الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
في ألفاظ كان يكره أن تقال: منها أن يقال: ما شاء الله وشئت، ومنها: أن يحلف بغير الله، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حلف بغير الله فقد أشرك"، ومنها: أن يقول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، وأن يقول الغلام لسيده: ربي وربتي، ،ليقل السيد: فتاي وجاريتي، ويقول الغلام: سيدي وسيدتي" انتهى.
فانظر إلى تصريحه بالكراهة ولم يقل حرام ولا كفر قائلها كفراً مخرجاً من الملة.
والجواب أن يقال:
قد تقدم أن من نسب إلى الشيخ أو إلى أهل العلم من أتباعه أنهم كفروا بهذه الأشياء كفراً مخرجاً من الملة، فهو من أكذب الخلق وأجرأهم على الفرية، وقول الزور، وتقدم أن الشيخ ابن القيم قال:"من عظم مخلوقاً بالحلف تعظيماً كتعظيم الله فقد أشرك شركاً أكبر". وقال لما عدّ هذه الألفاظ ونحوها في شرح المدارج: "وقد يكون ذلك شركاً أكبر بحسب ما قام بقلب فاعله". وحديث ابن عمر صريح في إطلاق الكفر والشرك بالحلف بغير الله، فمن منع هذا الإطلاق فهو مشاق لله ولرسوله. ولكن ساق البخاري في صحيحه قول ابن عباس:"كفر دون كفر، وشرك دون شك، وظلم دون ظلم". وأما قول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، وقول الغلام والجارية: سيدي
وسيدتي، فلم يكفر بهذا مسلمم، كيف وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال: سيدي ومولاي واعتراض العراقي على عبارة كشف الشبهات مصدره سوء فهمه وغلظ طبعه، وكثافة حجابه، وسيأتيك الكلام في هذا إن شاء الله مفصلا قريباً:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيم
نعم قول النبي صلى الله عليه وسلم للوفد الذين قالوا له: أنت سيدنا: "السيد الله" حديث ثابت خرجه الأئمة، واحتج به أهل العلم، ولهم في الجمع بينه وبين أمره للغلام أن يقول لسيده: سيدي وسيدتي طرق.
منها: ترجيح حديث الرخصة للعبد والأمة، ويحتمل أن الرخصة خاصة بالعبد والأمة، لما لسيدهما من السيادة الخاصة، وأما العامة في مقام المدح والثناء فتختص بالمنع. وهذا الجمع فيه إعمال النص في مورده، ولعله أولى الأقوال، وهذا جوابنا عن نقله الثاني والخمسين.
وأما نقله الثالث والخمسون، فحاصله أن شيخنا رحمه الله ذكر في كتاب التوحيد حديث:"لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، بل يقل: فتاي وفتاتي. ولا يقل العبد: ربي وربتي، وليقل: سيدي وسيدتي" وأنه ذكر في مختصر السيرة ومختصر الهدي النبوي: سيد بني فلان، وسيد بني فلان مرات متعددة.
ثم قال العراقي: فانظر إلى نقله هذا، وقد قال في كشف الشبهات له:"ليس معنى عندنا إلا الإله. فعلى هذا إذا قال أحد منا: يا سيدي أو سا مولاي، فكأنما قال: يا إلهي". فإذا كان لفظ السيد معناه الإله، كيف جاز له نقله في كتبه ولم يعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي نقله:"وليقل العبد سيدي ومولاي"؟ وكيف ساغ له أن يقول في السيرة: سيد بني فلان، وفي أشخاص كفار، فضلا عن مسلمين أخيار، فهل هذا إلا تناقض؟ بل رأيت في كتب متعددة لبعض المعاصرين له أنه أحرق دلائل الخيرات؛ لأنّ
فيها: اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد، وأنه قال: من أكفر من صاحب الدلائل لتعبيره بهذ العبارة؟ والله أعلم بحقيقة الحال.
