الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال العراقي: في النقل الرابع: قال في الفتاوى أيضاً في جواب من سأله فيمن قال: لا يستغاث بالنّبي صلى الله عليه وسلم هل يحرم عليه هذا القول؟ وهل هو كافر به أم لا؟ وإن استدل بآية من كتاب الله وأحاديث النّبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة، فما يجب على من خالف ذلك والحالة هذه؟ الجواب: الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة، واتفاق الأمة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربه.
وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، فهؤلاء مبتدعة ضُلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل. وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه، سواء سمى هذا استغاثة أو لم يسمه. وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل.
والتوسل به نحو ذلك ولكن قال: لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذّنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، ونحو ذلك ـ فهذا مصيب في ذلك. روى الطبراني:"أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث بالنّبي صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث بالله "، فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه
الدعاء ويستسقون به، كما في البخارى، عن عمر قال: "ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش له الميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبى طالب؛ ولهذا قال العلماء في أسماء الله تعالى: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان ذلك على يد غيره فالحقيقة له ولغيره مجاز ـ إلى أن قال الشيخ ـ: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع فى هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال.
ومن خالف ما يكون ثبت فى الكتاب والسنة، فإنه يكون إما كافراً، وإما فاسقاً، وإما عاصيا، إلا أن يكون مجتهداً مخطئًا فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذى تقوم عليه الحجة به" انتهى.
فانظر إلى قوله: "قال العلماء المصنفون في أسماء الله: يجب على المكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله، وأن كل غوث فمن عنده، وإن كان ذلك على يد غيره فالحقيقة له وبغيره مجاز" وهذه القاعدة الراسخة في قلوب المسلمين، فإذا طلبوا من أحد غير الله من أنبيائه وأوليائه فمرادهم أنهم يتسببون لهم والله هو الفاعل الحقيقي، بل عوام الناس يعرفون ذلك، وأعظم من هذا قول الشيخ رحمه الله تعالى:"والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع فيه فهو إما كافر ومخطئ ضال"، والمستغيثون بالنبي طالبون منه أن يشفع لهم إلى ربّهم في قضاء مآربهم بدعائه أو وسيلته، وهذا هو اللائق بمنصبه صلى الله عليه وسلم، فتبين أن المنازع في هذا كما قاله الشيخ إما كافر أو ضال؛ فواللهِ إنّ هذه العبارة تكفي ردعاً لمن يتعرض للمسلمين في هذه الأمور.
والجواب أن يقال:
قد اعترى هذا النقل ما قبله من التحريف والحذف والتصرف في كلام الشيخ حتى أخرجه عن مقصوده. فإنّه حذف منه ما يرد قوله ويهدم أصله. قال بعض أهل العلم: أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل البدع لا يكتبون إلا ما لهم.
قلت: هم لا يتجاسرون على هذا الصنيع والتصرف والخيانة، غايتها ترك ما لم يوافق أصولهم ومذهبهم، بخلاف العراقي، فإنه محرّف كذّاب لا يؤمن على النقل، فحذف من هذا الجواب المختصر نحو سبعة مواضع:
الأول: قول الشيخ: "ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد". فانظر ما النكتة في حذف هذه الجملة وتفطن لذلك.
الموضع الثاني: قول الشيخ في الخوارج والمعتزلة: لم ينكروا شفاعته للمؤمنين". والنكتة في حذف هذا أنه لم يفقه الجمع بين ما أنكروه وما أثبتوه.
الموضع الثالث: حذف ما حكاه الشيخ من توسل الصحابة واستشفاعهم بنبيهم، وأن ما كان يفعله من الدّعاء لهم والاستغفار لأن هذا البيان يبطل دعواه، فحذف الأحاديث، وحذف كلام الشيخ عليها ليلبّس على النّاس بأن الصحابة يتوسّلون بالرّسول والتوسّل عنده هو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله، والاستغاثة به في حياته وبعد مماته، فقاتل الله الملبسين والملحدين، وما أشدّ جنايتهم على الإسلام والمسلمين؟ فإنّ الشيخ بيّنه بما رواه البخارى في صحيحه عن أنس:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا لتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون"، وفي سنن أبى داود وغيره: "أنّ أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف
ذلك في وجوه أصحابه وقال: " ويحك، إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك "، وذكر تمام الحديث، فأنكر قوله:"نستشفع بالله عليك"، ولم ينكر قوله:"نستشفع بك على الله"، بل أقره عليه، فعلم جوازه ". كلّ هذا حذفه العراقي.
