المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قال العراقي: على أن ما أطلقاه وشددا فيه قد صرحا - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل قال العراقي: على أن ما أطلقاه وشددا فيه قد صرحا

‌فصل

قال العراقي: على أن ما أطلقاه وشددا فيه قد صرحا في مواضع متعددة أنه سد للذريعة، وأن المقصود الشرك أو الكفر الأصغر لا المخرج من الملة.

كما سنقف على عبارتهما في جميع كتبهما. ثم إن هذا الشرك إنما يكون عندهما محرماً إذا لم يكن فاعله مجتهداً ولا مقلداً ولا عرضت له شبهات يعذره الله فيها. ولا متأوّلاً، ولا ابتلى بمصائب مكفرة، ولا له حسنات تمحو ذنبه، ولا شفيع مطاع، ولا كان جاهلاً. فبعد انتفاء هذه الشروط يحكم على فاعل هذه الأشياء المتقدمة بالشرك الأصغر، ولما نقلت هذا لبعض أهل الدين حثني على جمع هذه العبارات.

والجواب أن يقال لهذا:

كلامك هذا كله باطل، وجهل مركب، وبهت لهذين الشيخين. وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلاً، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه وجعلهم عبرة لأوليائه، وعباده المؤمنين.

وحينئذ فالجواب من طريقين، مجمل ومفصل.

أما المجمل فنقول: قد تقدم أن الأصل المعتمد في هذا الباب وغيره من أصول الدين وفروعه هو ما دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة. هذه هي الأدلة الشرعية بإجماع، والقياس مختلف فيه. والجمهور على قبوله بشروطه، وليس المعول على كلام الآحاد من أهل العلم والدين، وإن علت

ص: 22

درجتهم، وارتفعت رتبتهم. ولا تصلح المعارضة بقول فلان وفلان من أهل العلم والدين، ولا ينتقض الدليل بمخالفة أحد كائنا من كان.

إذا عرفت هذا، فالجواب المفصّل أن نقول: قوله إن الشيخ وتلميذه صرّحا أن ما قالاه في دعاء الصالحين وعبادتهم مقصودهما سد الذّرائع وأنه من الشرك الأصغر، وأنه لا يكون محرماً إذا كان فاعله مجتهداً أو مقلداً أو مخطئاً.

كلام كذب محض مردود على قائله. وهذه الدعوى من هذا العراقي يكفي في ردها وإبطالها المنع، لأنها عارية عن الدليل والبرهان. والدعوى المجردة يكتفي بمنعها. وما ذكره العراقي فيما سيأتي لم يفقه المراد منه ولم يدر ما قصد به. فوضع كلامه في غير موضعه. وعارض بعضه ببعض، وصادم ما ذكره الشيخ في الشرك الأكبر بما ذكره فيما دونه من الشرك الأصغر والسيئات، والبدع التي فشت في الأمة، وجعل هذا من باب التقييد للمطلق. لجهله بالصناعة. فإن حقيقته تعاؤض محض وتناقض ظاهر على زعم هذا العراقي. وهذا مما ينزه عنه آحاد المسلمين فضلا عن العلماء المحققين. وعلى زعم هذا العراقي أنه أيضاً لا يكون شركاً أصغر ولا محرماً على المجتهد، بل هو مأجور في ذلك، وأنّ الشرك والكفر والفسوق لا يتحقق مسماها ولا يكون إثما إلا إذا عوقب صاحبه بالنار، فإن منع مانع من العقاب انتفى الاسم والحكم. فسبحان الله والله أكبر؛ ما أقل حياء هذا الرجل وما أغلظ فهمه وما أكثف حجابه، وسيأتيك ما سننقل من كلامهما صريحاً واضحاً لا يقبل تأويل هذا الملحد بوجه من الوجوه.

