المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قال العراقي: "النقل السادس عشر: قال في الفتاوى في جواب - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل قال العراقي: "النقل السادس عشر: قال في الفتاوى في جواب

‌فصل

قال العراقي: "النقل السادس عشر: قال في الفتاوى في جواب سؤال ورد من كيلان، في مسألة خلق القرآن ما نصه: "فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل، وفي الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب أحداً من هذه الأمة على خطأ، وإن عذب المخطئ في غيرها ـ ثم ساق حديث أبي هريرة في الرجل الذي أمر أولاده بتحريقه، وأن يذروه في البحر وأنه شك في قدرة الله، ومع ذلك غفر الله له لما معه من خوف الله والإيمان به، ثم ذكر كلام الشيخ في الخطأ في الفروع العملية، وأنه قد وقع في بعض السلف ـ وساق قصة داود وسليمان وحكمهما في الغنم، ثم قال: انظر إلى كلامه وتأمله فإنه أنذر وأعذر، وتحاشى عن تكفير أهل البدع العظام القائلين بنفي قدرة الله أو عدم البعث".

هذا كلامه بحروفه، ثم أطال الكلام في قصة داود وسليمان وزعم أنه معنى قوله تعالى:{وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: من الآية79] ، فإن الله أقرّ حكمهما.

والجواب أن يقال:

قد أكثر هذا العراقي من التشبيه بعدم تكفير المخطئ وعدم تأثيمه، وقد مرّ من الجواب عن هذه الشبه ما فيه كفاية. وأكثر كلامه تكرير وإسهاب، يوهم الجهال به أنه قد قرر الصواب، وأوضح الخطاب، ولا يروج هذا إلا على

ص: 214

العوام ومن لا بصيرة له بحقيقة دين الإسلام. وقد قدمنا أن طرد قول العراقي واستدلاله يفيد عدم التأثيم والتكفير في الخطأ في جميع أصول الدين، كالإيمان بوجود الله وربوبيته وإلهيته وقدره وقضائه، والإيمان بصفات كماله الذاتية والفعلية، ومسألة علمه بالحوادث والكائنات قبل كونها، والمنع من التكفير والتأثيم بالخطأ في هذا كله رد على من كفر معطلة الذات، ومعطلة الربوبية، ومعطلة الأسماء والصفات، ومعطلة إفراده تعالى بالإلهية والقائلين بأنه لا يعلم الكائنات قبل كونها كغلاة القدرية، ومن قال بإسناد الحوادث إلى الكواكب العلوية، ومن قال بالأصلين النور والظلمة؛ فإن التزم العراقي هذا كله فهو أكفر وأضل من اليهود والنصارى، وإن زعم أن ثمَّ فرقاً بين هذا وبين مسألة النزاع التي هي دعاء الأمواب الغائبين فيما لا يقدر عليه إلا ربّ العالمين فيوجدنا هذا الفرق، وليوجدنا دليلاً على صحته، فإن لم يفعل ـ ولن يفعل ـ بطل تقريره وتأصيله، وعلم أهل العلم والإيمان أنه دلس مشبه، ليس من أهل الفقه والدين، ولا ممن يعرف الإسلام والمسلمين، ويفرق بين الموحدين والمشركين، بل هو في ظلمات الطبع والجهل والشرك المبين.

وكلام شيخ الإسلام إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه وعرف أصوله، فإنه قد صرّح في غير موضع أن الخطأ قد يغفر لمن لم يبلغه الشرع، ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة، إذا اتقى الله ما استطاع، واجتهد بحسب طاقته، وأين التقوى والاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور والداعون للموتى وللغائبين؟ كيف والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت؟ ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت؟.

والحديث الذي ذكره الشيخ في رجل من أهل الفترات قام به من خشية الله وخوفه والإيمان بثوابه وعقابه ما أوجب له أن أمر أهله بتحريقه، فأين هذا من هؤلاء الضلال الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على دعاء غير الله، والشرك برب العالمين، فسحقاً لهذا الجاهل المفتري، وبعداً لكل ضال غوي.

ص: 215

ومن تأمل كلام الشيخ وسياقه عرف مقصوده، وأن الكلام فيمن كفر العصاة وأهل الكبائر، وذكر نزاع الناس في ذلك ثم قال: وأما السلف والأئمة فاتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، فيدخل في القول: قول القلب واللسان، وفي العمل: عمل القلب والأركان.

