المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل ومن البدع ما زينه الشيطان لكثير من الجهلة من الرجال - منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس

[عبد اللطيف آل الشيخ]

الفصل: ‌ ‌فصل ومن البدع ما زينه الشيطان لكثير من الجهلة من الرجال

‌فصل

ومن البدع ما زينه الشيطان لكثير من الجهلة من الرجال والنساء من تعظيم مكان لم يأذن الشارع بتعظيمه من زاوية أو طاقة أو حجر أو قبة أو شجرة أو عامود أو حرز حمام، وينذرون لذلك النذور، ويوقدون عنده الضوء ويخلقونه بالزعفران ويطيبونه بماء الورد وغيره، ويطلبون عنده الشفاء لهم ولأولادهم. وكل ذلك بدعة وإشراك بالله عز وجل، وكذلك النذر لقبور المشايخ والصالحين وطلب الشفاء من قبلهم نذر معصية وإشراك بالله تعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن النذر لله، وقال:"إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به مال البخيل".

والنذر للقبور أي قبر كان نذر معصية، لا يحل الوفاء به، بل صرفه إلى الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى أفضل عند الله، وأنجح لقضاء الحاجة.

ولوكان هذا شركاً مخرجاً عن الملة لما جاز صرفه للفقراء، ولم يكن أفضل، بل لا فضيلة، لأعمال الخارج عن ملة الإسلام.

والجواب أن يقال:

ليس في كلام الشيخ، ولا كلام ابن القيم ما يدل على أن النذر الواقع من عباد القبور لمن يدعونه ويقصدونه لحوائجهم وإغاثتهم في الشدائد أنه ليس بشرك، بل كلام الشيخ ابن القيم صريح في أنه نذر معصية وإشراك بالله تعالى، فكيف يسوقه وقد عده ابن القيم من أنواع الشرك الأكبر، وقرنه بالتوكل على غير الله، والعمل لغيره، والإنابة والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند

ص: 237

غيره؟ وقد تقدم ذلك، فراجع كلامه في موضعه تعرف كذب العراقي على الله، وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه. فرحم الله امرءاً نظر لنفسه قبل أن نزل به قدم، ويحال بينه وبين العمل، وتعظم الحسرة منه والندم وكذلك الشيخ صرح بأنه معصية، والمعصية تصدق بالشرك وغيره من الكبائر إذا أطلقت.

واستدلال المعترض بأنه لم يقل: هذا النذر كفر مخرج عن الملة ـ فإطلاق المعصية كان هو المقصود، وأيضاً فالكفر إنما يطلق بعد قيام الحجة، وبلوغ الدليل، وقد تقدم أن الشيخ محمداً رحمه الله لا يكفر إلا بعد قيام الحجة.

وقول العراقي: فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء وقصده لوجه الله؟.

ففي هذه العبارة شيئان:

الأول: استبعاده تكفير من نذر للأنبياء، وجعله ذلك دون النذر للشجرة والبقعة مع أن الفتنة بقبور المعظمين أشد محنة من الشجر والبقاع. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فالشرك بالأنبياء والصالحين أخوف وأعظم فتنة، كما هو معروف.

والثاني: إضافته النذر لأحد الأنبياء، وقوله بعده: وقصده لوجه الله، فإذا كان النذر نفسه للأنبياء والصالحين بطل قوله: وقصده لوجه الله. وإنما يكون ذلك نذراً لله وحده، وجعل الثواب لمن شاء من عباده، ومسألة إهداء ثواب القرب إلى الأنبياء لا يخفى ما فيها من القول بالمنع، على من له أدنى ممارسة للعلم.

والقصد هنا بيان تناقض العراقي، وأن كلامه يدفع بعضه بعضاً.

