المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قال العراقي: وهذه المسائل المطلقة كم استحلت بسببها دماء وأموال، - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل قال العراقي: وهذه المسائل المطلقة كم استحلت بسببها دماء وأموال،

‌فصل

قال العراقي: وهذه المسائل المطلقة كم استحلت بسببها دماء وأموال، وكم زلت فيها علماء وهلكت رجال، وكم انتهكت فيها حرمة الإسلام وأعراض، وكم استخف فيها بأنبياء الله وأوليائه؟ فهي في القلوب أمراض.

الجواب أن يقال:

قد صدق العراقي في جملة واحدة من هذه الجمل، ،هي قوله: فهي في القلوب أمراض، ومراده قلوب أمثاله وشيعته من عباد الأولياء والصالحين، فنعم {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .

وأما مسائل العلم والعبادة وإفراد الله بالطلب والإرادة وأحكام الشرك به ودعاء الصالحين والاستغاثة بهم ومحبتهم مع الله، واتخاذهم أولياء من دونه. فهذه ليست من المسائل الفرعية الاجتهادية التي قد يخفى دليلها، فيحتاج المسلم فيها إلى التقليد، كما زعم العراقي: أن الدماء والأموال استحلت بسبب كلام الشبخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، بل المعول في هذا على نصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، لا على كلام عالم أو فقيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقول هذا العراقي جهل بأصل هذه الدعوى النجدية؛ وبحال شيخهم رحمه الله. والله تعالى قد حكم في دماء المشركين وأموالهم، وبين ذلك ووضحه في كتابه أتم بيان وأحسن توضيح. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا

ص: 26

تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: من الآية193]، والفتنة الشرك. وقال تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: من الآية36]، وقال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: من الآية5] .

ومن نازع في أن دعاء الصالحين وعبادتهم واتخاذهم أنداداً لله رب العالمين ليس من الشرك، واعتقد ونازع في عدم دخولهم في مثل هذه الآيات، ورأى أنهم من المسلمين: فهذا رجوع منه إلى أصل المسألة. والنزاع في مسمى الإسلام والشرك، والكلام معه في كشف شبهته وتقرير الدليل على أن هذا هو الشرك المبيح للدم والمال.

وقد عرفت أن هذا هو أصل الإشكال عندهم، وسببه ما عرض لهم من الشبهات المانعة من إدخال الواقع في مسمى الشرك والكفر، كقولهم: نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصوم ونصلي، ونؤمن بالبعث، وقولهم: هذا توسل ليس بدعاء، وقولهم: دعاء الصالحين والأولياء ليس كدعاء الأوثان والأصنام. وقولهم في بعض الأدلة والآيات: هذه في الأصنام. وقول بعضهم: المشركون يعتقدون لها التأثير والتدبير، ونحن نجعلها وسائل وشفعاء ونحو ذلك، وقول بعضهم: إن الله أعطاهم الشفاعة، ونريد منهم مجرد الجاه والشفاعة، وقولهم: إن الله أكرمهم بالكرامات، ولهم ما يشاءون عند ربهم.

وهذه الشبهة كشفها القرآن وبينها، وسجل على جهالة أهلها، وكلها أوردها العراقي هنا مفرقة في كلامه، وسيأتيك ردها وكشفها مفصلا بحول الله ومنته.

وقد تكلم شيخنا في كتابه كشف الشبهات على أكثرها؛ فراجعه إن شئت، فإنه مفيد مع اختصاره ولطافة حجمه.

وأما من سلم هذا ولم ينازع فيه؛ وعرف أنه هو شرك جاهلية العرب، فإنه يعرف حينئذ حكم الأموال والدماء بنصوص الكتاب والسنة الظاهرة المستفيضة، وسيرته صلى الله عليه وسلم في دماء المشركين وأموالهم، والشروط المعتبرة كبلوغ الحجة وتقدم الدعوة، حصلت من شيخ الإسلام رحمه الله، بل من وقف في على سيرته وما ذكره المؤرخون في بدء دعوته، مثل