فتأمل كلام الشيخين وانظر كيف لم يتفوها بالشرك المخرج عن الملة. ولو لم يقيد لكان قولها واجب التأويل، لأن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إذا أطلقا يجب تأويلهما كما في آيات الوعيد، كقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44] قال ابن القيم: "كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وليس بالكفر المخرج عن الملة، كما ذهب إليه ابن عباس وأكابر السلف"، بل ورد إطلاق الشرك في حق سيدنا آدم عليه السلام الذي هو نبي معصوم، قال تعالى في حقه وحق حواء:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [لأعراف:190] فإن أكثر المفسرين على أنها مقولة بسبب تسمية آدم ابنه عبد الحارث، وهو إبليس والقصة معلومة. قال البغوي: كقول الرجل لضيفه: أنا عبدك، وليس الشرك الضار بالاتفاق، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"ثنتان هما في الناس كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" رواه مسلم. وقد ذكر مسلم في أول صحيحه جملة أحاديث فيها إطلاق الكفر على المحرم وعلى المكروه، أولها العلماء بكفر النعمة، والمراد المستحل لهذه المعصية وهي متفق على تحريمها، فإذا كان كلام المعصوم الذي لا يترك من قوله: اتفق العلماء على تأويل إطلاقه ما يوهم الإخراج عن الملة، فكيف غير المعصوم ممن هو وسط طبقات العلماء إذا أطلق القول بذلك كيف لا يؤول كلامه؟ مع أنه ما قصر جزاه الله خيراً بل بين أتم بيان، فقد تحقق عندك من نقل عبارتهما أنهما لا يحكمان على أحد بالشرك أو الكفر إلا ومرادهما الأصغر ممن يعتقد الشهادتين، وهذا الأصغر لا يتحقق عندهما إلا بشروط أن لا يكون الفاعل مجتهداً، ولا مقلداً، ولا مؤولاً، وله له شبهات يعذره الله فيها ولا جاهلاً، ولا له حسنات تمحو هذه الخطيئة، ولم يبتل بمصائب مكفرة إلى غير
ذلك، كما قدمناه لك من كلامهما، ومن اتصف بشيء من هذه الأمور فهو مغفور له، ومثاب على فعله فقاتل الله من ينقل عنهما خلاف مذهبهما.
والجواب أن يقال:
سقنا كلام العراقي ليعلم الواقف عليه حاصل ما عند هذا المفتري وأنه في ظلمات الجهل والشرك والهوى، وفي كلامه من الهجنة واختلال النسق والنظام ما يستبين به أنه أجنبي عن هذه الصناعة، وأنه مزجي التجارة والبضاعة، فلله الحمد لا أحصي ثناء عليه، خذل هؤلاء الحيارى بعدله وحكمته، وأقام الحجة وواجب الشكر على أهل فضله ونعمته.
أما اعتراضه على شيخنا في قوله: "إن السيد يطلق بمعى الإله، وإن العرب تقصد من لفظ الإله ما يقصده كثير من أهل هذا الوقت بلفظ السيد" فهذا اعتراض باطل، نشأ من جهل المعترض باللغات والاصطلاحات والأوضاع العرفية، والعبرة بالمعنى والحقيقة وإن تغيرت اللغة، ونقلت لاصطلاح أو عرف، والاسم الواحد قد يختلف معناه لاختلاف مسماه فيكون له معنى في أصل اللغة ثم لا يخصه إلا الاصطلاح بمعنى أخص، ثم ينقله العرف الحادث والحكم يدور مع علته من عبد شيئاً وتألهه وقال: هذا مولى أو ولي أو سيد لم يغير ذلك الاسم حقيقته، وأنه إله معبود، وكلام الشيخ لايدل إلا على هذا، وليس فيه أن السيد في كل لسان وكل لغة يقصد بها الإله، هذا كذب وبهت على الشيخ، لم يقله ولا دل عليه كلامه، وهذا العراقي أفاك أثيم قد خلع جلباب الحياء والدين. وإنما قال الشيخ: إن المشركين الأولين كانوا يقصدون من لفظ الإله ما يقصده أهل زماننا بلفظ السيد، وهذا صحيح، فإن السيد عند أكثر المشركين في هذه الأزمان هو الذي يدعى ويستغاث به في الشدائد ويرجى للنوازل، ويحلف باسمه، وينحر له على وجه التعظيم والقربة. وبعضهم يطلق على ذلك اسم الولي، كما هو اصطلاح أهل مصر. وبعضهم يسمي هذا المعنى السر، فيقول: فلان فيه سر، ومن أهل السر.
