الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَاءِ الْأُذُنِ، وَمُلُوحَةِ مَاءِ الْبَحْرِ. وَذَلِكَ يَدُلُّهُمْ عَلَى الْحِكْمَةِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا حِكْمَتَهُ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى إِنْسَانًا بَارِعًا فِي النَّحْوِ أَوِ الطِّبِّ أَوِ الْحِسَابِ أَوِ الْفِقْهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُ بِذَلِكَ، إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ كَلَامِهِ فَلَمْ يَفْهَمْهُ، سَلَّمَ ذَلِكَ إِلَيْهِ.
فَرَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي بَهَرَتِ الْعُقُولَ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ، الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، كَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُسَلِّمَ مَا جَهِلَهُ (1) مِنْ حِكْمَتِهِ إِلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهَا؟ ! .
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ، الَّذِينَ يَرُدُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قَوْلَ الْآخَرِ، وَفِي كَلَامِ كُلٍّ مِنْهُمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثَالَيْنِ: مِثَالًا فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَمِثَالًا فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ.
[الكلام عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ]
وَنَذْكُرُ مِثَالًا ثَالِثًا فِي الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، بَلْ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَلَا إِنَّهُ قَدِيمٌ.
وَصَارَ الْمُخْتَلِفُونَ بَعْدَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَوْمٌ (2) يَقُولُونَ: هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ [اللَّهُ] فِي غَيْرِهِ (3) ، وَاللَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ، وَيَقُولُونَ: الْكَلَامُ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ، وَمُرَادُهُمْ بِالْفِعْلِ مَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْفَاعِلِ غَيْرَ قَائِمٍ بِهِ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ أَصْلًا، وَلَا يُعْرَفُ مُتَكَلِّمٌ لَا يَقُومُ بِهِ كَلَامُهُ.
(1) ن، م: مَا جَهِلَ.
(2)
ب: فَقَوْمٌ.
(3)
ن، م، و: خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ.
وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا بِالذَّاتِ أَزَلًا وَأَبَدًا، لَا يَتَكَلَّمُ لَا بِقُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ، وَلَمْ يَزَلْ نِدَاؤُهُ لِمُوسَى أَزَلِيًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، يَا مُوسَى، يَا عِيسَى.
ثُمَّ صَارَ هَؤُلَاءِ حِزْبَيْنِ: حِزْبًا عَرَفُوا أَنَّ مَا كَانَ قَدِيمًا لَمْ يَزَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُرُوفًا، أَوْ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا ; فَإِنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ: الْبَاءُ قَبْلَ السِّينِ، وَالصَّوْتُ لَا يَبْقَى، بَلْ يَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَالْحَرَكَةِ ; فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمًا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ ; فَقَالُوا: كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ: هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ، وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَالْخَبَرُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ، إِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ (1) كَانَ تَوْرَاةً، وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ (2) كَانَ إِنْجِيلًا، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ أَمْرٌ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ، وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ، وَهُوَ خَبَرٌ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَكَوْنُهُ أَمْرًا، وَنَهْيًا، وَخَبَرًا صِفَاتٌ لَهُ إِضَافِيَّةٌ، مِثْلَ قَوْلِنَا: زَيْدٌ أَبٌ وَعَمٌّ وَخَالٌ، لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لَهُ، وَلَا يَنْقَسِمُ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا وَهَذَا.
قَالُوا: وَاللَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا بِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرَانِيَّةِ (3) ، وَلَا بِالْإِنْجِيلِ السُّرْيَانِيَّةِ، وَلَا سَمِعَ مُوسَى وَلَا غَيْرُهُ مِنْهُ بِأُذُنِهِ صَوْتًا، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ أَحْدَثَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ، لِيُعَبِّرَ بِهِ عَمَّا يُرَادُ إِفْهَامُهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى (4) الْوَاحِدِ.
(1) ن، و، ي: بِالْعِبْرِيَّةِ.
(2)
م: بِالْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَ: بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا تَحْرِيفٌ.
(3)
ن، و، ي: بِالْعِبْرِيَّةِ.