وقوله: فإن ذلك لا يضر بالاتفاق ـ كذب ظاهر، فإن قول الشيخين: إنه يصرف إلى الفقراء: دليل على أنه يضر إذا صدر منه لغير الله، وأنه مأمور بالتوبة، وصرف ذلك إلى الجهة المشروعة، وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم مال اللات

ص: 238

في الجهاد والمصارف الشرعية التي يستعان بها على عبادة الله وحده لا شريك له، والاستدلال بصرفها في ذلك المصرف الشرعي على أنها شرك وضلال أوجبه الاستدلال بذلك على أن النذر للأصنام ونحوها ليس بشرك.

وأما ما ذكره عن بعض الحنابلة إنهم نقلوا عبارة الشيخ في أن النذر للقبور ولأهلها نذر معصية، فأي دليل في هذا، والمعصية إذا أطلقت دخل فيها الشرك كما تقدم؟ قال الله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء: من الآية14] وقال عن فرعون: {فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات:21] .

وأما قوله: فلو كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة، فإن الصدقة لا تقبل من الكافر.

فالجواب من وجوه:

الأول: أنه إذا أقلع عن الذنب وصرف المال في مصرفه الشرعي، فهذا رجوع منه عما كان عليه وتوبة منه.

الثاني: أنه لا يقال بالكفر مطلقاً لكل ناذر لغير الله حتى تقوم الحجة الرسالية عليه.

وأما ما نقله عن ابن القيم، فقد صرّح فيه بأنه نذر ومعصية وإشراك، وشبهة هذا العراقي: أنه لو كان شركاً مخرجاً عن الملة لما جاز صرفه للفقراء، فالعراقي لم يفرق بين النذر والمنذور، فكون النذر شركاً لا يمنع الانتفاع بالمنذور في الجهة الشرعية، كما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلم بمال اللات.

الوجه الثالث: أن الذي يصرفه في المصارف الشرعية هم ولاة الأمر وأهل العم، وليس المقصود: أن يصرفه الناذر نفسه، فإن هذا لا يعتبر، بل يرد إلى المشروع قسراً، ويعامل بنقيض قصده، وكلام الشيخ وأمثاله من أهل العلم ليس حجة مستقلة بل الحجة فيما يساق من الأدلة، وقد تقدم أن القصد هنا بيان جهله بكلام الشيخ، والكشف عن تحريف هذا العراقي لما نقله عن الشيخين،

ص: 239

وإلاّ فالمرجع إلى أدلة الكتاب والسنة، قال الله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: من الآية270]، وقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الانسان:7] ، فوصف خواص عباده بالوفاء بالنذر وأثنى عليهم بذلك، وفي الآية الأخرى الوعد بالإثابة والجزاء. فثبت أنه عبادة يحبها الرب ويرضاها، أي الوفاء به، وما كان كذلك فيجب إخلاصه لله لأن صرف العبادة لغير الله شرك، وفي حديث علي:"لعن الله من ذبح لغير الله"، وهذا العراقي وأمثاله من القبوريين دفعوا في صدر النصوص وردوها بشبهات وهذيان لا يصدر عمن يعقل ما يقول، وفي آخر العبارة التي نقلها العراقي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحكم عام في قبر نفيسة، ومن هو أكبر من نفسية من الصحابة مثل قبر طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وفي سلمان وغيره بالعراق.

قلت: وفيها بيان تدليس العراقي وإنه أسقطها ليروج قوله: فكيف يكفر من نذر لأحد الأنبياء والصالحين ـ إلى أن قال الشيخ: فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكشف الضر، وتفتح أبواب الرزق، أو تحفظ مصر، فإن من يعتقد هذا كافر مشرك يجب قتله، وكذلك من اعتقد في غيرها كائناً من كان {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الاسراء:56] {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 ـ 23] ، والقرآن من أوله إلى آخره، بل وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعل مع الله إله آخر، والإله من يأله القلب عبادة واستعانة، وإجلالاً وإكراماً وخوفاً ورجاءً، كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك منهم أن ما يألهه مخلوق ومصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم "لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما مالك"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعيّ: "يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين، فأسلم

ص: 240

حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، فلما أسلم قال قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي"، والله أعلم" انتهى.