الرّابع: حذف قول الشيخ: " بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضًا. كما قال تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ اللهُ} (آل عمران: 135)، وقال:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (القصص: 56)، وكما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عليكم هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} (فاطر: 3)، وكما قال تعالى:{وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللهِ} (آل عمران: 126)، وقال:{إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذي نَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (لتوبة: 40) . فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنتفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعاني نفيًا وإثباتًا إن وجدت في كلام الله ورسوله، وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رجع فيه إليه.
وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله، وهذا يرد عليه فهمه ".
حذف العراقي هذا كله لأن فيه تفصيلاً وفيه حكاية الإجماع بين المسلمين، أنّه لا يطلب من الرسول ولا من غيره فيما يختص به تعالى كمغفرة الذنوب وهداية القلوب والنصر على الأعداء والرزق من الأرض والسماء ونحو ذلك من أفعال الربوبية. وتقدم أن الشيخ يكفّر بإنكار ما علم من الدين بالضرورة وما تواتر الخبر به. وفيه قوله: والمعاني المنتفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، فضرب الملحد عن هذا صفحاً وأسقط من كلام الشيخ بقصد الترويج، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
الخامس: مما حذف من قول الشيخ رحمه الله: قالوا ومن أسماء الله
تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبى هريرة، قالوا: وأجمعت الأمة على ذلك. وقال أبو عبد الله الحليمى: "الغياث هو المغيث"، وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عباده فى الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم. وفى خبر الاستسقاء فى الصحيحين:" اللهم أغثنا" يقال: أغاثه إغاثة وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم فى معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) ، إلا أنّ الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر.
قالوا: الفرق بين المستغيث والداعى: أن المستغيث ينادى [بالغوث، والداعى ينادى](1) بالمدعو والمغيث. وهذا فيه نظر؛ فإنّ من صيغة الاستغاثة: "يا الله يا للمسلمين"، وقد روي عن معروف الكرخى أنه كان يكثر أن يقول:"واغوثا بالله"، ويقول:"إنى سمعت الله يقول: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} "، وفى الدعاء المأثور:" يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى كله، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك ". والاستغاثة برحمته استغاثة به فى الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به فى الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به فى الحقيقة، ففى الحديث:" أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق "، وفيه " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".
ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: " أعوذ بكلمات الله التامات " قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق، وكذلك القَسَم، وقد ثبت فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:" من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "، وفى لفظ:" من حلف بغير الله فقد أشرك " رواه الترمذي وصححه. ثم قد ثبت فى الصّحيح: الحلف بـ " عزة الله "، وبـ " عمر الله "، ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذى نهى عنه.
كل هذا حذفه العراقي، وأسقطه، لما فيه من رد كلامه، وهدم أساسه، وقد بين فيه الشيخ معى الإغاثة، وأن الله هو المغيث، والفرق بينه
(1) ما بين المعقوفتين يقط من المطبوع، واستدركته من مجموع الفتاوى.
وبين الدّاعي، وفيه أن الاستغاثة لا تصح بالمخلوق، وهي نوع من الدّعاء وكذلك القسم وأسقط العراقي هذا كله.
الموضع السادس: حذف قول الشيخ: وأما بالمعنى الذي نفاها النّبي صلى الله عليه وسلم فهو أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير لله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة، ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطاميّ:"استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق"، وقال الشيخ أبو عبد الله القرشى:"استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون ". وفى دعاء موسى عليه السلام: " اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله "، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم عند الإطلاق وكان مختصاً بالله، صح إطلاق نفيه عما سواه؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوَّز مطلق الاستغاثة بغير الله، وكذا الاستعانة أيضا، منها ما لا يصح إلا لله، وهى المشار إليها بقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله. وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (الأنفال: 72) ، والنصر المطلق هو به ما يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله ".