(4)
الْمَعْنَى: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ر) ، (ي) .
فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ النَّاسِ: هَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ، وَلَا مَعْنَى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، هُوَ مَعْنَى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} ، وَقَدْ عَرَّبَ النَّاسُ التَّوْرَاةَ فَوَجَدُوا فِيهَا مَعَانِيَ لَيْسَتْ هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يُنْزِلْهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، كَمَا لَمْ يُنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ تَحْرِيمَ السَّبْتِ، وَلَا الْأَمْرَ بِقِتَالِ عُبَّادِ الْعِجْلِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كُلُّ كَلَامِ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدًا (1) ؟ ! .
وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْكَلَامَ مَعَانِيَهِ وَحُرُوفَهُ تَنْقَسِمُ إِلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ، وَالْإِنْشَاءُ مِنْهُ الطَّلَبُ، وَالطَّلَبُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَحَقِيقَةُ الطَّلَبِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْخَبَرِ، فَكَيْفَ لَا تَكُونُ هَذِهِ أَقْسَامُ الْكَلَامِ وَأَنْوَاعِهِ، بَلْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا كُلِّهَا؟ ! .
(* وَأَيْضًا فَاللَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ أَنَّهُ [لَمَّا] (2) أَتَى مُوسَى الشَّجَرَةَ نَادَاهُ، فَنَادَاهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَمْ يُنَادِهِ فِي الْأَزَلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ *) (3) اسْجُدُوا لِآدَمَ} ) . [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 11] .
وَقَالَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 59] .
وَقَالَ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 30] إِلَى مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ
(1) ن: بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
(2)
لَمَّا سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(3)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م)
الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا، مَا زَالَ وَلَا يَزَالُ؟ ! وَكَيْفَ يَكُونُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ؟ ! قَائِلًا:{يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} [سُورَةُ هُودٍ: 48]، {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 55] ، يَا مُوسَى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [سُورَةُ طَهَ: 14]، {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ: آيَةُ 1 - 2] .
وَقَالَ هَؤُلَاءِ: هَذَا الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: كَلَامُ اللَّهِ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ.
فَقَالَ لَهُمُ النَّاسُ: مُوسَى لَمَّا كَلَّمَهُ اللَّهُ أَفْهَمَهُ كَلَامَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ؟ إِنْ قُلْتُمْ: كُلَّهُ ; فَقَدْ صَارَ مُوسَى يَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: بَعْضَهُ ; فَقَدْ تَبَعَّضَ، وَهُوَ عِنْدُكُمْ وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ.
وَكَذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ هُوَ عِنْدَكُمْ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، أَفَهُوُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّهِ؟ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ أَمْ عَنْ بَعْضِهِ؟ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ أَيْضًا، إِلَى كَلَامٍ آخَرَ يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا.
وَقَالَ الْحِزْبُ الثَّانِي لَمَّا رَأَوْا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ:، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ، وَإِنَّهُ حُرُوفٌ، أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، وَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي الْقُرْآنِ مَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْمَنْزِلَ هُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ عَرَبِيٌّ.
وَأَخَذُوا يُشَنِّعُونَ عَلَى أُولَئِكَ إِنْكَارَهُمْ (1) أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ ; فَإِنَّ
(1) ن، م، ب: بِإِنْكَارِهِمْ.
أُولَئِكَ أَثْبَتُوا قُرْآنَيْنِ: قُرْآنًا قَدِيمًا، وَقُرْآنًا مَخْلُوقًا. فَأَخَذَ هَؤُلَاءِ يُشَنِّعُونَ عَلَى أُولَئِكَ بِإِثْبَاتِ قُرْآنَيْنِ.