وهذا مشهور معروف. والاصطلاحات تحدث واللغات تختلف، والفقهاء أطلقوا الأحكام المترتبة على المعاني والمقاصد وإن اختلفت الأسماء وتغيرت اللغات، في باب البيع والنكاح والردة والقذف والشهادة والحكم بالإسلام فيمن قال: صبأت ونحوه، وإن لم يحسن أن يقول: أسلمت، كما حكم صلى الله عليه وسلم في بني جذيمة. والحكم أشهر من أن يذكر وسياق كلام الفقهاء يطول.
والشيخ لم يقل ما حكى العراقي عنه، وإنما قال ما حكينا، وإذا استعمل السيد في معناه اللغوي، فالشيخ أعقل وأعلم بالله وحدود ما أنزل على رسوله من أن يمنع ما تواتر نقله، واشتهر وضعه، وقاله الشارع المخبر عن الله، فقد ذكر في كتاب التوحيد جواز ذلك للعبد والأمة وإن منع مالك رحمه الله كما تقدم، والمقصود إبطال اعتراضه وبيان جهله وضلاله.
وأما قوله: "رأيت في كتب متعددة عن بعض المعاصرين أنه أحرق دلائل الخيرات إلى آخر عبارته" فيقال: لولا الجهل والهوى واختيار الضلال على الهدى لما نقلت كلام خصوم الشيخ المجاهرين له بالعداوة المصرحين له بالمسبة، ولما أقدمت على حكايته لما فيه من الافتراء بغير هدى ولا برهان.
وما زال أهل الشرك وأهل البدع وأهل الفجور، بل وأهل العداوات الدنيوية يرمي بعضهم بعضاً، ويفتري بعضهم على بعض، ومن عرف الناس تبين له حقيقة ذلك. ومن أعماه الهوى ضل عن سبيل الرشاد والهدى، وفي كلامه من الكذب نسبة التحريق للدلائل إلى الشيخ، وقد صرح رحمه الله في رسائله المعروفة أنه لم يحرقها (1) ، وإنما أمر بالاشتغال بما ورد من الصيغ الشرعية
(1) بل الواجب على كل مسلم يدين دين الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه أن يحرق هذه الدلائل شر تحريق، إنها من أعظم الطواغيت التي تدعو الناس للكفر بالله ورسوله بما فيها من الدعوة الصارخة الفاجرة إلى عقيدة الحلولية ووحدة الوجود التي هي أخبث شرك وأشنع وثنية، بل الواجب تحريق كل كتب الصوفية وأورادهم فإن لحمتها وسداها عقيدة الحلول ووحدة الوجود التي حقيقتها اعتقاد أن الأنبياء والأولياء أجزاء انفصلت عن الله بالفيض والانبثاق للنور الأول، وهي عقيدة الولدية والبنوة لله، وعليها تدور الصوفيه في جميع أدوارها، وإن تبرقعت حينا فقد أسفرت أحياناً، وسبحان الله تعالى عما يقول الصوفية علوا كبيراً.
والألفاظ النبوية في الصلاة والسلام على خير البرية، ونهى عن الغلو والإطراء الذي نهى عنه الشارع عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وفي كلام العراقي من الكذب قوله: إنه أحرق الدلائل لأن فيها اللهم صل على سيدنا ومولانا، وإنما نهى عنها لما فيها من الغلو كما يعرفه من وقف عليها، وما فيها من الأحاديث التي لا تجوز نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتبين أن العراقي مخلط لا يدري ما يقوله:
إذا أنت لم تفقه ولم تدر ماالهدى
…
فأنت وعير في الفلاة سواء
ومن الأكاذيب الظاهرة، نسبة قوله:"ومن أكفر من صاحب الدلائل لتعبيره بهذه العبارة"، فهذا من جنس ما قبله. وإذا اجتمع الضلال والهوى فقد استحكم البلاء والشقاء.