قال: وقال المنتصرون لمذهبهم: إن للإيمان أصولا وفروعا، وهو مشتمل على أركان وواجبات ومستحبات، بمنزلة اسم الحج والصلاة؛ فإن اسم الحج يتناول كل ما يشرع فيه من فعل وترك، مثل الإحرام وترك محظوراته، والوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى، والطواف والسعي. ثم الحج مع هذا مشتمل على أركان، متى تركت لم يصح الحج، كالوقوف بعرفة، وعلى ترك محظور متى فعله فسد حجه، وهو الوطء. ومشتمل على واجبات، من فعل وترك، يأثم بتركها عمدًا، ويجب لتركها لعذر أوغيره الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت، والجمع بين الليل والنهار بعرفة، وكرمي الجمار ونحو ذلك. ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، ولا يأثم بتركها، ولا توجب دماً، مثل رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، وسوق الهدى، وذكر الله في تلك المواضع، وقلة الكلام إلا في أمر ونهي. فمن فعل ذلك الواجب، وترك المحظور، فقد تم حجه وعمرته، وهو مقتصد من أصحاب اليمين في هذا العمل.

لكن من أتى بالمستحب فهو أكمل وأتم حجًا وعملاً، وهو سابق مقرب، ومن ترك المأمور، وفعل المحظور، لكنه أتى بأركانه، وترك مفسداته فجه ناقص، يثاب على ما فعله من الحج، ويعاقب على ما تركه، وقد سقط عنه أصل الفرض. ـ إلى أن قال ـ: فمسألة تكفير أهل والأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل. ـ ثم ذكر مذاهب الأئمة في ذلك وذكر تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلظ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفرهم، وذكر أصول هذه الفرق، هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية ـ ثم أطال الكلام في عدم تكفير هذه الأصناف. واحتج بحديث أبي هريرة ـ ثم قال: وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من

ص: 216

المشركين وأهل الكتاب، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة، هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، وإذا كان لا بد من إلحاقه ـ أي المخطئ ـ بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيراً من أهل البدع منافقون النفاق الأكبر، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم من زنادقة منافقين، وأولئك في الدرك الأسفل من النار.

فتبين بهذا مراد الشيخ، وأنه في طوائف مخصوصة، وأن الجهمية غير داخلين، وكذلك المشركين، وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة. فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وهذا هو قولنا بعينه. فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره ولا نخرجه من الملة.

وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه في مسائل مخصوصة، وبين أن الإيمان يزول بزوال أركانه وقواعده الكبار، كالحجّ يفسد بترك ركن من أركانه، وهذا عين قولنا، بلغ هو أبلغ من مسألة النزاع.

ومن تأمل كلام الشيخ في هذا الباب عرف المراد، ومن أزاغ الله قلبه فلا حيلة فيه.

وحديث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحّداً ليس من أهل الشرك فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة: "لم يعمل خيراً إلا التوحيد" فبطل الاحتجاج به عن مسألة النزاع.

وأما الخطأ في الفروع والمسائل الاجتهادية إذا اتقى المجتهد ما استطاع فلم نقل بتكفير أحد بذلك ولا بتأثيمه. والمسألة ليست في محل النزاع.

فإيراد العراقي لها هنا تكثر بما ليس له وتكبير لحجم الكتاب بما لا يغني عنه فتيلاً.

وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح والشرك العظيم والتعطيل لحقيقة وجود رب العالمين إلا خطؤهم في هذا الباب الذي اجتهدوا

ص: 217

فيه، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل؟ وهل قُتل الحلاّج باتفاق أهل الفتوى على قتله إلا ضلال اجتهاده؟ وهل كفر القرامطة وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلعوا ربقة الشريعة إلا باجتهادهم فيما زعموا؟ وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت ما استباحت من الكفر والشرك وعبادة الأئمة الإثني عشر وغيرهم، ومسبة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، إلا باجتهادهم فيما زعموا؟ وهؤلاء سلف العراقي في قوله:" إن كل خطأ مغفور". وهذا لازم له لا محيص عنه هنا، واستصحب ما ذكر هنا في رد ما يأتي، ويمر عليك من نحو هذه الشبهة، وقد تقدم في أول الجواب ما فيه كفاية، وإنما كررنا الجواب لتكرير الشبهة وإن عادت العقرب فالنعل لها حاضرة.

ص: 218