فَقَالَ لَهُمْ أُولَئِكَ: فَأَنْتُمْ إِذَا جَعَلْتُمُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ - وَهُوَ قَدِيمٌ - كَلَامَ اللَّهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، وَكُنْتُمْ مُوَافِقِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ ; فَإِنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ قَدِيمٌ. مُمْتَنِعٌ فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَنَحْنُ وَجَمِيعُ الطَّوَائِفِ نُنْكِرُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَنَقُولُ: إِنَّكُمُ ابْتَدَعْتُمُوهُ وَخَالَفْتُمْ بِهِ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ تَكُونُ السِّينُ الْمُعَيَّنَةُ الْمَسْبُوقَةُ بِالْبَاءِ الْمُعَيَّنَةِ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً (1) ، وَتَكُونُ الْحُرُوفُ الْمُتَعَاقِبَةُ قَدِيمَةً، وَالصَّوْتُ (2) الَّذِي كَانَ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدِيمًا؟ ! .
وَلَمْ يَقُلْ هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَقُولُونَهُ، وَيَقُولُهُ ابْنُ سَالِمٍ وَأَصْحَابُهُ (3) ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ ; فَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الشَّهْرَسْتَانِيُّ ذَكَرَ فِي " نِهَايَةِ الْإِقْدَامِ " أَنَّ هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ السَّلَفِ، وَلَا قَوْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَا أَصْحَابِهِ الْقُدَمَاءِ، وَلَا جُمْهُورِهِمْ.
فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُوَافِقِينَ لِلسَّالِمِيَّةِ، وَأُولَئِكَ الْمُوَافِقِينَ لِلْكُلَّابِيِّةِ، بَيْنَهُمْ مُنَازَعَاتٌ وَمُخَاصَمَاتٌ، بَلْ وَفِتَنٌ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا: إِنَّ
(1) ن: قَدِيمَةً وَأَزَلِيَّةً.
(2)
و، ر، ي: أَوِ الصَّوْتُ.
(3)
سَبَقَ الْكَلَامُ عَنِ السَّالِمِيَّةِ 1/156
الْقُرْآنَ قَدِيمٌ. وَهِيَ أَيْضًا بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا السَّلَفُ كَانُوا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ (1)، وَكَانَ قَوْلُهُمْ أَوَّلًا: إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ كَافِيًا (2) عِنْدَهُمْ. فَإِنَّ مَا كَانَ كَلَامًا لِمُتَكَلِّمٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ فِي الْكَلَامِ، وَفِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ الْمَوْصُوفُ بِصِفَةٍ لَا تَكُونُ قَطُّ قَائِمَةً بِهِ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا بَائِنَةً عَنْهُ.
وَمَا يَزْعُمُهُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ كَلَامَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ وَكَرَاهَتَهُ، وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ - كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقَاتٌ لَهُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ ; هُوَ مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ عَلَيْهِمْ وَجُمْهُورُ الْخَلَفِ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنَ الْكُفْرِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ (3) ، وَجُحُودِ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ.
وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ، بَلْ (4) وَإِطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ، كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَقُلِ السَّلَفُ:[إِنَّ](5) غَضَبَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ قَدِيمٌ، وَلَا أَنَّ فَرَحَهُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ قَدِيمٌ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِعِبَادِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، مِنْ رِضَاهُ وَغَضَبِهِ، لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنَّهُ قَدِيمٌ ; فَإِنَّ الْجَزَاءَ لَا يَكُونُ قَبْلَ الْعَمَلِ.
(1) فِي هَامِشِ (ر)، (ي) كَتَبَ مَا يَلِي:" قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: بَدَأَ مِنْهُ تَنْزِيلًا، وَيَعُودُ إِلَيْهِ حُكْمًا ".
(2)
كَافِيًا: كَذَا فِي (ب) فَقَطْ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: كَافٍ.
(3)
وَ: الرُّسُلِ.
(4)
بَلْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ر) ، (ب) .
(5)
إِنَّ: زِيَادَةٌ فِي (ب) فَقَطْ.
وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ سَبَبًا لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 55]، وَقَوْلِهِ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 28]، وَقَوْلِهِ:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 31] ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (1) مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الرُّسُلِ يَقُولُ: " «إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ» "(2) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ (3) : " أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهُ قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ كَافِرٌ بِي، مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» " (4) .
(1) ن، م: بَلْ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ.
(2)
سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِيمَا مَضَى 2/401 - 402
(3)
و: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ.