وأما قوله: فتأمل كلام الشيخين كيف لم يتفوها بالشرك المخرج عن الملة، فقد تقدم البيان والكشف عن شبهة هذا العراقي، وأن كلام الشيخين في كل موضع فيه البيان الشافي أن نفي التكفير بالمكفرات قولها وفعلها فيما يخفى دليله، ولم تقم الحجة على فاعله. وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه قبل قيام الحجة، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النزاع بين الأمة، وأما دعاء الصالحين والاستغاثة بهم وقصدهم في الملمات والشدائد. فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه أو الحكم بأنه من الشرك الأكبر، وتقدم عن الشيخ أن فاعله يستتاب فإن تاب وإلا قتل، كما في عبارة الرسالة السنية، وتقدم قوله:"من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً"، وتقدم قوله في الرد على المتكلمين: "وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال إنه خفي عليهم، ولكنه يقع منه في مسائل يعلم الخاصة والعامة أن الرسول قد جاء بها
…
إلخ"، وهذا عين كلام شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضاعف الله لنا وله الثواب، وأدخلنا وإياه الجنة بغير حساب، على رغم كل مبير وكذاب.
والعراقي لم يفقه هذا، لغلط فهمه وعدم علمه، بل هو يعتقد أن كلام
أهل العلم وتقييدهم بقيام الحجة وبلوغ الدعوة، ينفي اسم الكفر والشرك والفجور ونحو ذلك من الأفعال والأقوال، التي سمّاها الشارع بتلك الأسماء، بل ويعتقد أن من لم تقم عليه الحجة يثاب على خطأه مطلقاً. وهذه من الأعاجيب التي يضحك منها اللبيب فعدم قيام الحجة لا يغير الأسماء الشرعية، بل يسمي ما سماه الشارع كفراً أو شركاً أو فسقاً باسمه الشرعي. ولا ينفيه عنه وإن لم يعاقب فاعله إذا لم تقم عليه الحجة، ولم تبلغه الدعوة، وفرق بين كون الذنب كفراً وبين تكفير فاعله.
فافهم هذا فإن العراقي خلط فيما مرّ، وخبط خبط عشواء، وسيأتيك في كلامه ما فيه عبرة لأولي الألباب.
وأما الثواب والأجر فنصوص الشارع وكلام أهل العلم وكلام الشيخين صريح في أن ذلك غير حاصل لكل مخطئ، بل هو مخصوص بمن اجتهد واتقى الله ما استطاع، وهذا في المسائل الاجتهادية، ومستنده قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وقد دل الحديث على أن هذا للحاكم المجتهد، ونفي المؤاخذة بالخطأ والنسيان لا يلزم منه الإثابة بالاتفاق.
فاستصحب هذا معك فيما مر وما يأتي من الأبحاث، فإن القوم زلت أقدامهم ولم يعقلوا عن الله ولا عن رسوله، ولا عن أهل العلم والإيمان ما يراد من الكلام في هذه المباحث، بل ولا في كل باب وشأن إلا أن يشاء ربي شيئاً.
وأما قوله: "بل ورد إطلاق الشرك في حق سيدنا آدم عليه السلام الذي هو نبي معصوم" فهذه العبارة من نوادر هؤلاء الضّلال، ومن أعجب ما يحكى ويقال، جزم بإطلاق الشرك على آدم عليه السلام، ثم قال: هو نبي معصوم ما زال هذا المعترض في مشيمة طبعه وجاهليته، ولم يولد بعد، هذا جمع بين النقيضين، وجهل لا يخفى على ذي سمع وعين، ومن قال بالعصمة مطلقاً فقد أول هذه الآية، وحملها على غير آدم كما هو معروف ومقرر عند أهل
العلم والفتوى، ومن قال بوقوع ذلك من آدم وحواء نفى القول بالعصمة مطلقاً {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه:115] .
ثم في عبارة العراقي من الهجنة وسوء التعبير ما يقضي بأنه أسوأ الذرية وأقلهم أدباً مع الأب الأول الأكبر، كيف يقول: ورد إطلاق الشرك في حق آدم، والله تعالى يقول:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [لأعراف: من الآية190] ، والعراقي جاهلي اللسان أغلف الجنان، والله سبحانه لم يذكر آدم باسمه العلم رحمة منه وتشريفاً له، ولبنيه من صالح الأمم، بل أتى بالضمير الدال على التثنية وفرق بين ذلك وبين الأفراد في مثل هذا المقام، ولم يطلق الشرك بل قيده بقوله:{فِيمَا آتَاهُمَا} ، والعراقي يقول: أطلق الشرك، فافهم ما في كلامه من الكذب على الله، وبهت أبيه آدم وعقوقه.
