المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل كلام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصحابة هو من باب الكلام في الأعراض وفيه حق لله تعالى] - منهاج السنة النبوية - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي كلام الرافضي على فضائل علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الكلام على حَدِيثُ الْكِسَاءِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ كلام الرافضي عن قوله تعالي فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ تابع كلام الرافضي عن فضائل علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ نسب الرافضي حديثا موضوعا إلى الإمام أحمد أن علي هو الوصي والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ تابع كلام الرافضي عن فضائل علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ السَّابِعُ حديث موضوع آخر يذكره الرافضي في فضائل علي والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّامِنُ حديث آخر صحيح يذكره الرافضي قال لعلي أنت مني وأنا منك والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ التَّاسِعُ تابع كلام الرافضي عن فضائل علي وقول عمرو بن ميمون والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الْعَاشِرُ كلام الرافضي عن فضائل علي وكلام أَخْطَبُ خَوَارِزْمَ والرد عليه]

- ‌[قول الرافضي " المطاعن في الصحابة كثيرة إلا آل البيت " والرد عليه]

- ‌[قاعدة جامعة " لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ يَرُدُّ إِلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتِ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ]

- ‌[الكلام فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ وَتَأْثِيمِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ]

- ‌[فَصْلٌ كَلَامُ الذَّامِّ لِلْخُلَفَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى]

- ‌[زعم الرافضة أن إِجْمَاعَهم هُوَ إِجْمَاعُ الْعِتْرَةِ وَأن إِجْمَاعُ الْعِتْرَةِ مَعْصُومٌ]

- ‌[الحق لا يخرج عن أهل السنة]

- ‌[إجماع الصحابة يغني عن دعوى أي إجماع آخر]

- ‌[أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ]

- ‌[أقوال الرافضة التي انْفَرَدُوا بِهِا عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ]

- ‌[الأقوال التي انفردت بها الطوائف الْمُنْتَسِبة إِلَى السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ]

- ‌[الحق دائما مع السنة والآثار الصحيحة]

- ‌[فَصْلٌ اللَّهَ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَسَبَّهُمُ الرَّافِضَةُ]

- ‌[التعليق على كلام بعض الصوفية الذي يتضمن الاتحاد والحلول ووحدة الوجود]

- ‌[الكلام على رؤية الله تعالى]

- ‌[فَصْلٌ الكلام على محبة الله تعالى]

- ‌[الكلام عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ]

- ‌[الرد على أهل النظر وأهل الرياضة]

- ‌[مناقشة ابن المطهر على كلامه عن مثالب أبي بكر في زعمه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه عند الاحتضار والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على عدم خروج أبي بكر وعمر مع جيش أسامة والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوله أبدا والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع يسار سارق والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر أنه أحرق الفجاءة السلمي بالنار والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي أن أبا بكر خفي َلَيْهِ أَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على علم علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على فضائل علي رضي الله عنه والتعليق عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر أنه أَهْمَلَ حُدُودَ اللَّهِ فَلَمْ يَقْتَصَّ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ والرد عليه]

الفصل: ‌[فصل كلام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصحابة هو من باب الكلام في الأعراض وفيه حق لله تعالى]

[فَصْلٌ كَلَامُ الذَّامِّ لِلْخُلَفَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى]

فَصْلٌ

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ حُكْمَ النَّاسِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَأَنَّ فَاعِلَ السَّيِّئَاتِ تَسْقُطُ عَنْهُ عُقُوبَةُ جَهَنَّمَ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْمُذْنِبِينَ حُكْمًا عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ فِي أَصْحَابِ (1) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ وَإِذَا كَانَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَمِنَ الْمُذْنِبِينَ (2) يَنْدَفِعُ عَنْهُمُ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَكَيْفَ بِالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ .

وَنَحْنُ نَبْسُطُ هَذَا وَنُنَبِّهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى؛ فَنَقُولُ: كَلَامُ الذَّامِّ لِلْخُلَفَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ - مِنْ رَافِضِيٍّ وَغَيْرِهِ - هُوَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنِ الْوَلَايَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ، وَفِيهِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ أَيْضًا (3) .

وَمَعْلُومٌ أَنَّا إِذَا تَكَلَّمْنَا فِيمَنْ هُوَ دُونَ الصَّحَابَةِ، مِثْلَ الْمُلُوكِ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَى الْمُلْكِ، وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي (4) الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ لَا بِجَهْلٍ وَظُلْمٍ ; فَإِنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ. وَالظُّلْمُ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، لَا يُبَاحُ قَطُّ بِحَالٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}

(1) ن، م: بِأَصْحَابِ.

(2)

ن، ب: وَالْمُذْنِبِينَ.

(3)

أَيْضًا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(4)

ن، م: عَلَى.

ص: 126

[سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 8] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ بُغْضِهِمْ لِلْكَفَّارِ، وَهُوَ بُغْضٌ مَأْمُورٌ بِهِ. فَإِذَا كَانَ الْبُغْضُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ قَدْ نُهِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يَظْلِمَ مَنْ أَبْغَضَهُ (1) ، فَكَيْفَ فِي بُغْضِ مُسْلِمٍ بِتَأْوِيلٍ وَشُبْهَةٍ أَوْ بِهَوَى نَفْسٍ؟ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ لَا يَظْلِمَ، بَلْ يَعْدِلَ عَلَيْهِ (2) .

وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ مَنْ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَالْعَدْلُ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى مَدْحِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ. وَالظُّلْمُ مِمَّا اتَّفَقُوا (3) عَلَى بُغْضِهِ وَذَمِّهِ (4) وَتَقْبِيحِهِ، وَذَمِّ أَهْلِهِ وَبُغْضِهِمْ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْكَلَامَ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ (5) ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْعَدْلَ مَحْمُودٌ مَحْبُوبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ مَحْبُوبٌ فِي النُّفُوسِ، مَرْكُوزٌ حُبُّهُ فِي الْقُلُوبِ، تُحِبُّهُ الْقُلُوبُ وَتَحْمَدُهُ، وَهُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ، وَالظُّلْمُ مِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ فَتُبْغِضُهُ وَتَذُمُّهُ.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سُورَةُ الْحَدِيدِ: 25](6) . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}

(1) ح، ب: مَنْ يُبْغِضُهُ.

(2)

ن، م: يُعَذَّبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

(3)

ح، ب: مِمَّا اتُّفِقَ.

(4)

عَلَى بُغْضِهِ وَذَمِّهِ، كَذَا فِي (ن) ، (م)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: عَلَى ذَمِّهِ.

(5)

لِابْنِ تَيْمِيَةَ رِسَالَةٌ فِي مَسْأَلَةِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، نُشِرَتْ فِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى الرِّيَاضِ 8/428 - 436.

(6)

آيَةُ سُورَةِ الْحَدِيدِ لَيْسَتْ فِي ن، (م) .

ص: 127

[سُورَةُ الشُّورَى: 17] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 58] .

وَقَالَ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 42] .

وَقَالَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 48] فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْقِسْطِ وَأَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِسْطَ هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هُوَ الْقِسْطُ، وَالْقِسْطُ هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.

وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 58] فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ بِظُلْمٍ أَبَدًا، وَالشَّرْعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ الْحُكْمُ بِهِ عَدْلٌ كُلُّهُ، لَيْسَ فِي الشَّرْعِ ظُلْمٌ أَصْلًا، بَلْ حُكْمُ اللَّهِ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ (1) .

وَالشَّرْعُ هُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ; فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، لَكِنَّ الْعَدْلَ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ، فَيَكُونُ الْعَدْلُ فِي كُلِّ شِرْعَةٍ بِحَسَبِهَا.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:

(1) ن، م، و، ر: الْحُكْمِ.

ص: 128

{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ - إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ 42 - 44] .

إِلَى قَوْلِهِ: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ 47 - 50] .

ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا يَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَهُ مِنَ الْكِتَابِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فَجَعَلَ لِمُوسَى وَعِيسَى مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ (1) ، وَجَعَلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

(1) ح، ر: وَالْمَنَاهِجِ.

ص: 129

وَسَلَّمَ - مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ (1) ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَحَذَّرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ، وَمَنِ ابْتَغَى غَيْرَهُ فَقَدِ ابْتَغَى حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ 44] .

وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (2) فَهُوَ كَافِرٌ، فَمَنِ اسْتَحَلَّ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا يَرَاهُ هُوَ عَدْلًا مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعٍ لِمَا أَنْزَلَ (3) اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ ; فَإِنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَهِيَ تَأْمُرُ بِالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَدْلُ فِي دِينِهَا مَا رَآهُ أَكَابِرُهُمْ، بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ يَحْكُمُونَ بِعَادَاتِهِمُ الَّتِي لَمْ يُنْزِلْهَا اللَّهُ سبحانه وتعالى، كَسَوَالِفِ الْبَادِيَةِ، وَكَأَوَامِرِ الْمُطَاعِينَ فِيهِمْ (4) ، وَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِهِ دُونَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَسْلَمُوا، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يَحْكُمُونَ إِلَّا بِالْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ لَهُمُ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْمُطَاعُونَ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا عَرَفُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ إِلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ، بَلِ اسْتَحَلُّوا أَنْ يَحْكُمُوا بِخِلَافِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُمْ كُفَّارٌ، وَإِلَّا كَانُوا جُهَّالًا، كَمَنْ تَقَدَّمَ أَمْرُهُمْ (5) .

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ إِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

(1) ح، ر: وَالْمَنَاهِجِ.

(2)

ر: عَلَى رُسُلِهِ.

(3)

و: لِمَا أَنْزَلَهُ.

(4)

فِيهِمْ: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .

(5)

أَمْرُهُمْ: كَذَا فِي (ن) ، (م)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: أَمْرُهُ.

ص: 130

وَالرَّسُولِ، فَقَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ 59] .