(4)
الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ فِي الْأَلْفَاظِ - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه فِي الْبُخَارِيِّ 1/165 (كِتَابُ الْأَذَانِ، بَابُ يَسْتَقْبِلُ الْإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ) مُسْلِمٍ 1/83 - 84 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ بَيَانِ كُفْرِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِالنَّوْءِ) سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/21 (كِتَابُ الطِّبِّ، بَابٌ فِي النُّجُومِ) ، الْمُوَطَّأِ 1/192 (كِتَابُ الِاسْتِسْقَاءِ بَابُ الِاسْتِمْطَارِ بِالنُّجُومِ) .
وَفِي الصَّحِيحِ (1) عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» (2) .
وَفِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مِنْ هَذَا مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي كِتَابِ " دَرْءِ (3) تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ " وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِنِدَائِهِ لِعِبَادِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ. وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا صَوْتًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَسَائِرِ النَّاسِ. وَاللَّهُ أَخْبَرَ: أَنَّهُ نَادَى مُوسَى حِينَ جَاءَ الشَّجَرَةَ، فَقَالَ:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ النَّمْلِ: 8]، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سُورَةُ طه: 11 - 12] ، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [سُورَةُ الْقَصَصِ: 30] ، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 10] ، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 52] {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 15 - 16]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [سُورَةُ الْقَصَصِ: 46] ، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سُورَةُ الْقَصَصِ: 62 - 74]
(1) ب (فَقَطْ) : وَفِي الصَّحِيحَيْنِ.
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الْبُخَارِيِّ 8/105 (كِتَابُ الرِّقَاقِ بَابُ التَّوَاضُعِ)، وَأَوَّلُهُ فِيهِ:" إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ. . . الْحَدِيثَ "، وَهُوَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي: الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 6/256
(3)
ن، م: وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي دَرْءِ. .، و: هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
[فِي مَوْضِعَيْنِ](1){وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [سُورَةُ الْقَصَصِ: 65]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 22] .
فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُنَادِيًا مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ، فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ وَالْعَقْلَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ بِنَفْسِهِ (2) لَمْ يُنَادِ، وَلَكِنْ خَلَقَ نِدَاءً فِي شَجَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ; لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ. وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِ النَّاسِ: نَادَى الْأَمِيرُ، إِذْ أَمَرَ مُنَادِيًا ; فَإِنَّ الْمُنَادِيَ عَنِ الْأَمِيرِ يَقُولُ: أَمَرَ الْأَمِيرُ بِكَذَا، وَرَسَمَ السُّلْطَانُ بِكَذَا، لَا يَقُولُ: أَنَا أَمَرْتُكُمْ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَأَهَانَهُ النَّاسُ.
وَالْمُنَادِي قَالَ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [سُورَةُ طه: 14]، {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ الْقَصَصِ: 30] ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ مَلَكٌ إِلَّا إِذَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ، كَمَا نَقْرَأُ نَحْنُ الْقُرْآنَ، وَالْمَلَكُ إِذَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالنِّدَاءِ قَالَ كَمَا [ثَبَتَ] فِي الصَّحِيحِ (3) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ» "(4) فَجِبْرِيلُ إِذَا
(1) فِي مَوْضِعَيْنِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(2)
ر، ح، ي، و: نَفْسُهُ.
(3)
ن، م: كَمَا فِي الصَّحِيحِ.
(4)
الْحَدِيثُ - مَعَ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 4/111 (كِتَابُ بَدْءِ الْخَلْقِ بَابُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ)، وَبَقِيَّةُ الْحَدِيثِ:". . فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ". وَالْحَدِيثُ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ 8/14 (كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابُ الْمِقَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) 9/142 (كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ وَنِدَاءِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ) ، مُسْلِمٍ 4/2030 (كِتَابُ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِهِ) ، سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 4/378 (كِتَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، سُورَةُ مَرْيَمَ) ، الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 14/48، 16/209، 18/81 - 82 (ط. الْحَلَبِيِّ) 2/514
نَادَى فِي السَّمَاءِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، وَاللَّهُ إِذَا نَادَى جِبْرِيلَ يَقُولُ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا.
