الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الحق دائما مع السنة والآثار الصحيحة]
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا اخْتَصَّ بِهِ كُلُّ إِمَامٍ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَائِهِ ; فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْحَقَّ دَائِمًا مَعَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآثَارِهِ الصَّحِيحَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ (1) طَائِفَةٍ تُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا انْفَرَدَتْ بِقَوْلٍ عَنْ سَائِرِ الْأُمَّةِ، لَمْ يَكُنِ الْقَوْلُ الَّذِي انْفَرَدُوا بِهِ (2) إِلَّا خَطَأً، بِخِلَافِ الْمُضَافَيْنِ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ ; فَإِنَّ الصَّوَابَ مَعَهُمْ دَائِمًا، وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ دَائِمًا لِمُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ فَإِنَّ الصَّوَابَ مَعَهُمْ دُونَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ ; فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَ الرَّسُولِ، فَمَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِسَنَتِهِ وَأَتْبَعَ لَهَا كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ.
وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَنْتَصِرُونَ إِلَّا لِقَوْلِهِ، وَلَا يُضَافُونَ إِلَّا إِلَيْهِ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِسُنَّتِهِ وَأَتْبَعُ لَهَا. وَأَكْثَرُ سَلَفِ الْأُمَّةِ كَذَلِكَ، لَكِنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ كَثِيرٌ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالَّذِينَ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُمْ فِي الْأُمَّةِ هُوَ بِمَا أَحْيَوْهُ مِنْ سُنَّتِهِ وَنُصْرَتِهِ. وَهَكَذَا سَائِرُ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ،، بَلْ سَائِرُ طَوَائِفِ الْخَلْقِ، كُلٌّ حُيِّرَ مَعَهُمْ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ خَطَأٍ أَوْ ذَنْبٍ فَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ.
وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسْأَلَةٍ بِاجْتِهَادِهِمْ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي ; فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأٌ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِي الْكَلَالَةِ، وَكَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَكِلَاهُمَا (3) أَصَابَ فِيمَا قَالَهُ بِرَأْيِهِ، لَكِنْ قَالَ الْحَقَّ ; فَإِنَّ الْقَوْلَ إِذَا كَانَ
(1) أ، ب، ح، ر، ي: وَأَنَّ كُلَّ.
(2)
ح، ب: الَّذِي انْفَرَدَتْ بِهِ.
(3)
و: وَكُلٌّ مِنْهُمَا.
صَوَابًا فَهُوَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَنِ اللَّهِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأٌ فَاللَّهُ لَمْ يَبْعَثِ الرَّسُولَ بِخَطَأٍ، فَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنَ الشَّيْطَانِ، لَا مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالْمَقْصُودُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ (1) الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إِلَاهِيَّتِهِ، مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ وَالدِّينِ، وَأَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيُثِيبُ فَاعِلَهُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ. وَالنَّاسُ لَمْ يَسْأَلُوا الصَّحَابَةَ عَمَّا مَنَّ اللَّهُ خَلْقًا وَتَقْدِيرًا، فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ فَمِنْهُ. وَالْعَرَبُ كَانَتْ فِي جَاهِلِيَّتِهَا تُقِرُّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ: مَا زَالَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا مُقِرَّةً بِالْقَدَرِ (2) . وَقَدْ (3) قَالَ عَنْتَرَةُ:
يَا عَبْلُ أَيْنَ مَنِ الْمَنِيَّةِ مَهْرَبٌ
…
إِنْ كَانَ رَبِّي فِي السَّمَاءِ قَضَاهَا
وَإِنَّمَا كَانَ سُؤَالُ النَّاسِ عَمَّا مَنَّ اللَّهُ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ وَدِينِهِ وَشَرْعِهِ الَّذِي يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ وَيُثِيبُ أَهْلَهُ.
وَقَدْ عَلِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ وَالدِّينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانَ يُعْفِي عَنْ صَاحِبِهِ، كَمَا يُعْفِي عَنِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ.
وَنِسْيَانُ الْخَيْرِ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 68] .
وَقَالَ فَتَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 63] وَقَالَ: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 42] .
(1) ر، ح، ي، ب: وَالْمَقْصُودُ هُنَا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ.
(2)
ب فَقَطْ: مُقِرَّةً بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.
(3)
وَقَدْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
وَلَمَّا نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِي الْوَادِي عَنِ الصَّلَاةِ قَالَ: " «هَذَا وَادٍ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ» "(1) . وَقَالَ: " «إِنِ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا فَجَعَلَ يُهَدِّيهِ (2) كَمَا يُهَدَّى الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ» "(3) فَإِنَّهُ كَانَ وَكَّلَ بِلَالًا أَنْ يَكْلَأَ لَهُمُ الصُّبْحَ (4)، مَعَ قَوْلِهِ:" «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ» "(5) وَقَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ
(1) و: شَيْطَانٌ، وَالْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي مُسْلِمٍ: 1/471 - 472 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، بَابُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ وَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ قَضَائِهَا، وَلَفْظُهُ:(عَرَّسْنَا مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ) قَالَ: فَفَعَلْنَا، ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) التَّعْرِيسُ: نُزُولُ الْمُسَافِرِينَ آخِرَ اللَّيْلِ لِلنَّوْمِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ 1/240 كِتَابُ الْمَوَاقِيتِ بَابُ كَيْفَ يَقْضِي الْفَائِتَ مِنَ الصَّلَاةِ، الْمُسْنَدَ ط. الْمَعَارِفِ 18/152 وَأَمَّا لَفْظُ هَذَا وَادٍ حَضَرْنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ، فَانْظُرْ عَنْهُ التَّعْلِيقَ التَّالِي.
(2)
ح: يَهُدُّهُ.
(3)
الْحَدِيثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رضي الله عنه فِي: الْمُوَطَّأِ 1/14 - 15 كِتَابُ وُقُوتِ الصَّلَاةِ، بَابُ النُّوَّمِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَنَصُّهُ: عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَوَكَلَ بِلَالًا أَنْ يُوقِظَهُمْ لِلصَّلَاةِ، فَرَقَدَ بِلَالٌ وَرَقَدُوا، حَتَّى اسْتَيْقَظُوا وَقَدْ طَلَعَتْ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ، فَاسْتَيْقَظَ الْقَوْمُ وَقَدْ فَزِعُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْكَبُوا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، وَقَالَ:(إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ) فَرَكِبُوا حَتَّى خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي، الْحَدِيثَ وَفِيهِ: ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: (إِنِ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَأَضْجَعَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ) إِلَخْ، وَفِي التَّعْلِيقِ (هَذَا مُرْسَلٌ بِاتِّفَاقِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ) .
(4)
يَكْلَأَ لَهُمُ الصُّبْحَ: أَيْ يَرْقُبَهُ وَيَحْفَظَهُ وَيَحْرُسَهُ، وَمَصْدَرُهُ الْكِلَاءُ.
(5)
هَذِهِ عِبَارَةٌ جَاءَتْ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو قَتَادَةَ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 1/472 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ، بَابُ قَضَاءِ صَلَاةِ الْفَائِتَةِ وَلَفْظُهُ: أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، وَأَوَّلُ الْحَدِيثِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمُ) الْحَدِيثَ.
أَرْوَاحَنَا» " (1) . [وَقَالَ لَهُ بِلَالٌ: " أَخَذَ بِنَفْسَيِ الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ "] (2) وَقَالَ: "«مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ".
وَمَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 286] قَالَ تَعَالَى " قَدْ فَعَلْتَ "(3) .
وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ مِنَ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لِصَاحِبِهِ. وَكَذَلِكَ الِاحْتِلَامُ فِي الْمَنَامِ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " «الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَرُؤْيَا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ» "(4) . فَالنَّائِمُ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «رُفِعَ
(1) جَاءَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ قَلِيلٍ، وَجَاءَتْ عِبَارَةٌ مُمَاثِلَةٌ فِي حَدِيثِ ذِي مِخْمَرٍ الْحَبَشِيِّ فِي الْمُسْنَدِ ط. الْحَلَبِيِّ 4/90 - 91.
(2)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن)، (أ) وَفِي (و) : أَخَذَ بِنَفْسِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَالْعِبَارَةُ التَّالِيَةُ:(مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ) إِلَخْ جَاءَتْ فِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي مُسْلِمٍ فِي الْمَوْضِعِ السَّابِقِ 1/471 وَانْظُرْ مَا يَلِي بَعْدَ صَفَحَاتٍ ص 211.
(3)
سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 4/458
(4)
هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهما فِي مُسْلِمٍ 4/1773 كِتَابُ الرُّؤْيَا أَوَّلُ الْكِتَابِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 3/363 كِتَابُ الرُّؤْيَا بَابُ أَنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 4/416 - 417 كِتَابُ الْأَدَبِ بَابُ مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَا، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 2/1285 كِتَابُ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَابُ الرُّؤْيَا ثَلَاثٌ، الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ 14/60، 61 وَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مُسْلِمٍ أَوَّلُهَا:(إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ) الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ (فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) ، وَرُؤْيَا تَخْزِينٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ بِهِ نَفْسَهُ.
الْقَلَمُ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» " (1) . وَأَعْذَرَهُمُ النَّائِمُ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ الَّتِي تُسْمَعُ مِنْهُ (2) فِي الْمَنَامِ حُكْمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَلَوْ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ تَبَرَّعَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ كَانَ لَغْوًا، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَإِنَّ أَقْوَالَهُ قَدْ تُعْتَبَرُ، إِمَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَإِمَّا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فِي مَوَاضِعَ بِالنَّصِّ، وَفِي مَوَاضِعَ بِالْإِجْمَاعِ.
وَكَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ فِي النَّفْسِ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ تَارَةً وَمِنَ النَّفْسِ تَارَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [سُورَةُ ق: 16] . وَقَالَ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [سُورَةُ طه: 120](3)، وَقَالَ:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 20] .
وَالْوَسْوَسَةُ مِنْ جِنْسِ الْوَشْوَشَةِ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ (4) ، وَمِنْهُ وَسْوَسَةُ (5) الْحِلَى، وَهُوَ الْكَلَامُ الْخَفِيُّ وَالصَّوْتُ الْخَفِيُّ.
(1) الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/197 - 199 كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابٌ فِي الْمَجْنُونِ يَسْرِقُ أَوْ يُصِيبُ حَدًّا، فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 2/438 كِتَابُ الْحُدُودِ بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 1/658 كِتَابُ الطَّلَاقِ بَابُ طَلَاقِ الْمَعْتُوهِ وَالصَّغِيرِ وَالنَّائِمِ، سُنَنَ الدَّارِمِيِّ 2/171 كِتَابُ الْحُدُودِ بَابُ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 6/100 101 144 وَجَاءَ الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فِي الْبُخَارِيِّ 7/46 كِتَابُ الطَّلَاقِ بَابُ الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرُهُمَا. 8/165 كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابٌ لَا يُرْجَمُ الْمَجْنُونُ وَالْمَجْنُونَةُ.
(2)
عِنْدَ عِبَارَةِ الَّتِي تُسْمَعُ مِنْهُ تَعُودُ نُسْخَةَ (م) .
(3)
آيَةُ سُورَةِ طه فِي (أ) ، (ب) فَقَطْ.
(4)
الْمُعْجَمَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (و) .
(5)
ن، ر: وَشْوَشَةُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ - مَلِكِ النَّاسِ - إِلَهِ النَّاسِ - مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ - الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ - مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [سُورَةُ النَّاسِ: 1 - 6] . وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: مِنَ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ: مِنَ الْجِنَّةِ وَمِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ أَوَّلًا تَتَنَاوَلُ الْجِنَّةَ وَالنَّاسَ، فَسَمَّاهُمْ نَاسًا، كَمَا سَمَّاهُمْ رِجَالًا. قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مِنْ شَرِّ الْمُوَسْوِسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنِّ، وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ مُطْلَقًا. قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمَا، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّ (1) الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرِّ الْمُوَسْوِسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَمِنَ النَّاسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ، فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (2) .
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 112] .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
(1) أَنَّ: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .
(2)
انْظُرِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ زَادَ الْمَسِيرِ 9/279 وَذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فَذَكَرَ آيَةَ 112 مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، وَذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الْقُرْطُبِيُّ قَبْلَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فَقَالَ: (أَخْبَرَ أَنَّ الْمُوَسْوِسَ قَدْ يَكُونُ مِنَ النَّاسِ قَالَ الْحَسَنُ: هُمَا شَيْطَانَانِ، أَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَيُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، وَأَمَّا شَيْطَانُ الْإِنْسِ فَيَأْتِي عَلَانِيَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ، إِنَّ مِنَ الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَإِنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ، رِوَايَةً مُخَالِفَةً لِلْحَدِيثِ هُنَا، وَأَوْرَدَ آيَةَ 112 مِنْ [سُورَةِ الْأَنْعَامِ] .
