الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال العراقي في الباب الأول في نقل عبارات ابن تيمية وابن القيم في تبرئتهما من تكفير المسلمين، وتشريكهم وتأثيمهم، ونقل بعض عبارات ابن عبد الوهاب في بعض الأشياء التي حكم على الناس فيها بالتكفير والشرك.
ثم ذكر في هذا الباب خمسين موضعاً، يزعم أنّها تشهد له وتؤيد كلامه ودعواه على استحباب دعاء الصالحين وجوازه. وغالبها قد حرّفه، وألحد فيه، وتصرّف في نقله بزيادة ونقصان، وتقطيع للعبارات، وتعسف في حمله على دعواه. وبعضها لم يفهم مراد الشيخ منه، ولم يدر المقصود. فحمل الكلام على المسائل الاجتهادية النظرية على مسائل أصول الدين الضرورية الاجتماعية. فتركب من هواه وإلحاده وجهله فساد عظيم وتحريف للكلم عن مواضعه. وقد وصف الله اليهود بتحريف الكلم عن مواضعه: بتحريف ألفاظه ومعانية، وذكر تعالى أنه جعل قلوب اليهود قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، ولعنهم بسبب ذنوبهم، ونقض الميثاق الذي أخذ عليهم من الإيمان بالله ورسوله، والوقوف مع أمره وما أوجبه عليهم في التوراة. وعبّاد القبور والدّعاة إليها نقضوا الميثاق المأخوذ على هذه الأمة على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مثل قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية13)، وقوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الاسراء: من الآية23)، وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ
مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات (الأنعام: من الآية151) .
فما صدر عنه مما ستقف عليه من الإلحاد والتحريف نشأ عن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونبذ ما جاء به وراء الظهر. ومن له خبرة بتحريف اليهود لنصوص التوراة يعرف قوة المشابهة والمماثلة بينهم وبين هذا المحرف.
واعتبر بما يأتيك تجد ما قلنا صريحاً.
قال في نقله الأول: قال تقي الدين ابن تيمية في الفتاوى ـ بعد أن سئل عن رجل تكلم في مسألة التكفير ـ فأجاب الشيخ بقوله: أصل التكفير للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمّة المسلمين بما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أنّ علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم. وليس كلّ من يترك قوله لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق، ولا يؤثم. فإن الله قال في دعاء المسلمين:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: من الآية286)، وفي الصحيح عن النّبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال:"قد فعلت" ـ إلى أن قال ـ: ومن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذا الباب وإن أخطأوا ـ من أحق الأغراض الشرعية، وهو إذا اجتهد في ذلك وأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد.
والجواب أن يقال:
هذا الكلام من جنس تحريفه الذي قررناه، فإن في هذا تحريفين:
أحدهما: أنه أسقط السؤال، وفرضه في التكفير بالمسائل التي وقع فيها خلاف ونزاع بين أهل السنة والجماعة. والخوارج والروافض فإنهم كفروا المسلمين وأهل السنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه، وما أصلوه ووضعوه، وذهبوا إليه وانتحلوه، فأسقط هذا خوفاً من أن يقال دعاء أهل القبور وسؤالهم والاستغاثة بهم ليست من هذا الباب، ولم يتنازع في هذه المسألة المسلمون،
بل هي مجمع على أنها من الشرك المكفر، كما حكاه الشيخ ابن تيمية نفسه، وجعلها مما لا خلاف في التكفير به، فلا يصح حمل كلامه هنا على ما جزم هو بأنه كفر مجمع عليه، ولو صح حمل هذا العراقي لكان قوله قولاً مختلفاً، وقد نزهه الله وصانه عن هذا، فكلامه متفق يشهد بعضه لبعض.
إذا عرفت هذا عرفت تحريف العراقي في إسقاط بعض الكلام وحذفه، وأيضاًَ فالحذف لأصل الكلام يخرجه عن وجهه، وإرادة المقصود التحريف.
الثاني: أن الشيخ رحمه الله، قال: أصل التكفير للمسلمين، وعبارات الشيخ أخرجت عبّاد القبور من مسمى المسلمين، كما سننقل لك جملة من عباراته في الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون في المسلمين في مثل هذا الكلام.
قال رحمه الله في أثناء كلام له في النهي عن التفرق، والاختلاف وترك التعصب لمذهب أو قبيلة أو طريقة ـ قال:"فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً ولا عاصياً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: من الآية286) ، وثبت في الصحيح: "أن الله قال: قد فعلت" لا سيما وقد يكون يوافقكم في أخص من الإسلام مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسباً إلى الشيخ عدي. ثم بعد هذا قد يخالف في شيء، ربما كان الصواب معه. فكيف يستحل عرضه أو دمه أو ماله، مع ما ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن؟ وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله؟ وهذا التفريق الذي حصل بين الأمة علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليهم وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (المائدة: من الآية14) ، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة،
وإن الفرقة عذاب، وجماع ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ـ إلى قوله ـ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية (آل عمران: 102 ـ 104)، فمن الأمر بالمعروف: الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة. ومن النهي عن المنكر: إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله تعالى.
فمن اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً أو طلب منه الرزق أو النّصر أو الهداية، أو توكل عليه أو سجد له، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه". انتهى.
فبطل استدلال العراقي، وانهدم من أصله، كيف يجعل النهي عن تكفير المسلمين متناولاً لمن يدعو الصالحين ويستغيث بهم مع الله، ويصرف لهم من العبادات ما يستحقه إلا الله؟ وهذا باطل بنصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
ومن عجيب جهل العراقي: أنه يحتج على خصمه بنفس الدعوى، والدعوى لا تصلح دليلاً، فإن دعوى العراقي لإسلام عباد القبور تحتاج دليلاً قاطعاً على إسلامهم فإذا ثبت إسلامهم منع من تكفيرهم، والتفريع ليس مشكلاً. ومعلوم أن من كفر المسلمين لمخالفة رأيه وهواه كالخوارج والرافضة أو كفر من أخطأ في المسائل الاجتهادية أصولاً أو فروعاً، فهذا ونحوه مبتدع ضال، مخالف لما عليه أئمة الهدى ومشايخ الدين. ومثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا يكفر أحداً بهذا الجنس ولا من هذا النوع. وإنما يكفر من نطق بتكفيره الكتاب العزيز، وجاءت به السنة الصحيحة وأجمعت على تكفيره الأمة، كمن بدل دينه، وفعل فعل الجاهلية الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين، ويدعونهم مع الله، فإن الله كفرهم وأباح دماءهم وأموالهم وذراريهم بعبادة غيره، نبياً أو ولياً أو صنماً لا فرق في الكفر بينهم، كما دل عليه الكتاب العزيز والسنة المستفيضة، وبسط هذا يأتيك مفصلاً، وقد مر بعضه.
والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق
الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفيره الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها، قال في بعض رسائله: وإذا كنا لا نقاتل من يعبد قبة الكواز حتى نتقدم بدعوته إلى إخلاص الدين لله، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا وإن كان مؤمناً موحداً؟ وقال: وقد سئل عن مثل هؤلاء الجهال. فقرر أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور. وقد سبق من كلامه ما فيه الكفاية، مع أن العلامة ابن القيم رحمه الله جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل المكفرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته، وتأهلوا لذلك. فأعرضوا ولم يلتفتوا. ومن لم يتمكن ولم يتأهل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل. وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يكفر بعضهم وسيأتيك كلامه. وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله؟ وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقاء الإسلام ومسماه، مع بعض ما ذكر الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عباده الصالحين ودعائهم. ولكن العراقي يفر من أن يسمى ذلك عبادة ودعاء، ويزعم أنه توسل ونداء ويراه مستحباً، وهيهات هيهات.
أين المفر والإله الطالب
…
قد حيل بين العير والنزوان
بما من الله به من كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما جاء به محمد عبد الله ورسوله من الحكمة والهدى والبيان لحدود ما أنزل الله عليه، ولا يزال سبحانه وتعالى يغرس لهذا الدين غرساً تقوم بهم حججه على عباده يجاهدون في بيان دينه وشرعه ومن ألحد في كتابه ودينه وصرفه عن موضوعه.
ومن هذا نقله الثاني عن الشيخ في الصلاة خلف أهل الأهواء، وعدم تكفيرهم وأن القول يكون كفراً، ويطلق تكفير صاحبه، ويقال من قال هذا فهو
كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم عليه بكفر، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها إلى أن قال: والشخص المعين لا يشهد عليه، فقد لا يكون التحريم بلغه ـ إلى أن قال ـ ومن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحقّ، فأخطأه فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل العملية أو النظرية، وأنه لا فرق بين مسائل الأصول والفروع ـ وأطال الكلام في الرد على من فرّق بينهما، واحتج بحديث الذي قال لأهله:"إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين" ثم استدل العراقي بقوله: "ولا يعكر على هذا أن أكثر المتأخرين على أن المخطئ في مسائل الاعتقاد يفسق ويؤثّم كالرافضة والخوارج والمعتزلة؛ لأنّ استدلال الشيخ بأقوال الصحابة وجماهير السلف على عدم التكفير والتفسيق من حيث بعض المسائل المختلف فيها. ونحن مرادنا إخراج أهل السنة من التكفير والتفسيق في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين والحلف بغير الله، والنذر وصرفه لأماكن الأنبياء والصالحين وهذه المسائل لا يكفر صاحبها عند الشيخين، كما عند غيرهما فيرد إطلاقهما لتخصيصهما، بل لم يذكر هذه الأشياء أحد من العلماء غير الشيخين. ولو كانت هذه المسائل من أمور الشرك المخرج لصاحبه من الملة لذكرها المفسرون في تفاسيرهم وأهل العقائد في كتبهم. فلما لم يذكرها أحد من السلف والخلف غير ابن تيمية ومن تابعه، وهي من اجتهادياته لكنه أطلق اللفظ في الكفر والشرك، وأراد الأصغر وقيده إذا لم يكن الفاعل مجتهداً ولا مقلداً ولا متأولاً ولا جاهلاً. فدل كلامه على أنها من الفروع المختلف فيها في الحل والحرمة؛ فرجعت إلى الاجتهادية، وقد قال العلماء قاطبة الحنابلة وغيرهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد.
والجواب عن هذا النقل وما بعده من الكلام أن يقال:
أولاً: موضوع الكلام والفتوى في أهل الأهواء، كالقدرية والخوارج
والمرجئة ونحوهم. وأما عباد القبور فهم عند السلف وأهل العلم يسمون الغالية؛ لأنّ فعلهم غلو يشبه غلو النصارى في الأنبياء والصالحين وعبادتهم. فالعراقي لا يعرف أهل الأهواء وما يراد به، ومع هذا لاجهل فالتحريف غالب عليه في كل ما يشير إليه.
ويقال: هذا النقل الذي نقله فيه تكفير من قامت عليه الحجة ولو في المسائل الخفية ونحن لا نكفر إلا بعد قيام الحجة الرسالية في المسائل الجلية فبطلت الشبهة العراقية. ومسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له لم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام، لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة. كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه عرف أن هذا هو زبدتها وحاصلها. وسائر الأحكام تدور عليه. قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (الانبياء:108) ووجه الحصر: ما أشرنا إليه من أن التوحيد هو الأصل المقصود بالذات، فراجع كلام المفسرين فبطل ما زعمه هذا الملحد من أن هذه من مسائل أهل الأهواء.
وأما الكلام في تكفير المعين، فالمقصور به مسائل مخصوصة، قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء. فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة النبوية. فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع، كالجهل وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته. فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها. ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء. وقد نص على هذا، فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال: بعدم التكفير. وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة. فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
وسيأتيك كلامه مفصلاً فراجعه إن شاء الله تعالى.
واحتج العراقي بقول الشيخ: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها.
وليس في كلام الشيخ العذر بكل شبهة، ولا العذر بجنس الشبهة، فإن هذا لا يفيده كلام الشيخ، ولا يفهمه منه إلا من لم يمارس شيئاً من العلوم. بل عبارته صريحة في إبطال هذا المفهوم. فإنها تفيد قلة هذا، كما في المسائل التي يعرفها إلا الآحاد، بخلاف محل النزاع، فإنه أصل الإسلام وقاعدته، ولو لم يكن من الأدلة إلا ما أقر به من يعبد الأولياء والصالحين من ربوبيته تعالى، وانفراده بالخلق والإيجاد والتدبير لكفي به دليلاً مبطلاً للشبهة. كاشفاً لها منكراً لمن أعرض عنه ولم يعمل بمقتضاه، من عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك حكم على المعينين من المشركين من جاهلية العرب الأميين لوضوح الأدلة، وظهور البراهين. وفي حديث المنتفق:"ما مررت عليه من قبر دوسي أو قرشي فقل له: إن محمداً يبشّرك بالنّار". هذا وهم أهل فترة. فكيف بمن نشأ من هذه الأمة وهو يسمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأحكام الفقهية من إيجاب التوحيد والأمر به، وتحريم الشرك والنهي عنه؟ فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم، لا سيما إن عاند في إباحة الشرك ودعا إلى عبادة الصالحين والأولياء، وزعم أنها مستحبة، وأن القرآن دل عليها. فهذا كفره أوضح من الشمس في الظهيرة، ولا يتوقف في تكفيره من عرف الإسلام وأحكامه وقواعده وتحريره، والغالب على كل مشرك أنه عرضت له شبهة اقتضت كفره وشركه، قال تعالى:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} الآية (الأنعام: من الآية148)، وقال:{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} (النحل: من الآية35) عرضت لهم شبهة القدرية، فردوا أمره تعالى ودينه وشرعه بمشيئته القدرية الكونية، وعلى إطلاق هذا العراقي وفهمه تكون هذه الشبهة مانعة من تكفير أعيانهم. والنصارى شبهتهم في القول بالبنوة والأقانيم الثلاثة: كون المسيح خُلق من غير أب، بل بالكلمة، فاشتبه الأمر عليهم؛ لأنهم عرفوا من بين سائر الأمم بالبلادة وعدم الإدراك في المسائل الدينية، فلذلك ظنوا أن الكلمة تدرعت في الناسوت، وأنها ذات المسيح، ولم يفرقوا بين الخلق
والأمر، ولم يعلموا أن الخلق يكون بالكلمة، لا هو نفس الكلمة، وقد أشار تعالى إلى شبهتهم وردها وأبطلها في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران: من الآية59)، وقوله:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (النساء: من الآية171) وأكثر أعداء الرسل عرضت لهم شبهات.
ومن عرف هذا تبين له ضلال العراقي وأنه نبطي لم يمارس شيئاً من العلوم وإن قل. وقد قيل: يفسد الأديان: نصف متفقه، ويفسد اللسان: نصف نحوي، ويفسد الأبدان: نصف متطبب، فكيف ترى بالمعدم المفلس إذا خاض في العلوم وخبط فيها؟.
والشيخ قيد الشبهة المانعة من التكفير ووصفها بصفة كاشفة، فقال: وقد يكون له شبهات يعذره الله فيها؛ يريد أن الكلام يخصص بالشبهة التي يعذر فيها.
والعراقي أخذ كلامه من غير نظر للقيد والوصف المانع من دخول المشركين وعباد القبور، ولما عرف أن العموم في هذا لا يتجه استدرك فقال: فإن قلت: أكثر المتأخرين على أن المخطئ في المسائل الاعتقادية يفسق ويؤثم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة، قلنا: استدلال الشيخ من حيث الجملة في بعض المسائل المختلف فيها.
فنقول له: مسائل دعاء الصالحين والاستعانة بهم من المسائل الاعتقادية، فتدخل في الاستثناء والتفريق بينها وبين أقوال الروافض والخوارج والمعتزلة فالإخراج لها من كلام الشيخ تحكم وتهور، ولا يصير إليه من عرف الحقائق. والصواب أن عباد القبور شرّ الأصناف، وأن شبهتهم أوهن الشبه وأضعفها، وفي حديث ابن مسعود:"إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" رواه أحمد في مسنده.
وهذا العراقي في إخراجه الخوارج ونحوهم من العذر بالشبهة، وقوله في عباد القبور: إنهم معذورون تابع لهواه، دائر معه في هذا ونحوه. ولو كان فيه الهلاك الأبدي والشّقاء السرمدي، عياذاً بالله من جهد البلاء.
إذا عرفت أن استثناءه واستدراكه على كلام الشيخ برأي أكثر المتأخرين في عدم الاعتداد والعذر بالشبه في العقائد، فاعلم أن هذا الاستدراك مبني على فهم فاسد، وعدم تحقيق. فإن الشيخ لم يرد ما قاله العراقي من المسائل الاعتقادية التي تعلم من الدين بالضرورة. وإنما يريد ما فيه شبهة يخفى دليلها على مثل القائل بها، ولا تقوم عليه حجة يكفر مخالفها إلا بتوقيف وكشف، ولا فرق في ذلك بين المسائل الاعتقادية والعملية.
وأما مسألة عبادة القبور ودعائها مع الله، فهي مسألة وفاقية التحريم، وإجماعية المنع والتأثيم، فلم تدخل في كلام الشيخ لظهور برهانها، ووضوح أدلتها؛ وعدم اعتبار الشبهة فيها.
هذا وجه الإخراج والاستدراك، لا ما زعمه الغبي، فإن الخوارج لا يكفرهم الشيخ، ولا كثير من أهل العلم، وقد سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج:"أكفّار هم؟ قال: من الكفر فرّوا"، فما أخرجه العراقي غير خارج، ما أدخله غير داخل، فكلامه مجرد تخبيط لا يروج على النّقّاد.
وأما الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه، فهذا لم تقم عليه الحجة التي يكفر مخالفها، وأهل الفترة لا يقاسون بغيرهم. والشيخ قصده أن الأصول قد يجري فيها ذلك، وليس المراد أن كل من عرضت له شبهة في الأصول يعذر بها، وسيأتيك لهذا مزيد بيان إن شاء الله.
واعلم أن المراد بقول الشيخ في المنع من تكفير أهل الأهواء ومن عرضت له شبهة يعذره الله فيها، المقصود به: العذر في الجملة، فيصدق
بعدم التكفير، ولو مع وجود الفسق والعقاب كما جاء في الخوارج ونحوهم.
والشيخ قيد التكفير المنفي بقوله: أول من أحدث تكفير المسلمين أهل الأهواء. وعباد القبور ليسوا عنده بمسلمين، وصناعة العلم محظورة ممنوعة على من لم يعرف توحيد الإلهية، وفاته النصيب والحظ من الأنوار الرسالية، فإن العلم نور يقدفه الله في القلب، يبصر به صاحبه الحقائق على ما هي عليه.
وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
…
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور
…
ونور الله لا يهدى لعاصي
وقول العراقي: ونحن مرادنا إخراج أهل السنة من التكفير في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والحلف بغير الله، والنذر، ومصرفه لأماكن الأنبياء والصالحين.
يقال: قد تكرر أنه يسمي عباد القبور أهل سنة وجماعة، ويلقب بالشرك بالأنبياء والاستغاثة والملائكة توسلاً، والإلحاد فيها عن حقيقتها، فتفطن لهذه المباحث، فإنّها مهمة جداً.
وبهذا تعرف أن مراده: إخراج المشركين عباد الأولياء والصالحين من التكفير الذي أجمع عليه كافة المسلمين، وعلم إجماعهم واتفاقهم بالضرورة من الدين ومعلوم أن الشيخ لم يرد هؤلاء، كيف ولله في كل شيء آية تدل على أنه واحد.
ومسألة الحلف بغير الله، جاء فيها الحديث النبوي، وأنها من الشرك. والذي عليه الجمهور: أن الحلف بغير الله محرم لا يجوز، سواء كان بالأنبياء أو غيرهم. والنصوص المانعة من ذلك أكثرها صيغ عموم لا يجوز تخصيصها إلا بما يساويها في الظهور والدلالة والصحة، من الأحاديث النبوية.
وأما صرف النذر لأماكن الأنبياء والصالحين فمراده: قبورهم، ولكنه
دلس بذكر الأماكن؛ لأنّ كلام العلماء صريح في المنع من صرف النذر لرفع القبور، وتشييدها والبناء عليها وفرشها وسترها، وإيقاد السرج عليها، وجعل السدنة لها، لما في ذلك من مضاهات اليهود والنصارى والمشركين، وما تفعله عند أوثانها وأصنامها، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء فيما نعلم.
وأما النذر لها فهو نذر معصية باتفاق العلماء، والمعصية تصدق بالعبادة للمنذور له، ومعلوم أن إخراجه على وجه القربة والتعظيم لأهل القبور عبادة لهم وشرك، وتقرب إلى غير الله، وشرع لما لم يأذن له الله، ولم تأت به شريعة، ولم يكن من هدي السلف والقرون المفضلة، ولو قصد به المجاورين والعاكفين عند القبور، فهو غير جائز أيضاً لأنّ العكوف عند القبور وسدانتها أصل عبادة الأصنام، كما ذكره ابن عباس وغيره في الكلام على قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الآية (نوح: من الآية23) .
وأما قوله: وهذه المسائل لا يكفر فاعلها عند الشيخين، فقد مرّ ردّه.
وقوله: لم يذكر هذا أحد من العلماء غير الشيخين.
فأقول: أما الإعلان بجهله وإفلاسه وعدم اطلاعه، فهو صريح في كلامه من أول رسالته إلى آخرها. وفي هذه الجملة زيادة نكتة. وهو أنه حكم على كافة العلماء من عهد أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت أنهم سكتوا عما وقع من الناس عند القبور وآثار الصالحين: من الدّعاء والاستغاثة والتبرك، فلم يكتف العراقي بعدم علمه واطلاعه، ولم يفقه ذلك حتى تجاسر إلى نسبة العلماء إلى السكوت عن حكمها وتحريمها.
وقوله: ولو كانت هذه المسائل من الشرك المخرج لصاحبه من الملة لذكرها المفسرون.
فالجواب أن يقال:
ذكرها المفسرون وقرووها، وأطنبوا وبسطوا وكرروا، لكنهم لم يضمنوا
أن يفقه كلامهم ميت القلب، جامد الذهن، بل ولا ضمن الله تعالى لهذا النوع أن يفقهوا عنه وعن رسله ما جاءوا به من البينات والهدى والحجة والشّفاء. قال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} (الاسراء: من الآية46)، وقال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يّس: 8 ـ9) وما أحسن ما قيل:
فيا لك من آيات حق لو اهتدى
…
بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة
…
فليست وإن أصغت تجيب المناديا
وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} (لأنفال: من الآية23) ، والقرآن كله يدل على وجوب إخلاص العبادة لله، والبراءة من عبادة ما سواه وإسلام الوجوه له على اختلاف أنواع الدلالات مطابقة وتضمنا والتزاماً، وقياساً صحيحاً.
وأمثّل لك بما قاله العلماء في معنى البسملة وتفسيرها لتعلم أن هذا العراقي كاذب جاهل في قوله: لم يذكرها المفسرون.
من ذلك قول العلماء في باء بسم الله: إن معناها الاستعانة، ورجحوا هذا القول، لوجوه مقررة في محلها وقالوا: قد جاءت السنة بأن "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أو أجذم أو أقطع" وذكروا فيه روايات. والمعنى: أنه لا يكمل أمر ولا يحصل تمامه إلا بذكر الله، ولا يكون أصله ولا يوجد منه شيء إلا بمعونته تعالى، قالوا: وقد قالت طائفة من أهل العلم: إن البسملة من الفاتحة.
وقالت طائفة أخرى: هي آية من القرآن فاصلة بين السور. وعلى القول الأول: فالآيتان بها من العبادات الواجبة والاستعانة هي مضمونها، فتكون الاستعانة واجبة به تعالى. وعلى القول الآخر: يكون الإتيان بها مستحباً والاستعانة بالله واجبة، لا بخصوص هذا اللفظ. ثم قالوا: إن المتعلق يتعين أن يقدر مؤخراً، لإفادة الحصر والاختصاص. وهذا يدل على القول
بوجوب الاستعانة؛ لأن ما اختص به تعالى واستحقه دون ما سواه لا يصرف لغيره، والقاعدة العربية تفيد أن تقديم المتأخر، وتأخير المتقدم: يقتضي الحصر.
فهذان موضعان يدلان على وجوب الاستعانة به وحده في أول حرف في كتاب الله، مع متعلقه.
الموضع الثالث: من الأبحاث في الباء وتأخير متعلقها، قولهم: إن الحصر هنا حصر إفراد، لا حصر قلب. ورجحه أساطينهم بأن المشركين إنما اعتقدوا الشركة لآلهتهم، لا الاستقلال، فالحصر باعتبار معتقدهم خص أفراداً، قالوا: وأكثر الكفار اعتقدوا الشركة، لا الاستقلال، فمعنى التسمية عند الموحِّد: إفراده سبحانه بالاستعانة عما عُبد معه من الآلهة، وعلى القول بأن الاختصاص والحصر للقلب: إنما يتجه باعتبار معتقد من يدعي الاستقلال لمعبوده، كمعطلة الصانع.
البحث الرابع في اسم الله، قولهم: إنه من أله إلهة وألوهية، فهو إله فعال، بمعنى مفعول، بمعنى: عُبد يُعبد عبادة، والمستعين بغير الله متأله عابد، لا سيما فيما لا يقدر عليه إلا الله. وإذا ثبت أن الاستعانة تأله وأن التأله عبادة، فالبرهان قائم على أن العبادة لا يستحقها غيره تعالى.
الخامس: قول ابن عباس في تفسيره للاسم الشريف الأقدس: بأنه "ذو الألوهية والعبودية، على خلقه أجمعين" وقد أخذه المفسرون وقرروه، واستحسنوه. فإذا كان تعالى هو صاحب ذلك ومستحقه فصرفه إلى غيره شرك، ووضع للحق في غير موضعه. وهذا يدخل فيه جميع العبادات التي يصدق عليها التأله والألوهية، والعبادة والعبودية، لا سيما الدعاء، فإنه من أجل أنواعه. قال البخاري في كتاب الإيمان:"باب دعاؤكم: إيمانكم" وساق حديث ابن عمر. وكثيراً ما يترجم بما صح عنده وإن لم يكن على شرطه.
السادس: قولهم في اسمه "الرحمن" إنه الموصوف بغاية الرحمة
ومنتهاها وأنه وصف ذات، لا ينفك عنه كسائر أوصافه الذاتية المقدسة، ودعاء غير الموصوف بهذا الوصف وقصد من دونه، والتعرض للوسائط والشفعاء، سوء ظن بصفات كماله، ونعوت جلاله، وإنما دعا إلى عبادته ودعائه والاستعانة به ما اتصف به من الصفات المقدسة، والنعوت الكاملة الجميلة.
واستدلوا على ذلك بقول الخليل عليه السلام لقومه: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات:87)، قالوا: أي فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم له شركاء؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم أنه يخفى عليه أحوال عباده، حتى يحتاج إلى شركاء يعرفونه بها كالملوك؟ أم لا يقدر وحده على الاستقلال بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاس، فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القلة، ويتعزز به من الذلة؟ أم محتاج إلى ولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منه ومنها؟ تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً، ولو قدره المشركون حق قدره لما أشركوا به.
وكذلك اسمه تعالى "الرحيم" فإنه يدل على أنه بالغ في الرحمة غايتها، وأن رحمته عمت عباده ووسعت خلقه، فما بهم من النعم والإحسان والعطايا الباطنة والظاهرة فآثار رأفته ورحمته. ومن هذا فعله وهذا وصفه كيف يعدل المضطر إلى غيره في ضروراته وحاجته وملماته؟ وفي الحديث القدسي:"يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم" الحديث بطوله، ومن رحمته وتودده إلى عباده: أنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فينادي: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ " الحديث معروف مشهور. وفي بعض الإسرائيليات: أن الله يقول: "ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كلّ شيء، وإن فتك فاتك كل شيء" وهذا قرروه بهذا المعنى في التفسير. وفي الكلام على شرح الأسماء الحسنى وفي
الكلام على أحوال القلوب وسيرها، وتوجهاتها إلى الملك العلي الأعلى.
وعبارة البيضاوي في الكلام على أول فاتحة الكتاب: وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها، عاجلها وآجلها جليلها وحقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكره والاستمداد به عن غيره. قال البيضاوي: وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى: من كونه موجداً للعالمين، رباً لهم، منعما عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، مالكاً لأمورهم يوم الثواب والعقاب: للدلالة على أنه الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه، بل لا يستحقه على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعلِّيته له، وللإشعار من طريق المفهوم على أن من لم يتصف بتلك الصفات لا يتأهل لأن يحمحد فضلا عن أن يعبد، ليكون دليلاً على ما بعده. فالوصف الأول: لبيان ما هو الموجب للحمد، وهو الإيجاد والتربية. والثاني، والثالث: للدلالة على أنه متفضل بذلك مختار فيه، ليس يصدر منه لإيجاب بالذات أو وجوب عليه قضت به سوابق الأعمال حتى يستحق به الحمد، والرابع: لتحقيق الاختصاص، فإنه لا يقبل الشركة فيه. وتضمين الوعد اللحامدين والوعيد للمعرضين" انتهى.
وإن شئت المزيد على هذا، ولم تكتف بما ذكرناه من التمثيل بالبسملة، وما فيها من الأبحاث فنتكلم على فاتحة الكتاب بما قاله أهل العلم والتأويل لينتفع بذلك من وقف على كتابنا.
فاعلم أن الحمد على ما أفاده بعض المحقيقين ذكر محاسن المحمود على وجه الثناء عليه بها، مع محبته والرّضا عنه والخضوع له. فلا يحمده من أعرض عن محبته والخضوع له، أو جعل له شريكاً في ذلك. ولا يرضى عنه من أعد غيره لحاجته وفاقته واستغاث به في شدته وضرورته. وهذا الحد أتم
وأكمل من تعريف بعضهم له بأنه اصطلاحاً: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، لوجوه لا تخفى على الذكي. فلا نطيل بذكرها، وإذا كانت "أل" فيه للاستغراق وعموم الأفراد ـ كما هو الراجح ـ فجميع أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال التي يحمد من قامت به ثابت لله أكملها لكمال صفاته وكثرتها. ولهذا لا يحصي أحد من خلقه ثناءً عليه. وبها يستدل على آلهيته وأنه الإله الحق، ولذلك يستدل الله تعالى على بطلان إلهية ما سواه بفقد صفات الكمال التي يستحق بها أن يعبد ويعظم ويقصد وحده، كما قال عن خليله في مخاطبته لأبيه:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم: من الآية42)، وقال في عُبّاد العجل:{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (لأعراف: من الآية148) ، فجعل نفي صفات الكمال موجباً لبطلان آلهيته وعبادته. وهذا يعرف بالفطر والعقول.
فهذه ثلاثة مواضع في أول كلمة من كتاب الله دلت على بطلان دعاء غيره وعبادته والاستعانة بسواه، والعبد وإن علت درجته وارتتفعت رتبته فهو فقير إلى بارئه وفاطره، لا نسبة لقدرته وعلمه وحكته وفضله وكرمه وحياته إلى ما اتصف به خالقه وإلهه الحق من صفات الكمال ونعوت الجلال. قال الشيخ الإسلام:
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً
…
كما الغني أبداً وصف له ذاتي
وأما اسمه "الله" فهو دال على الإلهية المتضمنة لسائر صفات الإلهية والكمال، مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال بالوضع والمطابقة على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً ومفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، بخلاف من أله سواه ممن لا يستحق الإلهية، ولم يخرج عن رتبة العبودية، وصار مفزعه في الحوائج والنوائب إليه، واعتماده في المهمات والملمات عليه، فمن كان هكذا كعبّاد الملائكة والأنبياء والصالحين، فلم يعط هذا الاسم الشريف حقه من العبودية، وإفراد الله بالإلهية.
وأمّا "الربّ" فهو دال على ربوبيته لجميع مخلوقاته، وكمال الربوبية هو بما اتصف به من صفات الكمال، كقدرته وعلمه ورحمته وقيوميته، وهو يربي عباده بالخلق والتدبير والملك وهو من أكبر الأدلة وأوضحها وأجلاها على وجوب عبادته تعالى، وأن إلهية ما سواه وعبادة غيره أبطل الباطل وأضل الضلال، ولهذا يستدل على إلهيته تعالى ووجوب توحيده بأفعاله الصادرة عن ربوبتيه، كخلقه وقيوميته. قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (النحل:17)، وقال تعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: من الآية33)، وقال:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} (الاحقاف: من الآية4) ، وهذا كثير في القرآن، ولكن يحول بين عباد القبور والصالحين وفهمه ما على قلوبهم من رين الشرك وطابعه، فلا جرم قال العراقي: لم يذكر هذا أحدٌ من العلماء والمفسرين.
وأما اسمه "الرحمن" فهو كما تقدم دال على أن الرّحمة وصفه وصف ذات لا ينفك عنه، ولهذا لا يطلق على غيره.
و"الرحيم" هو الراحم لعباده البالغ في إيصال الرحمة. لأن فعيل من صيغ المبالغة. لكن فعلان أبلغ. فسعة الرحمة وكثرتها وإحاطتها من أدلة عظمة الموصوف وكمال صفاته، ووجوب عبادته وإلهيته، وإنابة القلوب إليه. فالمستغيث بغيره الراغب إلى سواه فيما لا يقدر عليه غيره من الأمور المهمة العظام، وما ليس من جنس الأسباب العادية، كمن يستغيث بالأنبياء، والصالحين والملائكة، ويرجع إليهم في حاجاته وملماته: ما أعطي هذا الاسم حقه، ولا آمن به حق الإيمان الواجب. ولو استشعر شيئاً من كمال مدلوله وسعته وإحاطته لما عدل بربه سواه، ولا التفت إلى غير رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، ومشهد الأسماء الحسنى والصفات العلي مشهد عظيم لا يعرفه ويسير به إلا الصّديقون العارفون بالله. وما يجب له وما يستحيل عليه، وأما من تعلق على غيره والتفت إلى سواه، وصار مبلغ علمه وغاية حذقه وفهمه تعلقه على الأولياء والصالحين ورجاء رحمتهم وإحسانهم وعطفهم. فهو محجوب عن هذا غير عارف بربّه،
جاهل بصفات كماله ونعوت جلاله. قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (الزمر:64) فسجّل على من أمر بدعاء الصالحين والاستغاثة بهم بالجهالة، سواء سمي ذلك توسلاً وتشفعاً واستظهاراً وكرامة أو لم يسمه.
وأمّا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة:4) فهو وصف كمال ومجد، يقتضي وجوب معاملته وحده لا شريك له، وإسلام الوجه له، لأنّ الاختصاص والانفراد بالملك يوجب خوفه ورجاءه وطاعته. والتعلق على المملوك المقهور الذي لا شركة له ولا ملك بوجه من الوجوه، وقصده في طلب الإعطاء والمنع، والخفض والرفع والنجاة من النار، والفوز بدار الأبرار: سفه وضلال مبين. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: من الآية130) وقد تمدح سبحانه باختصاصه بملك هذا اليوم في مواضع من كتابه مع أنه الملك المالك في الدنيا والآخرة لسر اقتضى ذلك، وحكمة أوجبته، وهي انقطاع كل العلائق والأسباب والمؤاخاة والوصل التي يتعامل بها أهل الدنيا في دنياهم. قال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:123) ،
فاعرف ما في هذا الخطاب من العموم، ،ما دل عليه التنكير من الشمول المتناول لكل معبود مع الله، ولو نبياً أو ملكاً، وما يجري على يد الشفعاء ذلك اليوم لا يرد على الآية ولا ينفي العموم، لأنه لا يقع إلا بإذنه تعالى فيمن يرضى قوله وعمله. فعاد الأمر له جل ذكره بدءا وعوداً أولاً وآخراً.
و"الدين" هو الجزاء والمكافأة على الأعمال حسنها وقبيحها، وما لم ينزل به سلطان ولم ترد به حجة من الأعمال والديانات، يجازي فاعله، ويعاقب إن لم يمنع مانع كتوحيد الله والإيمان به وبرسله. وأي توحيد يبقى وينفع مع عبادة الأولياء والصالحين والاستغاثة بهم، وصرف الوجوه إليهم.
قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92 ـ93)، قال جمعٌ من العلماء: عن شهادة أن لا إله إلا الله.
وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5) ففيها اختصاصه وانفراده
بالعبادة والاستعانة وأن ذلك حق لا يشركه فيه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. والعبادة هي الغاية المقصودة من العباد المكلفين، والاستعانة وسيلة إلى هذه الغاية المقصودة من العباد المكلفين. والمؤمنون بالرسل أخلصوا له العبادة وأفردوه بالاستعانة. فهو معبودهم ومستعانهم وجميع الأعمال داخلة في هاتين الكلمتين الشريفتين، وقد دلت صيغة الحصر والاختصاص فيهما على التوحيد. والعبد همام وحارث، لا بد له من ذلك، وهمه وحرثه غاية ووسيلة فيجب أن يكون غاية قصده ومراده وجه الله، والتماس طاعته ومرضاته، ويجب أن تكون الوسيلة إلى ذلك استعانته بخلاف من عبد غيره واستعان بسواه، أو من عبده لكن قصر وأضاع ما يحصل به مقصوده من الاستعانة، أو من استعان به ولكن على ما لا يحبه وما لم يشرعه من الأعمال الصالحة أو وسائلها. ويدخل في النوع الثاني: من تعلق على الأنبياء والصالحين عبادة واستغاثة واستعانة، كعبّاد القبور، وفي حديث ابن عباس:"ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" الحديث.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: "إياك أن تستعين بغير الله فيكلك الله إليه"، وقال أبو عبد الله القرشيّ" استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق" وقال غيره:"استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون" والكلام هنا يطول.
وغرضنا التنبيه على أن القرآن كله دال على التوحيد. آمر به مشير إليه مستلزم له، مقرر لوصف أهله وما لهم من الكرامة في المعاد ومبين لأحوال من تركه، ولم يرفع به رأساً أو أشرك في عبادته. وما لهذا الصنف من الجزاء والعقاب والإهانة في الدار الآخرة.
وأما قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6 ـ 7) فهذا فيه توحيد الطريق وأن من سلك سواه وأراد الوصول من غيره فالسبل والطرق عليه مسدودة قاطعة غير موصلة. وفي حديث ابن مسعود: "خطّ لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) إذا عرف هذا فالصراط المستقيم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان من أئمة الهدى، ودعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم والتوجه إليهم كل هذا ليس مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان، بل وليس عليه أحد من رسل الله ولا أوليائه، وقد توافرت النصوص وتظاهرت على المنع منه. كما سيمر بك مفصّلا، ،قد مر منه جملة صالحة، فإذا كان خارجاً عن الصراط المستقيم ناهيا عنه سالكيه ومؤتميه، فهو سبيل يفضي بسالكه إلى النيران والدخل في طاعة الشيطان، وأهل هذا الصراط المستقيم دأبهم وشأنهم إفراد الله بالعبادة والاستعانة والاستغاثة والإنابة والخوف والرجاء والتوكل والاعتماد، ومباينتهم في الأوصاف خروج عن صراطهم وطريقهم، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
فلواحد كن واحدا في واحد
…
أعني سبيل الحق والإيمان
فسبيل الله واحد لا متعدد، ولا يمكن أن يأتي أحد بحجة وسلطان على أن دعاء الأولياء والصالحين من أهل القبور أو غيرهم مشروع مسنون أو مباح، ولا يمكن أن تأتي شريعة بهذا، وما يقوله الجاهلون من الشبه الواهية لا يعتد به؛ ولا يلتفت إليه، بل هي قاطعة عن الطريق حائلة بين أربابها وبين الصراط المستقيم، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وإن زعموا أنها أدلة وبينات، فهي جهالات وخيالات وضلالات. وسيأتيك الكلام على ما أورده العراقي منها.
وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فغير: صفة ونعت لما قبلها من الاسم الموصول، على ما وجهه بعض المفسرين.
والمعنى: أنّ الذين أنعم الله عليهم خالفوا وباينوا المغضوب عليهم والضالين في صفاتهم الشنيعة، وأفعالهم القبيحة، فالأولون عرفوا الحقّ ولم يتبعوه ولم يريدوه، بل آثروا أغراضهم الفاسدة وشهواتهم القاطعة، واستمتعوا بخلاقهم، ولم يعبثوا بما عداه مما فيه صلاح العبد وهداه. والآخرون غلبت عليهم الشبهات، وتاهوا في أودية الجهالات والضلالات، ولم يهتدوا إلى ما نصبه الله تعالى من الآيات الواضحات، والأدلة الظاهرات على وجوب توحيده وإلهيته وصمديته وتنزهه عن الصاحبة والولد، وأحق الناس بالوصف الأول: اليهود، وبالوصف الثاني: النصارى؛ لغلبة الوصف الأول على اليهود، وغلبة الثاني على النصارى، ولذلك جاء في حديث عدي بن حاتم:"اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" ولكن هذا الوصف لا يختص بهم، بل كل منحرف عن الصراط المستقيم إيثاراً لهواه ورأيه فله نصيب من الوصف الأول، ومن انحرف لجهله وعدم فقهه فله نصيب من الوصف الثاني، وهذا الانحراف إن بقي معه أصل الدين الذي لا يقوم الإيمان والتوحيد إلا به فهو من أهل الذنوب من المسلمين وأمره إلى الله، وإن كان الانحراف يخل بأصل الدين والإيمان، ويمنع التوحيد، كحال من يدعو الملائكة والأنبياء والصالحين مع الله في مهماته وملماته ويعتمد عليهم، ويستغيث بهم في شدائده فهذا له حظ وافر ونصيب كامل من الضلال، قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: من الآية62) انظر هذا الاستفهام وحسن موقعه بعدما تقدم من الاستفهامات التي هي حجج وآيات على ما بعدها تعرف به فحش ما جاء به عباد القبور من دعاء آلهتهم والاستغاثة بهم في الملمات والشدائد المدلهمات وأن الجاهلية كانوا يخلصون في الشدائد، ويعترفون بأنه المختص بإجابة المضطر وكشف السوء وهؤلاء يشتد شركهم عند الضر ونزول الشدائد.
ثم من المعلوم أن أخصّ أوصاف النصارى الضالين: عبادة الأنبياء والصالحين وجعلهم شركاء لله فيما يختص به ويستحقه، وطاعة علمائهم
وأحبارهم في التحليل والتحريم، المخالف لما عهد إليهم في الكتب السماوية على ألسنة أنبيائهم، وعبّادُ القبور ضربوا في هذا بسهم وافر، وحصلوا على نصيب من عبادة الأنبياء والصالحين ودعائهم مع الله استحقوا به إطلاق وصف الضلال عليهم، فيما أتو به وابتدعوه من طاعة الدّعاة إلى عبادة القبور من المنتسبين إلى العبادة أو العلم.
وهذه إشارة تطلعك على ما وراءها. وفي فاتحة الكتاب والسبع والمثاني من العلوم والتوحيد والرّد على أصناف الضالين وشيع المبطلين، ما لا يمكن حصره واستقصاؤه وإنما أردنا بيان كذب العراقي بقوله: لم يذكر المفسرون هذا. والتسجيل على جهله في ذلك، وليس لنا فيما مر إلا تقريبه في عبارة يفهمها الذكي والبليد، وإبرازه في قالب معناه على الطالب غير متعسر ولا بعيد، والفضل للمتقدم. ولولا الحاجة والضرورة لما تصديت لمثل هذه المباحث، خوفاً من زلة القدم، وهفوة القلم، ومعرّة النّدم، وأستغفر الله العظيم من التقصير في فهم كتابه، وعدم الاشتغال بمعرفة ما يراد من حكمه وخطابه.