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ 65] فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ تَحْكِيمَ (1) اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، لَكِنْ عَصَى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ مِنَ الْعُصَاةِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهَا الْخَوَارِجُ عَلَى تَكْفِيرِ وُلَاةِ الْأَمْرِ الَّذِينَ لَا يَحْكُمُونَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا، وَمَا ذَكَرْتُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ عَدْلٌ خَاصٌّ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْعَدْلِ وَأَحْسَنُهَا، وَالْحُكْمُ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكُلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.

وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ فِي كُلِّ مَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}

(1) و: بِحُكْمِ.

ص: 131

[سُورَةُ الْبَقَرَةِ 213] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سُورَةُ الشُّورَى 10] . وَقَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ 59] فَالْأُمُورُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْأُمَّةِ لَا يُحَكَّمُ فِيهَا إِلَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ (1) بِقَوْلِ عَالِمٍ وَلَا أَمِيرٍ وَلَا شَيْخٍ وَلَا مَلِكٍ.

وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَحُكَّامُ الْمُسْلِمِينَ يَحْكُمُونَ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ، لَا يَحْكُمُونَ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا حَكَمُوا فِي الْمُعَيَّنَاتِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ بِرَأْيِهِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ ; فَمَنْ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَمَنْ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» "(2) .

وَإِذَا حَكَمَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ ; فَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ (3) فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيْنِ (4) .

(1) ن، م، و: الْإِنْسَانَ.

(2)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/312

(3)

ح، ر، ي: فَإِنْ أَصَابَ.

(4)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/422.

ص: 132

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَ عُمُومِ (1) الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ إِلَّا بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، وَيُرَدُّ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَذَاكَ فِي أَمْرِ الصَّحَابَةِ أَظْهَرُ. فَلَوْ طَعَنَ طَاعِنٌ فِي بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ، مِنْ مَلِكٍ وَحَاكِمٍ وَأَمِيرٍ وَشَيْخٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ كَافِرًا مُعْتَدِيًا عَلَى غَيْرِهِ فِي وِلَايَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَجَعَلَ غَيْرَهُ هُوَ الْعَالِمُ الْعَادِلُ الْمُبَرَّأُ مِنْ كُلِّ خَطَأٍ وَذَنْبٍ، وَجَعَلَ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ الْأَوَّلَ وَتَوَلَّاهُ كَافِرًا أَوْ ظَالِمًا مُسْتَحِقًّا لِلسَّبِّ وَأَخَذَ يَسُبُّهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ.

وَالرَّافِضَةُ سَلَكُوا فِي الصَّحَابَةِ مَسْلَكَ التَّفَرُّقِ، فَوَالَوْا بَعْضَهُمْ وَغَالَوْا فِيهِ وَعَادَوْا بَعْضَهُمْ وَغَالَوْا فِي مُعَادَاتِهِ وَقَدْ يَسَلُكُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَا يُشْبِهُ هَذَا فِي أُمَرَائِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ، فَيَحْصُلُ بَيْنَهُمْ رَفْضٌ فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ: تَجِدُ أَحَدَ الْحِزْبَيْنِ يَتَوَلَّى فُلَانًا وَمُحِبِّيهِ، وَيُبْغِضُ فُلَانًا وَمُحِبِّيهِ، وَقَدْ يَسُبُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالتَّشَيُّعِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ 159] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ 102 - 103] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ - وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

(1) ح، ر: وَالْمَقْصُودُ هُنَا إِذَا وَجَبَ فِيمَا بَيْنَ عُمُومِ.

ص: 133

[سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ 105 - 107] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ (1) . وَلِهَذَا كَانَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ وَغَيْرُهُ يَتَأَوَّلُهَا فِي الْخَوَارِجِ.

فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَقَدْ فَسَّرَ حَبْلَهُ بِكِتَابِهِ، وَبِدِينِهِ، وَبِالْإِسْلَامِ، وَبِالْإِخْلَاصِ، وَبِأَمْرِهِ، وَبِعَهْدِهِ، وَبِطَاعَتِهِ، وَبِالْجَمَاعَةِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَنْقُولَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ (2) ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ هُوَ عَهْدُهُ وَأَمْرُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالِاعْتِصَامُ بِهِ جَمِيعًا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ حَقِيقَتُهُ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ» (3) ".

(1) فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِلسُّيُوطِيِّ 2/63: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نَصْرٍ فِي الْإِبَانَةِ وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَاللَّاكَائِيُّ فِي السُّنَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ: قَالَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ. وَأَوْرَدَ اللَّاكَائِيُّ هَذَا الْأَثَرَ فِي كِتَابِ شَرْحِ أُصُولِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ 1/71 - 72 تَحْقِيقُ الدُّكْتُورِ أَحْمَد سَعْد حِمْدَان، دَارِ طَيْبَةَ لِلنَّشْرِ، الرِّيَاضِ 1402.

(2)

انْظُرْ وُجُوهَ تَفْسِيرِ حَبْلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 103] فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ ط. الْمَعَارِفِ 7/70 - 76 زَادِ الْمَسِيرِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ 1/432 - 433.

(3)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 3/161 - 162

ص: 134

وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ ظُلْمَ الْمُسْلِمِينَ: أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ، وَحَرَّمَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:" «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (1) ".

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ 58] فَمَنْ آذَى مُؤْمِنًا حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بِغَيْرِ ذَنْبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَإِذَا آذَاهُ مُؤْذٍ (2) فَقَدْ آذَاهُ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبَ، وَمَنْ كَانَ مُذْنِبًا وَقَدْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ فَآذَاهُ مُؤْذٍ، فَقَدْ آذَاهُ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبَ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ بِفِعْلِهِ مُصِيبَةٌ.

وَلَمَّا «حَاجَّ مُوسَى آدَمَ (3) ، وَقَالَ: لِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: بِكَمْ وَجَدْتَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [سُورَةُ طه 121] قَالَ: بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» . وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ (4) ، لَكِنْ غَلَطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي مَعْنَاهُ، فَظَنُّوا أَنَّ آدَمَ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ (5) لَا يُلَامُ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا بَعْدَ هَذَا: بَيْنَ مُكَذِّبٍ بِلَفْظِهِ وَمُتَأَوِّلٍ لِمَعْنَاهُ تَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةً. وَهَذَا فَهْمٌ

(1) سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/319

(2)

و، ر، ي: فَآذَاهُ مُؤْذٍ.

(3)

آدَمَ: كَذَا فِي (م) ، (ب)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: لِآدَمَ.

(4)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 3/78 - 79.

(5)

الذَّنْبَ: كَذَا فِي (ن) ، (ي)، (ب) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: الْمُذْنِبَ.

ص: 135

فَاسِدٌ وَخَطَأٌ عَظِيمٌ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَقَلِّ النَّاسِ عِلْمًا وَإِيمَانًا ; أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَذْنَبَ فَلَا مَلَامَ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الذَّنْبِ مُقَدَّرًا عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَعْذِيبِهِ لِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَمَدْيَنَ، وَقَوْمِ لُوطٍ (1) وَغَيْرِهِمْ.

وَالْقَدَرُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَلَوْ كَانَ الْمُذْنِبُ مَعْذُورًا لَمْ يُعَذَّبْ هَؤُلَاءِ عَلَى ذُنُوبِهِمْ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مُحَمَّدًا وَغَيْرَهُ مِنْ عُقُوبَاتِ الْمُعْتَدِينَ، كَمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ (2) ، وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُفْسِدِينَ، وَمِنْ قِتَالِ الْكَافِرِينَ، وَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ إِنْصَافِ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَمَا يَقْضِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ عِبَادِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْكُفَّارِ (3) ، وَالِاقْتِصَاصِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

لَكِنَّ مَقْصُودَ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ عَلَيْهِ، يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ لِقَدَرِ اللَّهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [سُورَةُ التَّغَابُنِ 11] . قَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ (4) تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ. وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّهُ إِذَا ابْتُلِيَ، صَبَرَ وَإِذَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ شَكَرَ، وَإِذَا ظُلِمَ غَفَرَ.

(1) ن، م، و، ي، أ: وَمَدْيَنَ وَلُوطٍ.

(2)

ن فَقَطِ: الْمُعْتَدِينَ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.

(3)

ح، ب: الْكَافِرِينَ.

(4)

ح، ر، ب، ي: هُوَ الْعَبْدُ.

ص: 136

وَإِنْ كَانَتِ الْمُصِيبَةُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ، فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ مِنَ الْأَكْلِ، فَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مَلَامٌ لِلتَّوْبَةِ، وَالْمُصِيبَةُ كَانَتْ مُقَدَّرَةً، فَلَا مَعْنَى لِلَوْمِ آدَمَ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُؤْذِيَ مُؤْمِنًا جَرَى لَهُ عَلَى يَدَيْهِ (1) مَا هُوَ مُصِيبَةٌ فِي حَقِّهِ.

وَالْمُؤْمِنُ إِمَّا مَعْذُورٌ وَإِمَّا مَغْفُورٌ لَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مُصِيبَةٌ (2) أَوْ فَوَاتُ غَرَضٍ بِبَعْضِ الْمَاضِينَ يُسْرِعُ بِذَمِّهِ، كَمَا يَظُنُّ (3) بَعْضُ الرَّافِضَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم كَانُوا هُمُ السَّبَبَ فِي مَنْعِ حَقِّهِمْ ظُلْمًا، وَهَذَا كَذِبٌ عَلَيْهِمْ. أَوْ يَقُولُونَ: بِسَبَبِهِمْ ظَلَمْنَا غَيْرَهُمْ، وَهَذَا عُدْوَانٌ عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَادِلِينَ مُتَّبِعِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ بِسَبَبِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَبِذُنُوبِهِ أُصِيبَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيبَ الرَّسُولَ وَمَا جَاءَ بِهِ، لِكَوْنِهِ فِيهِ (4) الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ لِكَوْنِهِ بِسَبَبِ تَقْدِيمِهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَدَّمَهُمَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ، كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الرَّافِضَةِ أَنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِسَبَبِ تَقْدِيمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (5) . لِأَبِي بَكْرٍ (* وَعُمَرَ.

وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ «كَانُوا يَقْرَءُونَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَوْا عَلَى فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا سَمِعَهَا قَالَ

(1) ن، أ: عَلَى يَدِهِ.

(2)

ن، ر، م: مَعْصِيَةٌ.

(3)

ح، و، ر: يَطْعَنُ.

(4)

ن، م، ر، ح: لِكَوْنِ فِيهِ.

(5)

ح، ب: وَالرَّسُولِ

ص: 137

لِأَصْحَابِهِ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ بَلَاءَكُمْ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، يَقُولُ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» .

وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ *) (1) أَنْ يَقُولَ بِسَبَبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ (2) اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي التَّأْوِيلِ وَاقْتَتَلُوا، إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يُجْعَلُ الشَّرُّ الْوَاقِعُ فِيهَا بِسَبَبِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ; فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ.

قَالَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالُوا (3) لِرُسُلِهِمْ: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ - قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [سُورَةُ يس 18 - 19] .

وَقَالَ عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ 131] .

وَقَالَ لَمَّا ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ وَأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُبْطِئُ عَنْهُ {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا - مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ 78 - 79] .

(1) مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (و) .

(2)

ن، م، ر، ي: بِسَبَبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَنُزُولِهِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، ح: بِسَبَبِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَنُزُولِهِ بِلِسَانِ الْأَعْرَابِ.

(3)

و: أَنَّهُمْ قَالُوا.

ص: 138

وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ هُنَا النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ، كَمَا قَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ 168] وَقَوْلِهِ: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ 50] .

وَلِهَذَا قَالَ: مَا أَصَابَكَ وَلَمْ يَقُلْ: مَا أَصَبْتَ. وَهَكَذَا قَالَ السَّلَفُ. فَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحَسَنَةَ: الْخِصْبُ (2) وَالْمَطَرُ، وَالسَّيِّئَةَ: الْجَدْبُ وَالْغَلَاءُ. وَفِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ عَنْهُ: أَنَّ الْحَسَنَةَ: الْفَتْحُ وَالْغَنِيمَةُ، وَالسَّيِّئَةَ الْهَزِيمَةُ وَالْجِرَاحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ (3) . وَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ: مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالسَّيِّئَةُ مَا أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحَسَنَةُ: الْغَنِيمَةُ وَالنِّعْمَةُ (4) ، وَالسَّيِّئَةُ الْبَلِيَّةُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْحَسَنَةَ: الطَّاعَةُ، وَالسَّيِّئَةَ: الْمَعْصِيَةُ.

وَهَذَا يَظُنُّهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ مُثْبِتَةُ الْقَدَرِ هَذَا حُجَّةٌ لَنَا، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ 78] . وَقَالَ نُفَاتُهُ: بَلْ هُوَ حُجَّةٌ لَنَا لِقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ 79] . وَحُجَّةُ كُلِّ فَرِيقٍ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْآخَرِ. وَالْقَوْلَانِ

(1) وَهَكَذَا. . . أَبِي صَالِحٍ: كَذَا فِي (أ)، (ب) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَهَكَذَا قَالَ فِي مَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ.

(2)

ر، ح، ي، ب: الْحَسَنَةَ هِيَ الْخِصْبُ.

(3)

ح، ب: وَالْجِرَاحُ وَالْهَزِيمَةُ، وَسَقَطَتْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ (ب) فَقَطْ.

(4)

ن، م، و، أ: الْحَسَنَةُ النِّعْمَةُ.

ص: 139

بَاطِلَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ; فَإِنَّ الْمُرَادَ: النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ وَالضَّمِيرُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: عَلَى الْيَهُودِ، وَقِيلَ: عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ. وَلِهَذَا قِيلَ: هَذَا لَا يُعَيَّنُ قَائِلُهُ ; لِأَنَّهُ دَائِمًا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَكُلُّ مَنْ قَالَهُ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ ; فَإِنَّ الطَّاعِنِينَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ (1) مِنْ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، بَلْ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أَوْ عِنْدَهُ جَهْلٌ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ، لِظَنِّهِ خَطَأَ صَاحِبِهِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمُخْطِئَ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ نَصْرٌ وَرِزْقٌ، قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا يُضِيفُهُ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَهُمْ نَقْصُ رِزْقٍ وَخَوْفٌ مِنَ الْعَدُوِّ وَظُهُورِهِ، قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِكَ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْجِهَادِ فَجَرَى مَا جَرَى، وَأَنَّهُمْ تَطَيَّرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ، كَمَا تَطَيَّرَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى.

وَالسَّلَفُ ذَكَرُوا الْمَعْنَيَيْنِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِشُؤْمِكَ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: بِسُوءِ تَدْبِيرِكَ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ 78] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ، أَمَّا الْحَسَنَةُ فَأَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَابْتَلَاكَ بِهَا. فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا! ؟ وَقَدْ قِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا: لَمْ يَفْقَهُوهُ (2) وَلَمْ يَكَادُوا، وَأَنَّ النَّفْيَ مُقَابِلُ الْإِثْبَاتِ. وَقِيلَ: بَلْ مَعْنَاهُ فَقِهُوهُ (3) بَعْدَ أَنْ كَادُوا لَا يَفْقَهُونَهُ (4) . كَقَوْلِهِ

(1) ح، ب: الرُّسُلُ.

(2)

ح، ب: لَمْ يَفْقَهُوا.

(3)

ح، ب: فَقِهُوا.

(4)

ن، م: لَا يَفْقَهُوهُ، ح: لَا يَفْقَهُوهُ، ب: لَا يَفْقَهُونَ.

ص: 140

: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ 71] ، فَالْمَنْفِيُّ بِهَا مُثْبَتٌ، وَالْمُثْبَتُ بِهَا مَنْفِيٌّ (1)، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الِاسْتِعْمَالِ. وَقَدْ يُقَالُ (2) : يُرَادُ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً ; فَإِذَا صَرَّحْتَ بِإِثْبَاتِ الْفِعْلِ فَقَدْ وُجِدَ، فَإِذَا لَمْ يُؤْتَ إِلَّا بِالنَّفْيِ الْمَحْضِ كَقَوْلِهِ:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} وَ {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} فَهَذَا نَفْيٌ مُطْلَقٌ، وَلَا قَرِينَةَ مَعَهُ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مُطْلَقِهَا وَمُقَيَّدِهَا.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ لِلنُّحَاةِ، وَقَالَ بِكُلِّ قَوْلٍ طَائِفَةٌ. وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِعَدَمِ الْفِقْهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ 7] .

وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [سُورَةُ مُحَمَّدٍ 16] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَفْقَهُونَ الْقُرْآنَ.

لَكِنَّ قَوْلَهُ حَدِيثًا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ، كَمَا قَالَ فِي الْكَهْفِ:{وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ 93] . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ (3) لَا بُدَّ أَنْ يَفْقَهُوا بَعْضَ الْأَقْوَالِ، وَإِلَّا فَلَا يَعِيشُ الْإِنْسَانُ بِدُونِ ذَلِكَ، فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَفْقَهُونَ بَعْدَ أَنْ كَادُوا لَمْ يَفْقَهُوهُ (4) .

(1) ن، م، و، ر، ي: مُنْتَفٍ.

(2)

ن، م: وَقَدْ قِيلَ.

(3)

ن، م، أ: أَنَّهُ.

(4)

م، أ: كَادُوا لَا يَفْقَهُونَ، ح: كَادُوا لَمْ يَفْقَهُوا.

ص: 141

وَكَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ (1) ، وَهَذَا أَظْهَرُ أَقْوَالِ النُّحَاةِ (2) وَأَشْهَرُهَا.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ فَقِهُوا الْقُرْآنَ لَعَلِمُوا أَنَّكَ مَا أَمَرْتَهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَمَا نَهَيْتَهُمْ إِلَّا عَنْ شَرٍّ، وَأَنَّهُ لَمْ تَكُنِ الْمُصِيبَةُ الْحَاصِلَةُ لَهُمْ بِسَبَبِكَ، بَلْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ 79] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا (3) كَتَبْتُهَا عَلَيْكَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا فِي حَرْفٍ عِنْدَ اللَّهِ (4) وَأَنَا قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ.

وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [سُورَةُ الشُّورَى 30]، وَقَوْلِهِ:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ 165] وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [سُورَةُ الشُّورَى 48] .

وَأَمَّا رِوَايَةُ كَرْدَمٍ عَنْ يَعْقُوبَ: فَمِنْ نَفْسِكَ، فَمَعْنَاهَا يُنَاقِضُ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا.

وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ: " «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» "(5) .

وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ نَسَبَ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ إِلَى مَا

(1) م، و، أ، ر: الرَّوِيَّةِ، ي: الرُّؤْيَةِ.

(2)

ح، ر، ب: الْأَقْوَالُ لِلنُّحَاةِ.

(3)

ن: فَأَنَا.

(4)

عِنْدَ اللَّهِ، كَذَا فِي (ن) ، وَالْكَلِمَةُ غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ فِي (م) ، (ن) ، (ي)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: عَبْدِ اللَّهِ.

(5)

سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/139

ص: 142

أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ (1) . فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ بِسَبَبِ تَقْدِيمِهِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاسْتِخْلَافِهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِمَا، حَصَلَ لَهُمْ (2) مُصِيبَةٌ. قِيلَ: مُصِيبَتُكُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِكُمْ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [سُورَةُ الطَّلَاقِ 2 - 3]، بَلْ هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: 12] .

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (3) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «الْغَيْبَةُ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ". قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: " إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» (4) ". فَمَنْ رَمَى أَحَدًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ؟ .