بِطُولِهِ قَالَ: " «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ لِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ:" نَعَمْ، شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ» "(1) .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 14] . وَالْمَنْقُولُ عَنْ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَ: إِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ (2) . فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّهُمْ رُءُوسُهُمْ (3) فِي الْكُفْرِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ: إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ السَّائِبِ: كَهَنَتُهُمْ (4) .
وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ وَغَيْرَهُ، وَلَفْظُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ، لِأَنَّهُ قَالَ:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 14] . وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَيْطَانَ (5) الْجِنِّ مَعَهُمْ لَمَّا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَخْلُوا بِهِ (6) ، وَشَيْطَانُ الْجِنِّ هُوَ
(1) الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ 8/242 كِتَابُ الِاسْتِعَاذَةِ، بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَهُوَ عَنْهُ فِي: الْمُسْنَدِ ط. الْحَلَبِيِّ 5/178، 179، 265 وَأَوَّلُهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: قُمْ فَصَلِّ. قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ. . . الْحَدِيثَ.
(2)
إِنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ: كَذَا فِي (أ)، (ب) . وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: إِنَّهُمْ مِنَ الْجِنِّ
(3)
ح، ب: رُؤَسَاؤُهُمْ.
(4)
انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ ط. الشَّعْبِ لِلْآيَةِ 1/76 - 77 زَادَ الْمَسِيرِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ 1/34 - 35.
(5)
شَيْطَانَ، كَذَا فِي (و) فَقَطْ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: شَيَاطِينَ.
(6)
ن، م، ح، ب: أَنْ يَخْلُوَ بِهِ، و: أَنْ يَخْلُونَهُ.
الَّذِي أَمَرَهُمْ بِالنِّفَاقِ وَلَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا حَتَّى يَخْلُوَ (1) مَعَهُمْ، وَيَقُولُ: إِنَّا مَعَكُمْ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 13] ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الَّذِي يَأْمُرُهُمْ (2) بِذَلِكَ شَيْطَانٌ لَمْ يَرْضَوْهُ.
وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: كُلُّ مُتَمَرِّدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ شَيْطَانٌ. وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ مَنْ شَطَنَ يَشْطُنُ إِذَا بَعُدَ عَنِ الْخَيْرِ، وَالنُّونُ أَصْلِيَّةٌ. قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي صِفَةِ سُلَيْمَانَ عليه السلام:
أَيُّمَا شَاطِنٍ (3) عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالْأَغْلَالِ (4) عَكَاهُ: أَوْثَقُهُ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوَى شُطُونِ
…
فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا رَهِينُ (5) وَلِهَذَا قُرِنَتْ بِهِ (6) اللَّعْنَةُ ; فَإِنَّ اللَّعْنَةَ هِيَ الْبُعْدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالشَّيْطَانُ بَعِيدٌ مِنَ الْخَيْرِ، فَيَكُونُ وَزْنُهُ: فَيْعَالًا، وَفَيْعَالٌ (7) نَظِيرُ فَعَّالٍ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ الْقَيَّامِ وَالْقَوَّامِ، فَالْقَيَّامُ فَيْعَالٌ، وَالْقَوَّامُ فَعَّالٌ، وَمِثْلُ الْعَيَّاذِ وَالْعَوَّاذِ (8) . وَفِي قِرَاءَةِ عُمَرَ: الْحَيُّ الْقِيَامُ.
(1) أ، ر: حَتَّى يَخْلُوَ.
(2)
ن: أَمَرَهُمْ.
(3)
و، أ: شَيْطَانٍ.
(4)
الْبَيْتُ فِي تَفْسِيرِ الطَّبَرِي ط. الْمَعَارِفِ 1/112 وَهُوَ فِي دِيوَانِهِ تَحْقِيقُ د. عَبْدِ الْحَفِيظِ السَّطَلِيِّ ص 445
(5)
فِي دِيوَانِ النَّابِغَةِ تَحْقِيقُ الدُّكْتُورِ شُكْرِي فَيْصَل ص 256
(6)
ح: قَارَنَتْهُ، ر: قَرَنَتْهُ.
(7)
وَفَيْعَالٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .
(8)
و: الْعَيَّادِ وَالْعَوَّادِ، أ: الْعَبَّادِ وَالْقَوَّادِ.
فَالشَّيْطَانُ الْمُتَّصِفُ بِصِفَةٍ ثَابِتَةٍ قَوِيَّةٍ فِي كَثْرَةِ الْبُعْدِ عَنِ الْخَيْرِ، بِخِلَافِ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ مَرَّةً وَقَرُبَ مِنْهُ أُخْرَى ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْطَانًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: تَشَيْطَنَ يَتَشَيْطَنُ شَيْطَنَةً، وَلَوْ كَانَ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ لَقِيلَ: تَشَيَّطَ يَتَشَيَّطُ. وَالَّذِي قَالَ: هُوَ مِنْ شَاطَ يَشِيطُ إِذَا احْتَرَقَ وَالْتَهَبَ، جَعَلَ النُّونَ زَائِدَةً وَقَالَ: وَزْنُهُ فَعْلَانُ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ (1) .
وَهَذَا يَصِحُّ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الِاتِّفَاقُ فِي جِنْسِ الْحُرُوفِ، كَمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: الْعَامَّةُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَمَى، مَا رَضِيَ اللَّهُ أَنْ يُشَبِّهَهُمْ (2) بِالْأَنْعَامِ حَتَّى قَالَ:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وَهَذَا كَمَا يُقَالُ السُّرِّيَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السِّرِّ، وَهُوَ النِّكَاحُ. وَلَوْ جَرَتْ عَلَى الْقِيَاسِ لَقِيلَ: سَرِيرَةٌ (3) فَإِنَّهَا عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ (4) . وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُعَاقِبُ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمُضَاعَفِ وَالْمُعْتَلِّ، كَمَا يَقُولُونَ: تَقَضَّى الْبَازِي وَتَقَضَّضَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا (5) الْبَازِي كَسَرْ (6) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 259] ، وَهَذِهِ الْهَاءُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَصْلِيَّةً فَجُزِمَتْ بِلَمْ، وَيَكُونُ مِنْ سَانَهَتْ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَاءَ السَّكْتِ، كَالْهَاءِ مِنْ كِتَابِيَهْ
(1) الْبَيْتُ لِلْأَعْشَى فِي دِيوَانِهِ ط. جَابِرٍ ص 40 وَصَدْرُهُ: قَدْ نَطْعَنُ الْعِيرَ فِي مَكْنُونِ فَائِلِهِ.
(2)
أ، و: أَنْ شَبَّهَهُمْ.
(3)
أ: سَرِيَّةٌ.
(4)
ن، أ، ر: فُعْلِيَّةٍ.
(5)
ن، و، ح: إِنِ.
(6)
الْبَيْتُ لِلْعَجَّاجِ فِي دِيوَانِهِ ط. د. عَزَّةَ حَسَنْ ص [0 - 9] 8
وَ " حِسَابِيَهْ " وَ " اقْتَدِهْ " وَ " مَالِيَهْ " وَ " سُلْطَانِيَهْ ". وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ يُثْبِتُونَ الْهَاءَ وَصَلًا وَوَقْفًا، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَحْذِفَانِهَا مِنَ الْوَصْلِ هُنَا وَمِنِ " اقْتَدِهْ " فَعَلَى قِرَاءَتِهِمَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَاءَ السَّكْتِ، فَإِنَّ الْأَصْلِيَّةَ لَا تُحْذَفُ، فَتَكُونُ لَفْظَةُ:" لَمْ يَتَسَنَّ "، كَمَا تَقُولُ: لَمْ يَتَغَنَّ، وَتَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنْ قَوْلِهِمْ: تَسَنَّى يَتَسَنَّى. وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْآخَرِ تَكُونُ مِنْ: تَسَنَّهَ يَتَسَنَّهُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِمَرِّ السِّنِينَ عَلَيْهِ. قَالَ: وَاللَّفْظُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَهِ، يُقَالُ (1) : سَانَهَتِ النَّخْلَةُ إِذَا حَمَلَتْ عَامًا. وَحَالَتْ عَامًا فَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ لُغَةَ مَنْ جَعَلَ الْهَاءَ أَصْلِيَّةً، وَفِيهَا لُغَتَانِ: يُقَالُ: عَامَلْتُهُ مُسَانَهَةً وَمُسَانَاةً. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ (2)
وَلَكِنْ عَرَايَا (3) فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ (4) يَمْدَحُ النَّخْلَةَ، وَالْمَقْصُودُ مَدْحُ صَاحِبِهَا بِالْجُودِ، فَقَالَ: إِنَّهُ (5) يُعَرِّيهَا لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَهَا، لَا يُرَجِّبُهَا (6) لِتَخْلِيَةِ (7) ثَمَرِهَا (8) وَلَا هِيَ بِسَنْهَاءَ (9) .
وَالْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقُولُونَ فِي الْآيَةِ: مَعْنَاهُ: لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَأَمَّا لُغَةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ سُنْوَةٌ فَهِيَ مَشْهُورَةٌ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي جَمْعِهَا: سَنَوَاتٌ،
(1) م، ر، ي: يَقُولُ، ح، ب: تَقُولُ.
(2)
و: وَلَا رَحَبِيَّهْ، ب، ر: وَلَا رَحَيِيَةٍ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَلَا عَرَبِيَّةٍ.
(3)
ن، م، و، أ: عَرَابًا.
(4)
أ: الْحَوَايِجِ، وَذَكَرَ ابْنُ مَنْظُورٍ الْبَيْتَ فِي اللِّسَانِ كَمَا أَثْبَتَهُ هُنَا، وَقَالَ إِنَّ لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ وَهُوَ سُوِيدُ بْنُ الصَّامِتِ.
(5)
أ: بِالْجُودِ وَأَنَّهُ.
(6)
أ، ر، ي، ح: لَا يُرَجِّيهَا.
(7)
أ، ر: لِتَحْلِيَةٍ، و: لِنَحْلِيَتِهِ.
(8)
و: الثَّمَرَةُ.
(9)
أ: وَلَا هِيَ مِنْهَا.
وَيُشَابِهُهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ الْمَاءُ الْآسِنُ، وَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ الْمُنْتِنُ، وَيُشَابِهُهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَصْغَرِ الْحَمَأُ الْمَسْنُونُ، فَإِنَّهُ مِنْ سَنَّ، يُقَالُ: سَنَنْتُ الْحَجَرَ عَلَى الْحَجَرِ إِذَا حَكَكْتُهُ، وَالَّذِي يَسِيلُ بَيْنَهُمَا (1) سَنَنٌ (2)، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُنْتِنًا (3) . وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الْمَسْنُونُ الْمَصْبُوبُ عَلَى سِنَةِ الْوَجْهِ، أَوِ الْمَصْبُوبُ (4) الْمُفَرَّغُ، أَيْ أَبْدَعَ صُورَةَ الْإِنْسَانِ ; فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ خُلِقَ مِنَ الْحَمَأِ (5) الْمَسْنُونِ، وَنَفْسُ الْحَمَأِ لَمْ يَكُنْ عَلَى صُورَةِ الْإِنْسَانِ وَلَا صُورَةِ وَجْهٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ الْمُنْتِنُ.
فَقَوْلُهُ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 15]، فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَسَنَ يَأْسِنُ ; فَهَذَا مِنْ جِنْسِ الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي السِّينِ وَالنُّونِ وَالنُّونِ (6) الْأُخْرَى، وَالْهَمْزَةُ وَالْهَاءُ مُتَقَارِبَتَانِ فَإِنَّهُمَا حَرْفَا حَلْقٍ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي أَكْثَرِ الْحُرُوفِ وَتَفَاوَتَا فِي بَعْضِهَا، قِيلَ: أَحَدُهُمَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْآخَرِ، وَهُوَ الِاشْتِقَاقُ الْأَكْبَرُ، وَالْأَوْسَطُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْحُرُوفِ لَا فِي تَرْتِيبِهَا، كَقَوْلِ الْكُوفِيِّينَ: الِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّمَةِ وَالِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ الْخَاصُّ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَقَوْلِكَ: عَلِمَ يَعْلَمُ فَهُوَ عَالَمٌ.
(1) و: مِنْهُمَا.
(2)
ب فَقَطْ: سِنِينٌ.
(3)
أ: مَبْنِيًّا ر: سَنَنًا و: مَسْنِنًا.
(4)
ن: وَالْمَصْبُوبُ، و: أَيِ الْمَصْبُوبُ.
(5)
أ، ب، ن: الْحَمَّاءِ.
(6)
وَالنُّونِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (أ) .