وأما قوله قال البغوي: "كقول الرجل لضيفه: أنا عبدك، وليس الشرك الضار".
أقول في جوابه: قد جنى هذا العراقي على البغوي جناية لا تقال عثرتها، ولا جبار لجرحها، أخذ كلامه وحرفه وأخرجه عن نسقه ونظامه، والبغوي أجل من أن يقول لشيء من الشرك:"ليس بضار بالاتفاق"، هذه لا تصدر عمن يعقل ما يقول فضلا عن الأكابر الفحول، وعبارة البغوي نصها:"أي جعلا له شريكاً إذ سمياه عبد الحارث ولم يكن هذا شركاً في العبادة، ولا أن الحارث ربهما، فإن آدم كان نبياً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارص ربهما. فإن آدم كان نبيّاً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لايراد به أنه مملوك، كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به أنه معبود، كما أن الرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه: عبد الضيف على وجه الخضوع لا على أن الضيف ربه، ويقول للغير: أنا عبدك، وقول يوسف عليه السلام لعزيز مصر: إنه ربي، لا يراد به أنه معبوده، وكذلك هذا" انتهى.
وحاصله أن الحقيقة لم تقصد، وإنما هو على سبيل التواضع، هذا
حاصل كلامه، فالعراقي حرف العبارة وزاد فيها ونقص، كما فعل بنقوله عن شيخ الإسلام، فالعراقي لا تؤمن بوائقه، فلا تغتر بنقله، ولا تأخذ عنه فإنه وضاع كذاب، محرف لا يؤمن على شيء من العلم.
وأما قوله، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقوله:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، و "من أتى حائضاً فقد كفر"، وقوله:"ثنتان هما في الناس كفر"، فإن كان هذا عند العراقي كفراً ليس بضار لا يعاب على فاعله ولا يعار، فقد أراح خصمه من التعب والجواب، وأعلن بحقيقة ما عنده وما يذهب إليه في تلك المسائل الممتنعة الصعاب.
من كان هذا حاصله فهو ممن لم يتميز عن سائمة الأنعام، إلا بمجرد الصورة والهيولي، فإن هذه الألفاظ النبوية، والصيغ الشرعية، يجب الإيمان بها وتلقيها بالقبول والتسليم. وأهل العلم متفقون على أنها من كبائر الذنوب، بل من أفحش الكبائر؛ فإن إطلاق الكفر على الذنب أو على فاعله يدل على غلطه في نفسه، وعظيم فحشه، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه كفر غير ضار، بل ولا يقوله جاهل، ولا ذمي يؤمن بأحد الأنبياء. ولم تنته جهالتهم في هذا المبحث إلى ما انتهت إليه جهالة العراقي وضلالته، والذي حكاه الإمام أحمد وارتضاه تلقي هذه الأخبار بالإيمان والتسليم، وترك التعرض لتفسيرها كما ذكره في رسالته إلى مسدد بن مسرهد وغيرها، ونقله شيخ الإسلام وغيره، وبعض الناس تعرض لتأويلها وإنها من الكفر العملي لا الاعتقادي مع اعترافه بأنها من أغلظ الذنوب وأكبرها. وأما تأويلها بكفر النعمة فهو ضعيف جداً؛ إذ ما من معصية وذنب يفعله المكلف المختار إلا وفيه من كفر النعمة بحسبه، والشكر هو استعمال النعمة في طاعة معطيها ومسديها، مع محبته والرضا عنه، والثناء بها عليه، والشكر ضد الكفر فمن أخل بشيء من الشكر ففيه من كفر النعمة بحسب ذلك. فتحصل أن كفر النعمة لا يختص بما أطلق عليه الشارع الكفر من الأفعال، فلا بدّ للنص من معنى يخصه وحكمة في تخصيص بعض الأفراد. وهذا معلوم بالشرع والفطرة، إذ تخصيص بعض أفراد الجنس بحكم من غير
مخصص يقتضي ذلك تحكم محض، وترجيح بلا مرجح.