وَمَنْ قَالَ عَنْ مُجْتَهِدٍ: إِنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ وَتَعَمَّدَ (5) مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَقَدْ بَهَتَهُ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ ذَلِكَ فَقَدِ اغْتَابَهُ، لَكِنْ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَبَاحَهُ (6) اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهُوَ مَا يَكُونُ (7)

(1) ن: مَا كَانَ.

(2)

ن، م: لَهُ.

(3)

ن، م: وَفِي الصَّحِيحِ.

(4)

الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 4/2001 كِتَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ تَحْرِيمِ الْغَيْبَةِ، وَأَوَّلُهُ: أَتَدْرُونَ مَا الْغَيْبَةُ، الْحَدِيثَ وَهُوَ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/370 - 371 كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابٌ فِي الْغَيْبَةِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 3/220 - 221 كِتَابُ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغَيْبَةِ، سُنَنَ الدَّارِمِيِّ 2/299 كِتَابُ الرُّقَاقِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغَيْبَةِ، الْمُسْنَدَ ط. الْمَعَارِفِ 12/132 - 133. 17/95، 105، 19/70.

(5)

ح، ب: أَوْ تَعَمَّدَ.

(6)

ن: مَا أَبَاحَ.

(7)

ن: مَا كَانَ يَكُونُ.

ص: 143

عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَالْعَدْلِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الدِّينِ وَنَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِ الْمُشْتَكِي الْمَظْلُومِ: فُلَانٌ ضَرَبَنِي وَأَخَذَ مَالِي وَمَنَعَنِي حَقِّي وَنَحْوَ ذَلِكَ.

قَالَ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 148] ، وَقَدْ نَزَلَتْ فِيمَنْ ضَافَ قَوْمًا فَلَمْ يُقْرُوهُ، لِأَنَّ قِرَى الضَّيْفِ وَاجِبٌ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ (1) الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَلَمَّا مَنَعُوهُ حَقَّهُ كَانَ لَهُ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَاقِبَهُمْ (2) بِمِثْلِ قِرَاهُ فِي زَرْعِهِمْ وَمَالِهِمْ، وَقَالَ:" نَصْرُهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ "(3) لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ (4) مِنَ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ» " (5) .

وَأَمَّا الْحَاجَةُ فَمِثْلُ اسْتِفْتَاءِ هِنْدٍ بِنْتِ عُتْبَةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا

(1) عَلَيْهِ: زِيَادَةٌ فِي (ح) ، (ب) .

(2)

يُعَاقِبَهُمْ: كَذَا فِي (ح) ، (ر)، (ب) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: يَعْقُبَهُمْ.

(3)

أَوْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ 2/394 - 396 الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ 148 مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَمِنْهَا حَدِيثٌ تَفَرَّدَ أَحْمَدُ بِهِ فِي مَسْنَدِهِ ط. الْحَلَبِيِّ 4/133 عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَضَافَ قَوْمًا فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا، فَإِنَّ حَقًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرُهُ حَتَّى يَأْخُذَ بِقِرَى اللَّيْلَةِ لَيْلَتِهِ، مِنْ زَرْعِهِ وَمَالِهِ. وَالْحَدِيثُ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُسْنَدِ وَصَحَّحَ الْأَلْبَانِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي سِلْسِلَةِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ 2/194

(4)

ن، م: بِمَنْعِهِ.

(5)

الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ فِي الْأَلْفَاظِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 3/128 - 129 كِتَابُ الْمَظَالِمِ وَالْغَصْبِ، بَابُ أَعِنْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا 9/22 كِتَابُ الْإِكْرَاهِ، بَابُ يَمِينِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ أَنَّهُ أَخُوهُ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 3/326 - 357 كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابُ 59 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُؤَدِّبُ، الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 3/99، 201

ص: 144

«قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي وَبَنِيَّ مَا يَكْفِينِي بِالْمَعْرُوفِ. فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ (1) ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا قَوْلَهَا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمَظْلُومِ.

وَأَمَّا النَّصِيحَةُ فَمِثْلُ «قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَمَّا اسْتَشَارَتْهُ فِيمَنْ خَطَبَهَا فَقَالَتْ: خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ. فَقَالَ: " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ " وَفِي لَفْظٍ: " يَضْرِبُ النِّسَاءَ "، " انْكِحِي أُسَامَةَ» " (2) فَلَمَّا اسْتَشَارَتْهُ حَتَّى تَتَزَوَّجَ (3) ذَكَرَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَشَارَ رَجُلًا فِيمَنْ (4) يُعَامِلُهُ. وَالنَّصِيحَةُ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَوْ لَمْ

(1) الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي: الْبُخَارِيِّ 3/79 كِتَابُ الْبُيُوعِ بَابُ مَنْ أَجْرَى الْأَمْصَارَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ. وَجَاءَ الْحَدِيثُ بِمَعْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى كَثِيرَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ فِي ط. الدُّكْتُورِ مُصْطَفَى الْبُغَا: الْأَرْقَامَ: 2328، 3613، 5044، 5049، 5055، 6265، 6742، 6758، وَأَوْرَدَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِهِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ عَائِشَةَ 3/1338 - 1339 كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ، بَابُ قَضِيَّةِ هِنْدٍ، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ.

(2)

الْحَدِيثُ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها فِي: مُسْلِمٍ 2/1114 كِتَابُ الطَّلَاقِ بَابُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَا نَفَقَةَ لَهَا، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 2/383 كِتَابُ الطَّلَاقِ بَابٌ فِي نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 2/301 - 302 كِتَابُ النِّكَاحِ، بَابُ مَا جَاءَ أَنْ لَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 6/411، 412 وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَالْمُوَطَّأِ.

(3)

ح، ر، ب: فِيمَنْ تَتَزَوَّجُ.

(4)

ن، م، و، ي: مِمَّنْ.

ص: 145

يُشَاوِرْهُ ; فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: " «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ» " ثَلَاثًا. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " (1) .

وَكَذَلِكَ بَيَانُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَنْ غَلِطَ فِي رِوَايَةٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَنْ يَنْقِلُ عَنْهُ الْعِلْمَ. وَكَذَلِكَ بَيَانُ مَنْ غَلِطَ فِي رَأْيٍ رَآهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ; فَهَذَا إِذَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْإِنْسَانُ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، وَقَصَدَ النَّصِيحَةَ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُثِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ فِيهِ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَةٍ، فَهَذَا يَجِبُ بَيَانُ أَمْرِهِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ دَفْعَ شَرِّهِ عَنْهُمْ أَعْظَمُ مِنْ دَفْعِ شَرِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ.

وَحُكْمُ الْمُتَكَلِّمِ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا أَوْ مُصِيبًا، وَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِاللِّسَانِ أَوِ الْيَدِ مُجْتَهِدًا يَعْتَقِدُ الصَّوَابَ مَعَهُ، وَقَدْ يَكُونَانِ جَمِيعًا مُخْطِئَيْنِ مَغْفُورًا لَهُمَا، كَمَا ذَكَرْنَا نَظِيرَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ الصَّحَابَةِ.

وَلِهَذَا يُنْهَى عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ سَوَاءً كَانُوا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ (2) ، فَإِذَا تَشَاجَرَ مُسْلِمَانِ فِي قَضِيَّةٍ، وَمَضَتْ وَلَا تَعَلُّقٌ لِلنَّاسِ بِهَا، وَلَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَتَهَا، كَانَ كَلَامُهُمْ فِيهَا كَلَامًا (3) بِلَا عِلْمٍ وَلَا عَدْلٍ يَتَضَمَّنُ أَذَاهُمَا (4) بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ عَرَفُوا أَنَّهُمَا مُذْنِبَانِ أَوْ مُخْطِئَانِ، لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ

(1) سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/528

(2)

أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ: كَذَا فِي (ن) ، (م) ، (ر)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ.

(3)

ن فَقَطْ: ذَكَرَ.

(4)

ح، ب: أَذَاهُمْ.

ص: 146

مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مِنْ بَابِ الْغَيْبَةِ الْمَذْمُومَةِ.

لَكِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (1) أَعْظَمُ حُرْمَةً، وَأَجَلُّ قَدْرًا، وَأَنْزَهُ أَعْرَاضًا. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ فَضَائِلِهِمْ خُصُوصًا وَعُمُومًا مَا لَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِمْ، فَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ ذَمُّهُمْ عَلَى مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ أَعْظَمَ إِثْمًا مِنَ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ (2) تَسُبُّونَ الرَّافِضَةَ وَتَذُمُّونَهُمْ وَتَذْكُرُونَ عُيُوبَهُمْ.

قِيلَ: ذِكْرُ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ غَيْرُ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنَةِ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً، كَقَوْلِهِ:" «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا» (3) " وَ " «لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ» "(4)، وَ " «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» " (5) وَقَالَ: " «الْمَدِينَةُ

(1) ن، م، أ: رضي الله عنهم، ي، ر: رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

(2)

ن: فَأَنْتُمْ فِيهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَ: فَأَنْتُمْ فِي هَذَا الْمَكَانِ.

(3)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/568 - 569

(4)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/568

(5)

الْحَدِيثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي مُسْلِمٍ 3/1567 كِتَابُ الْأَضَاحِيِّ، بَابُ تَحْرِيمِ الذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَعْنِ فَاعِلِهِ وَنَصُّ الرِّوَايَةِ الْأُولَى حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ عُمَرُ بْنُ وَاثِلَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعٍ: قَالَ: فَقَالَ: مَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَلَدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ 13/141: الْمُرَادُ بِمَنَارِ الْأَرْضِ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَامَاتُ حُدُودِهَا، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ 7/204 - 205 كِتَابُ الضَّحَايَا، بَابُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل، الْمُسْنَدَ ط. الْمَعَارِفِ 2/156 وَالْحَدِيثُ بِمَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي: الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ 3/266، 4/292 - 293، 326 - 327

ص: 147

حَرَمٌ (1) مَا بَيْنَ عِيرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثِ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» " (2) .