فهذا حذفه كلّه، واقتصر على قول الشيخ:"والاستغاثة أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإلا مخطئ ضال".
حذف ما بعد هذه العبارة وظنّ أنها تؤيد مذهب عبّاد القبور، وأن منصب الرسالة يقتضي أن يدعى مع الله ويستغاث به الاستغاثة المطلقة، كما يفعل من يستغيث بالمسيح وأمه، والملائكة، هذا فهم العراقي. والشيخ قد فصل وبين ما يليق بالمنصب الشريف وما يختص بمقام الربوبية، فأسقط ما لا يقبل التحريف وأثبت ما حرفه وألحد فيه.
وهذا الجواب حجّة لشيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من
أهل الإسلام. وهذا مما يفضح هذا العراقي وشيعته من عبّاد القبور. وأسقط قول أبي يزيد البسطاميّ وقول أبي عبد الله القرشي في الاستغاثة بالمخلوق؛ لأنه يهدم أصله ويبين زيفه وتحريفه. وأسقط دعاء موسى عليه السلام، لما فيه من حصر المشتكي وحصر الاستعانة والاستغاثة. والعراقي لا يرى حصر ذلك بل يرى أن الاستغاثة والاستعانة والشكوى لغير الله مما يستحب في الكتاب والسنة، ولو كان المستغاث والمستعان بهم أمواتاً وغائبين فلم يجد من الحيل لما أصاب الحديث مقاتله إلا أن أسقطه ومحاه.
فالحمد لله على تأييد دينه ونصر عباده الموحدين.
ومن المحذوف قوله: "ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، وكذلك الاستعانة أيضاً منها ما لا يصلح إلا لله، وهي المشار إليها بقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نِسْتَعِينُ} خاف العراقي من هذا؛ لأنّه يأتي على كلّ ما ذكر، فيهدم أصله، ويسقط ما بناه من الشبه.
الموضع السابع: حذف كلام الشيخ على قيام الحجة، قال رحمه الله:"فإن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) . وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها: فإنه يعاقب بحسب ذلك".
قلت: فهذا صريح في عقاب من قامت عليه الحجة في مسألة النزاع، وهي دعاء الصالحين مع الله. وهذا دأب هذا الملحد، يكذب على أهل العلم، ويلحد في آيات الله وفي أحاديث رسوله. والله الموعد بيننا وبينه:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: من الآية227) .
وأما قوله بعد حكاية كلام الشيخ: "في أنّ كلّ غوث فمن عنده تعالى، وإن كان ذلك على يد غيره، فالحقيقة له ولغيره مجاز".
قال العراقي: "وهذه القاعدة هي الراسخة في قلوب المسلمين، فإذا طلبوا من أحد غير الله من أنبيائه وأوليائه فمرادهم أنهم يتسببون لهم، والله هو الفاعل الحقيقي، بل عوام الناس يعرفون ذلك".
فجواب هذا أن يقال: ليس هذا هو الرّاسخ في قلوب عباد القبور، فإن أقوالهم وأدعيتهم وتوجهاتهم صريحة في أن مدعوهم ومستغاثهم مع الله يعطي ويمنع ويخفض ويرفع، ويقضي حاجة من دعاه، ويجبر من لاذ بحماه، ولا تستبين العقائد وما في القلوب إلا بترجمة المترجم وعنوان المعبر وهو اللسان، قال الشاعر:
إنّ البيان لفي الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
وقد قرّر الفقهاء، وأهل العلم في باب الرّدة وغيرها أن الألفاظ الصريحة يجري حكمها وما تقتضيه وإن زعم المتكلم بها أنه قصد ما يخالف ظاهرها.
وهذا صريح في كلامهم يعرفه كل ممارس، ولكن الهوى أحال عقول عبّاد القبور وفهومهم عن مستقرها.