وَعَلَى هَذَا فَالشَّيْطَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ شَطَنَ، وَعَلَى الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ هُوَ مِنْ بَابِ (1) شَاطَ يَشِيطُ، لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الشِّينِ وَالطَّاءِ. وَالنُّونُ وَالْيَاءُ مُتَقَارِبَتَانِ.
فَهُوَ سُبْحَانُهُ (2) أَمَرَ فِي سُورَةِ النَّاسِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ: شَرِّ الْوَسْوَاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَسْوَسَةُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ لَهُ، وَوَسْوَسَةُ غَيْرِهِ لَهُ.
وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مَبْسُوطٌ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ (3) .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ (4) فِي الصِّحَاحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: " «أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرْكَهَا لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ إِذَا (5) هَمَّ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ» "(6) .
(1) بَابِ: زِيَادَةٌ فِي (ن) ، (م) .
(2)
ح، ب: فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ.
(3)
و: فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. . . إِلَخْ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ لَهُ مُصَنَّفًا مُفْرَدًا عَنْ آيَةِ 259 مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَمْ أَجِدْ فِيمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ مَرَاجِعَ وَمَخْطُوطَاتٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ: وَالْقَوْلُ فِي مَعْنَى السُّورَةِ مَبْسُوطٌ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ، وَيَكُونُ مَقْصُودُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ سُورَةُ النَّاسِ، فَإِنَّ لَهُ رِسَالَةً خَاصَّةً فِي تَفْسِيرِهَا نُشِرَتْ فِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى الرِّيَاضِ 17/509 - 536
(4)
ن: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ.
(5)
ن، م: وَإِذَا.
(6)
الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي الْبُخَارِيِّ 8/103 (كِتَابُ الرِّقَاقِ، بَابُ مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسَيِّئَةٍ) مُسْلِمٍ 1/117 - 118 كِتَابُ الْإِيمَانِ بَابُ إِذَا هَمَّ الْعَبْدُ بِحَسَنَةٍ كُتِبَتْ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 4/330 (كِتَابُ التَّفْسِيرِ، [سُورَةُ الْأَنْعَامِ] وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ الدَّارِمِيِّ وَسُنَنِ أَحْمَدَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ (1) : " «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» "(2) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعُ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ - يَعْنِي الْإِقَامَةَ - فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ (3) بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَضِلَّ (4) الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» "(5) .
(1) ن، م، و: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ.
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 7/46 كِتَابُ الطَّلَاقِ، بَابُ الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ، وَأَوَّلُهُ:(إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي) الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لِأُمَّتِي، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ 1/116 كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ تَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ. سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 2/355 كِتَابُ الطَّلَاقِ، بَابٌ فِي الْوَسْوَسَةِ بِالطَّلَاقِ، سُنَنَ النَّسَائِيِّ 6/127 - 128 فِي مَوْضِعَيْنِ كِتَابُ الطَّلَاقِ بَابُ مَنْ طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ كِتَابُ الطَّلَاقِ، بَابُ مَنْ طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 2/425)
(3)
ن: حَتَّى يَحْضُرَ.
(4)
ح، ي، ب، و: يَظَلَّ.
(5)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 1/121 كِتَابُ الْأَذَانِ، بَابُ فَضْلِ التَّأْذِينِ، وَأَوَّلُهُ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، مُسْلِمٍ 1/291 - 292 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ فَضْلِ الْأَذَانِ وَهَرَبِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ سَمَاعِهِ، سُنَنَ النَّسَائِيِّ 2/19 كِتَابُ الْأَذَانِ، بَابُ فَضْلِ التَّأْذِينِ، الْمُسْنَدَ ط. الْمَعَارِفِ 16/42 - 43 ط. الْحَلَبِيِّ 2/460، 522.
فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ وَالْوَسْوَاسَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُ يُنْسِيهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، وَأَمَرَهُ بِسَجْدَتِي السَّهْوِ، وَلَمْ يُؤَثِّمْهُ بِذَلِكَ. وَالْوَسْوَاسُ الْخَفِيفُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ، فَقِيلَ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ. فَإِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ وَسْوَاسٍ، وَلَمْ يَأْمُرْ (1) بِالْإِعَادَةِ، لَكِنْ يَنْقُصُ أَجْرُهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكِ إِلَّا مَا عَقِلْتَ مِنْهَا. وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَخَفَّفَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَلْ نَقَصْتُ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي بَدَرْتُ الْوَسْوَاسَ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، إِلَّا تُسْعُهَا، إِلَّا ثُمُنُهَا، حَتَّى قَالَ: إِلَّا نِصْفُهَا» "(2) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ حَامِدٍ ; فَإِنَّ أَدْنَى مَا ذُكِرَ نِصْفُهَا، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ عُشْرُهَا. وَأَدَاءُ الْوَاجِبِ لَهُ مَقْصُودَانِ: أَحَدُهُمَا: بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، بِحَيْثُ يَنْدَفِعُ عَنْهُ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ الْمُسْتَحَقُّ بِالتَّرْكِ، فَهَذَا لَا تَجِبُ مَعَهُ الْإِعَادَةُ، فَإِنَّ الْإِعَادَةَ يَبْقَى مَقْصُودُهَا حُصُولُ ثَوَابٍ مُجَرَّدٍ، وَهُوَ شَأْنُ
(1) ب فَقَطْ: وَلَمْ يُؤْمَرْ.
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/294 كِتَابُ الصَّلَاةِ بَابُ مَا جَاءَ فِي نُقْصَانِ الصَّلَاةِ، وَلَفْظُهُ:(إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا) وَحَسَّنَ الْأَلْبَانِيُّ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ 2/65
التَّطَوُّعَاتِ، لَكِنَّ حُصُولَ الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ لِلسَّيِّئَاتِ (1) لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْقَبُولِ الَّذِي عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَبِقَدْرِ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ يُكَفَّرُ عَنْهُ بِهِ (2) مِنَ السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا لَا ثَوَابَ فِيهِ لَا يُكَفَّرُ وَإِنْ بَرِئَتْ بِهِ الذِّمَّةُ.
كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ: " «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ (3) ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» "(4) يَقُولُ: إِنَّهُ تَعِبَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَنْفَعَةٌ، لَكِنْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ (5) ، فَسَلِمَ مِنَ الْعِقَابِ فَكَانَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَزْدَدْ بِذَلِكَ خَيْرًا.
وَالصَّوْمُ إِنَّمَا شُرِعَ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 183 - 184] .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «الصِّيَامُ (6) جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ
(1) ن، م، أ: السَّيِّئَاتِ، و: بِالسَّيِّئَاتِ.
(2)
بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م)، وَفِي (و) : بِهِ عَنْهُ.
(3)
إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ: كَذَا فِي (ب) فَقَطْ، وَفِي (و) : حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْعَطَشُ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: إِلَّا الْعَطَشُ.
(4)
الْحَدِيثُ: مَعَ اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/539 كِتَابُ الصِّيَامِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْغِيبَةِ وَالرَّفَثِ لِلصَّائِمِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ فِيهِ بِلَفْظِ (رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ. . . إِلَخْ، وَهُوَ فِي: سُنَنِ الدَّارِمِيِّ 2/301 كِتَابُ الرِّقَاقِ بَابٌ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّوْمِ، وَلَفْظُهُ: كَمْ مِنْ صَائِمٍ وَجَاءَ الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ 17/35 وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ شَاكِر رحمه الله: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ 18/204 وَصَحَّحَهُ أَيْضًا، وَصَحَّحَ الْأَلْبَانِيُّ الْحَدِيثَ بِرِوَايَتَيْنِ لَهُ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ 3/174)
(5)
ح، ب: لَكِنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ وَإِنْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ.
(6)
ح، ب: الصَّوْمُ.
صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ» ". وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قِيلَ: يَقُولُ (1) فِي نَفْسِهِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يَقُولُ (2) بِلِسَانِهِ. وَقِيلَ: يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ فَيَقُولُ (3) بِلِسَانِهِ وَالنَّفْلِ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ ; فَإِنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ مُشْتَرَكٌ، وَالنَّفْلُ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقُولُ (4) بِلِسَانِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ; فَإِنَّ الْقَوْلَ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا مَا (5) فِي النَّفْسِ فَمُقَيَّدٌ، كَقَوْلِهِ: "«عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا» " ثُمَّ قَالَ: "«مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» " فَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ إِنَّمَا هُوَ الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ. وَإِذَا قَالَ بِلِسَانِهِ: إِنِّي (6) صَائِمٌ بَيْنَ عُذْرِهِ فِي إِمْسَاكِهِ عَنِ الرَّدِّ، وَكَانَ أَزْجَرَ لِمَنْ بَدَأَهُ بِالْعُدْوَانِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» "(7) . بَيَّنَ (8)
(1) هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 3/24 - 25 كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ فَضْلِ الصَّوْمِ، 9/143 كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ، مُسْلِمٍ 2/806 - 807 كِتَابُ الصِّيَامِ، بَابُ فَضْلِ الصِّيَامِ، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 2/412 كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ الْغِيبَةِ لِلصَّائِمِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، فِي بَاقِي كُتُبِ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَسُنَنِ الدَّارِمِيِّ وَالْمُوَطَّأِ وَالْمُسْنَدِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
(2)
ح، ب: يَقُولُهُ.
(3)
ح، ب، ر: فَيَقُولُهُ.
(4)
ح، ب: يَقُولُهُ.
(5)
مَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(6)
ن، م: أَنَا.
(7)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 3/26 كِتَابُ الصَّوْمِ بَابُ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، 8/17 - 18 كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 2/412 كِتَابُ الصَّوْمِ بَابُ الْغِيبَةِ لِلصَّائِمِ، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْمُسْنَدِ.
(8)
ح، ب، ر، ي: فَبَيَّنَ.
- صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى الصَّائِمِ الْأَكْلَ لِحَاجَتِهِ إِلَى تَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، كَمَا يُحَرِّمُ السَّيِّدُ عَلَى عَبِيدِهِ بَعْضَ مَالِهِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ حُصُولُ التَّقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ فَقَدْ أَتَى بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَحَبَّةٌ وَرِضًا، فَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ (1) عُقُوبَةَ التَّارِكِ.
وَالْحَسَنَاتُ الْمَقْبُولَةُ تُكَفِّرُ السَّيِّئَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (2) :" «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» "(3) وَلَوْ كَفَّرَ الْجَمِيعَ بِالْخَمْسِ (4) لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ التَّكْفِيرَ بِالْحَسَنَاتِ الْمَقْبُولَةِ. وَغَالِبُ النَّاسِ لَا يُكْتَبُ لَهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْضُهَا، فَيُكَفِّرُ ذَلِكَ بِقَدْرِهِ، وَالْبَاقِي يَحْتَاجُ إِلَى تَكْفِيرٍ.
وَلِهَذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّلَاةُ ; فَإِنْ أُكْمِلَتْ وَإِلَّا قِيلَ: انْظُرُوا هَلْ لَهُ مَنْ تَطَوُّعٍ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ (5) الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ (6) كَذَلِكَ» "(7) .
(1) ب فَقَطْ: وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ.
(2)
ن، م: فِي الصَّحِيحِ.
(3)
الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 1/209 كِتَابُ الطَّهَارَةِ، بَابُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 1/138 كِتَابُ الصَّلَاةِ بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ وَأَنَسٍ وَحَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ، حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(4)
أ: بِالْجِنْسِ.
(5)
و: كُمِّلَتْ بِهِ.
(6)
أ: الْأَفْعَالِ، ح، ب: أَعْمَالِهِ.
(7)
الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 1/258 - 259 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، وَأَوَّلُهُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَدِيثَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/317 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُتِمُّهَا صَاحِبُهَا، سُنَنَ النَّسَائِيِّ 1/187 - 189 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ الْمُحَاسِبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 1/458 كِتَابُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا، بَابُ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ، الْمُسْنَدَ ط. الْمَعَارِفِ 15/19 - 26 وَقَالَ أَحْمَدُ شَاكِر رحمه الله: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَتَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ، وَالْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى كَثِيرَةٍ.
وَتَكْمِيلُ الْفَرَائِضِ (1) بِالتَّطَوُّعِ مُطْلَقٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْجَزَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَرَكَ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ (2) تَطَوُّعٌ سَدَّ مَسَدَّهُ فَلَا يُعَاقَبُ، وَإِنْ (3) كَانَ ثَوَابُهُ نَاقِصًا وَلَهُ تَطَوُّعٌ سَدَّ مَسَدَّهُ فَكَمُلَ ثَوَابَهُ. وَهُوَ فِي الدُّنْيَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُعِيدَ حَيْثُ تُمْكِنُ إِعَادَةُ مَا فَعَلَهُ (4) نَاقِصًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ (5) ، أَوْ يَجْبُرُهُ بِمَا يَنْجَبِرُ بِهِ، كَسَجْدَتَيِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَكَالدَّمِ الْجَابِرِ لِمَا تَرَكَهُ مِنَ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَمِثْلَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ الَّتِي فُرِضَتْ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ (6) أَنْ يَأْتِيَ بِالْوَاجِبِ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ بِهِ (7) . كَمَا لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَذَّرَ فِعْلُهُ يَوْمَ (8) الْجَزَاءِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ إِلَّا الْحَسَنَاتُ.
وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ
(1) ن، م: الْفَرْضُ.
(2)
أ: مِنْ حَسَنَةٍ.
(3)
ن: فَإِنْ.
(4)
ر، ي: إِلَّا مَا فَعَلَهُ.
(5)
ن، م، و، ي، ر: نَاقِصُ الْوَاجِبَاتِ.
(6)
ر، ح، ي: إِذَا أَمْكَنَ.
(7)
ن: مَطْلُوبٌ مِنْهُ بِهِ.
(8)
و: لِيَوْمِ.
عَمْدًا فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ مَا دَامَ يُمْكِنُ فِعْلُهَا، وَهُوَ إِعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، لَكِنَّ مَالِكَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ: قَدْ يَجِبُ فِيهَا مَا يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ، وَيَكُونُ سُجُودُ السَّهْوِ عِوَضًا عَنْهُ، وَسُجُودُ السَّهْوِ وَاجِبٌ عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَقُولُ: كُلُّ مَا وَجَبَ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. وَسُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَهُ (1) لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; فَإِنَّ مَا صَحَّتِ الصَّلَاةُ مَعَ السَّهْوِ عَنْهُ (2) لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَلَا مُبْطِلًا. وَالْأَكْثَرُونَ يُوجِبُونَ سُجُودَ السَّهْوِ، كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَيَقُولُونَ: قَدْ أَمَرَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَيَقُولُونَ: الزِّيَادَةُ فِي الصَّلَاةِ لَوْ فَعَلَهَا عَمْدًا بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلَ أَنْ يَزِيدَ رَكْعَةً خَامِسَةً عَمْدًا، أَوْ يُسَلِّمَ عَمْدًا قَبْلَ إِكْمَالِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهُ سَهْوًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
فَهَذَا سُجُودٌ لِمَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَ سَهْوَةٍ دُونَ عَمْدِهِ. وَكَذَلِكَ مَا نَقَصَهُ مِنْهَا ; فَإِنَّ السُّجُودَ يَكُونُ لِلزِّيَادَةِ تَارَةً وَلِلنَّقْصِ أُخْرَى، كَسُجُودِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ عَمْدًا بَطُلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُوجِبُ (* فِي الصَّلَاةِ مَا لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِهِ (3) لَا (4) عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، وَيَقُولُ: هُوَ مُسِيءٌ بِتَرْكِهِ، كَالطُّمَأْنِينَةِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.
(1) ن، م، ر، ح، و، ي: عِنْدَهُمْ.
(2)
ن، م: عَنِ السَّهْوِ عَنْهُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(3)
و: مَا لَا يُبْطِلُ تَرْكُهُ.
(4)
لَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
وَهَذَا مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ الْمُمْكِنَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَا (1) فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ، لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم *) (2) :" «ارْجِعْ فَصَلِّ ; فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» " وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا طُمَأْنِينَةٌ (3) ، فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ صَلَاةً، بَلْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ. وَالشَّارِعُ صلى الله عليه وسلم (4) لَا يَنْفِي الِاسْمَ إِلَّا لِانْتِفَاءِ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ، فَقَوْلُهُ:" «فَإِنَّكَ (5) لَمْ تُصَلِّ» " لِأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا وَلَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ تَامَّةً مُقَامَةً الْإِقَامَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 103] فَقَدْ أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا.
وَلِهَذَا لَمَّا أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(1) ن، م، ر: وَقَدْ أَخْرَجَاهُ.
(2)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (أ) .
(3)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَهُوَ حَدِيثٌ مُطَوَّلٌ أَوَّلُهُ عِبَارَةُ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ. فِي الْبُخَارِيِّ 8/135 - 136 كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، بَابُ إِذَا حَنَثَ نَاسِيًا فِي الْأَيْمَانِ، مُسْلِمٍ 1/298 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 1/185 - 187 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي وَصْفِ الصَّلَاةِ، وَالْحَدِيثُ فِيهَا عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سُنَنَ النَّسَائِيِّ 2، 96 كِتَابُ الِافْتِتَاحِ بَابُ فَرْضِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 1/336 - 337 كِتَابُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، بَابُ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ.
(4)
صلى الله عليه وسلم: زِيَادَةٌ فِي (ح) ، (ب) .
(5)
ر، ح، ب: إِنَّكَ، ن: لِأَنَّكَ.
[سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 196] أَلْزَمَ (1) الشَّارِعَ فِيهِمَا فِعْلُ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِذَا (2) تُرِكَ بَعْضُهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الْجُبْرَانِ. فَعُلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ (3) بِالْمَأْمُورِ بِهِ تَامًّا التَّمَامَ الْوَاجِبَ (4) وَإِلَّا فَعَلَيْهِ مَا يُمْكِنُ مِنْ إِعَادَةٍ أَوْ جُبْرَانٍ.
وَكَذَلِكَ أَمَرَ الَّذِي رَآهُ يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ. وَقَالَ: " «لَا صَلَاةَ لِفَذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ» "(5) . وَقَدْ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ
(1) أَلْزَمَ: كَذَا فِي (ح) ، (ب)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: لَزِمَ.
(2)
فَإِذَا: كَذَا فِي (أ) ، (ب)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَإِذَا.
(3)
إِنْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (أ) ، (ي)، وَفِي (و) : مَنْ لَمْ يَأْتِ.
(4)
ح، ب: الْمَأْمُورُ بِهِ بِإِتْمَامِ الْوَاجِبِ.
(5)
لَمْ أَجِدِ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَكِنْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ رضي الله عنه فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/320 كِتَابُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، بَابُ صَلَاةِ الرَّجُلِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ وَلَفْظُهُ: خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ صَلَّيْنَا وَرَاءَهُ صَلَاةً أُخْرَى، فَقَضَى الصَّلَاةَ، فَرَأَى رَجُلًا فَرْدًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ، قَالَ: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ، وَجَاءَ فِي التَّعْلِيقِ فِي الزَّوَائِدِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَالْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ ط. الْحَلَبِيِّ 4/23 مَوَارِدُ الظَّمْآنِ إِلَى زَوَائِدِ ابْنِ حِبَّانَ، ص 116 حَدِيثٌ رَقْمُ 401، 402 ط. السَّلَفِيَّةِ، وَصَحَّحَ الْأَلْبَانِيُّ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ 1/322 وَفِي إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ 2/328 - 329 وَتَكَلَّمَ طَوِيلًا عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ 2/323 - 330 وَتَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ، وَهُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْمُسْنَدِ.
رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ جَعَلَ مَا تَرَكَهُ (1) مِنْ ذَلِكَ يُؤَاخَذُ بِتَرْكِهِ (2) فَقَطْ، وَيُحْسَبُ لَهُ مَا فَعَلَ، وَلَا يَكُونُ كَمَنْ لَمْ يُصَلِّ.
قِيلَ: وَكَذَلِكَ نَقُولُ (3) : مَنْ فَعَلَهَا وَتَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ لِدَفْعِ عُقُوبَةِ مَا تَرَكَ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، فَإِذَا (4) كَانَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْبَعْضِ لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ جُبْرَانٌ أَوْ أَمْكَنَ فِعْلُهُ وَحْدَهُ، وَإِلَّا فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ مُفْرَدًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا (5) لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُفْرَدًا طَاعَةً لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ أَوَّلًا.
قِيلَ: هُوَ أَوَّلًا فَعَلَهُ وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، أَوْ كَانَ سَاهِيًا، كَالَّذِي يُصَلِّي بِلَا وُضُوءٍ، أَوْ يَسْهُو عَنِ الْقِرَاءَةِ وَالسُّجُودِ الْمَفْرُوضِ، فَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَلَا يُعَاقَبُ بِنِسْيَانِهِ وَخَطَئِهِ، لَكِنْ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ أَوَّلًا، كَالنَّائِمِ إِذَا اسْتَيْقَظَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهَا إِذَا أَمْكَنَ، وَإِلَّا صَلَّاهَا أَيَّ وَقْتٍ (* اسْتَيْقَظَ ; فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُؤْمَرُ بِهَا. وَأَمَّا إِذَا أُمِرَ بِالْإِعَادَةِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ *)(6) مُفْرَدًا (7) ، فَلَا يُؤْمَرُ بِهِ مُفْرَدًا (8) .
(1) ن، م، ر، ي، و: مَا تَرَكَ، ح: مَنْ تَرَكَ.
(2)
أ: بِمَا يَتْرُكُهُ، و: بِمَا تَرَكَهُ.
(3)
ن، م، و، أ: يَقُولُ.
(4)
ب فَقَطْ: فَإِنْ.
(5)
ن، م: فَإِنْ.
(6)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ أ.
(7)
ح، ب: مُنْفَرِدًا.
(8)
ح، ب: مُنْفَرِدًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ تَعَمَّدَ أَنْ يَفْعَلَهَا مَعَ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ وُجُوبَهَا.
قِيلَ: هَذَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ ; فَإِنَّهُ عَاصٍ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ إِثْمُهُ كَإِثْمِ التَّارِكِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا قَدْ (1) يُثَابُ، فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ (2) ثَوَابَ مَنْ فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ كَمَا أَمَرَ بِهِ، بَلْ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ: إِنَّ لَهُ عَلَيْهِ ثَوَابًا بِحَسَبِهِ (3)، لَكِنَّ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ: 7 - 8] .
وَالْقُرْآنُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَدُعَاؤُهُ خَيْرٌ. وَإِلَّا فَالْمُسْلِمُ لَا يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ، أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ. وَمَعَ هَذَا فَقَدَ يُمْكِنُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ (* اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مُذْنِبٌ لَا عَلَى طَرِيقِ (4) الِاسْتِهَانَةِ (5) وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالِاسْتِخْفَافِ، بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْكَسَلِ، أَنْ يُثَابَ عَلَى مَا فَعَلَهُ، كَمَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الْمَجْبُورَةِ بِدَمٍ، لَكِنْ لَا يَكُونُ ثَوَابُهُ كَمَا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ *) (6) غَيْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنْ شُبْهَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَفَاضَلُ وَلَا يَنْقُصُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ مِنْهُ جُزْءٌ ذَهَبَ كُلُّهُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ
(1) قَدْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ب) .
(2)
عَلَيْهِ: زِيَادَةٌ فِي (أ) ، (ب) .
(3)
ن، م، أ، ي: يَحْسِبُهُ.
(4)
طَرِيقِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(5)
الِاسْتِهَانَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(6)
: مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (أ)
مَتَى (1) ذَهَبَ مِنْهُ جُزْءٌ ذَهَبَ كُلُّهُ، كَالصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَ مِنْهَا وَاجِبًا بَطَلَتْ. وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ تَشَعَّبَتْ بِهِمُ الطُّرُقُ (2) .
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فَقَالُوا: إِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ (3) خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» (4) .
(1) ن، م: إِذَا.
(2)
يَقُولُ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ 1/198 - 201 إِنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنَ الْمُرْجِئَةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَلَا يَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ. وَالْإِيمَانُ عِنْدَ الصَّالِحِيَّةِ مِنَ الْمُرْجِئَةِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَيَقُولُ الْأَشْعَرِيُّ: إِنَّ السِّمَّرِيَّةَ أَصْحَابَ يُونُسَ السِّمَّرِيِّ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ وَهُوَ تَرْكُ الِاسْتِكْبَارِ عَلَيْهِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ، فَمَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَقَدْ يَكُونُ كَافِرًا لَوْ تَرَكَ خَصْلَةً مِنْهَا، وَقَوْلُ الشِّمْرِيَّةِ أَصْحَابِ أَبِي شِمْرٍ وَالْيُونُسِيَّةُ أَصْحَابُ يُونُسَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا فَهْمٌ يَقُولُونَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَالْإِقْرَارُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِمْ، وَلَا يُسَمُّونَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ إِيمَانًا وَلَا بَعْضَ إِيمَانٍ حَتَّى تَجْتَمِعَ هَذِهِ الْخَصَالُ، مِثْلَ الْفَرَسِ لَا تُسَمَّى بَلْقَاءَ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ، وَالشَّبِيبَةُ مِنْ مُرْجِئَةِ الْخَوَارِجِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِإِصَابَةِ كُلِّ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْخَصْلَةَ مِنَ الْإِيمَانِ قَدْ تَكُونُ طَاعَةً وَبَعْضَ إِيمَانٍ وَلَكِنْ يَكُونُ صَاحِبُهَا كَافِرًا بِتَرْكِ بَعْضِ الْإِيمَانِ.