وَقَالَ: " «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» "(3) وَقَالَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ» "(4) وَقَالَ: " «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ (5) أَبِيهِ،

(1) ح، م، ب: حَرَامٌ.

(2)

الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي الْبُخَارِيِّ 3/20 كِتَابُ فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ، بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ الْبُخَارِيِّ انْظُرْ ط. د. الْبُغَا الْأَرْقَامَ: 3001، 3008، 6374، 6870 وَالْحَدِيثُ فِي مُسْلِمٍ 2/994 - 999 كِتَابُ الْحَجِّ، بَابُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فِي مُسْلِمٍ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَمَسْنَدِ أَحْمَدَ.

(3)

جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ قَلِيلٍ، وَنَصُّهُ فِي: الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ 3/266: (مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أَبَاهُ، مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أُمَّهُ، مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ، مَلْعُونٌ مَنْ كَمَّهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ، مَلْعُونٌ مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمَلَ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ) وَصَحَّحَ أَحْمَدُ شَاكِر رحمه الله الْحَدِيثَ، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثَ الْأُخْرَى رَقْمَ 2817، 2915، 2916، 2917 وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ 3/9 كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي حَدِّ اللُّوطِيِّ حَدِيثًا عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو وَنَصُّهُ:(مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ)

(4)

الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي الْبُخَارِيِّ 7/159 كِتَابُ اللِّبَاسِ، بَابُ إِخْرَاجِ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَلَفْظُهُ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ، قَالَ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فُلَانًا وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلَانًا، وَجَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا فِي: سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 4/194 كِتَابُ الِاسْتِئْذَانِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ، وَهُوَ فِي سُنَنِ الدَّارِمِيِّ 2/280 - 281 كِتَابُ الِاسْتِئْذَانِ، بَابُ لَعْنِ الْمُخَنَّثِينَ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ، الْمُسْنَدُ ط. الْمَعَارِفِ 3/305 - 314 وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.

(5)

م، و: لِغَيْرِ، ن: مِنْ غَيْرِ.

ص: 148

أَوْ تَوَلَّى (1) غَيْرَ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» " (2) .

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 44 - 45] .

فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنْ ذَمِّ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ وَذَمِّ أَهْلِهَا وَلَعْنِهِمْ، تَحْذِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَإِخْبَارًا بِمَا يَلْحَقُ أَهْلَهُ مِنَ الْوَعِيدِ.

ثُمَّ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْرِفُ صَاحِبُهَا أَنَّهُ عَاصٍ [يَتُوبُ مِنْهَا، وَالْمُبْتَدَعُ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ كَالْخَوَارِجِ وَالنَّوَاصِبِ الَّذِي نَصَبُوا الْعَدَاوَةَ وَالْحَرْبَ](3) لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَابْتَدَعُوا بِدْعَةً، وَكَفَّرُوا مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَيْهَا، فَصَارَ بِذَلِكَ ضَرَرُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِ الظَّلَمَةِ، الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الظُّلْمَ مُحَرَّمٌ، وَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَةُ أَحَدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ قَدْ تَكُونُ أَخَفَّ، لَكِنْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(1) ن: وَتَوَلَّى، وَ: وَمَنْ تَوَلَّى.

(2)

ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ 4/449 - 450 كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابٌ فِي الرَّجُلِ يَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ ثَلَاثَ أَحَادِيثَ: الْأَوَّلُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه وَنَصُّهُ: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ)، وَالثَّانِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:(مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذَنْ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ) وَالثَّالِثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ أَدْمَجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ، وَانْظُرْ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ ج [0 - 9] الْأَرْقَامَ 1454، 1497، 1499، 1504، 1553 وَانْظُرِ الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 5/267 وَقَدْ صَحَّحَ الْأَلْبَانِيُّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ 5/233 - 234

(3)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

ص: 149

بِقِتَالِهِمْ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِ الْأُمَرَاءِ الظَّلَمَةِ، وَتَوَاتَرَتْ عَنْهُ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.

فَقَالَ: فِي الْخَوَارِجِ: " «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» "(1) .

وَقَالَ فِي بَعْضِهِمْ: " «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ: وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» "(2) .

وَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: " «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تُلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» "(3) أَيْ تُلْقُونَ مَنْ يَسْتَأْثِرُ عَلَيْكُمْ بِالْمَالِ وَلَا يُنْصِفُكُمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ.

وَقَالَ أَيْضًا: " «سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَطْلُبُونَ مِنْكُمْ حَقَّكُمْ وَيَمْنَعُونَكُمْ حَقَّهُمْ ". قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَدَّوْا إِلَيْهِمْ

(1) انْظُرْ مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْ أَحَادِيثِ الْخَوَارِجِ فِي هَذَا الْكِتَابِ 1/66

(2)

هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَوَّلُهُ - وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ - بَعَثَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَهَبِيَّةٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ. الْحَدِيثَ: وَفِيهِ إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ إِلَخْ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ 4/137 كِتَابُ الْأَنْبِيَاءِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا الْآيَةَ 9/127 كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، مُسْلِمٍ 2/741 - 742 كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابُ ذِكْرِ الْخَوَارِجِ وَصِفَاتِهِمْ، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 4/335 كِتَابُ السُّنَّةِ، بَابٌ فِي قِتَالِ الْخَوَارِجِ، سُنَنَ النَّسَائِيِّ بِشَرْحِ السُّيُوطِيِّ 5/65 - 66 كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، 7/108 - 109 كِتَابُ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ، مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فِي النَّاسِ الْمُسْنِدَ ط. الْمَعَارِفِ 7/308 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ.

(3)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/240

ص: 150

حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ» " (1) .

وَقَالَ: " «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» "(2) .

وَقَالَ: " «مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» "(3) .

وَقَالَ: " «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشَرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ ". قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: " لَا مَا صَلَّوْا» "(4) .

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي الصَّحِيحِ، إِلَى أَحَادِيثَ أَمْثَالِهَا.

فَهَذَا أَمْرُهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَهَذَا نَهْيُهُ عَنْ قِتَالِ الْوُلَاةِ الظَّلَمَةِ. وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ظَالِمٍ بَاغٍ يَجُوزُ قِتَالُهُ.

وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمَ الَّذِي (5) يَسْتَأْثِرُ بِالْمَالِ وَالْوِلَايَاتِ لَا يُقَاتِلُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا (6) ، يُقَاتِلُهُ (7) النَّاسُ حَتَّى يُعْطِيَهُمُ الْمَالَ وَالْوِلَايَاتِ، وَحَتَّى لَا يَظْلِمَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ أَصْلُ قِتَالِهِمْ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَلَا كَانَ قِتَالُهُمْ مِنْ جِنْسِ قِتَالِ الْمُحَارِبِينَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ (8) : " «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ

(1) سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/118

(2)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/113

(3)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/112 - 113

(4)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/116

(5)

الَّذِي: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(6)

الدُّنْيَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(7)

ن، م: يُقَاتِلُ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(8)

ن، م: الَّذِينَ قُتِلَ فِيهِمْ وَهُوَ تَحْرِيفٌ.

ص: 151

شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ [دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ](1) حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» " (2) لِأَنَّ أُولَئِكَ مُعَادُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَجَمِيعُ النَّاسِ يُعِينُونَ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ وَالْحَرْبُ، فَلَيْسُوا وُلَاةَ أَمْرٍ قَادِرِينَ عَلَى الْفِعْلِ وَالْأَخْذِ، بَلْ هُمْ بِالْقِتَالِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ وَدِمَاءَهُمْ، فَهُمْ مُبْتَدِءُونَ النَّاسَ بِالْقِتَالِ، بِخِلَافِ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُمْ لَا يَبْتَدِءُونَ بِالْقِتَالِ لِلرَّعِيَّةِ.

وَفَرَّقَ بَيْنَ (3) مَنْ تُقَاتِلُهُ دَفْعًا وَبَيْنَ مَنْ تُقَاتِلُهُ ابْتِدَاءً. وَلِهَذَا هَلْ يَجُوزُ فِي حَالِ الْفِتْنَةِ قِتَالُ الدَّفْعِ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ وَالْمَعَانِي.

وَبِالْجُمْلَةِ الْعَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ أَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ يَكُونُ لِطَلَبِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَالِ وَالْإِمَارَةِ، وَهَذَا قِتَالٌ عَلَى الدُّنْيَا.

(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (ح) ، (ب) ، (أ)، وَفِي (ر) : دُونَ دَمِهِ.

(2)

لَمْ أَجِدْ عِبَارَةَ: وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَلَكِنْ وَجَدْتُ حَدِيثًا فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) وَالْحَدِيثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/339 كِتَابُ السُّنَّةِ بَابٌ فِي قِتَالِ اللُّصُوصِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 2/435، 436 كِتَابُ الدِّيَاتِ، بَابُ مَا جَاءَ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، زَادَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه سُنَنَ النَّسَائِيِّ 7/105 - 107 كِتَابُ تَحْرِيمِ الدَّمِ، بَابُ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، بَابُ مَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ، بَابُ مَنْ قَاتَلَ دُونَ دِينِهِ، بَابُ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 2/861 كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابُ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَجَاءَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، فِي الْبُخَارِيِّ 3/136 كِتَابُ الْمَظَالِمِ، بَابُ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ، مُسْلِمٍ 1/124، 125 كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابٌ عَنْ أَنَّ مَنْ قَصَدَ أَخْذَ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، الْمُسْنَدَ ط. الْمَعَارِفِ 3/119، 10/43، 11/153، 154

(3)

بَيْنَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .

ص: 152

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَفِتْنَةِ الْقُرَّاءِ مَعَ الْحَجَّاجِ، وَفِتْنَةِ مَرْوَانَ بِالشَّامِ: هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ كَالْخَوَارِجِ فَهُمْ يُرِيدُونَ إِفْسَادَ دِينِ النَّاسِ، فَقِتَالُهُمْ قِتَالٌ عَلَى (1) الدِّينِ.

وَالْمَقْصُودُ بِقِتَالِهِمْ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. فَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.

وَلِهَذَا كَانَ قِتَالُ عَلِيٍّ رضي الله عنه لِلْخَوَارِجِ (2) ثَابِتًا بِالنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ، وَبِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَائِرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا قِتَالُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ فَكَانَ قِتَالَ فِتْنَةٍ، كَرِهَهُ فُضَلَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ. حَتَّى الَّذِينَ حَضَرُوهُ كَانُوا كَارِهِينَ لَهُ، فَكَانَ كَارِهُهُ فِي الْأُمَّةِ أَكْثَرَ وَأَفْضَلَ مِنْ حَامِدِهِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَسِّمُ مَالًا فَجَاءَ ذُو الْخُوَيْصِرَةَ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، نَاتِئِ الْجَبِينِ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ. فَقَالَ: " وَيْحَكَ وَمَنْ (3) يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ " ثُمَّ قَالَ: أَيَأْمَنُنِي (4) مَنْ فِي السَّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي (5) ؟ " فَقَالَ لَهُ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ: دَعْنِي

(1) عَلَى: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)، وَفِي (و) (ر) (ي) : عَنْ.

(2)

م، ب: الْخَوَارِجَ.

(3)

ن، م: فَمَنْ.

(4)

ب فَقَطْ: وَيْحَكَ أَيَأْمَنُنِي.

(5)

م: وَلَا تَأْمَنُونِي فِي الْأَرْضِ.

ص: 153

أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ: " يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَقْوَامٌ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ» " الْحَدِيثَ (1) .

فَهَذَا كَلَامُهُ فِي هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ لِمَا كَانُوا مُبْتَدِعِينَ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إِلَيْهِ جَلَدَهُ الْحَدَّ، فَأُتِيَ بِهِ إِلَيْهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، وَقَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " لَا تَلْعَنْهُ ; فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» " (2) فَنَهَى عَنْ لَعْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ الْمُدْمِنَ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، مَعَ لَعْنَةِ شَارِبِ الْخَمْرِ عُمُومًا.

فَعُلِمَ الْفِرَقُ بَيْنَ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَاصِّ الْمُعَيَّنِ، وَعُلِمَ أَنَّ أَهْلَ الذُّنُوبِ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِهِمْ أَخَفُّ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةٍ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا عُقُوبَةَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ.

وَالرَّافِضَةُ أَشَدُّ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ يُكَفِّرُونَ مَنْ لَمْ تَكُنِ الْخَوَارِجُ تُكَفِّرُهُ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَكْذِبُونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ كَذِبًا مَا كَذِبَ أَحَدٌ مِثْلَهُ، وَالْخَوَارِجُ لَا يَكْذِبُونَ، لَكِنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا أَصْدَقَ وَأَشْجَعَ مِنْهُمْ، وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ مِنْهُمْ، فَكَانُوا أَكْثَرَ قِتَالًا مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ أَكْذَبُ وَأَجْبَنُ وَأَغْدَرُ وَأَذَلُّ.

(1) الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ فِي الْبُخَارِيِّ 4/200 كِتَابُ الْمَنَاقِبِ، بَابُ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، مُسْلِمٍ 2/744 - 745 كِتَابُ الزَّكَاةِ، بَابُ ذِكْرِ الْخَوَارِجِ وَصِفَاتِهِمُ الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 3/65، 68، 73/353، 354 - 355 وَانْظُرْ جَامِعَ الْأُصُولِ لِابْنِ الْأَثِيرِ 10/436 - 440 سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 1/60 - 61 الْمُقَدِّمَةُ بَابٌ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ.

(2)

سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/457 - 458

ص: 154

وَهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِالْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ إِذَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِعَدُوٍّ كَافِرٍ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا جَرَى لِجَنْكِزْخَانَ (1) مَلِكِ التَّتَرِ (2) الْكُفَّارِ، فَإِنَّ الرَّافِضَةَ أَعَانَتْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (3) .

وَأَمَّا إِعَانَتُهُمْ لِهُولَاكُو ابْنِ ابْنِهِ لَمَّا جَاءَ إِلَى خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ فَهَذَا أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، فَكَانُوا بِالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْصَارِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (4) ، وَكَانَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ بِبِغَدْادَ (5) الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ مِنْهُمْ (6) ، فَلَمْ يَزَلْ يَمْكُرُ بِالْخَلِيفَةِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَسْعَى فِي قَطْعِ أَرْزَاقِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ، وَيَنْهَى الْعَامَّةَ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَيَكِيدُ أَنْوَاعًا مِنَ الْكَيْدِ، حَتَّى دَخَلُوا فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ بِضْعَةَ عَشْرَ أَلْفِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ، وَلَمْ يُرَ فِي الْإِسْلَامِ مَلْحَمَةٌ مِثْلَ مَلْحَمَةِ التُّرْكِ الْكُفَّارِ الْمُسَمَّيْنَ بِالتَّتَرِ، وَقَتَلُوا الْهَاشِمِيِّينَ وَسَبَوْا نِسَاءَهُمْ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَغَيْرِ الْعَبَّاسِيِّينَ (7) ، فَهَلْ يَكُونُ مُوَالِيًا لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يُسَلِّطُ الْكُفَّارَ عَلَى قَتْلِهِمْ وَسَبْيِهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؟ .

(1) ن: لِجَنْكِشْخَانَ، ي، ر، أ، م: لِجَنْكِسْخَانَ.

(2)

مَلِكِ التَّتَرِ: كَذَا فِي (ن)، (م) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: مَلِكِ التُّرْكِ.

(3)

انْظُرْ عَنْ غَزْوِ جَنْكِزْخَانَ لِمَنَاطِقَ مِنَ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ أَحْدَاثَ سَنَةِ 617 هـ فِي تَارِيخِ ابْنِ الْأَثِيرِ 12/137 - 153 الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ 13/86 - 91 وَقَدْ تُوُفِّيَ جَنْكِزْخَانَ سَنَةَ 624 وَانْظُرْ عَنْهُ: الْبِدَايَةَ وَالنِّهَايَةَ 13/117 - 121 ; دَائِرَةَ الْمَعَارِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَقَالَةَ بَارُتُولْدَ.

(4)

ح، ب: بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

(5)

بِبَغْدَادَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (أ) .

(6)

الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ مِنْهُمْ: كَذَا فِي (أ)، (ب) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ.

(7)

ن، م: وَغَيْرِهِمْ، وَانْظُرْ مَا سَبَقَ أَنْ ذَكَرْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ، ص 21 (م) وَانْظُرْ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ مُحِبُّ الدِّينِ الْخَطِيبُ رحمه الله فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُنْتَقَى مِنْ مِنْهَاجِ الِاعْتِدَالِ ص [0 - 9] 25 - 326 حَيْثُ نَقَلَ عَنِ الْخُوَانَسَارِيِّ فِي كِتَابِهِ رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ص 578 عِنْدَ تَرْجَمَةِ نَصِيرِ الدِّينِ الطُّوسِيِّ قَوْلَهُ عَنْهُ: وَمَجِيئُهُ فِي مَوْكِبِ السُّلْطَانِ الْمُؤَيَّدِ هُولَاكُو مَعَ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ بَغْدَادَ، لِإِرْشَادِ الْعُبَّادِ وَإِصْلَاحِ الْعِبَادِ، وَقَطْعِ دَابِرِ سِلْسِلَةِ الْبَغِيِّ وَالْفَسَادِ، وَإِخْمَادِ ثَائِرَةِ الْجَوْرِ وَالْإِلْبَاسِ، بِإِبَادَةِ دَائِرَةِ مُلْكِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَإِيقَاعِ الْقَتْلِ الْعَامِّ، مِنْ أَتْبَاعِ أُولَئِكَ الطَّغَامِ، إِلَى أَنْ أَسَالَ دِمَاءَهُمُ الْأَقْذَارَ، كَأَمْثَالِ الْأَنْهَارِ، فَانْهَارَ بِهَا فِي مَاءِ دِجْلَةَ، وَمِنْهَا إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَارِ الْبَوَارِ، وَمَحَلِّ الْأَشْقِيَاءِ وَالْأَشْرَارِ. وَانْظُرْ تَعْلِيقَ الْأُسْتَاذِ مُحِبِّ الدِّينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي ص 20 مِنَ الْكِتَابِ، وَانْظُرْ تَعْلِيقَهُ فِي هَامِشِ ص 326 - 327 عَلَى ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ وَكَلَامَهُ عَلَى دَوْرِهِ فِي تَحْرِيضِ هُولَاكُو عَلَى الزَّحْفِ عَلَى بَغْدَادَ وَخِدَاعِهِ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ. . . إِلَخْ.

ص: 155

وَهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَتَلَ الْأَشْرَافَ، وَلَمْ يَقْتُلِ الْحَجَّاجُ هَاشِمِيًّا قَطُّ، مَعَ ظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ ; فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَتَلَ نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ غَيْرَ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ هَاشِمِيَّةً، وَهِيَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَمَا مَكَّنَهُ بَنُو أُمَيَّةَ مِنْ ذَلِكَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَقَالُوا: لَيْسَ الْحَجَّاجُ كُفُوًا لِشَرِيفَةٍ هَاشِمِيَّةٍ.

وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ (1) بِالشَّامِ مِنَ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ لَهُمْ كَلِمَةٌ أَوْ سِلَاحٌ يُعِينُونَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنَ النَّصَارَى (2) أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَلَى قَتْلِهِمْ وَسَبْيِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ.