وأيضاً فإطلاق السبب ليس عذراً مبيحاً لدعاء غير الله والاستغاثة به فإن المشركين قصدوا السبب ليس إلا، كما حكى الله عنهم ذلك في مواضع من كتابه، ولم يريدوا أنها فاعلة مستقلة، بل اعترفوا بالفعل والاستقلال لله تعالى، وقد مرّت أدلة ذلك، وتأتيك في مواضعها إن شاء الله تعالى فبطل كلامه.
وإن سلمنا الدعوى وأنه إنما أراد السبب، فهذا الموضع هو منشأ الغلط، فإن القوم لم يفرقوا بين توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله سبحانه بالدعاء والاستعانة والخوف والرجاء والحب والإنابة والذل والخضوع، وظنوا أن هذا لا يكون شركاً إلا إذا اعتقد فاعله أن غير الله مستقل مدبر مؤثر، وإلا فلا شرك على زعم هؤلاء الضلال، وقد تقدم أنّ عبّاد القبور أو جمهورهم صرّحوا بأن المشايخ والأولياء يتصرفون، فراجع ما مرّ من حكاية معتقدهم، فالعراقي كاذب، وعلى تسليم صدقه فهو قول المشركين من جاهلية العرب سواء بسواء.
وأما قوله: "وأعظم من هذا قول الشيخ رحمه الله: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع فيه فهو إما كافر أو مخطئ ضال. والمسلمون المستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم طالبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم في قضاء مآربهم بدعائه أو وسيلته. وهذا هو اللائق بمنصبه صلى الله عليه وسلم فتبين أن المنازع في هذا كما قال الشيخ: إما كافر أو ضال، فوالله إن هذه العبارة تكفي ردعاً لمن يتعرض للمسلمين في هذه الأمور".
والجواب عن هذا أن يقال: الفرق بين اللائق بمنصبه، وما لا يليق إلا بمقام الربوبية ومرتبة الإلهية موضح في الكتاب والسنة، وهو الأصل المهم، وهو الزبدة المقصودة، فإن المرجع لتفسير كلام الشيخ وعبارته إليه نفسه، فقد فسر ذلك وبيّنه ووضّح اللائق بمنصبه صلى الله عليه وسلم بما مر في حديث أنس، وما مرّ من رواية أبي داود وغيره، ولكن أنت أيها العراقي أبيت هذا البيان والتفصيل.
وفررت منه كالحمر المستنفرة، وموهت على الجهّال بأول العبارة، وتركت ما قبلها وما بعدها، وقد سقنا العبارة برمتها، والواقف عليها يعرف مراد الشيخ وما هو اللائق بالمنصب النبوي، لأنه موضح فيما مر. وإن رجعنا إلى الأصل الأصيل ونظرنا إلى الكتاب والسنة عرفنا ما يليق بمنصبه صلى الله عليه وسلم من الإيمان به والتصديق له، وتعزيره وتوقيره ومحبته وتحكيمه والرضى بحكمه والتسليم له ونصرته والذّب عن سنته وجهاد من أشرك به وغلا فيه، وطلب منه ما لا يليق إلا بالحي الحاضر، كالدعاء والاستغفار، وعرفنا أيضاً ما هو اللائق برتبة الربوبية وما هو المختص لمستحق الألوهية والعبودية من الحب والذل والتعظيم والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة، والخوف والرجاء ونحو ذلك من العبادات المختصة اللائقة بالله، وكل جملة من هذه الجمل قد مرت بك أو يمر دليلها فلا نطيل بتكراره، والشيخ يكفر أو يضلل من نازع فيما يليق بالمنصب النبوي.
وأما من قال: لا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه،
فهذا محق عرف الحق، وما يجب لله وما يليق بعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه العبارة تكفي ردعاً لمن يتعرض للموحّدين المسلمين لأنها تؤيدهم، وليست ردعاً لمن يتعرض لعبّاد القبور المحرفين الكلم عن مواضعه، والملحدين في آياته، وإن روّجوا على الناس بأنهم مسلمون:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام:115) .