الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال العراقي: النقل الخامس، قال في اقتضاء الصراط المستقيم: صارت النذور المحرمة مأكلاً للسدنة والمجاورين والعاكفين على بعض المشاهد وغيرها، وأولئك الناذرون يقول أحدهم: مرضت فنذرت، ويقول الآخر: خرج المحاربون فنذرت، وقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، بل تجد كثيرا من الناس يقولون: إن المشهد الفلاني والمكان الفلاني يقبل النذر بمعنى أنهم نذروا له نذوراً فقضيت حاجتهم ـ إلى أن قال ـ: وما روي أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، قال: ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة أو غيره من أمته، فتقضى هذا يوقع كثيراً. ولكن عليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من أمته لهؤلاء السائلين الملحين لما هم عليه من ضيق الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أنّ السائلين له في الحياة كانوا كذلك" انتهى.
فانظر إلى تسليمه رحمه الله للآثار الواقعة، والأخبار الواردة في هذه الوقائع فإنّ عام الرمادة الذي يشير إليه الشيخ هو ما رواه البيهقي وابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك الدارمي ـ وكان خازن عمر ـ قال: "أصاب النّاس قحط في زمن عمر بن الخطّاب، فجاء رجل إلى قبر النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا
رسول الله استسق لأمّتك، فإنّهم قد هلكوا فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: ائت عمر، واقرأه السلام، وأخبره أنهم مسقون" إلى آخر الحديث، وسيأتيك في الأدلة، ويسمون تلك السنة: عام الرمادة لكن عند الشيخ باجتهاده لا يستحب، وعند غيره من جماهير الأمة قام الدليل على الاستحباب لهذا الأثر، وحديث الأعمى وغيرهما. ثم إن الشيخ أثبت قضاء الحوائج من أهل القبور كالأنبياء والأولياء من أمته، وأنه واقع كثيراً وأن رحمته للسائلين لئلا يضطرب إيمانهم، فلا ينبغي أن ينسب إلى هذا الشيخ ما هو بريء منه مثل تكفير الناس وتفسيقهم.
ثم قال العراقي: النقل السابع: قال في اقتضاء الصراط المستقيم: "وكذلك ما حكى لنا أن بعض المجاورين بالمدينة أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاشتهى نوعاً من الأطعمة، فجاء بعض الهاشميين إليه فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليك ذلك، وأعطاه الطعام، وقال: إنه يقول لك: من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا، اخرج من عندنا. وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا لاجتهادهم أو تقليدهم، أو قصورهم في العلم؛ فإنه يغفر للجاهل مالا يغفر لغيره كما حكى عن برخ العابد الذي استسقى في بني إسرائيل" انتهى.
فاستدل العراقي بها على أن الشيخ يجوز الطلب من المقبورين على أنهم وسائل للمجتهد والمقلد أو الجاهل حسن القصد أنه مغفور له.
ثم قال العراقي: الثامن قال أيضاً في اقتضاء الصراط المستقيم: وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه، لعدم علمه، وهذا باب واسع، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مجتهداً مخطئاً أو مقلداً، فيغفر له خطؤه، ويثاب على ما يفعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع في المجتهد المخطئ، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع" انتهى.
قال العراقي: وذكر الشيخ بعد هذا حكاية العتبي وأنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم وقضيت حاجته، فليراجع.
ثم قال: النقل التاسع: قال الشيخ في هذا الكتاب أيضاً: "وقد علمت جماعة ممن سأل المقبورين من الأنبياء والصالحين، فقضيت حاجتهم، وهو لا يخرج عمّا ذكرته " انتهى.
ثم قال العراقي: النقل العاشر قوله: " ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أنّ قوماً سمعوا رد السّلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك. فهذا كله حق ليس مما نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم، وكذلك ما يروى: أنّ رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرّمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس، ومثل هذا يقع كثيرا ممن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع. وكذلك سؤال بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجة فإن هذا قد وقع كثيراً ـ وليس هو مما نحن فيه. وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال؛ فإنه هو القائل: "إن أحدهم يسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج يتأبطها ناراً. فقالوا: يا رسول الله فلم تعطِهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل". وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم عليه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك. فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا" انتهى.
قال العراقي بعده: فانظر إلى تسمية سؤال أهل القبور ووقوعه وأنهم لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم وأنه كرامة لصاحب القبر.
قلت: قد حرّف العراقي كلام الشيخ، والشيخ قصده أن الإجابة قد تكون كرامة لصاحب القبر، وليس المقصود سؤال الميت كما زعم هذا
الملحد، بل المسؤول لا يكون كرامة، كما قال الشيخ بعد هذا الموضع في هذا الكتاب بعينه:"ثم من غرور هؤلاء وأشباههم أن استجابة مثل هذا الدعاء كرامة من الله لعبده، وليس هو في الحقيقة كرامة، وإنما يشبه الكرامة، والكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة".