وَالْخَوَارِجُ مَا عَمِلَتْ مِنْ هَذَا شَيْئًا، بَلْ كَانُوا هُمْ (3) يُقَاتِلُونَ النَّاسَ، لَكِنْ مَا كَانُوا يُسَلِّطُونَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

(1) ن: وَكَانَ كَذَلِكَ مَنْ كَانَ.

(2)

ن: وَالنَّصَارَى.

(3)

هُمْ: فِي (ن) ، (م) ، (أ) فَقَطْ.

ص: 156

وَدَخَلَ فِي الرَّافِضَةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ (1) : الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ وَالنَّصِيرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ (2) لَمْ يَكُنْ يَجْتَرِئُ أَنْ يَدْخُلَ عَسْكَرَ الْخَوَارِجِ، لِأَنَّ الْخَوَارِجَ كَانُوا عُبَّادًا مُتَوَرِّعِينَ، كَمَا قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ [وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ] » "(3) الْحَدِيثَ (4) ، فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ مِنَ الْخَوَارِجِ؟ .

وَالرَّافِضَةُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ مُتَوَرِّعٌ زَاهِدٌ، لَكِنْ لَيْسُوا فِي ذَلِكَ مِثْلَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ أَعْقَلُ مِنْهُمْ وَأَعْلَمُ وَأَدْيَنُ، وَالْكَذِبُ وَالْفُجُورُ فِيهِمْ أَقَلُّ مِنْهُ فِي الرَّافِضَةِ. وَالزَّيْدِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ خَيْرٌ مِنْهُمْ: أَقْرَبُ إِلَى الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وِالْعِلْمِ (5) ، وَلَيْسَ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَصْدَقُ وَلَا أَعْبَدُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَمَعَ هَذَا فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمُ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ وَلَا يَظْلِمُونَهُمْ ; فَإِنَّ الظُّلْمَ حَرَامٌ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ أَهْلُ السُّنَّةِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، بَلْ هُمْ لِلرَّافِضَةِ خَيْرٌ وَأَعْدَلُ مِنْ بَعْضِ الرَّافِضَةِ لِبَعْضٍ.

وَهَذَا مِمَّا يَعْتَرِفُونَ هُمْ بِهِ، وَيَقُولُونَ: أَنْتُمْ تُنْصِفُونَنَا (6) مَا لَا يُنْصِفُ

(1) الْمُنَافِقِينَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (أ) .

(2)

أ، ب: مَنْ.

(3)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (أ) ، (و) وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى أَحَادِيثِ الْخَوَارِجِ فِي الصَّفَحَاتِ السَّابِقَةِ.

(4)

مَضَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا الْجُزْءِ ص 150، 154

(5)

ن، م، أ: وَالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ.

(6)

أَنْتُمْ تُنْصِفُونَنَا: كَذَا فِي (ح) ، وَفِي (أ) ، (ي) ، (و) ، (ر) أَنْتُمْ تُنْصِفُونَا، وَفِي (ن) (م) : أَنَّهُمْ يُنْصِفُونَا.

ص: 157

بَعْضُنَا بَعْضًا. وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي اشْتَرَكُوا فِيهِ أَصْلٌ فَاسِدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى جَهْلٍ وَظُلْمٍ، وَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي ظُلْمِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي ظُلْمِ النَّاسِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُسْلِمَ الْعَالِمَ الْعَادِلَ أَعْدَلُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ.

وَالْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ أَهْلَ الْجَمَاعَةِ، وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ الرَّافِضَةِ وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ فُسِّقَ. وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَبْتَدِعُونَ رَأْيًا، وَيُكَفِّرُونَ (1) مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَتَّبِعُونَ الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَلَا يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهِ، بَلْ هُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ وَأَرْحَمُ بِالْخَلْقِ، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ 110] . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ (2) .

وَأَهْلُ السُّنَّةِ نَقَاوَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُمْ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ بِسَاحِلِ الشَّامِ جَبَلٌ كَبِيرٌ، فِيهِ أُلُوفٌ مِنَ الرَّافِضَةِ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ النَّاسِ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَقَتَلُوا خَلْقًا عَظِيمًا وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَلَمَّا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ سَنَةَ غَازَانَ (3) ، أَخَذُوا الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ

(1) وَيُكَفِّرُونَ: كَذَا فِي (ح) ، (ب) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ فَيُكَفِّرُونَ.

(2)

وَرَدَ هَذَا الْأَثَرُ فِي: الْبُخَارِيِّ 6/37 - 38 كِتَابُ التَّفْسِيرِ، سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، بَابُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وَنَصُّهُ فِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَانْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ لِلْآيَةِ 2/77 ط. دَارَ الشَّعْبِ.

(3)

ن، م: فِي غَازَانَ، و: سَنَةَ قَازَانَ، أ: سَنَةَ عَازَابَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مُحِبُّ الدِّينِ الْخَطِيبُ رحمه الله فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُنْتَقَى مِنْ مِنْهَاجِ الِاعْتِدَالِ ص 329 ت [0 - 9] مَا يَلِي: سَنَةَ غَازَانَ هِيَ سَنَةُ 699 وَغَازَانُ 670 - 703 هُوَ أَخُو خَدَابِنَدَاهُ 680 - 716 الَّذِي أَلَّفَ لَهُ الرَّافِضِيُّ الْكِتَابَ الْمَرْدُودَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِهِ وَبِأَسْلَافِهِ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى خُطْبَةِ هَذَا الْكِتَابِ ص 18 وَالْوَاقِعَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ هِيَ أَنَّ دِمَشْقَ كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْحِينِ تَابِعَةً لِلْمَلِكَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ مَلِكُ مِصْرَ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ الَّذِي عَادَ مِنْ مَنْفَاهُ بِالْكَرْكَ بَعْدَ قَتْلِ الْمَنْصُورِ لَاجِينَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ 698 وَكَانَ نَائِبُ السُّلْطَانِ الْمِصْرِيِّ فِي دِمَشْقَ وَبِلَادِ الشَّامِ آقُوشَ الْأَفْرَمَ بَعْدَ أَنْ فَرَّ سَلَفُهُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ الْمَنْصُورِيُّ إِلَى إِيرَانَ وَالْتَحَقَ بِمَلِكِهَا غَازَانَ الْمَذْكُورِ، فَوَرَدَتِ الْأَخْبَارُ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ 698 بِزَحْفِ غَازَانَ مِنْ إِيرَانَ نَحْوَ حَلَبَ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ فَخَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى غَزَّةَ فِي مُحَرَّمٍ 699 وَلَبِثَ فِيهَا شَهْرَيْنِ يَسْتَعِدُّ وَيُرَاقِبُ حَرَكَاتِ غَازَانَ، وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ 699 وَصَلَ النَّاصِرُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ الْوَقْتُ شِتَاءَ دِيسِمْبِرَ 1219 م فَتَمَوَّنَ مِنْ دِمَشْقَ بِالرِّجَالِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعَتَادِ حَتَّى اقْتَرَضُوا أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ، وَزَحَفَ إِلَى الشَّمَالِ، فَالْتَقَى بِالتَّتَارِ فِي وَادِي سَلَمْيَةَ يَوْمَ 27 رَبِيعٍ الْأَوَّلِ 699 وَكَانَتْ مَلْحَمَةً انْكَسَرَتْ فِيهَا جُيُوشُ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَوَاصَلَ غَازَانُ زَحْفَهُ فَاسْتَوْلَى عَلَى بَعْلَبَكَّ وَالْبِقَاعِ، فَنَزَحَ أَعْيَانُ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ يَتَّبِعُونَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ فِي انْسِحَابِهِ، وَبَقِيَتْ دِمَشْقُ بِلَا رُعَاةٍ، وَالْتَفَّ الشَّامِيُّونَ حَوْلَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْخُرُوجَ لِمُقَابَلَةِ غَازَانَ وَطَلَبِ الْأَمَانِ لِلشَّعْبِ، وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مُحِبُّ الدِّينِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا جَرَى بَيْنَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَازَانَ فِي لِقَاءٍ بَيْنِهِمَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَرَى مِنَ التَّتَارِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَوَاسِطِ شَعْبَانَ سَنَةَ 699 انْظُرْ هَامِشَ ص 330 - 332 وَانْظُرْ عَنْ سَنَةِ غَازَانَ أَوْ وَقْعَةِ غَازَانَ: الْبِدَايَةَ وَالنِّهَايَةَ 14/6 - 11.

ص: 158

وَالْأَسْرَى (1) وَبَاعُوهُمْ لِلْكُفَّارِ النَّصَارَى (2) بِقُبْرُصَ، وَأَخَذُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْجُنْدِ، وَكَانُوا أَضَرَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْدَاءِ، وَحَمَلَ بَعْضُ أُمَرَائِهِمْ رَايَةَ النَّصَارَى، وَقَالُوا لَهُ: أَيُّمَا (3) خَيْرٌ: الْمُسْلِمُونَ أَوِ النَّصَارَى؟ فَقَالَ: بَلِ النَّصَارَى. فَقَالُوا لَهُ: مَعَ مَنْ تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: مَعَ النَّصَارَى. وَسَلَّمُوا إِلَيْهِمْ (4) بَعْضَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

(1) ح، ب: وَالْأُسَارَى.

(2)

ح، ب: لِلْكُفَّارِ وَالنَّصَارَى.

(3)

ن، م: مِنْ.

(4)

ح: لَهُمْ.

