، دع ما سواه، وقد قال تعالى:{قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]، وقال تعالى:{قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاء اللهُ} الآية [الأعراف: 188]، وقال تعالى:{يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ، وقال تعالى:{يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، وقال تعالى:{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} والآية بعدها [آل عمران: 127، 128]، وقال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص: من الآية 56] .

والله تعالى قد أمرنا أن نطيع رسوله وقد قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80]، وأمرنا أن نتبعه قال تعالى:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فاتَبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] ، وأمرنا أن نعزره ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله، حتى أوجب علينا أن يكون أحب إلينا

ص: 196

من أنفسنا وأهلنا، فقال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، وقال تعالى:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ} إلى قوله: {الفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:" والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". وقال له عمر رضي الله عنه: "يا رسول الله، واللهِ لأنت أحبَّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي". فقال: " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ". قال: فأنت أحبّ إليَّ من نفسي، قال:" الآن يا عمر ". وقال: " ثلاث من كن فيه وَجَدَ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ".

وقد بين في كتابه الحقوقه التي لا تصلح إلا له، وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض، كما بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذلك مثل قوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] ، فالطاعة لله وللرسول، والخشية لله، والتقوي لله وحده، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] ، فالإيتاء لله وللرسول، كقوله:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] ، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأما الحسب فهو لله وحده، كما قالوا:{حَسْبُنَا اللهُ} [التوبة: من الآية 59]، ولم يقل: حسبنا الله ورسوله، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أي: يكفيكك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو المقطوع به في هذه الآية؛ ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما صلى الله عليهم أجمعين:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: من الآية173] .

ص: 197