(3)
أ، و: حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ.
(4)
الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 1/93 كِتَابُ الْإِيمَانِ بَابُ تَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَبَيَانِهِ، وَلَفْظُهُ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالٌ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَا يُدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ، وَالْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ فِي الْأَلْفَاظِ، فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/84 كِتَابُ اللِّبَاسِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْكِبْرِ، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 1/22 - 23 الْمُقَدِّمَةُ بَابٌ فِي الْإِيمَانِ، كِتَابُ صِفَةِ جَهَنَّمَ، بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ لِلنَّارِ نَفَسَيْنِ، وَلَفْظُهُ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَمَنْ شَكَّ فَلْيَقْرَأْ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَذَكَرُهُ السُّيُوطِيُّ، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: صَحِيحٌ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ.
وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِهِ فَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْكَمَالُ وَالتَّمَامُ، وَيَجُوزُ نَفْيُ الِاسْمِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ ذَلِكَ الْكَمَالِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ الْجُزْءِ: إِنْ كَانَ تَرَكَ وَاجِبًا فَعَلَهُ، أَوْ كَانَ ذَنْبًا اسْتَغْفَرَ مِنْهُ، وَبِذَلِكَ يَصِيرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِثَوَابِ اللَّهِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الْعِقَابِ. وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ وَاجِبًا مِنْهُ أَوْ فَعَلَ مُحَرَّمًا ; فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَى مَا فَعَلَ. وَالْمَنْفِيُّ إِنَّمَا هُوَ الْمَجْمُوعُ لَا كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، كَمَا إِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشْرَةِ، لَمْ تَبْقَ الْعَشْرَةُ عَشَرَةً، لَكِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ أَجْزَائِهَا.
وَكَذَلِكَ جَاءَتِ السُّنَّةُ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ (1) مِنْهَا وَيُعَاقَبُ عَلَى الْبَاقِي، حَتَّى إِنَّهُ (2) إِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ جُبِرَ مَا تَرَكَ بِالتَّطَوُّعِ، وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَ بَاطِلًا وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْبَرْ بِالنَّوَافِلِ شَيْءٌ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ الْمُسِيءِ الَّذِي فِي السُّنَنِ (3) : أَنَّهُ إِذَا نَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا أُثِيبَ عَلَى مَا فَعَلَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ أَنَّهُ قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ وَحَجُّهُ إِذَا تَرَكَ مِنْهُ رُكْنًا.
قِيلَ: لِأَنَّ الْبَاطِلَ فِي عُرْفِهِمْ ضِدُّ الصَّحِيحِ، وَالصَّحِيحُ فِي عُرْفِهِمْ مَا
(1) ح، ب: عَلَى مَا فَعَلَ.
(2)
إِنَّهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ب) .
(3)
و: حَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي فِي السُّنَنِ فِي الْمُسِيءِ.
حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الصَّحِيحُ مَا أَسْقَطَ الْقَضَاءَ. فَصَارَ قَوْلُهُمْ: بَطَلَتْ، بِمَعْنَى: وَجَبَ الْقَضَاءُ، لَا بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ فِي الْآخِرَةِ.
وَهَكَذَا جَاءَ النَّفْيُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» "(1)، وَقَوْلُهُ:" «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» "(2) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 2]، وَقَوْلُهُ:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: 15] ; فَإِنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ عَمَّنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْهُ أَوْ فَعَلَ مُحَرَّمًا
(1) هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي الْبُخَارِيِّ 3/136 كِتَابُ الْمَظَالِمِ، بَابُ النَّهْيِ بِغَيْرِ إِذَنْ صَاحِبِهِ، 7/104 كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ، بَابُ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ، 8/157 كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابُ لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، 8/164 كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابُ إِثْمِ الزُّنَاةِ، مُسْلِمٍ 1/76 - 77 كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ بَيَانِ نُقْصَانِ الْإِيمَانِ بِالْمَعَاصِي، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 4/306 كِتَابُ السُّنَّةِ، بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 4/127 كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 2/1298 - 1299 كِتَابُ الْفِتَنِ، بَابُ النَّهْيِ عَنِ النُّهْبَةِ، سُنَنَ الدَّارِمِيِّ 2/115 كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ بَابٌ فِي التَّغْلِيظِ لِمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ، الْمُسْنَدَ ط. الْمَعَارِفِ 13/41 وَنَصُّ الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ 3/136:(لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ.)
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي الْمُسْنَدِ، ط. الْحَلَبِيِّ 3/135 وَأَوَّلُهُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا خَاطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ. وَهُوَ أَيْضًا فِيهِ 3/154، 210، 251
فِيهِ كَنَفْيِ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ:" «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» "(1) . وَقَوْلُهُ لِلْمُسِيءِ: " «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» "(2) . وَقَوْلُهُ لِلْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ: " «لَا صَلَاةَ لِفَذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ» "(3) وَقَوْلُهُ: " «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» "(4) .
وَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ هَذَا لِنَفْيِ الْكَمَالِ.
قِيلَ لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ الْكَمَالَ الْمُسْتَحَبَّ ; فَهَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ: أَنَّهُ يَنْفِي عَمَلًا فَعَلَهُ الْعَبْدُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْفِيهِ لِتَرْكِ بَعْضِ الْمُسْتَحَبَّاتِ. بَلِ الشَّارِعُ لَا يَنْفِي عَمَلًا إِلَّا إِذَا لَمْ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
(1) و: إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ:(لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) وَبِلَفْظِ: لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 1/147 - 148 كِتَابُ الْأَذَانِ، بَابُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، مُسْلِمٍ 1/295 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 1/301 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ مَنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاتِهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَفْظُهُ: وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَصَاعِدًا. وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ وَالْمُوَطَّأِ وَالْمُسْنَدِ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْأَلْبَانِيُّ كَلَامًا مُفَصَّلًا فِي إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ 2/10 - 12 حَدِيثٌ رَقْمُ 302
(2)
سَبَقَ الْحَدِيثُ قَبْلَ صَفَحَاتٍ.
(3)
سَبَقَ الْحَدِيثُ قَبْلَ صَفَحَاتٍ.
(4)
جَاءَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي: سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/260 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ، بَابُ التَّغْلِيظِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَرَّةً وَبِلَفْظِ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، فِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ 1/245 كِتَابُ الصَّلَاةِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَصَحَّحَ الْأَلْبَانِيُّ الْحَدِيثَ فِي إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ 2/337 - 338 وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى رِوَايَاتٍ أُخْرَى لَهُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ نُفِيَ بِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ، لَكَانَ عَامَّةُ النَّاسِ لَا صَلَاةَ لَهُمْ وَلَا صِيَامَ. فَإِنَّ الْكَمَالَ الْمُسْتَحَبَّ مُتَفَاوِتٌ، وَلَا أَحَدَ يُصَلِّي كَصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَكُلُّ مَنْ لَمْ يُكْمِلْهَا كَتَكْمِيلِ الرَّسُولِ يُقَالُ: لَا صَلَاةَ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ فَرْضًا مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا يُؤْمَرُونَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَالْإِيمَانُ إِذَا تُرِكَ بَعْضُ فَرَائِضِهِ لَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهِ؟ .
قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ مُطْلَقًا، بَلْ يُؤْمَرُ بِالْمُمْكِنِ ; فَإِنْ أَمْكَنَ الْإِعَادَةُ أَعَادَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُمِرَ أَنْ يَفْعَلَ حَسَنَاتٍ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ; فَإِنَّهُ وَإِنْ أُمِرَ بِالظُّهْرِ فَلَا تَسُدُّ مَسَدَّ الْجُمُعَةِ، بَلِ الْإِثْمُ الْحَاصِلُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ يَزُولُ جَمِيعُهُ بِالظُّهْرِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ عَمْدًا ; فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا مَا دَامَ يُمْكِنُ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ أُمِرَ بِالدَّمِ الْجَابِرِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا عَنْهُ إِثْمَ التَّفْوِيتِ (* مُطْلَقًا، بَلْ هَذَا الَّذِي يُمَكِّنُهُ مِنَ الْبَدَلِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ تَوْبَةً تَغْسِلُ إِثْمَ التَّفْوِيتِ *)(1) ، كَمَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ تَوْبَةً تَغْسِلُ إِثْمَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بِحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ. وَكَذَلِكَ مَنْ فَوَّتَ وَاجِبًا لَا (2) يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَهُ اسْتِدْرَاكُهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ.
وَهَكَذَا نَقُولُ (3) فِيمَنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ، بَلْ كُلَّ مَأْمُورٍ تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ جُزْءًا مِنْ إِيمَانِهِ، فَيَسْتَدْرِكُهُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ فَاتَ وَقْتُهُ تَابَ وَفَعَلَ حَسَنَاتٍ أُخَرَ غَيْرَهُ.
(1) مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ح) .
(2)
ح، ب: لَمْ.
(3)
ن، م، و: يَقُولُ.
وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْخَاصِّ وَالْمُشْتَرَكِ (1) ، كَمَا يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَ دُخُولِ الْعَصْرِ، وَيُؤَخِّرُ (2) الْعَصْرَ إِلَى الِاصْفِرَارِ ; فَهَذَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَعَلَيْهِ إِثْمُ التَّأْخِيرِ، وَهُوَ مِنَ الْمَذْمُومِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [سُورَةُ الْمَاعُونِ: 4 - 5] وَقَوْلِهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 59] ، فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا (3) عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِعْلُهَا فِيهِ هُوَ إِضَاعَةٌ لَهَا وَسَهْوٌ عَنْهَا بِلَا نِزَاعٍ أَعْلَمُهُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (4) . وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ بِذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا: " «صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً» "(5) . وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، وَالْعَصْرَ
(1) و: أَوِ الْمُشْتَرَكِ.
(2)
و: أَوْ يُؤَخِّرُ.
(3)
فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا كَذَا فِي (ب) فَقَطْ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: فَإِنَّ إِضَاعَتَهَا تَأْخِيرُهَا، وَفِي (ن) : فَإِنَّ إِضَاعَتَهَا تَأَخُّرُهَا.
(4)
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(5)
الْحَدِيثُ فِي مُسْلِمِ 14/449 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعُ الصَّلَاةِ، بَابُ كَرَاهِيَةِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ، وَنَصُّهُ: عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ: نُصَلِّي يَوْمَ الْجُمُعَةَ خَلْفَ أُمَرَاءَ، فَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ، قَالَ: فَضَرَبَ فَخْذِي ضَرْبَةً أَوْجَعَتْنِي وَقَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ، فَضَرَبَ فَخْذِي وَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: (صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً) قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذُكِرَ لِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ فَخْذَ أَبِي ذَرٍّ وَالْحَدِيثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَيْضًا فِي: سُنَنِ الدَّارِمِيِّ 1/279 كِتَابُ الصَّلَاةِ بَابُ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 5/159 وَانْظُرْ: 4/338
إِلَى وَقْتِ الِاصْفِرَارِ. وَذَلِكَ مِمَّا هُمْ مَذْمُومُونَ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ لَيْسُوا كَمَنْ تَرَكَهَا أَوْ فَوَّتَهَا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِهِمْ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِ أُولَئِكَ. «فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ وَيَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ. قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: " لَا، مَا صَلَّوْا» "(1) وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُؤَخِّرُونَهَا وَأَمَرَ أَنْ تُصَلَّى فِي الْوَقْتِ، وَتُعَادَ مَعَهُمْ نَافِلَةً ; فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا لَمْ يُصَلُّوا لَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» (2) " مَعَ قَوْلِهِ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (3) : " «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» "(4) .
(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/116
(2)
الْعَصْرَ: فِي (و)، (ب) فَقَطْ: وَالْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِلَفْظِ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ. فِي الْبُخَارِيِّ 1/116 كِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَفَضْلِهَا بَابُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْفَجْرِ رَكْعَةً، مُسْلِمٍ 1/424 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِلَفْظِ:(إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ الْحَدِيثَ) وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ 1/112 كِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، مُسْلِمٍ 1/425 الْمَوْضِعِ السَّابِقِ وَتَكَلَّمَ الْأَلْبَانِيُّ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ فِي إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ، 1/272 - 275 رَقْمُ 252، 253.
(3)
ن، م: فِي الصَّحِيحِ.
(4)
الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 1/434 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ، بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّبْكِيرِ بِالْعَصْرِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 1/107 كِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الْعَصْرِ، سُنَنَ النَّسَائِيِّ 1/203 كِتَابُ الْمَوَاقِيتِ، بَابُ التَّشْدِيدِ فِي تَأْخِيرِ الْعَصْرِ، وَقَدْ سَبَقَ الْحَدِيثُ 4/31
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (1) أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» "(2) . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (3) أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» "(4) . وَقَالَ أَيْضًا: " «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» "(5) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: " «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» "(6) . فَاتَّفَقُوا
(1) ن، م: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ.