ثم قال العراقي: "النقل الحادي عشر في اقتضاء الصراط المستقيم: "ومن هذا أني أعرف رجالاً يستغيثون ببعض الأحياء أو ببعض الأموات، فيراه يحول بينه وبين إيذاء أولئك، وربما رآه ضارباً له بسيف وإن كان الحال لا شعور له بذلك. وإنما ذلك من فعل الله سبحانه بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من أتباعه له في طاعة الله، فيما يأمره به من طاعة الله أو نحو ذلك، فهذا قريب" انتهى.
قال العراقي بعده: ووجه قربه أنه كرامة، وهو من فعل الله، والمجوزون لذلك يقولون: إن الله هو الفاعل وذلك المستغاث يكون سبباً ووسيلة، ولا ينكر هذا حتى العوام؛ فإنهم لا يقولون إن ذلك المستغاث يفعله بنفسه استقلالا، بل هو من الله تعالى وبأمره وبإذنه.
ثم قال: النقل الثاني عشر: قال في هذا الكتاب: " وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمن يجاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الدفن عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها، فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه. وفي قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق. وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها، لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي علمها الشارع كما تقدم. فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمناه وليس كذلك".
هذا ما نقله العراقي من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم.
وحاصل ما احتج به هذا الجاهل قول الشيخ: "وما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرّمادة، وأن مثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع، وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة أو غيره من أمته فتقضى لهؤلاء السائلين الملحين ولو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم. وكذلك من أتى إلى القبر واشتهى نوعاً من الأطعمة، فجاء إليه بعض الهاشميين به، وقال: إنه يقول: من يكون عندنا لا يشتهي مثل ذلك، اخرج من عندنا، وآخرون قضيت حوائجهم لاجتهادهم، وتقليدهم وقصورهم في العلم فإنه يغفر للجاهل ما لا يغفر لغيره. فزعم العراقي أن هذا دليل على جواز الطلب من أصحاب القبور.
وكذلك في دليله الثامن: نقل عن الشيخ: "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه"، والنقل التاسع والعاشر نحو هذا، ونقل قول الشيخ:"وهذا ليس مما نحن فيه" ولم يفهم أن هذا يرد عليه ما نقل، وأن الكلام في التشريع وتقرير المنع والتحريم ليس في الأمور القدرية، والحوادث الكونية، ولم يفقه مراد الشيخ ومقصوده.
وحينئذ فنقول في جوابه:
لا بد من مقدمة نقدمها قبل الجواب؛ ليعلم الواقف على كتابنا ما صنع هؤلاء القبوريون من التحريف والتبديل لدين الله، والكذب على أهل العلم، فنقول:
موضوع هذا الكتاب الذي نقل منه العراقي في بيان النهي عن التشبه بالكفار في أعيادهم وما جاءت به الشريعة من مخالفتهم، ومخالفة الأعاجم والمشركين في هديهم وزيّهم وما هم عليه من الأوصاف المقتضية لغضب الله والطرائق الضالة الموجبة لسخط الله ومقته، وبالأخص مسألة الغلو في
الأنبياء والصالحين وما يفعله أهل الكتاب من الضلال الواضح المستبين؛ وقرّر أدلة ذلك وقواعده، وأصوله ووسائله وذرائعه وذكر من النصوص والآثار والاعتبار ما فيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وأما ما نقله العراقي من هذا الكتاب فهي أسئلة وإيرادات أوردها الشيخ بقصد ردها ودفعها والجواب عنها، لئلا يغتر بها الغالون، ويشبه بها المحرفون، فأخذ العراقي تلك الإيرادات وانتزعها من الكلام وترك جوابها وكشفها بما قبلها وبما بعدها، وموّه على الجهّال والأغمار بأنّ الشيخ ذكر هذا في كتابه، وهذا من جنس لي الألسن بالكتاب، الذي وصف الله به اليهود في قوله تعالى:{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} (آل عمران: من الآية78) ، وقد فسّر بهذا الجنس، وأن منه إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجّة، بل هذا أبلغ ما فسروا به ليّ الألسن، فإنه من جنس ما جرى لكثير من الفسّاق والكفّار في أخذ بعض الكلام، أو كلمة فقط في الجملة، ويدعون تمامها وما ارتبط بها، حتى أنشد بعضهم:
دع المساجد للعبّاد تسكنها
…
واذهب بنا إلى حانة الخمّار يسقينا
ما قال ربك ويل للأولى سكروا
…
بل قال ربك ويل للمصلينا
ولا يتبين لك ما قلناه إلا بسياق كلام الشيخ في هذا المبحث، فإنه رحمه الله ذكر مشابهة المغضوب عليهم والضالين في أعيادهم الزمانية وقرّر ما في ذلك من المفاسد الموجبة للخروج عن الصراط المستقيم، بعد ما مهّد جملة من القواعد الكلية العامة والمسائل المفيدة التامة، وقرّر وأطال وبحث وأجاد المقال، ثم ذكر فصلاً في الأعياد المكانية، ،قسمها كالزمانية إلى ثلاثة أقسام، أحدها: مكان لا فضل له في الشريعة أصلاً، ولا فيه ما يوجب تفضيله، بل هو كسائر الأمكنة أو دونها، فقصد ذلك المكان أو قصد الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك ضلال مبين، ثم إن كان به بعض آثار الكفار من اليهود والنصار أو غيرهم، صار أقبح وأشنع، وأدخل هذا