ص: 159

وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا اسْتَشَارَ بَعْضُ (1) وُلَاةِ الْأَمْرِ فِي غَزْوِهِمْ، وَكَتَبْتُ جَوَابًا مَبْسُوطًا فِي غَزْوِهِمْ، وَذَهَبْنَا إِلَى نَاحِيَتِهِمْ وَحَضَرَ عِنْدِي جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَجَرَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مُنَاظَرَاتٌ وَمُفَاوَضَاتٌ يَطُولُ وَصْفُهَا، فَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَلَدَهُمْ (2) ، وَتَمَكَّنَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، نَهَيْتُهُمْ عَنْ قَتْلِهِمْ وَعَنْ سَبْيِهِمْ (3) ، وَأَنْزَلْنَاهُمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مُتَفَرِّقِينَ لِئَلَّا يَجْتَمِعُوا.

فَمَا أَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ (4) ذَمِّ الرَّافِضَةِ وَبَيَانِ كَذِبِهِمْ وَجَهْلِهِمْ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا أَعْرِفُهُ مِنْهُمْ، وَلَهُمْ شَرٌّ كَثِيرٌ لَا أَعْرِفُ تَفْصِيلَهُ.

وَمُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ الرَّافِضَةِ، إِنَّمَا نُقَابِلُهُمْ بِبَعْضِ مَا فَعَلُوهُ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: سَلَفِهَا وَخَلَفِهَا ; فَإِنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَإِلَى خِيَارِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَجَعَلُوهُمْ شِرَارَ النَّاسِ، وَافْتَرَوْا عَلَيْهِمُ الْعَظَائِمَ، وَجَعَلُوا حَسَنَاتِهِمْ سَيِّئَاتٍ (5)، وَجَاءُوا إِلَى شَرِّ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَهُمُ الرَّافِضَةُ بِأَصْنَافِهَا: غَالِيُّهَا وَإِمَامِيُّهَا وَزَيْدِيُّهَا وَاللَّهُ يَعْلَمُ، وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (6)، لَيْسَ فِي جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ بِدْعَةٍ وَضَلَالَةٍ شَرٌّ مِنْهُمْ: لَا أَجْهَلَ وَلَا أَكْذَبَ، وَلَا أَظْلَمَ، وَلَا أَقْرَبَ إِلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، وَأَبْعَدَ عَنْ حَقَائِقِ

(1) بَعْضُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .

(2)

و: فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ بَلَدَهُمْ.

(3)

ح: وَسَبْيِهِمْ.

(4)

ح، ب: فِي.

(5)

ح، ب: سَيِّئَاتِهِمْ.

(6)

ن، م، أ، و: وَكَفَى بِهِ عَلِيمًا.

ص: 160

الْإِيمَانِ مِنْهُمْ، فَزَعَمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ ; فَإِنَّ مَا سِوَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ كُفَّارٌ، وَهَؤُلَاءِ كَفَّرُوا الْأُمَّةَ كُلَّهَا أَوْ ضَلَّلُوهَا، سِوَى طَائِفَتِهِمُ الَّتِي (1) يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الطَّائِفَةُ الْمُحِقَّةُ، وَأَنَّهَا لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَجَعَلُوهُمْ صَفْوَةَ بَنِي آدَمَ.

فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَنْ جَاءَ إِلَى غَنَمٍ كَثِيرَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَعْطِنَا خَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ لِنُضَحِّيَ بِهَا، فَعَمَدَ إِلَى شَرِّ تِلْكَ الْغَنَمِ: إِلَى شَاةٍ عَوْرَاءَ عَجْفَاءَ عَرْجَاءَ مَهْزُولَةٍ لَا نَقَى لَهَا (2)، فَقَالَ: هَذِهِ خِيَارُ هَذِهِ الْغَنَمِ لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ إِلَّا بِهَا، وَسَائِرُ هَذِهِ الْغَنَمِ لَيْسَتْ غَنَمًا، وَإِنَّمَا هِيَ خَنَازِيرُ يَجِبُ قَتْلُهَا، وَلَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ (3) بِهَا.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ حَمَى اللَّهُ لَحْمَهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "(4) .

وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ: إِمَّا مُنَافِقٌ وَإِمَّا جَاهِلٌ، فَلَا يَكُونُ رَافِضِيٌّ وَلَا جَهْمِيٌّ إِلَّا مُنَافِقًا أَوْ جَاهِلًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَا يَكُونُ فِيهِمْ أَحَدٌ عَالِمًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِمَا جَاءَ

(1) أ، ح، ر، و: الَّذِينَ.

(2)

فِي اللِّسَانِ: النَّقَاوَةُ أَفْضَلُ مَا انْتَقَيْتَ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَجَمْعُ النَّقَاوَةِ نُقًا وَنُقَاءٌ.

(3)

ن، م: التَّضْحِيَةُ.

(4)

الْحَدِيثُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/373 كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابُ مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ غَيْبَتَهُ، وَلَفْظُهُ: مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ. أَرَاهُ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمَى لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ. وَالْحَدِيثُ فِي: الْمُسْنَدِ ط. الْحَلَبِيِّ 3/441 وَضَعَّفَ الْأَلْبَانِيُّ الْحَدِيثَ فِي ضَعِيفِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ 6/193.

ص: 161

بِهِ الرَّسُولُ وَكَذِبَهُمْ عَلَيْهِ لَا يَخْفَى قَطُّ إِلَّا عَلَى مُفْرِطٍ فِي الْجَهْلِ وَالْهَوَى.

وَشُيُوخُهُمُ الْمُصَنِّفُونَ فِيهِمْ طَوَائِفُ يَعْلَمُونَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُونَهُ كَذِبٌ، وَلَكِنْ يُصَنِّفُونَ لَهُمْ لِرِيَاسَتِهِمْ عَلَيْهِمْ.

وَهَذَا الْمُصَنِّفُ يَتَّهِمُهُ النَّاسُ بِهَذَا، وَلَكِنْ صَنَّفَ لِأَجْلِ أَتْبَاعِهِ ; فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ بَاطِلٌ وَيُظْهِرُهُ وَيَقُولُ: إِنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ. وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَقٌّ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نِهَايَةِ جَهْلِهِ وَضَلَالِهِ.

فَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ

وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ

وَهُمْ فِي دِينِهِمْ لَهُمْ عَقْلِيَّاتٌ وَشَرْعِيَّاتٌ، فَالْعَقْلِيَّاتُ مُتَأَخِّرُوهُمْ فِيهَا أَتْبَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ، إِلَّا مَنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ (1) ، فَيَكُونُ إِمَّا فَيْلَسُوفًا، وَإِمَّا مُمْتَزِجًا مِنْ فَلْسَفَةٍ وَاعْتِزَالٍ، وَيُضَمُّ إِلَى ذَلِكَ الرَّفْضُ، مِثْلَ مُصَنِّفِ هَذَا الْكِتَابِ وَأَمْثَالِهِ، فَيَصِيرُونَ بِذَلِكَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ (2) الْمَحْضِ.

وَأَمَّا شَرْعِيَّاتِهِمْ فَعُمْدَتُهُمْ فِيهَا عَلَى مَا يُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ (3) ، مِثْلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ وَغَيْرِهِمَا.

(1) ن، م: فِيهِمْ.

(2)

ح، ب: الْإِسْلَامِ.

(3)

ن، م: أَهْلِ الْعِلْمِ.

ص: 162

وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، وَلِأَقْوَالِهِمْ مِنَ الْحُرْمَةِ وَالْقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُمْ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّا يُنْقَلُ عَنْهُمْ كَذِبٌ، وَالرَّافِضَةُ لَا خِبْرَةَ لَهَا بِالْأَسَانِيدِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ هُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ أَشْبَاهِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كُلُّ مَا (1) يَجِدُونَهُ فِي الْكُتُبِ مَنْقُولًا عَنْ أَسْلَافِهِمْ قَبِلُوهُ، بِخِلَافِ أَهْلِ السُّنَّةِ ; فَإِنَّ لَهُمْ مِنَ الْخِبْرَةِ بِالْأَسَانِيدِ مَا يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.

وَإِذَا صَحَّ النَّقْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (2) فَلَهُ أُسْوَةٌ نُظَرَاؤُهُ كَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 59] . فَأَمَرَ بِرَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.

وَالرَّافِضَةُ لَا تَعْتَنِي بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَمَعْرِفَةِ مُعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ، وَطَلَبِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهِ. وَلَا تَعْتَنِي أَيْضًا بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعْرِفَةِ صَحِيحِهِ مِنْ سَقِيمِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ مَعَانِيهِ، وَلَا تَعْتَنِي بِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، حَتَّى تَعْرِفَ مَآخِذَهُمْ وَمَسَالِكَهُمْ، وَيُرَدُّ (3) مَا

(1) ب فَقَطْ: فَكُلُّ.

(2)

ن: عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ خَطَأٌ.

(3)

ح، ب: وَتُرَدُّ.

ص: 163

تُنَازِعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، بَلْ عُمْدَتُهَا آثَارٌ تُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ فِيهَا صِدْقٌ وَكَذِبٌ.

وَقَدْ أَصَّلْتُ لَهَا ثَلَاثَةَ أُصُولٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِمَامٌ مَعْصُومٌ بِمَنْزِلَةِ النَّبِيِّ، لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ، وَلَا يُرَدُّ مَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَيَقُولُونَ عَنْهُ مَا كَانَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَنْقُلُ كُلَّ مَا أَقُولُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَا لَيْتَهُمْ قَنَعُوا بِمَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، بَلْ يَأْتُونَ إِلَى مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ كَالْعَسْكَرِيِّينَ فَيَقُولُونَ: كُلُّ مَا قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ فَالنَّبِيُّ قَدْ قَالَهُ.

وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَقْلٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَسْكَرِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِمَا مِمَّنْ كَانَ فِي زَمَانِهِمَا مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ، لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَمْتَازُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَلَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَأْخُذُونَ عَنْهُمْ، كَمَا يَأْخُذُونَ عَنْ عُلَمَاءِ زَمَانِهِمْ، وَكَمَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي زَمَنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَابْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَابْنِ ابْنِهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ رضي الله عنهم قَدْ أَخَذَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ، كَمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ

ص: 164