(2)
الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بِلَفْظِ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ إِلَخْ فِي الْبُخَارِيِّ 1/111 كِتَابُ الْمَوَاقِيتِ، بَابُ إِثْمِ مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ، مُسْلِمٍ 1/435 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ، بَابُ التَّغْلِيظِ فِي تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، 1/436 بِلَفْظِ: مَنْ فَاتَتْهُ، وَالْحَدِيثُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَفِي كُتُبِ السُّنَنِ وَفِي الْمُوَطَّأِ وَالْمُسْنَدِ.
(3)
ن، م: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ.
(4)
الْحَدِيثُ عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 1/111 كِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَنْ تَرَكَ الْعَصْرَ، سُنَنَ النَّسَائِيِّ 1/191، كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَتَكَلَّمَ الْأَلْبَانِيُّ عَلَى الْحَدِيثِ فِي إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ رَقْمُ 255.
(5)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه فِي مُسْلِمٍ 1/568 كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ، بَابُ الْأَوْقَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَأَوَّلُهُ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ فَقَالَ: وَآخِرُهُ: كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ 1/208 كِتَابُ الْمَوَاقِيتِ، بَابُ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ، الْمُسْنَدَ ط. الْحَلَبِيِّ 6/396 - 397.
(6)
الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ فِي: الْبُخَارِيِّ 1/118 - 119 كِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، مُسْلِمٍ 1/477 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، بَابُ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدِّارِمِيِّ وَالْمُسْنِدِ وَالْمُوَطَّأِ، وَانْظُرْ إِرْوَاءَ الْغَلِيلِ 1/291 - 293.
عَلَى أَنَّ النَّائِمَ يُصَلِّي إِذَا اسْتَيْقَظَ، وَالنَّاسِيَ إِذَا ذَكَرَ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتَةِ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ، كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَجْعَلُ قَضَاءَ النَّائِمِ وَالنَّاسِي عَلَى التَّرَاخِي، وَمَنْ (1) نَسِيَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا فَهُوَ كَمَنْ نَسِيَهَا، فَلَوْ صَلَّى ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَنَّهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَعَادَ، كَمَا أَعَادَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا لَمَّا صَلَّوْا بِالنَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُمْ كَانُوا جُنُبًا فَأَعَادُوا، وَلَمْ يَأْمُرُوا الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ.
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ (2) .
وَكَذَلِكَ إِذَا أَخَّرَهَا تَأْخِيرًا يَرَى أَنَّهُ جَائِزٌ. كَمَا أَخَّرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَصَلَّاهَا بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ (3) فَإِنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِنِسْيَانٍ مِنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ جَائِزًا إِذَا كَانُوا مَشْغُولِينَ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ أَنْ يُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ.
(1) ن، م: فَمَنْ.
(2)
لَعَلَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ ط. الْمَعَارِفِ 5/240 رَقْمُ 3657 وَلَفْظُهُ، أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُدَيْبِيَةَ لَيْلًا فَنَزَلْنَا دَهَاسًا أَيْ: سَهْلًا مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: مَنْ يَكْلَؤُنَا؟ فَقَالَ بِلَالٌ: أَنَا، قَالَ: إِذَنْ تَنَامُ. قَالَ: لَا. فَنَامَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَاسْتَيْقَظَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فِيهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ: اهْضِبُوا فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: افْعَلُوا مَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، فَلَمَّا فَعَلُوا قَالَ: هَكَذَا فَافْعَلُوا، لِمَنْ نَامَ مِنْكُمْ أَوْ نَسِيَ. وَصَحِّحْ أَحْمَدُ شَاكِر الْحَدِيثَ، وَانْظُرْ إِرْوَاءَ الْغَلِيلِ، 1/293 وَجَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَصَرًا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/179 كِتَابُ الصَّلَاةِ بَابُ مَنْ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ نَسِيَهَا.
(3)
سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 3/411
وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ: يُصَلِّي حَالَ الْقِتَالِ وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ (1) ، وَتَأْخِيرُ الْخَنْدَقِ مَنْسُوخٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَقِيلَ: يُخَيَّرُ بَيْنَ تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا. لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يُصَلُّوا الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، كَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَخَّرَتْ (2) الصَّلَاةَ فَصَلَّوْا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَانَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ قَالُوا: لَمْ يُرِدْ مِنَّا إِلَّا الْمُبَادَرَةَ إِلَى الْعَدُوِّ لَا تَفْوِيتَ (3) الصَّلَاةِ. فَصَلَّوْا فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يُعَنِّفِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ.
وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (4) . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقِيلَ: بَلْ يُؤَخِّرُونَهَا كَمَا فَعَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَفِي الْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ أَخَّرَهَا تَأْخِيرًا يُعْذَرُ بِهِ إِمَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ لِخَطَأٍ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ فَأَخَّرَهَا حَتَّى طَلَعَتْ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ بَاقٍ فَأَخَّرَهَا حَتَّى غَرَبَتْ فَإِنَّ هَذَا يُصَلِّي.
وَعَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ مَا بَقِيَ تَأْخِيرُهَا جَائِزًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا، وَلَوْ أَخَّرَهَا بِاجْتِهَادِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ (5) ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ
(1) الصَّلَاةَ: زِيَادَةٌ فِي (ح) ، (ب) .
(2)
ب فَقَطْ: أَخَّرُوا.
(3)
أ: وَلَا تَفُوتُ، م: لَا تُفَوَّتُ، ن: وَلَا تَفْوِيتَ.
(4)
وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ قَلِيلٍ وَسَبَقَ فِيمَا مَضَى 3/411
(5)
ح، ب: أَخْطَأَ بِاجْتِهَادِهِ.
الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: " «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدَ (1) حَبِطَ عَمَلُهُ» "(2) فَإِنَّ هَذَا مُجْتَهِدٌ مُتَأَوِّلٌ مُخْطِئٌ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ» "(3) . وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ (4) .
وَأَمَّا مَنْ فَوَّتَهَا عَمْدًا عَالِمًا بِوُجُوبِهَا، أَوْ فَوَّتَ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا الَّذِي يَعْلَمُ وُجُوبَهُ مِنْهَا ; فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ. فَقِيلَ فِي الْجَمِيعِ: يَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ التَّفْوِيتِ، وَيَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَيُعَاقَبُ عَلَى التَّفْوِيتِ، كَمَنْ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَقُولُونَ (5) : هُوَ (6) فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَجَبَ (7) إِعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ فَيَجِبُ إِعَادَتُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا مَالُكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يُعَادُ فِي الْوَقْتِ وَمَا يُعَادُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا بَلْ وَاجِبًا - وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ سُنَّةً - أَمَرُوا بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ إِذَا تَرَكَهُ فِي الْوَقْتِ، كَمَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ. وَأَمَّا مَا كَانَ فَرْضًا، كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ، فَيُعِيدُ بَعْدَ الْوَقْتِ.
(1) فَقَدَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (أ) .
(2)
مَضَى الْحَدِيثُ قَبْلَ صَفَحَاتٍ.
(3)
مَضَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ 4/458
(4)
الصَّحِيحُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ي) ، (ر) .
(5)
أ، ح، و، ر، ي: يَقُولُونَهُ.
(6)
هُوَ: زِيَادَةٌ فِي (ن) ، (م) .
(7)
ب فَقَطْ: وَجَبَتْ.
وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ. وَصَنَّفَ الْمُزَنِيُّ مُصَنَّفًا رَدَّ فِيهِ عَلَى مَالِكٍ ثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً مِنْهَا هَذِهِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَى الْمُزَنِيِّ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ (1) وَصَاحِبُهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ إِنْ (2) فُعِلَتْ كَمَا أُمِرَ بِهَا الْعَبْدُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْعَلْ كَمَا أُمِرَ بِهَا الْعَبْدُ فَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ، فَيُعِيدُهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ. وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ وَاجِبٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ قَطُّ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ أَوْكَدَ مِمَّا تَرَكَ لَمْ يُعِدْ بَعْدَ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْوَقْتِ يُمْكِنُهُ تَلَافِيهَا ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ النَّجَاسَةِ أَوْ عُرْيَانًا خَيْرٌ مِنَ الصَّلَاةِ بِلَا نَجَاسَةٍ بَعْدَ الْوَقْتِ، فَلَوْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يُعِيدَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَكُنَّا نَأْمُرُهُ بِأَنْقَصِ مِمَّا صَلَّى، وَهَذَا لَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ رُكْنًا مِنْهَا، فَذَاكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَيُعِيدُ بَعْدَ الْوَقْتِ.
وَهَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ وَاجِبَاتِهَا (3) مَا هُوَ رُكْنٌ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ تَتِمُّ بِدُونِهِ (4) ، إِمَّا مَعَ السَّهْوِ وَإِمَّا مُطْلَقًا. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ فِيهَا مَا لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ الْإِعَادَةُ بِحَالٍ. فَإِذَا
(1) ن، م: الْبُهْرِيُّ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ التَّمِيمِيُّ الْأَبْهَرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ 289 وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 375، لَهُ تَصَانِيفُ فِي شَرْحِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالرَّدِّ عَلَى مُخَالِفِيهِ انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي: تَارِيخِ بَغْدَادَ 5/462 - 463، الْأَعْلَامِ 7/98
(2)
ن، م: إِذَا.
(3)
بَعْدَ عِبَارَةِ مِنْ وَاجِبَاتِهَا، يُوجَدُ سَقْطٌ طَوِيلٌ فِي نُسْخَةِ (ي) ، يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ نَتِيجَةَ ضَيَاعِ أَوْرَاقٍ مِنَ الْمَخْطُوطَةِ إِذْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّفْحَةِ التَّالِيَةِ يَبْدَأُ بِعِبَارَةِ بِهِ الشِّرْكُ بَلْ أَرَادَتِ التَّقِيَّ الَّذِي لَا يُقْدِمُ عَلَى الْفُجُورِ، وَوَجَدْتُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي ص 3/73 (ب) .
(4)
ر، ح: تَتِمُّ بِهِ.
أَوْجَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِيهَا مَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الشَّرْعِ. وَأَحْمَدُ مَعَ مَالِكٍ يُوجِبَانِ فِيهَا مَا يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ وَيُجْبَرُ بِالسُّجُودِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْوَاجِبُ إِذَا تَرَكَهُ عَمْدًا أَمَرَهُ أَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ بِالْإِعَادَةِ كَمَا لَوْ تَرَكَ فَرْضًا، وَأَمَّا مَالِكٌ فَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلَانِ فِيمَنْ تَرَكَ مَا يَجِبُ السُّجُودُ لِتَرْكِهِ سَهْوًا، كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَتَرْكِ تَكْبِيرَتَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ قِرَاءَةِ (1) السُّورَةِ وَالْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي مَوْضِعِهِمَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ مِنْهَا مَا يُجْبَرُ الْحَجُّ مَعَ تَرْكِهِ، وَمِنْهَا مَا يَفُوتُ الْحَجُّ مَعَ تَرْكِهِ فَلَا يُجْبَرُ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَكَذَلِكَ (2) الصَّلَاةُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ إِذَا تُرِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ، كَالْجُمُعَةِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ ; فَإِنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ الْوَقْتِ عِبَادَةٌ لَا تُشْرَعُ إِلَّا إِذَا شَرَعَهَا الشَّارِعُ، فَلَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً إِلَّا بِشَرْعِهِ، وَلَا وَاجِبَةً إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ (3) لَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ رَمْيُ الْجِمَارِ لَا تُرْمَى بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى، سَوَاءٌ فَاتَتْهُ (4) لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ (5) . كَذَلِكَ الْجُمُعَةُ لَا يَقْضِيهَا الْإِنْسَانُ سَوَاءٌ فَاتَتْهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ
(1) أَوْ قِرَاءَةِ: كَذَا فِي (م) ، (ح)، (ب) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَقِرَاءَةِ.
(2)
ن، م: وَكَذَلِكَ.
(3)
ن، م، و: أَوْ غَيْرِهِ.
(4)
أ: فَاتَهُ، ن، م: فَاتَتْ.
(5)
ن، م: لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، ح: لِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، و، ر: بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
عُذْرٍ (1) ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَوَّتَهَا (2) أَهْلُ الْمِصْرِ كُلُّهُمْ لَمْ يُصَلُّوهَا (3) يَوْمَ السَّبْتِ.