وأما قوله: وذكر مسلم أحاديث فيها إطلاق الكفر على المحرم وعلى المكروه ـ فقد كذب على مسلم، وكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في زعمه أنه أطلق الكفر على المكروه بالمعنى الاصطلاحي الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وإنما تطلق الكراهة في عرف القرآن والسنة على الكفر والشرك والكبائر وسائر المحرمات. كما في آية الإسراء وكما في الحديث:"ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
وأما قوله: "وإذا كان كلام المعصوم الذي لا يترك من قوله ـ اتفق العلماء على تأويل إطلاق ما يوهم الإخراج من الملة، فكيف غير المعصوم؟ ".
فيقال: حكاية الاتفاق على ما ذكر تهور في الكذب على أهل العلم كافة، واقتحام لجرائم الوعيد المنصوص عليه بقوله تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105] وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] ، وقد حمى الله أهل العلم عن الاتفاق على تأويل الاطلاقات النبوية من غير نص يجب المصير إليه، وقد تقدم عن الإمام أحمد أنه حكى عن السلف إمرار هذه الأحاديث كما جاءت من غير تعرض لتأويلها، ومن قال: هي كفر عملي لم يتأول، ولكنه يرى أن إطلاق الكفر على مثل ذلك حقيقة شرعية، كما يعلم بالوقوف على كلامهم رحمهم الله، فطالعها في أماكنها تجد ما قلناه، ويتضح لك ما قررناه.
وأما قوله في الشيخ وتلميذه: إنه من أوسط طبقات العلماء فكأنه يريد أنهما ليسا من الطبقة العليا، بل دون ذلك، وما أحس ما قال جرير:
ما أنت بالحكم الترضى حكمته
…
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وأما قوله: فقد تحقق عندك من نقل عباراتهما أنهما لا يحكمان على أحد بالشرك أو الكفر إلا ومرادهما: الأصغر ممن يعتقد الشهادتين ـ إلى أخره، فقد
تقدم لك البيان إن هذا جهل وتخبيط وضلال، وأنه لم يفهم كلام الشيخ ولم يعرف موضوعه وما أريد به، وكيف لا يحكم الشيخان على أحد بالكفر أو الشرك، وقد حكم به الله ورسوله، وكافة أهل العلم؟ وهذان الشيخان يحكمان أن من ارتكب ما يوجب الكفر والردة والشرك يحكم عليه بمقتضى ذلك وبموجب ما اقترف كفراً أو شركاً أو فسقاً إلاّ أن يقوم مانع شرعي يمنع من الاطلاق، وهذا له صور مخصوصة، لا يدخل فيها من عبد صنماً أو قبراً أو بشراً أو مدراً لظهور البرهان، وقيام الحجة بالرسل.
والعراقي أجنبي عن هذا كله، لا يدري ما الناس فيه، وإن ظن أنه من ورثة العلم وحامليه.
جهد المغفل في الزمان مضيع
…
وإن ارتضى أستاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لالا
…
يدري الطريق فلا يزال مكانه
وقال العراقي: فقاتل الله من ينقل عنهما خلاف مذهبهما.
وهذا استفتاح من العراقي على نفسه، إذ هو الفاعل لذلك المجتهد في تحريف كلامهما وإخراجه عن موضوعه، ونقل ما لم ما لم يقولا ولم يذهب إليه ذاهب. قال تعالى:{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15] اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم معفرتك.
وهذه النقول التي تقدمت عن العراقي أكثرها مكرر لا يحتاج لمزيد جواب، وإنما قصدنا بما أوردنا من الإطناب في محله تنبيه السامع وإيقاظ الغافل، والإطناب يحسن في محله لحاجة السامع وضرورة الطالب، وفيما يهتم به من الأمور التي تشتد حاجة العبد إليها، كما يستفاد من أسلوب الكتاب العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] .