قلت: فانظر إلى تصريح الشيخ أن من اعتقد في مخلوق أنه باب الحوائج إلى الله، يعني واسطة في الحوائج، أو أنه يكشف الضر أو يفتح باب الزرق أو يحفظ المصر أنه كافر مشرك، يجب قتله. وهذا بعينه هو معتقد عباد القبور الناذرين للموتى، المستغيثين بهم، وهو طريقة العراقي ومذهبه الذي نصره وقرره واستظهره، وزعم أنه لا يضر إلا إذا اعتقد الاستقلال لغير الله، كما مر عنه في غير موضع، وسيأتيك هذا القيد فيما يأتي من كلامه في مواضع متعددة، والشيخ قد رد عليه في هذا وأبطل هذا الشرط بقوله: وإن اعتقد المشرك أن ما يؤلهه مخلوق مصنوع ـ وساق ما يقوله المشركون في تلبيتهم، وساق حديث حصين، وهذا لأن الآيات القرآنية دالة على تكفير هذا النوع، أعني من اتخذ الشفعاء، والوسائط وقصدهم في حاجاته وملماته، كما كان يفعله المشركون مع آلهتهم، فكل هذا أعمى الله بصر العراقي عنه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227] .

قال الشيخ صنع الله الحلبي نزيل مكة: وأما كونهم جوزوا الذبائح والنذور وأثتوا لهم فيهما الأجور، فيقال: هذا الذبح والنذر، إن كان على اسم فلان وفلان، فهو لغير الله فيكون باطلاً. وفي التنزيل:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الآية [الأنعام: من الآية121] أي إن صلاتي وذبحي لله كما به نظير قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وفي الحديث:"لا نذر في معصية الله" رواه أبو داود وغيره، والنذر لغير الله إشراك مع الله، فلا أكبر منه معصية، وفي التنزيل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: من الآية3] ، فالنذر لغير الله كالذبح لغيره، وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك، الركوع، والسجود، والذبح

ص: 241

والنذر، واليمين، ومن ذكر غير اسم الله على ذبيحته فهي ميتة يحرم أكلها ولو أشرك مع اسمه تعالى أحداً، كقوله: بسم الله ومحمد صلى الله عليه وسلم، بواو العطف. فكذا تحرم ذبيحته، وكذا لو ترك اسم الله عمداً على الذبيحة، لا تؤكل عندنا، فهي ميتة لصريح قوله عز وجل:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية [الأنعام: من الآية121] فترك المؤمن ذكر الله تعالى عمداً كذكر غيره، نعم لو قال: هذا النذر لله يذبح في مكان كذا ويصرف على جماعة فلان أو على رباط فلان، فلا بأس به، كما في الوقف على فلان وفلان، فإن قوله:"لله" مالك له، وتصرف غلته على من عينه الواقف، وكذا هنا.

والحاصل أن النذر لغير الله تعالى فجور، فمن أين لهم الأجور؟ وكذا الذبائح من قال: إن هذا النذر لفلان وهذه الذبيحة لفلان، فهو من العصيان، ومن نذر لله ذبحاً أو غيره، قال: يذبح بمكان كذا ويأكله قوم جاز والله الهادي.

قلت: إذا نذر لله وجعل مصرفه على السدنة والمجاورين عند القبور فهو نذر معصية لا يجوز، ويجب صرفه في القرب الشرعية، كالحجاج والمعتكفين في المساجد وقد ذكر هذا غير واحد، والمنع منه لما فيه من الإعانة على العكوف عند القبور. الذي هو من أكبر الوسائل والذرائع إلى عبادتها ودعائها.

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: من الآية2] وفي الحديث: "إن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، قبل إسلامه، فلما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذره، فقال: هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية؟ قال: لا، قال: هل كان بها عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا، قال: فأوف بنذرك" ففيه المنع من عبادة الله في أماكن الشرك وعبادة غيره، للمشابهة الصورية، وإن لم نقصد، فكيف بالذرائع والوسائل القريبة المفضية إلى عين الشرك، ونفس المحذور الأكبر؟

فقف وتأمل إن كان لك بصيرة تدرك بها أسرار الشريعة.

ص: 242