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْذُورَ يُصَلِّيهَا إِذَا أَمْكَنَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» "(4) . وَكَذَلِكَ صَوْمُ رَمَضَانَ أَمْرَ اللَّهُ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ وَالْحَائِضَ أَنْ يَصُومُوا (5) نَظِيرَهُ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَالْوَقْتُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقْتٌ (6) لِجَوَازِ فِعْلِهِمَا (7) جَمِيعًا عِنْدَ الْعُذْرِ، وَإِنْ فُعِلَتَا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفَاعِلُهُمَا آثِمٌ، لَكِنَّ هَذِهِ قَدْ فُعِلَتْ فِي وَقْتٍ هُوَ وَقْتُهَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ، وَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ، مَعَ ذَمِّهِمْ وَظُلْمِهِمْ. وَأُولَئِكَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ، فَجَاءَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ (8) فَصَارُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ الْأُولَى دَائِمًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَدَخَلَ فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرِكِ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْعُذْرِ، مِنْ تَأْوِيلِ الْوُلَاةِ وَتَصْحِيحِ الصَّلَاةِ مَعَ إِثْمِ التَّفْوِيتِ، مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي التَّفْوِيتِ الْمُطْلَقِ ; كَمَنْ يُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ عَمْدًا وَيَقُولُ: أَنَا أَصُومُ فِي شَوَّالٍ، أَوْ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ
(1) ن: بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، م: بِعُذْرٍ وَلَا بِغَيْرِهِ.
(2)
ح: لَوْ سَهَى.
(3)
و: وَكَذَلِكَ لَوْ فَوَّتَ أَهْلُ الْمِصْرِ كُلُّهُمْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يُصَلُّوهَا.
(4)
سَبَقَ الْحَدِيثُ قَبْلَ صَفَحَاتٍ ص 212
(5)
أ، و، ر: أَنْ يَصُومَ، ح، ب: أَنْ تَصُومَ.
(6)
وَقْتٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .
(7)
ن، م: فِعْلِهَا.
(8)
و: طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ.
عَمْدًا، وَيَقُولُ: أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَيُؤَخِّرُ (1) الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَيَقُولُ: أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْفَجْرِ، أَوْ يُؤَخِّرُ الْفَجْرَ وَيَقُولُ: أُصَلِّيهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَهَذَا تَفْوِيتٌ مَحْضٌ بِلَا عُذْرٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ «فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» "، وَقَالَ:" «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» "(2)، فَلَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِدْرَاكُ لَمْ يُحْبَطْ عَمَلُهُ. وَقَوْلُهُ:" «وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» " أَيْ صَارَ وِتْرًا لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا مَالَ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُهَا مُمْكِنًا بِاللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ مَوْتُورًا.
وَقَالَ: " «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ» "(3) فَلَوْ كَانَ فِعْلُهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ صَحِيحًا مُطْلَقًا، لَكَانَ مُدْرِكًا، سَوَاءٌ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَوْ لَمْ يُدْرِكْ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِلَا إِثْمٍ، بَلْ يَأْثَمُ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ تُصَلَّى الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا الَّذِي حَدَّهُ، وَأَنْ لَا يُؤَخَّرَ الْعَصْرُ إِلَى مَا بَعْدَ الِاصْفِرَارِ، فَفِعْلُهَا قَبْلَ الِاصْفِرَارِ وَاجِبٌ بِأَمْرِهِ، وَقَوْلُهُ:" «صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا» "(4) . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْإِدْرَاكَ لَا يَرْفَعُ الْإِثْمَ عَنْ غَيْرِ الْمَعْذُورِ، بَلْ يَكُونُ
(1) ب فَقَطْ: أَوْ يُؤَخِّرُ.
(2)
مَضَى هَذَانِ الْحَدِيثَانِ قَبْلَ صَفَحَاتٍ ص 212
(3)
ب فَقَطْ: فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ، وَسَبَقَ الْحَدِيثُ قَبْلَ صَفَحَاتٍ ص [0 - 9] 11
(4)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ مُطَوَّلًا قَبْلَ صَفَحَاتٍ 5/209 وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ جُزْءٌ مِنْ عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَجَاءَتْ أَحْيَانًا بِلَفْظِ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَأَحْيَانًا بِلَفْظِ صَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَجَمَعَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي صَحِيحِهِ 1/448 - 449 كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعُ الصَّلَاةِ، بَابُ كَرَاهِيَةِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ، وَهِيَ أَحَادِيثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه جَاءَ فِي أَوَّلِهَا: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قَالَ: قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: (صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ.) وَفِي آخِرِ حَدِيثِ رَقْمِ 244 قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً) وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِمَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنهم فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/173 - 174 كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ إِذَا أَخَّرَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ عَنِ الْوَقْتِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 1/113 - 114 كِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِ الصَّلَاةِ إِذَا أَخَّرَهَا الْإِمَامُ، سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ 1/398 - 399 كِتَابُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِيمَا إِذَا أَخَّرُوا الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا.
قَدْ صَلَّاهَا مَعَ الْإِثْمِ، فَلَوْ كَانَتْ أَيْضًا تُصَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ مَعَ الْإِثْمِ، لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يُصَلِّيهَا عِنْدَ الِاصْفِرَارِ أَوْ يُصَلِّيهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: ذَاكَ أَعْظَمُ إِثْمًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كُلَّمَا أَخَّرَهَا كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا، فَحَيْثُ جَازَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُوبِ التَّقْدِيمِ كُلَّمَا أَخَّرَ الْقَضَاءَ كَانَ أَعْظَمَ لِإِثْمِهِ.
وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا ; [فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا](1) . وَإِذَا أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَثِمَ، كَمَا يَأْثَمُ مَنْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ عَلَى الْفَوْرِ، وَيَصِحُّ فِعْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتِ الْعَصْرَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، لَمْ يَكُنْ لِتَحْدِيدِ وَقْتِهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَوْلُهُ:" «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ» "(2) فَائِدَةٌ، بَلْ كَانَتْ تَكُونُ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْفَوْرِ إِذَا أَخَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ تَكُونُ كَالْمَغْرِبِ إِذَا أَخَّرَهَا إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَدْ يَجُوزُ، بَلْ يُسَنُّ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ، كَمَا يُسَنُّ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .
(2)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ صَفَحَاتٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ 5/12
وَأَمَّا فِعْلُ الْعَصْرِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ (1) ، فَلَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ قَطُّ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ، كَمَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَالصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ عَلَى أَيِّ حَالٍ بِتَرْكِ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ، أَوْ بِلَا قِرَاءَةٍ، أَوْ بِلَا إِتْمَامِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَوْ يُصَلِّي عُرْيَانًا، أَوْ كَيْفَمَا أَمْكَنَ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ مَعَ تَمَامِ الْأَفْعَالِ. وَهَذَا مِمَّا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَامَّتُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
فَعُلِمَ أَنَّ الْوَقْتَ مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ. وَحِينَئِذٍ فَمَنْ صَلَّى فِي الْوَقْتِ بِلَا قِرَاءَةٍ، أَوْ عُرْيَانًا مُتَعَمِّدًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، إِذَا أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوَقْتِ بِقِرَاءَةٍ وَسُتْرَةٍ، كَانَ مَا أُمِرَ بِهِ دُونَ مَا فَعَلَهُ. وَلِهَذَا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا أَحَدُهُمَا، وَجَبَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ بِلَا قِرَاءَةٍ وَلَا سُتْرَةٍ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوَقْتِ بِقِرَاءَةٍ وَسُتْرَةٍ.
فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْوِيتَ (2) مَا بَقِيَ اسْتِدْرَاكُهُ مُمْكِنًا، وَأَمَّا الْمَعْذُورُ فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، فَمَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ أَوْ بَعْضَ وَاجِبَاتِهَا صَلَّاهَا مَتَى ذَكَرَهَا (3)، وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ وَإِذَا قِيلَ: صَلَاتُهُ فِي الْوَقْتِ كَانَتْ أَكْمَلَ.
قِيلَ: نَعَمْ، لَكِنَّ تِلْكَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ بِالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ، كَمَا نَقُولُ فِي الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ
(1) ح، ب: بَعْدَ الْغُرُوبِ.
(2)
ح، ب: التَّوْقِيتَ.
(3)
ن، م، و: مَتَى ذَكَرَ.
فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَهِيَ حِينَئِذٍ مَأْمُورَةٌ بِالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَتَكُونُ مُصَلِّيَةً لِلظُّهْرِ فِي وَقْتِهَا أَدَاءً، وَكَذَلِكَ إِذَا طَهُرَتْ آخِرَ اللَّيْلِ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَكَانَتِ الْمَغْرِبُ فِي حَقِّهَا أَدَاءً كَمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (1) صلى الله عليه وسلم: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي كَانَ الصَّحَابَةُ يَعْرِفُونَهَا ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يَقَعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ الْمَوَاقِيتَ ثَلَاثَةً فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ، وَهَذِهِ مَعْذُورَةٌ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ " وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2) ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ مُشْتَرَكٌ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ، فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ.
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ، وَطَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، كَالْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، قَالُوا: تَجِبُ النِّيَّةُ فِي الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ النِّيَّةُ لَا لِهَذَا وَلَا لِهَذَا. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ (3) ، وَهُوَ الصَّوَابُ، كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (4) .
وَقَضِيَّةُ (5) الْحَائِضِ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الَّذِي أَمَرَ بِهَا
(1) ح، ب: النَّبِيِّ.
(2)
بْنِ حَنْبَلٍ: زِيَادَةٌ فِي (ح) ، (ب) .
(3)
عِبَارَةُ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.
(4)
ن، م: فِي مَوْضِعِهِ.
(5)
وَقَضِيَّةُ: كَذَا فِي (أ)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: قِصَّةُ.
فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَكَانَتِ الْحَائِضُ تُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ أَمْرَ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ (1) .
فَإِذَا قِيلَ: يُسْقَطُ الْقَضَاءُ عَنْهَا تَخْفِيفًا.
قِيلَ: فَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُصَلِّيَ قَضَاءً لِتُحَصِّلَ (2) ثَوَابِ الصَّلَاةِ الَّتِي فَاتَتْهَا، لَمْ يَكُنْ هَذَا مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تُصَلَّى مِنَ النَّوَافِلِ مَا ; شَاءَتْ فَإِنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مَأْمُورَةً بِهَا فِي وَقْتِهَا. وَالصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ الْعَبْدَ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَعْذُورًا مِنْ نَائِمٍ وَنَاسٍ وَمُخْطِئٍ، فَهَؤُلَاءِ مَأْمُورُونَ بِهَا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، فَلَمْ يُصَلُّوا إِلَّا فِي وَقْتِ الْأَمْرِ، كَمَا أُمِرَتِ الْحَائِضُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي الْمُتَعَمِّدِ لِفِطْرِهِ: لَا يَجْزِيهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَلَوْ صَامَهُ.
قَالُوا: وَالنَّاسِي إِنَّمَا أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِذَا ذَكَرَهَا، لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ، فَلَمْ يُصَلِّ إِلَّا فِي وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ النَّائِمُ إِذَا اسْتَيْقَظَ إِنَّمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ.
قَالُوا: وَلَمْ يُجَوِّزِ اللَّهُ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا، وَلَا يَقْبَلَهَا مِنْهُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَلْبَتَّةَ. وَكَذَلِكَ شَهْرُ رَمَضَانَ. وَفِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنَّ صَامَهُ» "(3) قَالُوا: وَإِنَّمَا يَقْبَلُ اللَّهُ صِيَامَهُ فِي غَيْرِ الشَّهْرِ مِنَ الْمَعْذُورِ،
(1) ن، م، و، أ: إِيجَابٍ أَوِ اسْتِحْبَابٍ.
(2)
ن، م: لِتَحْصِيلِ.
(3)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 3/32 كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 2/422 - 423 كِتَابُ الصَّوْمِ بَابُ التَّغْلِيظِ فِيمَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 2/113 كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْإِفْطَارِ مُتَعَمِّدًا.
كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ، وَمَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الشَّهْرُ فَتَحَرَّى فَصَامَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجْزِيهِ الصِّيَامُ، أَمَّا الْمُعْتَمِدُ لِلْفِطْرِ فَلَا.