ص: 27

الشيخ حسين بن غنام الإحسائي في تاريخه، عرف أن الشيخ لم يبدأ أحداً بالقتال بل أعداؤهم الذين ابتدأه بذلك، وقتاله كان من باب الدفع والمجازاة على السيئة بمثلها، وما حدث بعده أو في وقته من خطأ أو تعد فلا يجوز نسبته إليه، وأنه أمر به ورضيه، ،قد جرى لأسامة بن زيد في دم الجهني، وجرى لخالد بن الوليد في دماء بني جذيمة وأموالهم ما يجهله أهل العلم والإيمان. وذلك في عهده صلى الله عليه وسلم وقد برئ منه وأنكره، فقال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صصنع خالد" وقال لأسامة: "أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة" ومن أشكل عليه أمر القتال في زمن الشيخ وعلى دعوته فهو إما جاهل بحال الأعداء وما قالوه في الإسلام، وما بدلوه من الدين، وما كانت عليه البوادي والأعراب من الكفر بآيات الله، ورد أحكام القرآن والاستهزاء بذلك، والرجوع إلى سوالف البادية، وما كانت عليه من العادات والأحكام الجاهلية، وأمثلهم حالاً من عرف أن كتاب الله وأحاديث رسوله عند الحضر، فلم يرفع بذلك رأساً ولم يبال بشيء مما هنالك، أو هو جاهل بما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، لا شعور له بشيء من ذلك، ولا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم.

وبالجملة: فالواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، ومن فاته العلم فحسبه السكوت إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن خلع ربقة الدين من عنقه فليقل ما شاء الله، والله بما يعملون بصير.

وأما قوله: وكم استخف فيها بأنبياء الله؟

فهذا بحسب ما عنده وما يعتقده، والذي يراه هؤلاء القبوريون أن من من دعاء الأنبياء والصالحين والاستعانة في الشدائد والمهمات، وأنهم لا يدعون مع الله في الحاجات والملمات، ولا يذبح لهم تقرباً ولا يطاف بقبورهم ولا يتوكل عليهم: فقد استخف بهم وتنقصهم، ،هضمهم حقهم.

ص: 28

وأصل هذا: أنهم لا يفرقون بين حق الله وحق عباده، ولا تمييز عندهم في ذلك، بل يرون استحقاقهم كثيراً من العبادات المختصة بالله، وهذا يشبه غلو النصارى في المسيح وغيره. وقد قالوا لمن أنكر عليهم عبادة المسيح: قد تنقصت المسيح، وقلت فيه قولاً عظيماً، كما قال عمرو بن العاص وأصحابه للنجاشي لما قدموا عليه بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة، وسألوه أن يخلي بينهم وبين المهاجرين وعنده جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبى النجاشي ذلك فقال عمرو: إنهم يقولون في المسيح قولاً عظيماً ـ يعني يقولون: هو عبد الله ليس بإله، فأرسل النجاشي لجعفر وأصحابه وسألهم عن ذلك، فقالوا فيه ما قاله الله تعالى، وتلا جعفر صدر سورة الروم، حتى على ذكر المسيح وشأنه فقال النجاشي: والله ما زاد المسيح على هذا.

وبالجملة فمن عرف ما جاءت به الرسل من وجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة، عرف وتبين له أن المنع من دعائهم وقصدهم من دون الله في الحاجات والملمات، هو عين تعظيمهم وتوقيرهم وتعزيرهم والإيمان بهم وتصديقهم، وقبول ما جاءوا به، ومنابذة أعدائهم وأضدادهم من المشركين على اختلاف أجناسهم وتباين مللهم. فإن أصل النزاع بينهم وبين أعدائهم في إخلاص عبادة الله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه. ولا يحصل ولا يتصور الإيمان بهم إلا باعتقاد هذا وموافقتهم عليه. وأما مخالفتهم فيه ومعصيتهم فهي عين التنقيص لهم والاستخفاف بهم ومت عرف هذا عرف أن الشيخ وإخوانه المؤمنين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هم المعظّمون للرسل الموقرون لهم العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله ورسوله وما يجب لعباده الله من الحقوق لا أهل الشرك بهم والمعصية لهم، ونبذ أوامرهم، وترك ما جاءوا به وهجره وعزله عن الحكم به، وتقديم منطق اليونان في باب معرفة الله وصفاته، وتقديم آراء الرجال وحدسهم على النصوص والأحاديث الصريحة، وتقديم غلو النصارى ورأيهم في عبادة الأحبار والرهبان على ما جاءوا به من تجريد التوحيدن وإخلاص الدين لله،

ص: 29

هذا هو حقيقة الاستخفاف عند كافة العقلاء، وأما طاعة الرسول في إخلاص الدين لله، وترك دعاء الأنبياء والصالحين، فهو عين التعظيم والتوقير، فظهر أن هؤلاء قوم لا يعقلون.

وقد قرر شيخ الإسلام على قوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الانبياء:36] قال: فكانوا ينكرون على محمد صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم بما تستحقه، وهم يكفرون بذكر الرحمن، ولا ينكرون ذلك، قال: وهكذا من فيه شبه من اليهود والنصارى والمشركين، تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم، إذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه. وعادى من فعل ذلك، وهو وأصحابه يستخفون بعبادة الله وحده، وبحقه وبحرماته وشعائره، ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذب، ويحلف بمن يعظمه ويصدق ولا يستجيز الكذب إذا حلف به. وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين، وكذا قد يعيبون من نهى عن شركهم، كالحج إلى القبور التي يحجون إليها عادة، وهم يستخفون بحرمة الحجّ إلى بيت الله، ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضاً منه بالحج إلى القبور، ويقولون: هذا الحج الأكبر، وهؤلاء من جنس المشركين وعباد الأوثان. انتهى.

ولو بسطنا الكلام في استخفاف عباد القبور بالأنبياء والصالحين وما جاءوا به من عند الله؛ لطال الكلام، والعاقل يتنبه فينظر.

ومن المحن: أن مشائخ المذاهب الأربعة وفقهاءهم جزموا بوجوب هدم القباب ونهوا عن الطواف بالقبور ودعاء أربابها، بل ودعاء الله عندها، ومنعوا من الذبح لها والغلو فيها، بل وعن عبادة الله بالصلاة عندها. فإذا عمل بمقتضى أقوالهم عامل وألزم بها الناس نسبه هؤلاء الجهال إلى الاستخفاف بالأنبياء والصالحين وإلى مخالفة العلماء لأن العلم في عرفهم ما

ص: 30

هم عليه من أقوال أسلافهم ومشايخهم من المتأخرين الجاهلين.

وقد حدثني من يقبل حديثه أنه سمع هذا العراقي بالمدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ يوم قدوم الحاج يقول في مجمع من الناس: إنّما الرجل من يقول: حدثني سري عن ربي، لا من يقول: حدثنا فلان عن فلان. فانظر هذا الاستخفاف العظيم برسل الله.

ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن من يأخذ عن الأنبياء المعصومين، وعن رسل الله المبلغين أفضل وأكمل ممن يأخذ عن سره ووارده، بل هذه الواردات كلهما موقوفة ومردودة إلا بشاهد عدل عن النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لها بالصحة وأنها حق يؤخذ به، وقد قال شيخ الطريق الجنيد بن محمد:"إنّه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة".

وغالب هذه الواردات التي تخالف الشرعيات ويشير إليها أهل التصوف والتعبدات إنما هي من وحي الشياطين لا عن ربّ العالمين.

وبهذا تعلم أن هذا العراقي وأمثاله هم أهل التنقص للرسل التاركون لما جاءوا به، وحاصل أمرهم عزل الكتاب والسنة في باب الاعتقادات والعمليات، واتباع ما تهوى الأنفس من الغلو والإطراء والجهل والضلالات.

وهذا الاعتراض محشو من ذلك، لا تكاد تجد فيه كلمة واحدة سيقت على القانون الشرعي والمنهاج المرضي، وما أحسن ما قال شيخ الإسلام فيما كتب على المحصل للرازيّ:

محصل في أصول الدين حاصله

من بعد تحصيله جهل بلا دين

بحر الضلالات والإفك المبين وما

فيه فأكثره وحي الشياطين

ص: 31