وَلِهَذَا لَمَّا نَادَتِ الْمَلَائِكَةُ زَكَرِيَّا قَالَ تَعَالَى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 39]، وَقَالَ:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 42] .
وَلَا يَجُوزُ قَطُّ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهِ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَ صِفَةً فِي مَحَلٍّ كَانَ الْمَحَلُّ مُتَّصِفًا بِهَا، فَإِذَا خَلَقَ فِي مَحَلٍّ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ حَيَاةً أَوْ حَرَكَةً أَوْ لَوْنًا أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمُ بِهِ، الْقَادِرُ، الْمُتَحَرِّكُ، الْحَيُّ، الْمُتَلَوِّنُ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَتَّصِفُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِصِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ، بَلْ كُلُّ مَوْصُوفٍ لَا يُوصَفُ إِلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ، لَا بِمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ.
فَلَوْ كَانَ النِّدَاءُ مَخْلُوقًا فِي الشَّجَرَةِ ; لَكَانَتْ هِيَ الْقَائِلَةُ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ. وَإِذَا كَانَ مَا خَلَقَهُ الرَّبُّ (1) فِي غَيْرِهِ كَلَامًا لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ كَلَامٌ إِلَّا مَا خَلَقَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ إِنْطَاقُهُ لِأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَلَامًا لَهُ، وَتَسْبِيحُ الْحَصَى كَلَامًا لَهُ، وَتَسْلِيمُ الْحَجَرِ عَلَى الرَّسُولِ كَلَامًا لَهُ، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
(1) ن: اللَّهُ.
وَهَكَذَا طَرْدُ قَوْلِ الْحُلُولِيَّةِ الِاتِّحَادِيَّةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ، فَإِنَّهُ قَالَ:
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ
…
سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ (1)
وَلِهَذَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ (2) : مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [سُورَةُ طه: 14] مَخْلُوقٌ، فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 42] ، فَإِنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ وَهَذَا مَخْلُوقٌ، يَقُولُ: إِنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا خُلِقَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَائِلُ لَهُ، كَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الْقَائِلُ لِمَا قَامَ بِهِ.
قَالُوا: وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ فِعْلٍ، فِيهِ تَلْبِيسٌ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ؟ أَمْ تُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ قَائِمٌ بِهِ؟ (3) .
فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَا يُعْرَفُ قَطُّ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ، وَكَلَامُهُ مُسْتَلْزِمٌ كَوْنَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَالْفِعْلُ أَيْضًا لَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونَ قَائِمًا بِالْفَاعِلِ، كَمَا قَالَ السَّلَفُ وَالْأَكْثَرُونَ، وَإِنَّمَا الْمَفْعُولُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَائِنًا عَنْهُ.
(1) الْبَيْتُ لِابْنِ عَرَبِيٍّ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي " الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ " (ط. دَارِ الْكُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ الْكُبْرَى الْقَاهِرَةِ 1329) 4/141 وَنَصُّهُ هُنَاكَ: أَلَا كُلُّ قَوْلٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَالْبَيْتُ الَّذِي يَتْلُوهُ: يَعُمُّ بِهِ أَسْمَاعَ كُلِّ مُكَوَّنٍ فَمِنْهُ إِلَيْهِ بَدْؤُهُ وَخِتَامُهُ
(2)
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، أَبُو أَيُّوبَ، رَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَرَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ الْأَفْعَالِ "، وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ، ثِقَةٌ صَدُوقٌ، تُوفِّيَ بِبَغْدَادَ، سَنَةَ 219 (وَقِيلَ 220) انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي: تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ 4/187 - 188 شَذَرَاتِ الذَّهَبِ 2/45، الْعِبَرِ 1/376 - 377
(3)
ن: إِنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِهِ، م، ر: إِنَّهُ قَائِمٌ.
وَالْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ عَنِ الرَّبِّ لَيْسَ هُوَ خَلْقُهُ إِيَّاهُ، بَلْ خَلْقُهُ لِلسَّمَاوَاتِ (1) وَالْأَرْضِ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ قَالُوا: الْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ، فَرُّوا مِنْ أُمُورٍ ظَنُّوهَا مَحْذُورَةً، وَكَانَ مَا فَرُّوا إِلَيْهِ شَرًّا مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ ; فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْخَلْقُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ لَكَانَ إِمَّا قَدِيمًا وَإِمَّا حَادِثًا، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ آخَرَ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ.
فَقَالَ لَهُمُ النَّاسُ: بَلْ هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَى أَصْلِكُمْ (2) ; فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يُرِيدُ بِإِرَادَةٍ قَدِيمَةٍ، وَالْمُرَادَاتُ كُلُّهَا حَادِثَةٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا جَائِزًا فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ قَدِيمًا وَالْمَخْلُوقُ حَادِثًا؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا غَيْرَ جَائِزٍ، بَلِ الْإِرَادَةُ تُقَارِنُ الْمُرَادَ، لَزِمَ جَوَازُ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ. وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِهِ خَلْقٌ مُقَارِنٌ لِلْمَخْلُوقِ. فَلَزِمَ فَسَادُ قَوْلِكُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ. فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى خَلْقٍ آخَرَ. فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا حَادِثَةٌ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى خَلْقٍ حَادِثٍ. فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَخْلُوقَةً بِخَلْقٍ حَادِثٍ؟ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَلْقٍ آخَرَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُدُوثَهَا بِخَلْقٍ حَادِثٍ أَقْرَبُ إِلَى الْعُقُولِ مِنْ حُدُوثِهَا كُلِّهَا بِلَا خَلْقٍ أَصْلًا ; فَإِنْ كَانَ كُلُّ حَادِثٍ يَفْتَقِرُ إِلَى خَلْقٍ بَطَلَ قَوْلُكُمْ، وَإِنْ
(1) ح، ب: السَّمَاوَاتِ.
(2)
ن: فَيُقَالُ لَهُمْ: بَلْ هَذَا مَنْصُوصٌ عَلَى أَصْلِكُمْ، م: فَيُقَالُ لَهُمْ: خَالَفَهُمُ النَّاسُ: بَلْ.
كَانَ فِيهَا مَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى خَلْقٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ نَفْسُهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى خَلْقٍ آخَرَ.
وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَقْصُودُ التَّمْثِيلُ بِكَلَامِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ، الَّذِينَ فِي قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَأَنَّ الصَّوَابَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ طَرِيقَانِ مُبْتَدَعَانِ وَطَرِيقٌ شَرْعِيٌّ، فَالطَّرِيقُ الشَّرْعِيُّ هُوَ النَّظَرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَدِلَّتِهِ، وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا ; فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمٍ بِمَا جَاءَ بِهِ (1) وَعَمَلٍ بِهِ، لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا.
وَهَذَا الطَّرِيقُ مُتَضَمِّنٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ ; فَإِنَّ الرَّسُولَ بَيَّنَ بِالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يَتَوَقَّفُ السَّمْعُ عَلَيْهِ، وَالرُّسُلُ بَيَّنُوا لِلنَّاسِ الْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا، كَمَا ضَرَبَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ هِدَايَتَهُ.
وَأَمَّا الطَّرِيقَانِ الْمُبْتَدَعَانِ: فَأَحَدُهُمَا: طَرِيقُ أَهْلِ الْكَلَامِ الْبِدْعِيِّ وَالرَّأْيِ الْبِدْعِيِّ ; فَإِنَّ هَذَا فِيهِ بَاطِلٌ كَثِيرٌ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهِ يُفَرِّطُونَ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَيَبْقَى هَؤُلَاءِ فِي فَسَادِ عِلْمٍ وَفَسَادِ عَمَلٍ، وَهَؤُلَاءِ مُنْحَرِفُونَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ الْبَاطِلَةِ.
وَالثَّانِي: طَرِيقُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْعِبَادَةِ الْبِدْعِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ
(1) ح: مِنْ عِلْمِ مَا جَاءَ بِهِ.