الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال العراقي: "النقل السادس: قال ابن عبد الهادي الحنبلي تلميذ الشيخ ابن تيمية في كتابه الصارم المنكي في الرد على السبكي ـ ناقلا عن شيخه ابن تيمية، ما نصه ـ: وإنما يعرف هذا في حكاية ذكرها الفقهاء عن أعرابي أتى القبر وتلا هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [النساء: من الآية64]، وأنشد:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهن القاع والأكم
روحي الفداء لقبر أنت ساكنه
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وقد استحب طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يبت بها حكم شرعي، بل لقضاء حاجة هذا الأعرابي وأمثالها أسباب بسطت في غير هذا الموضع، وليس كل من قضيت له حاجة بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً، وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحاً ولا يكون عالماً أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه وهذا باب واسع، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئاً أو مجتهداً أو مقلداً، فيغفر له خطؤه، ويثاب على ما يفعله من الخير المشروع، كالمجتهد المخطئ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
هذا ما حكاه العراقي عن الصارم المنكي ثم قال: والحكاية التي ذكرها الفقهاء من كافة أهل المذاهب: مارواه العتبي التابعي الجليل عن الأعرابي: أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا الآية ثم قال: قد جئتك
مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، وأنشد البيتين، وقد استحسن ذلك كافة أهل العلم، وذكروه في المناسك في بحث الزيارة، واستحبوا ذلك، وكيف لا يثبت الاستحباب بهذه الحكاية، وهي واقعة في خير القرون ولم تنكر، وارتضاها الفقهاء؟ فهي دليل على الاستحباب، ثم إن الشيخ رحمه الله فسّؤ أن سؤال الحاجة من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره واقع، وأن المجتهد المخطئ والمقلد المتأول مثابون على حسن قصدهم، فلا يكفرون في مثل هذا، ولا يشركون ولا يؤثمون. انتهى كلام العراقي.
والجواب: إن هذا النقل قد اعتراه ما اعترى أمثاله، وأجرى التحريف عليه قلم إفكه وضلاله، فإن الحافظ محمد بن عبد الهادي لما تكلم على الحكاية التي احتج بها السبكي عزاها إلى مالك في جوابه لأبي جعفر المنصور، وقرر أنها من الموضوعات وأن إسنادها إسناد مظلم منقطع، مشتمل على من يتهم بالكذب، وساق كلام الحفاظ في جرح رواتها، وإطراح حديثهم ثم قال بعد ذلك:
وقد قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: "ولم يكن أحد من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه. واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره وتنازعوا عند السلام عليه".
وذكر كلامهم في استقباله عند السلام، وقرّر رد الحكاية المذكورة عن مالك، وذكر نصوصه التي يخالفها، وأطال الكلام، ثم قال بعدها:
"وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} الآية [النساء: من الآية64] فهو ـ والله أعلم ـ باطل؛ فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم، ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن
يسأل بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلامه المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا.
ثم قال: "وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين ـ وذكرهما الشيخ، ثم قال ـ: ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد مثل ذلك، واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل من غيرهم، بل قضاء الله حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب وقد بسطت في غير هذا الموضع. وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً مأموراً به، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه، لعدم علمه وهذا باب واسع. وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها، ثم الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئا أو مقلدا فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع كالمجتهد المخطئ" انتهى.
فانظر إلى هذا التحريف والتبديل الذي لم يسبقه إلى مثله من الأمة سابق، ولا يستحله إلا زنديق منافق. فقد حذف أول الكلام وما سيق لأجله، وحذف قول الشيخ: "فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم ولم يذكر أحد منهم استحب أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا استغفاراً ولا غيره، وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا.
وبدل أيضاً كلام الشيخ فإن الشيخ قال: في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء، والعراقي نسبها عن الشيخ إلى كل الفقهاء. فقال:"في حكاية ذكرها الفقهاء" فاعرف إلحاده، وحذف وسط العبارة وهي قوله:"لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم وأعمل به من غيرهم"، وحذف من وسطها أيضاً قوله:"فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال: "إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل". وحذف أيضاً قوله: "وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهي عنها" كل هذا حذفه.
فهل ترى يا ذا العقل السليم أكذب من هذا على الله وعلى أولي العلم من خلقه وأشد جرأة على تبديل دينه وتغييره؟.
وكلام الشيخ من أوله إلى آخره صريح في المعنى من دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه عن الأئمة، وذكر اتفاقهم عليه، وأنّه لم يذكر أحد منهم استحباب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لا استغفاراً ولا غيره. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: من الآية59] وحرفوا نصوص أهل العلم وألحدوا فيها، وأحالوها عن صرائح نصوصها وظواهر كلماتها وهل بدلت أديان الأنبياء إلا بمثل هذا؟ والموعد قريب:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227] ومن كان هذا غاية رده ونهاية ما عنده، فلا يمتنع عليه تبديل ما اطلع عليه ورآه من كتب الشريعة ودواوين الإسلام، ولو سلك هذا المسلك في كتاب الله وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لهدّم قواعدها واجتث أصلها، وطمس أعلامها وغير حقائقها، وقد قرأ بعض الجهمية قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: من الآية164] بنصب الاسم الشريف على أنه معمول، ولم يتجاسر إلى هذه الغاية التى انتهى إليها العراقي، فالحمد لله الذي كشف عن سوأته، وأبدى خزيه لعباده المؤمنين.