الباب والباب قبله في مشابهة الكفار، وهذا نوع لا يمكن ضبطه، بخلاف الزماني، فإنه محصور. وهذا الضرب أقبح من الذي قبله، فإن هذا يشبه عبادة الأوثان أو هو ذريعة إليها أو نوع من عبادة الأوثان، كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال. يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله، وكانت الطواغيت الكبار التي يشد إليها الرحال ثلاث: اللات، والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى، كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز حيث قال:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} (لنجم: 19 ـ22) كل واحدة من الثلاثة لمصر من أمصار العرب، والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة: مكة والمدينة والطائف، فكانت اللات لأهل الطائف، وذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحاجّ فلمّا مات عكفوا على قبره مدة ثم اتخذوا تمثاله، ثم بنوا عليه بنية سموها بيت الربة، وقصتها معروفة لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم لهدمها حين افتتحت الطائف بعد مكة سنة تسع من الهجرة. وأما العزّى فكانت لأهل مكة قريباً من عرفات هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عقب فتح مكة فأزالها وقسم النبي صلى الله عليه وسلم مالها وخرجت منها شيطانة ناشزة شعرها فيئست الجزيرة أن تعبد في الجزيرة بعد ذلك، وأما مناة فكانت لأهل المدينة، بهلون لها بالمشلل شركاً بالله، وكانت حذو قديد، الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمّه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن ويعرف ما كرهه الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب وما ذكره الأزرقي قي أخبار مكة وغيره من العلماء، ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط قال بعض الناس:"يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر قلتم كما قال موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ثم قال: إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم" فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يستظلون بها معلقين عليها سلاحهم،
فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهة المشركين أو هو الشرك بعينه؟ فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه، أو ليتنسّك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادات التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا ـ ثم ذكر النذر لتلك الأماكن وقرّر تحريمه والمنع منه، ولو للمجاورين والسدنة العاكفين، وقرّر مشابهتهم للسدنة التي كانت للات والعزّى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان، وسدنة الأبدال التب بالهند ـ ثم قال: فمن هذه الأمكنة عدّة أمكنة بدمشق مثل: مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي، ولا خلاف بين أهل العلم أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق، وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال: إن فيه قبر هود عليه السلام، وما علمتُ أحداً ذكر أن هوداً النبي مات بدمشق، بل قد قيل: إنه مات باليمن، وقيل: بمكة، فإن مبعثه كان باليمن ومهاجره بعد هلاك قومه إلى مكة ـ وعدّ جملة من المشاهد المكذوبة بدمشق ومصر والحجاز ـ ثم قال: هذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت، فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه. فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان، حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة عندها وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها، كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة، وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها. ـ إلى أن قال ـ: وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله وتعظيماً لما لم يعظمه الله وعكوفاً على أشياء لا تنفع ولا تضر، وصداً للخلق عن سبيل الله. وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، واتخاذها عيداً
والاجتماع عندها واعتياد قصدها؛ فإن العيد من المعاودة ـ إلى أن قال ـ: وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل: أن رجلا دعا عندها فاستجيب له، أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك. وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام؛ فإن القوم أحياناً كانوا يخاطبون من الأوثان، وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها، وكذلك يجري لأهل الأبدال من أهل الهند وغيرهم، وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله كأنه يمينه. والمساجد التي هي بيوته، وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض.
قلت: فأين العراقي عن هذه العبارة التي فيها أن الاستدلال باستجابة الدعاء وقضاء الحاجة من الشبهات التي حدث الشرك في الأرض بسببها؟.
ثم قال الشيخ: وأما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه. وقد يكون سبه مجرد رحمة الله، وقد يكون أمراً قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حقّ الدّاعي، فإنّا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم، فيسقون وينصرون ويعافون ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم، وقد قال سبحانه وتعالى:{كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الاسراء:20)، وقال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6) ، وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها. ليس هذا موضع تفصيلها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة، ثم قال: