الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال العراقي: "النقل الثالث والعشرون قال: ابن مفلح في كتاب الفروع عن شيخه تقي الدين: والنذر لغير الله، كنذره لشيخ معين للاستغاثة به، وقضاء الحاجة منه قال شيخنا: كحلفه بغيره، وقال غيره: نذر معصية" انتهى.
فشبه النذر والاستغاثة بالشيوخ، وطلب قضاء الحاجة بالحلف بغير الله، فهو على قولين للعلماء، كما ذكره ابن تيمية، قول بالحرمة، وقول بكراهة التنزيه، بل رواية عن أحمد أنه مباح، نقله صاحب الإنصاف في التنقيح.
ثم قال: النقل الرابع والعشرون: ذكر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في ردّه على أخيه محمد بن عبد الوهاب، عن الشيخ ابن تيمية قال: كما يفعل الجاهلون بمكة شرفها الله وغيرها، من بلاد المسلمين من الذبح للجن، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبائح الجن. انتهى.
وذكر ابن القيم في كتاب الكبائر الذبح لغير الله، وجعله من المحرم، وفسره بأن يقول: باسم سيدي الشيخ فلان، عوضاً عن قوله: بسم الله، حين الذبح، مع أن اللفظة لا أظن مسلماً يقولها، والمستفاد من كلامهما أنه محرم، وليس بشرك مخرج عن الملة؛ لأنه قال: كما يفعله، وقال في الفنون: يكره إشعال القبور وتبخيرها، ثم قال: ونص أنه إن نذر ذبح ولده، أو نفسه ذبح كبشاً، قيل مكانه وهو الأصح، وقيل: كهدي. ونقل حنبل يلزمانه. وعنه إن قال إن فعلته فعلي كذا أو نحوه، وقصده اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مكة كبشاً اختاره شيخنا، وقال: عليه أكثر
نصوصه. وقال: وهو مبني على الفرق بين النذر واليمين، ولو نذر طاعة حالفاً بها أجزأه كفارة يمين، بلا خلاف عن أحمد، فكيف لا يجزيه إذا نذر معصية حالفاً بها، فعلى هذا على رواية حنبل يلزم أن الناذر والحاف يجزيه كفارة فتصير ستة أقوال. وذكر الأزجي البغداديّ: نذر شرب الخمر لغو، فلا كفارة. ونذر ذبح ولده يكفر. وقدم ابن رزين نذر معصية لغو. قال: ونذره لغير الله كنذر لشيخ معين حي للاستعانة وقضاء الحاجة منه، كحلفه بغيره. وقال غيره: هو نذر معصية.
فقف وتأمل تحريف العراقي وسوء فهمه. فإن الكلام في تشبيه النذر بالحلف من جهة الكفارة وعدمها، لا من جهة أخرى. والنزاع ليس في الكفارات. وإنما هو في الحكم على النذر لغير الله أنه من الشركيات. وهذا من أكبر الأدلة على كثافة فهمه، وغلظ حجابه، وأنه محجوب عن فهم كلام أهل العلم، كما حجب عن فهم كلام الله وكلام رسوله:
فللكثافة أقوام لها خلقوا
…
وللمحبة أكباد وأجفان
ثم كلام الشيخ فيمن نذر للحي الحاضر للاستعانة وقضاء الحاجة. وهذه النقول كلها مجرد عدد لا حقيقة له، بل هي إما تحريف وإلحاد في كلام أهل العلم، وإما سوء فهم وكثافة حجاب، وإما كذب لا أصل له.
وأما ما نقله عن سليمان، فسليمان والعراقي أخذاً بعض العبارة وتركا تمامها، وما ارتبط بها.
قال في اقتضاء الصراط المستقيم: "وأيضاً فإنّ قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: من الآية3][النحل: من الآية115] ، ظاهره ما ذبح لغير الله سواء لفظ فيه به، أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه لحرم،
ولو قال فيه بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن" انتهى كلام الشيخ.
فأخذ المعترض السطر الأخير من كلامه، أو بعض السطر وأخذ المشبه وترك المشبه به، لأن في الأول التصريح بردة من ذبح لغير الله. وأن في الذبح للجن مانعاً آخر لأنه مما أهل به لغير الله.
وقوله في العبارة: فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه بفواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله ـ فترك هذا وسرق بعض العبارة واختلس منها كاختلاس الشيطان من صلاة العبد واختطافه بعضها، وفي العبارة التصريح بكفر من استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، خلافاً للعراقي وشيعته من عباد القبور الصادين عن سبيل الله المحرفين للكلم عن مواضعه، الوارثين لليهود في تحريف كلمات الله وتبديل دينه.
وهذا الرد أمليت أكثره من ذهني، فلذلك اختصرت واكتفيت بالإشارة، وقد فتحت الباب لمن أراد الوقوف على النصوص والآثار، وكلام أهل العلم.
وأما ما ذكره ابن القيم في كتاب الكبائر من الذبح لغير الله وجعله من المحرم فنعم هو محرم، قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ـ إلى قوله ـ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] فجعل هذا كله محرماً، هذا عرف القرآن والسنة والشرع، والعراقي لجهله وسوء قصده يحمل كلام أهل العلم على العرف النبطيّ الحادث، واصطلاح العامة، فقاتل الله الجهل والهوى، فما أغلظهما من حجاب بين العبد والهدى.
وأما قوله: وفسره بأن يقول: باسم سيدي الشيخ فلان، عوضاً عن قوله: باسم الله.
قلت: قد تقدم كلام الشيخ وتقسيمه ما أهل به لغير الله إلى ما قصد به القربة والنسك لغير الله، وإلى ما ذكر عليه غير اسمه عند الذبح، فالقسمان
واقعان، ومنع أحدهما مكابرة، وكلام ابن القيم ليس فيه حصر، بل كلامه في هذه المسألة موافق لكلام شيخه.
والقسم الثاني الذي هو أغلط وأفحش نص عليه في مواضع متعددة، وقال صاحب الروض، من كتب الشافعية: إذا ذبح المسلم للنبيّ (كفر، نقله شيخنا رحمه الله، وذكره غير واحد من المفسرين في الكلام على قوله:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} ونقل بعضهم عن فقهاء بخارى إنهم أفتوا بتحريم ما عقر بين يدي الملوك، تعظيماً لهم. لأنه مما أهل لغير الله به.
قال العلاّمة الشوكانيّ: قال بعض أهل العلم: إنّ إراقة دماه الأنعام عبادة لأنها إما هدي أو ضحية أو نسك، وكذلك ما يذبح للبيع، لأنه مكسب حلال فإنه عبادة. ويتحصل من ذلك شكل وضعي، هو إراقة دم الأنعام عبادة. وكل عبادة لا تكون إلا لله، فإراقة دم الأنعام لا تكون إلا لله، ودليل الكبرى قوله تعالى:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [لأعراف: من الآية59]، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: من الآية56] ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: من الآية5] ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ) [الاسراء: من الآية23] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: من الآية5] انتهى.
ويكفي المؤمن في هذا الباب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 ـ 163]، وقوله تعالى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1 ـ 2]، وقوله تعالى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37] .
فإن الإحسان أعلى مراتب الإيمان دخول هذه العبادة فيه لأنّ السّياق لها ظاهر لا يخفى، وفي المسند عن طارق بن شهاب أن النبيّ (قال:"دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: مرّ رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليه شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرِّب، قال: ما عندي شيء أقربه، قرِّب ولو ذباباً، فقرَّب ذباباً، فخلوا سبيله فدخل النار. فقالوا للآخر: قرِّب، قال: ما كنتُ لأقرِّب لأحد من دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة".
فقف عند هذا وتأمل حكمة الشريعة وسرها في إخلاص العبادة والتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، ولو بأحقر شيء كالذباب، فكيف بكرائم الأموال؟ والله المستعان.
والنبي (حسم مادة الشّرك، وقطع وسائله حتى نهى عن الصلاة في الأوقات التي يسجد فيها الكفار للشمس، ونهى عن الصّلاة عند القبور، خشية الفتنة بها وبأربابها وإن كان المصلي لا يقصد شيئاً من ذلك. ولعن من فعل ذلك وأبدى وأعاد فيه وقال:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي رواية لمسلم:"وصالحيهم"، وقال ذلك عند مفارقة الدنيا إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. ونهى عن الحلف بغير الله، وقال:"من حلف بغير الله فقد أشرك"، وقال لرجل قال له:"ما شاء الله وشئت": "أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده".
قال شيخ الإسلام: وأما من قصد التبرك بالصلاة عندها، فهذا عين المحادة لله ولرسوله. انتهى.
وعلى رأي هذا العراقي أنها تدعى ويستغاث بها، وتقصد وترجى، ويذبح لها فهذا عين العبادة وعين الغاية التي قطع الرسول (وسائلها، وسد ذرائعها، فهذا وأمثاله هم الآمرون بالشرك الواضعون له، الدّاعون إليه، الرّادون لما جاءت به الرسل من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له. وإنما حدث الشرك برأي جنس هؤلاء، والله المستعان.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: عبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى وتقدّس:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء:25] ، وكان النّبيّ (يحقّق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل:"ما شاء الله وشئت فقال: " أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله" ونهى عن الحلف
بغير الله. وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقال في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا" وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وقال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم. فإنّ صلاتكم تبلغني" ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور. ولا الصلاة عندها، وذلك لأنّ من أكبر أسباب عبادة الأوثان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلّم على النبي (عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها؛ لأنه إنما يكون التمسح بأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملاً إلاّ به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} إلى قوله: {عَظِيماً} [النساء:48] ؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أعظم الكلام وأفضله. فأفضل آية في القرآن آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قال (:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"، والإله هو الذي يألهه القلب عبادة له، واستغاثة له ورجاء له وخشية وإجلالاً" انتهى كلامه.
قال العراقيّ: في النقل الخامس والعشرين: قال الشيخ تقي الدين بن تيمية في الفتاوى: "والكفر يكون من الوعيد، فإنه إن كان القول تكذيباً بما قاله الرسول (لكن قد يكون حديث عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض أوجب تأويلها، وإن كان مجتهداً مخطئاً، وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذروني ـ الحديث" هذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن لما كان مؤمناً يخاف الله أن يعقبه غفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول (أولى بالمغفرة من مثل هذا" انتهى.
الجواب أن يقال:
قد تكررت هذه الشبهة وكثر بها العدد، هكذا المفلس إذا رجع إلى ما في عيبته فوجدها صفراً، اشتغل بتقليب ما في يديه، وقد تقدم جوابها مراراً، وذكرنا أن عباد القبور قد قامت عليهم الحجة، أو على جمهورهم بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإن هذ الباب ـ أعني باب عبادة الله وحده لا شريك له ـ هو خلاصة الكتب الإلهية، وزبدة الدعوة النبوية، وتقدم في جواب ما نقله عن ابن القيم وعن الشيخ، ففيه كفاية.
قال الشيخ رحمه الله في الرد على المتكلمين، لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منهم الردة عن الإسلام كثيراً، قال: وهذا وإن كان من المقالات الخفية فقد يقال فيها: إنّه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلمها الخاصة والعامة من المسلمين: أن الرسول (بعث بها وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم. فإن هذا أظهر شعار الإسلام، ومثل إيجابه الصلوات الخمس، وتعظيم شأنها؛ ومثل تحريم الفواحش والزنا والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقفوا فيها. فكانوا مرتدين. وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرّازيّ، قال: وهذه ردّة صريحة.
فتأمّل ما في هذا من التفصيل تزول الشبهة التي يدلي بها بعض المشركين. وتقدم كلام الشيخ في الرسالة السنية. وقوله: فإذا كان على عهد النبي (وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عباداته العظيمة حتى أمر (بقتالهم فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام وذلك بأسبابها؛ ومنا الغلو الذي ذمه الله في كتابه ـ إلى أن قال: فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكلّ هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلاّ قتل.
فانظر رحمك الله إلى تصريحه بكفر هذا الصنف الذين هم محل النزاع، وأن من فعل ذلك قتل بعد الاستتابة إن لن يتب، وهذا عين كلامنا.
فالتشبيه في هذه المسألة بخير الذي أمر أهله أن يذروه، أو بقول الشيخ: إن المخطئ لا يكفر إذا اجتهد واتقى، ونحو هذه العبارات تمويه وتشبيه.
والنزاع فيمن قامت عليه الحجة، أو أمكنه الاستدلال، لا فيما يخفى من المسائل، أو كان مما يختص أهل العلم بمعرفته. فهذا نحوه ليس مما نحن فيه، وإيراده والاحتجاج به على مسألة النزاع تمويه لا يروج على أهل البصائر.
قال العراقي: النقل السادس والعشرون: وقال أيضاً في بعض كتبه ونقله الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في ردّه على أخيه قال: "إني دائماً ومن جالسني يعلم أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والمسائل العملية.
وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولا يشهد أحد منهم على معين لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية، كما أنكر شريح قراءة:{بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] وقال: إن الله لا يعجب ـ إلى أن قال ـ: وقد آل النزاع بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة أنّ الطائفتين جميعًا مؤمنتان؛ وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق.
وكنت أبين لهم أن ما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، ونحو هذا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين. وهذا أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة [الوعيد] ، فإن نصوص الوعيد في القرآن مطلقة عامة، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10]، وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا وكذا فهو كذا، فإن هذه النصوص مطلقة عامة.
وهي بمنزلة من قال من السلف: من قال كذا، فهو كذا. ـ إلى أن قال: والتكفير يكون من الوعيد،
فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر يوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا.
وكنت دائمًا أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فأحرقوني ـ الحديث" فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرىَ، بل اعتقد أنه لا يعاد. وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك.
والمتأول من أهل الأجتهاد، الحريص على متابعة الرسول أولى بالمغفرة من مثل هذا ". انتهى.
والجواب: إن شيخنا رحمه الله قال في مثل هذه الشبه التي يوردها المبطلون من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بمثل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية سواء. وإن من تأمّل كلامه رحمه الله وجده يصله بما يفصل النزاع، ويبين المراد. وقد بين في هذا النقل بياناً يقطع النزاع بقوله: إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى. وهذا البيان كافٍ.
فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله لا يكفّر أحداً قبل قيام الحجّة. وهذا يأتي على جميع ما ساقه العراقي بالرّد والدّفع، فسياق هذه العبارات المتحدة المعاني والتشبيه بها وكثرة عددها مجرد تخييل وهوس، يكفي في ردها ما تقدم بيانه من اشتراط قيام الحجة، وإن فرض كلام الشيخ في كل ما نقل العراقي في غير ما يعلم من الدين بالضرورة، وفي غير المفرط في طلب العلم والهدى، كما تقدم فيما نقلناه من طبقات المكلفين، وتقدم نص الشيخ أن فرض كلامه في غير المسائل الخفية، وكل جملة من هذه الجمل تكفي المؤمن في ردّ جميع ما نقله ابن جرجيس عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة؛ إذا كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء
به الرسول صلى الله عليه وسلم، فافهم هذا يكشف عنك شبهات كثيرة في مسألة قيام الحجّة، قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، وقال تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} {البقرة: من الآية7] ، وتأمّل كلام الشيخ وقوله: وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل.
وقوله: "ولكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، وقوله: وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر يوجب تأويلها".
وكلّ هذا لا يمكن أن يقال في عبّاد القبور.
فتأمّل كلام الشيخ واعرف ضلال ابن جرجيس في حمله كلام الشيخ على عذر عباد القبور والأنبياء والصالحين، واعرف سوء فهمه وكثافة حجابه، وقد تقدم هذا مراراً.
ويقال أيضاً: كلام الشيخ في عدم إطلاق الكفر على المعين إذا كان له عذر من جنس ما تقدم، لكن أثبت وقرر أن نفس العمل والفعل يكون كفراً، وإن لم يكن فاعله لمانع، وهذا الملحد لا يقول ذلك فيمن عبد الصالحين وأهل القبور، بل يقول: هم مثابون مأجورون بدعائهم غير الله، ويسمى الدعاء توسّلاً، قد مرّ هذا عنه في غير موضع، ويأتيك أكثر مما مرّ، فاعرف جهله، وإنه لم يأنس بشيء مما جاءت به الرسل، ولم يتعقل ما يحكيه من كلام أهل العلم.
فقف هنا يا من أنعم الله عليه تعرف بعدما جاء به هذا الملحد عما جاءت به جميع الرسل، وأنه أضلّ من كثير من أعدائهم، والله المستعان.
النقل السابع والعشرون: من نقول ابن جرجيس: وقال أيضاً في الفتاوى ـ حين سئل عن التكفير الواقع في هذه الأمة ـ: أول من أحدثه في الإسلام المعتزلة. وعنهم تلقاه من تلقاه، وكذلك الخوارج هم أول من أظهره. واضطرب الناس في ذلك، فمنهم من يحكي عن مالك فيه قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد روايتين، وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه لهم فيه
قولان. وحقيقة الأمر: إن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير قائله، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يكفر، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها ـ ثم ساق كلام الشيخ في أن المقالات الكفرية لا يكفر قائلها إلا بعد قيام الحجّة.
والجواب أن يقال:
قد تكرر هذا عن العراقي، ولكنه أراد أن يعظم حجم الكتاب ويظن العامة أن قد جدّد حجة من السنة أو الكتاب، أو كلام ذوي الألباب، وهو لم يزل ولا يزال يتردد في ظلماته، ويكرر ريبه وشبهاته. والجواب تقدم.
وفيما ساقه هنا رد لباطله وحجّة عليه، من جهة أن الشيخ حكى في تكفير الخوارج ونحوهم عن مالك قولين، وعن الشافعي كذلك، وعن أحمد أيضاً روايتين، وأبو الحسن الأشعريّ وأصحابه لهم قولان، وحيث كان الحال هكذا في الخوارج فقد اختلف الناس في تكفيرهم والغلاة في علي لم يختلف أحد في تكفيرهم. وكذلك من سجد لغير الله أو ذبح لغير الله أو دعاه مع الله، رغباً أو رهباً.
كل هؤلاء اتفق الخلف والسلف على كفرهم، لما ذكره أهل المذاهب الأربعة، ولا يمكن لأحد أن ينقل عنهم قولاً ثانياً. وبهذا تعلم أن النزاع وكلام الشيخ ابن تيمية وأمثاله في غير عباد القبور والمشركين، وإنما فرضه وموضوعه في أهل البدع المخالفين للسنة والجماعة. وهذا يعرف من كلام الشيخ ولكن العراقي من جملة البقر والثيران، وإن كان ضخم العمامة واسع الأردان وقد تقدم قول الشيخ من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً، فحكى الإجماع على كفر هذا الصنف، حكى الخلاف في تكفير الخوارج ونحوهم، فاعرف الفرق، ولولا عموم الجهل، وبعد العهد بآثار النبوة لما أطلنا الكلام في مثل هذه المباحث؛ لأنها مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام.
قال ابن جرجيس: النقل الثامن والعشرون: قال الشيخ ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، ما نصه: فكما أن إثبات المخلوقات أسباباً لا يقدح
في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، فلا يجوز أن يدعي المخلوق لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة: من شرك أو غيره أسباباً، لا يقدح في توحيد الإلهية، فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهداً في هذه المسألة أو مقلداً.
والجواب أن يقال:
قد تقدم لهذا العراقي، ويأتيك عنه في غير موضع ـ أنه استدل بإجابة الدعاء عند القبور وإجابة من سأل أهل القبور على استحباب ذلك، وأنه دين يحبه الله ويرضاه، وحكى هنا عن الشيخ أن ذلك لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، فلا يجوز أن يدعي المخلوق لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة فهذا يهدم قوله، ويدفع صدره، ولكنه لا شعور له بما في كلام الشيخ من الحق والهدى وكذلك بما في قوله: إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك، أو غيره أسباباً لا يقدح في توحيد الإلهية، والعراقي يجعل السبب دليلا على جواز دعاء غير الله، والشرك في الإلهية.
فاعجب لهذه الحكاية والقضية، وأكثر ما يدعو هؤلاء المشركين إلى دعاء القبور والصالحين ما يحكونه من أنّ فلاناً دعا فاستجيب له، وفلاناً استغاث فأغيث. وفلاناً رد عليه بصره، وعند السدنة وعباد القبور من هذا شيء كثير. قد أورد منه العراقي شيئاً كثيراً، جعله من قواعد مذهبه، وأدلة شركه، ومن العجب العجاب: أن الهوى يعمي الرجل حتى لا يفهم ما ينقل، ولا ما يخرج من بين شفتيه.
وأما قوله: إن الشيخ قال: فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهداً في هذه المسألة أو مقلداً، فهذه الجملة ليس متصلة ولا مرتبطة بما ساق العراقي، ولا مناسبة بينها وبينه والشيخ قد ساقها في موضع آخر وبحث آخر، ولكن ابن جرجيس كذاب جاهل، وقد مر لك جنس تحريفه، قال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5] .