ثم إن العراقي بعد فراغه من نقوله شرع يستدل على جواز دعاء
الصالحين والاستغاثة بهم وطلب الحوائج منهم على أنهم واسطة بين العباد وبين الله في الحاجات والملمات والشدائد، وزعم أن هذا ليس بشرك وإنما هو توسل ونداء مستحب شرعاً، وذكر خمسين دليلاً يزعم أنها تدل على دعواه، وتنصر ما قاله وافتراه {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180] وتعالى الله عمّا يقول الظالمون، وسنتكلم عليها بما يسره الله لضرورة اقتضت ذلك، وإن كنت لست من رجال تلك المناهج والمسالك.
ولكن البلاد إذا اقشعرت
…
وصوح نبتها رُعي الهشيم
قال العراقي: الباب الثاني: في أدلة المجوزين للاستغاثة والتوسل بالأنبياء والصالحين والنذر لهم على أن المراد لوجه الله والثواب لهم، والحلف بغير الله، وما أشبه ذلك. وبيان أدلتهم من الكتاب والسنة وأفعال السلف الصالح وأقوالهم، وهذا الباب إنما نذكره ليتضح لك وجه استنادهم، ويتبين لك كون الشيخين يعذران فاعل ذلك لأجل هذه الأدلة، وقد ذكر جملة منها شيخ الإسلام ابن تيمية في عبارته السابقة، وقد تقدم عنه في اعتذاره عمن يفعل ذلك أنه لعله لم تثبت عنده النصوص، أو عارضها معارض عنده، وهذه الأدلة معارضة لأدلة المانعين فتكون لهم حججاً يعذرهم الله لأجلها.
اعلم أن المجوزين مرادهم جواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين أنهم أسباب ووسائل بدعائهم، وإن الله يفعل لأجلهم، لا أنهم الفاعلون استقلالا من دون الله فإن هذا كفر بالاتفاق، ولا يخطر ببال مسلم جاهل، فضلاً عن عالم، بل ليس هذا خاصاًَ بنوع الأموات، فإن الأحياء وغيرهم من الأسباب العادية كالقطع للسكين، والشبع للأكل، والري للماء، والدفء للبس؛ لو اعتقد أحد أنها فاعلة ذلك بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعاً.
ثم استدل العراقي بأن السبكي والقسطلاني في المواهب والسمهودي في تاريخ المدينة، وابن حجر في الجوهر المنظم، قالوا: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره في معنى التوسل إلى الله بجاهه ووسيلته، أو بأن يدعو الله كما في حال الحياة
إذ هو غير ممتنع مع علمه بسؤال من سأله، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، ممن هو أعلى منه، وليس لها في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بها أحد سواه، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى مستغاث، والغوث منه تسبباً وكسباً، ولا يعارض ذلك خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" لأن في سنده ابن لهيعة والكلام فيه مشهور، وبفرض صحته فهو على حد قوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [لأنفال: من الآية17]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم" أي أنا وإن استغيث بي فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى وكثيراً ما تجيء السنة بمحو هذا من بيان حقيقة الأمر، ويجيء القرآن لإضافة الفعل إلى مكتسبه كقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل الجنة أحد بعمله" مع قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: من الآية32] .
وبالجملة فإطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث ولو تسبباً وكسباً أمر معلوم، لا شك فيه لغة ولا شرعاً، فلا فرق بينه وبين التوسل حينئذ، فتعين تأويل الحديث لا سيما مع ما نقل أن في حديث البخاري في الشفاعة يوم القيامة:"فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم". وقد يكون مع التوسل طلب الدعاء منه إذ هو يعلم بسؤال من سأله، ويتسبب هو بشفاعته ودعائه وذكر ابن تيمية فيما تقدم أن المصنفين في أسماء الله قالوا: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الحقيقة إلا الله، وأن الإغاثة وإن حصلت من غيره تعالى فهو مجاز، وحقيقة له تعالى، وقال أيضاً:"والاستغاثة بمعنى أن يطلب منه ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع فهو كافر أو ضال". وهذا كما ترى محافظة على التوحيد واتباعاً للوارد، فالإنكار ساقط بهذا الاعتبار، وقد ذكر المجوزون أن جعل النبي والصالح متسبباً لا مانع من ذلك شرعاً وعقلاً، لأن ذلك كله بإذن الله تعالى، ومن أقر بالكرامة من الصالحين كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وأنها بإذن الله لم