المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قال العراقي: "النقل الخامس الخامس عشر: قال في كتاب ذكر - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل قال العراقي: "النقل الخامس الخامس عشر: قال في كتاب ذكر

‌فصل

قال العراقي: "النقل الخامس الخامس عشر: قال في كتاب ذكر فيه الانتصار للإمام أحمد: إن الشيخ يحيى الصرصري صاحب الشعر المشهور ذكر عن علي بن إدريس أنه سأل الشيخ عبد القادر الجيلي: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد؟ وذكر جواب الشيخ عبد القادر ثم قال: "والصرصري الذي أشار إلى شعره ما ذكره في قصيدته اللامية المعروفة، حيث قال:

وأخبرني من كان أصل طريقتي

وساق أبياتاً من المنظومة.

ثم قال العراقي: فانظر إلى مدح ابن تيمية رحمه الله للصرصري، وقوله فيه: الفقيه الصالح صاحب الشعر المشهور، مع أن هذا الشعر الذي يعنيه شيخ الإسلام قد ذكر فيه أشياء تقتضي تكفيره على قول هؤلاء المبتدعو، فإنه استغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:

لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة

إليه بها في الحادثات تنصل

وقوله:

وتسأل رب العالمين بميته

على السنة البيضاء غير مبدل

وهذا دعاء على قولهم، وقوله:

وأنت على كل الحوادث لي ولي

وقوله:

على تربها خديك عفر

وكلّ هذا يقتضي الإشراك على قواعد مذهبهم الجديد، والشيخ ابن تيمية أثنى عليه بأنه فقيه صالح، ولم يعترض عليه،

فانظر

ص: 208

إلى هذه القصيدة وما فيها، وقابلها مع قول البوصيريّ:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به البيتين.

وقد صرّح في البيت الثاني إن مقصوده الشفاعة يوم القيامة بجاهه صلى الله عليه وسلم مع أنه صادق، كما في البخاري وغيره، وفي تفسير قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الاسراء: من الآية79] إنّه الشّفاعة العظمى.

والجواب أن يقال:

شيخ الإسلام رحمه الله لم يتعرض شعر الصرصري في هذا النقل لا بمدح ولا بذم، وإنما أثنى على نفس الصرصري، وحكى عنه هذه المقالة، ولا يلزم من مدح شخص وحمده من جهة أن يكون ممدوحاً محموداً من كل جهة، بل لا يلزم من الحكم عليه بالإسلام أو الإيمان أن لا يحكم عليه بما يوجب نقص إيمانه، وخلل إسلامه، ويقتضي تأثيمه ببعض السيئات، وعقابه عليها.

وقد ذكر الشيخ أن شعر يحيى الصرصري وقع فيه من الغلو والإطراء ما لا ينبغي أن يصدر مثله في حق مخلوق، وأنكر على من استغاث بغير الله أو دعاه.

قال الشيخ رحمه الله في رده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة: "وأنه حرف الكلم عن مواضعه، وتمسك بمتشابهه، وترك المحكم، كما يفعله النصارى، وكما فعل هذا الضال ـ يعني ابن البكري ـ أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي وإلى الاستغاثة بالميت. والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحداً ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، فدخل عليه الخطأ من وجوه:

منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغاثاً به. وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا مجازاً، مع دعواه الإجماع على ذلك؛ فإن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به.

ص: 209

الثاني: ظنه أن توسل الصحابة في حياته كان توسلا بذاته صلى الله عليه وسلم لا بدعائه وشفاعته فيكون التوسل به بعد موته كذلك وهذا غلط.

الثالث: أنه أدرج السؤال أيضا في الاستغاثة به وهذا صحيح جائز في حياته وقد سوى في ذلك بين محياه ومماته وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة لكن أخطأ في التسوية بين المحيا والممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة منه والشيخ محمد بن النعمان كان له كتاب المستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام، وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى الشيخ عبد القادر خطوات معدودة واستغاث به وهذا يفعله كثير من الناس؛ ولهذا لما نُبّه من نُبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل هو مشابهة لعباد الأصنام" انتهى.