وهب أنه لا يعاقب، فما الذي منع تحريمه، وقلب مسماه، وأحاله أن يكون شركاً؟ وكلام الشيخ صريح في أن المراد بعباراته ما يقع من ذنوب أهل الإسلام مما دون الشرك وعبادة الصالحين. وعباراته ظاهرة في ذلك، ليست على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي على ما نقله العراقي، بل فرضها في أهل الإسلام، وما حدث من البدع التي تنازع الناس في تكفير أهلها، وما وقع من بعض الصحابة مما يدعى أنه من

ص: 23

جنس الذنوب. فإنه لما منع الدعوى وذكر أن الواقع من الفتن والقتال إنما صدر عن اجتهاد ورأي، وأن المجتهد في مثل هذا ـ يعني مسائل الإمامة والطلب بدم عثمان، ونحو ذلك ـ مما يعذر فيه المجتهد إذا كان هذا حاصل علمه واجتهاده ولم يقصد معصية الله ورسوله.

ثم قال بعد ذلك: والعقاب في الدار الآخرة قد يرتفع عن المسلم ـ أو قال المؤمن ـ بأسباب عشرة، فذكر التوبة والاستغفار، والعمل الصالح الذي ترجح به حسناته، والمصائب المكفرة في الدنيا والمصائب المكفرة في البرزخ، والمصائب المكفرة في عرصات القيامة؛ ودعاء المؤمنين واستغفارهم؛ وشفاعتهم له في الدار الآخرة وشفاعة سيد الشفعاء، ومغفرة الله ورحمته. فإن لم تقوَ هذه الأسباب ومنع مانع من جهة العبد؛ فلا بدّ من دخوله النار وتطهيره من آثار الذنوب فإذا طهر ونقي دخل الجنة.

وهذا معنى كلام الشيخ في المنهاج وغيره، فمن أراد المراجعة فالعبارة معروفة في محلها.

وقال شيخنا في بعض رسائله: لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان؛ وبإجماع أهل العلم أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم.

ومعلوم أن كلام من الطائفتين ـ أهل العراق وأهل الشام ـ معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة وكان من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف ـ أترى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا أترى أحدا من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم ولو أظهر البراءة من اعتقادهم؟ وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان.

فتفكر في هذه القصة فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته انتهى.

ص: 24

وهذا العراقي يزعم أنه يقول إن الشرك أو الكفر إنما يكون محرماً إذا لم يكن له حسنات تمحوه ولا شفع له شفيع، ولا كان جاهلاً. فبعد انتفاء هذه الشروط المتقدمة يحكم عليه بالشرك الأصغر.

فكلام الشيخ وبحثه في ارتفاع العقاب في الآخرة فيما دون الشرك الأكبر بأحد هذه الأسباب. والعراقي فهم انتفاء الاسم والحقيقة وأنه لا يكون ذنباً.

فاعرف ما في كلام العراقي من الزلل.

ويلزم على هذا أن تنتفي الأحكام المترتبة على الذنوب في الدنيا من الأسماء والعقوبات والحدود، لأن ذلك عنده ليس بذنب ولا يسمى شركاً محرماً إلاّ إذا عوقب في الدّار الآخرة عليه. فبطل كلام الفقهاء في الفساق وأهل الذنوب. وما ذكروه في أبواب العبادات والولايات والحدود والعقود والأنكحة، فقف هنا تر العجب العجاب من جهل هؤلاء الضلال.

وقول الشيخ: ولم يكن مجتهدا ولا مقلداً؛ ولا عرضت له شبهات يعذره الله فيها ولا متأولاً: سيأتيك جوابه في أول نقوله في هذه الرسالة. وقد تقدم بعض ذلك، ويأتي له مزيد، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ كلام الشيخ في مسائل مخصوصة، وأن المراد انتفاء العقاب في الدار الآخرة، وأما الأحكام الدنيوية فيجري على المتأول والمقلد ومن عرضت له شبهات يعذره الله تعالى فيها ما أجراه الشارع من الأحكام الدنيوية، يعذر تارة وتارة لا يقال بعذره، وتجري عليه الأحكام، وقد ذكر هذا العلماء مفصلاً في أبوابه.

ومن عجيب أمر هذا العراقي: أنه فهم من قول الشيخ: إنّ العقاب في الآخرة قد يرتفع عن المسلم بأحد الأسباب العشرة: أنه يتناول أهل الشرك وعباد القبور والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: من الآية48] ويقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: من الآية72] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: من الآية65] فكيف يظن بالشيخ أو من دونه أن يقول بانتفاء العقاب عمن حكم الله بخلوده في النار، وحبوط أعماله.

ص: 25