وقال رحمه الله في أثناء كلام له: "ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع بالضرورة لأمته أن يدعو أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا يغيرها. كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيره بذلك حتى يبن لهم ما جاء به الرسول؛ ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول: هذه أعظم ما بينت لنا، لعلمه أن هذه أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه

ص: 210

دعاء المضطر، راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم لله، فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام ـ التتار ـ لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف الضر، وقال بعض شعرائهم:

يا خائفين من التتر

لوذوا بقبر أبي عمر

أو قال:

عوذوا بقبر أبي عمر

ينجيكموا من الضرر

فقلت لهم: إنّ هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، ولهذا كان أهل المعرفة والدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة؛ لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين والاستغاثة بالله، وإنهم لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم لهم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك، لما صح من تحقيق التوحيد لله وطاعة رسوله، مما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" انتهى ما نقلته من كلامه.

ولم يقتصر فيه على مجرد الإنكار، بل جعله شركاً وكفراً، بعد قيام الحجة والعلم بكفر فاعله، وجعله من ضرورات الدين، بل جعله أصل الدين، وجعل وجود هذا الشرك مانعاً من القتال الشرعي، وسبباً للهزيمة وعدم النصر، فأي إنكار أبلغ من هذا؟.

وقد أنكر الشيخ ابن تيمية شعر الصرصري، ونص على أنه يقع فيه ما لا يسوغ ولا يجوز.

وقوله:

لأنت إلى الرحمن أقوى وسيلة

ليس فيه استغاثة كما زعم العراقي، بل المقصود إنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين العباد

ص: 211

وبين الله في إبلاغ شرعه ودينه، وبيان ما يحب ويرضى، وما يكرهه عنه وينهى فهو وسيلة لمن سار إلى الله على سبيله، وتمسك بهديه، وقبله قوله:

سل الله رب العالمين يميتني

على السنة البيضاء غير مبدل

ليس صريحاً في أن السائل لله هو النبي صلى الله عليه وسلم إذ يحتمل أنه أراد: سل أيها المذنب وأيها العبد، ولكنه التفت عن التكلم إلى الخطاب، وإحسان الظن بمثله أولى.

وأما قوله:

وأنت على كل الحوادث لي ولي

فالمراد أنه يوالي الرسول صلى الله عليه وسلم ويتولاه على كل الحوادث، في اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والضيق والسعة. لا يوالي غير أولياء الله. قال تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 ـ56] ، فليس المراد بالولي المستغاث المعبود؛ فإن هذا فهم جاهلي شركي، وأهل الإسلام يفهمون من موالاة الرسول صلى الله عليه وسلم محبته وتوقيره وتعزيره وطاعته والتسليم لأمره، والوقوف عند نهيه، وتقديم قوله على قول كل أحد، هذه هي موالاة أهل الإسلام، وما قال العراقي موالاة عبادة الأصنام.

إذا عرفت هذا عرفت جهل هذا العراقي بمعاني الخطاب، وموضوع الكلام وأنه أجنبي عن مدارك الأحكام، والعلم بشرائع الإسلام، وأن قول البوصيري أشنع وأبشع من قول الصرصري، لما تضمنه من الحصر، ولما فيه من اللياذ بغير الله في الخطب الجليل، والحادث العمم، وهو قيام الساعة، وقد قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:40] ، فدعء غير الله في الأمور العامة الكلية أبشع من دعاء غيره في الأمور الجزئية، ولذلك أخبر أن عباد الأصنام لا يدعون غيره عند إتيان العذاب أو إتيان الساعة الهي الحادث العمم.

وأما قول العراقي: إن مقصوده الشفاعة والجاه، فهذا لا يفيده شيئاً؛ لأن

ص: 212

عامة المشركين إنما يقصدون هذا، ولم يقصد الاستقلال إلا معطلة الصانع، وعامة المشركين إنما قصدوا الجاه والشفاعة، كما حكاه القرآن في غير موضع.

وأما تشبيه العراقي بأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الشفاعة يوم القيامة، وأنزل عليه {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الاسراء: من الآية79] ، فهذا تلبيس منه، وتشبيه على من لا يدري الحقائق ولم يتفطن لمسألة النزاع، فإن الخصومة والنزاع في طلب الشفاعة أو غيرها من الشفعاء في حال مماتهم، وقصدهم لذلك ونحوه من المطالب المهمة، وأما حصول الشفاعة بسؤاله صلى الله عليه وسلم إياهم يوم القيامة، فهذا لا ينكر. وهو من جنس ما كان يطلب منه في حياته صلى الله عليه وسلم. وأما بعد موته فلم يعرف عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من أئمة الإسلام بعدهم أنه دعاه وطلب منه شفاعة أو غيرها، وإنما فعله بعض الخلوف الذين لا يرجع إليهم في مسائل الأحكام، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ص: 213