قَالُوا: وَلِهَذَا لَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي جَامَعَ أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ بِصَوْمٍ، بَلْ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ فَقَطْ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ أَمْرِهِ بِالْقَضَاءِ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ ضَعَّفَهُ الْعُلَمَاءُ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ (1) . وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الَّذِي يَسْتَقِيءُ عَمْدًا أَنَّهُ يُعِيدُ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمَعْذُورَ الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقَاءُ، أَوِ الْمَرِيضُ الَّذِي احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَسْتَقِيءَ فَاسْتِقَاءَ ; فَإِنَّ الِاسْتِقَاءَةَ لَا تَكُونُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَإِلَّا فَلَا يَقْصِدُ الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَقِيءَ بِلَا حَاجَةٍ (2) ، فَيَكُونُ الْمُسْتَقِيءُ مُتَدَاوِيًا بِالِاسْتِقَاءَةِ، كَمَا يَتَدَاوَى
(1) انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي 3/109 - 110 عَنْ حُكْمِ مَنْ جَامَعَ أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ، وَرَأْيَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِيهَا، وَرَأْيَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُجَامِعِ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْأَثْرَمُ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَلْزَمُهُ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ. قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا صَائِمٌ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَأَعْطَاهُ عَرَقَ فِيهِ تَمْرٌ وَأَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ وَقَالَ لَهُ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ. وَانْظُرْ مَا ذَكَرَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ 4/88 - 93 وَكَلَامُهُ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ وَمُخَالَفَتُهُ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِكَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ 4/150 حَيْثُ قَالَ: وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ تَعْرِفُ أَنَّ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ قَوْلُ النَّبِيِّ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ أَصْلًا.
(2)
ن، م: لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
بِالْأَكْلِ، وَهَذَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْقَضَاءُ وَيُؤْمَرُ بِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، وَبِكُلِّ حَالٍ هَذَا مَعْنَاهُ (1) .
فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ هُوَ الَّذِي رَوَى حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ، وَحَدِيثَ:" «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ» " فَتُحْمَلُ أَحَادِيثُهُ عَلَى الِاتِّفَاقِ لَا عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ (2) دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، وَابْنِ حَزْمٍ (3) ، وَغَيْرِهِمْ.
قَالُوا: وَالْمُنَازِعُونَ لَنَا لَيْسَ لَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ يُرَدُّ إِلَيْهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: لَا يُجِبِ الْقَضَاءُ إِلَّا بِأَمْرٍ ثَانٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ هُنَا أَمْرٌ.
وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَقَطْ، بَلْ نُنَازِعُ فِي قَبُولِ الْقَضَاءِ مِنْهُ وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، فَنَقُولُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُخْتَصِّ وَالْمُشْتَرَكِ، الْمُضَيَّقِ وَالْمُوَسَّعِ، كَالْجُمُعَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَكَالْحَجِّ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَكَرَمْيِ الْجِمَارِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا. وَالْوَقْتُ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ مِنْ آكَدِ وَاجِبَاتِهِ، فَكَيْفَ تُقْبَلُ الْعِبَادَةُ بِدُونِ صِفَاتِهَا (4) الْوَاجِبَةِ فِيهَا؟ .
(1) انْظُرْ كَلَامَ الْأَلْبَانِيِّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ 4/51 - 53 وَقَدْ صَحَّحَهُ مَرْفُوعًا وَنَصُّهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمِنِ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ. عَلَى أَنْ لِلْحَدِيثِ وَجْهًا آخَرَ ضَعِيفٌ، انْظُرْ 4/53
(2)
ن، م: وَقَوْلُ.
(3)
انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنِ اسْتَقَاءَ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِلْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ فِي الْمُحَلَّى 6/175 - 177، 180 - 185
(4)
ح، ب: صِفَتِهَا.
وَهُوَ لَوْ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ إِلَّا بَاطِلَةً، وَكَذَلِكَ إِذَا صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْمَغْرِبَ قَبْلَ الْمَغِيبِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا، مِثْلَ الْأَسِيرِ إِذَا ظَنَّ دُخُولَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ، وَمِثْلَ الْمُسَافِرِ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا اجْتَهَدُوا فَصَلَّوُا الظُّهْرَ: قَبْلَ الزَّوَالِ أَوِ الْمَغْرِبَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ; فَهَؤُلَاءِ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُمْ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرَكِ، كَصَلَاةِ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَالْعِشَاءِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ، فَقِيَاسُ الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُ، فَإِنَّهُ جَمَعَ لِعُذْرٍ وَهُوَ لَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ أَجْزَأَهُ لِجَوَازِ الْجَمْعِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُصَلِّهَا مَعَ الْمَغْرِبِ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ أَمْثَالِهِ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ وَتَقْدِيمُ الْعَصْرِ، وَتَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ وَتَقْدِيمُ الْعِشَاءِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ إِذَا فُعِلَتْ هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ الْخَاصِّ أَجْزَأَتْهُ.
قَالُوا: فَالنِّزَاعُ فِي صِحَّةِ مِثْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، كَالنِّزَاعِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ [لَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَقْتِ](1) .
قَالَ لَهُمُ الْأَوَّلُونَ: مَا قِسْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَرَمْيِ الْجِمَارَ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ فِي الشَّرْعِ بِحَالٍ، لَا لِمَعْذُورٍ وَلَا لِغَيْرِ مَعْذُورٍ (2) . فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُخْتَصَّةٌ بِزَمَانٍ كَمَا هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِمَكَانٍ.
(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) .
(2)
ن، م، و: وَلَا لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَيَجُوزُ فِعْلُهَا لِلْمَعْذُورِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَوْقَاتِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ يَصِحُّ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ، وَأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ شَرْطًا فِيهَا، كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ.
قَالَ الْآخَرُونَ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ وَقْتِهَا لِلْمَعْذُورِ، تَوْسِعَةً مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً (1) ، وَأَمَّا النَّائِمُ وَالنَّاسِي فَلَا (2) ذَنْبَ لَهُمَا، فَوَسَّعَ اللَّهُ لَهُمَا عِنْدَ الذِّكْرِ وَالِانْتِبَاهِ، إِذَا كَانَ لَا يُمْكِنُهُمَا الصَّلَاةُ إِلَّا حِينَئِذٍ. فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِمُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الَّذِي لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَفْوِيتِهَا؟ وَالْحَجُّ إِذَا فَاتَهُ فِي عَامٍ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ فِي عَامٍ قَابِلٍ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ إِذَا فَاتَهُ جُعِلَ لَهُ بَدَلٌ عَنْهَا وَهُوَ النُّسُكُ. وَالْجُمُعَةُ إِذَا فَاتَتْ صَلَّى الظُّهْرَ. فَكَانَ (3) الْمَعْذُورُ إِذَا فَاتَتْهُ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْمُؤَقَّتَةُ شَرَعَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِهَا، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْذُورِ فَجُعِلَ لَهُ الْبَدَلُ أَيْضًا فِي الْحَجِّ، لِأَنَّ الْحَجَّ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ ; فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ جَازَ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُفْرِطًا (4) فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَأْتِيَ هُوَ بِالْبَدَلِ بِطَرِيقِ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى ; فَإِنَّ الدَّمَ الَّذِي يُخْرِجُهُ هُوَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجُمُعَةُ إِذَا فَاتَتْهُ، فَإِنَّمَا يُصَلِّي الظُّهْرَ، لِأَنَّهَا الْفَرْضُ الْمُعْتَادُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لَا لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْجُمُعَةِ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ: إِمَّا
(1) ح، ر: وَرَحْمَةً لَهُمَا.
(2)
أ، ب: لِأَنَّ النَّائِمَ وَالنَّاسِيَ لَا.
(3)
ن، م، و: وَكَانَ.
(4)
ح: مَفْرُوضًا.
الْجُمُعَةُ وَإِمَّا الظُّهْرُ ; فَإِذَا أَمْكَنَهُ (1) الْجُمُعَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ صَلَّى الظُّهْرَ، فَإِذَا فَاتَتِ الْجُمُعَةُ أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا إِذَا فَاتَتِ الْجُمُعَةُ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ فَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ صَوْمُ رَمَضَانَ إِنْ (2) كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَإِلَّا سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ، وَأَطْعَمَ هُوَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِيَامِ الْإِنْسَانِ عَنْ وَلِيِّهِ، فَذَاكَ فِي النُّذُرِ، كَمَا فَسَّرَتْهُ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ رَوَوْهُ بِهَذَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ ; فَإِنَّهُ قَالَ:" «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» "(3) وَالنَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ (4) عَلَيْهِ، وَأَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا هُوَ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ سَاقِطٌ عَنِ الْعَاجِزِ عَنْهُ.
فَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَصِيَامُ رَمَضَانَ لَا يَفْعَلُهُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ أَصْلًا، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَدَلٌ، بِخِلَافِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَلِهَذَا وَسَّعَ الشَّارِعُ فِي قَضَائِهِمَا لِلْمَعْذُورِ لِحَاجَتِهِ بِهِ إِلَى ذَلِكَ تَوْسِعَةً مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَغَيْرُهُمَا لَمْ يُوَسِّعْ فِي قَضَائِهِ لِأَحَدٍ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ (5) إِلَى قَضَائِهِ لِمَا شُرِعَ مِنَ الْبَدَلِ،
(1) ن، م: أَمْكَنَتْهُ، ح: أَمْكَنَتْ.
(2)
ح، ب: إِذَا.
(3)
الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي: الْبُخَارِيِّ 3/35 كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ مُسْلِمٍ 2/803 كِتَابُ الصِّيَامِ، بَابُ قَضَاءِ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ، سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ 2/423 - 424 كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابٌ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا فِي النُّذُرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
(4)
ن، م، و: فَهُوَ.
(5)
بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
إِمَّا عِبَادَةٌ أُخْرَى كَالظُّهْرِ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَالدَّمِ عَنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَإِمَّا فِعْلُ الْغَيْرِ، كَالْحَجِّ عَنِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَيِّتِ.
فَهَذَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ مَنْ وَسَّعَ فِيهِمَا لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ (1) كَمَا يُوَسِّعُ لِلْمَعْذُورِ فَقَدْ أَخْطَأَ الْقِيَاسَ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّا لَمْ نَقِسْ قِيَاسًا اسْتَفَدْنَا بِهِ حُكْمَ الْفَرْعِ مِنَ الْأَصْلِ ; فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْقِيَاسِ مَعَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ ذَكَرْنَا الْقِيَاسَ لِيَتَصَوَّرَ الْإِنْسَانُ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ فِي هَذَا، كَمَا يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلتَّفْهِيمِ وَالتَّصْوِيرِ، لَا لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ.
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ، حَيْثُ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تَأْخِيرَهَا، بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ. وَالْمَقْصُودُ تَمْثِيلُ الْحُكْمِ بِالْحُكْمِ، لَا تَمْثِيلُ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ، فَيُعْرَفُ (2) أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَا بَقِيَتْ تُقْبَلُ وَلَا تَصِحُّ، كَمَا لَا تُقْبَلُ هَذِهِ وَلَا تَصِحُّ ; فَإِنَّ مِنَ الْجُهَّالِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ تَهْوَيْنُ (3) أَمْرِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ مَنْ فَوَّتَهَا سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ، فَيَدْعُو ذَلِكَ السُّفَهَاءَ إِلَى تَفْوِيتِهَا.
وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ، بَلْ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَنْ فَوَّتَهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَلَكِنَّ تَفْوِيتَ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِثْلَ تَفْوِيتِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَمْدًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مِنْ
(1) ن، م: أَنَّ مَنْ وَسَّعَ لِغَيْرِهِ.
(2)
ن: فَيُعْلَمُ.
(3)
ح، ب: تُوهِيَنُ.
جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي صَلَاةَ النَّهَارِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، فَهُوَ كَمَنْ قَالَ: لَا أَصُومُ رَمَضَانَ (1) إِلَّا فِي شَوَّالٍ، فَإِنْ كَانَ يَسْتَجِيزُ تَأْخِيرَهَا وَيَرَى ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ، فَهُوَ كَمَنْ يَرَى تَأْخِيرَ رَمَضَانَ جَائِزًا. وَهَذَا وَهَذَا يَجِبُ (2) اسْتِتَابَتُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ تَابَا وَاعْتَقَدَا وُجُوبَ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي وَقْتِهِمَا وَإِلَّا قُتِلَا.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ وَالْجُهَّالِ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ تَأْخِيرِهَا إِلَى اللَّيْلِ بِأَدْنَى شُغْلٍ، وَيَرَى أَنَّ صَلَاتَهَا بِاللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ أَنَّ يُصَلِّيَهَا بِالنَّهَارِ مَعَ الشُّغْلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هَذَا كُفْرٌ (3) . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَرَى جَوَازَهَا فِي الْوَقْتِ إِلَّا مَعَ كَمَالِ الْأَفْعَالِ، وَأَنَّهُ إِذَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْوَقْتِ مَعَ كَمَالِ الْأَفْعَالِ كَانَ أَحْسَنَ، وَهَذَا بَاطِلٌ، بَلْ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ تَجْوِيزُ الْقَضَاءِ لِغَيْرِ الْمَعْذُورِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّهَا تَصِحُّ وَتُقْبَلُ وَإِنْ أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ، فَجَعَلُوا فِعْلَهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ كَفِعْلِ الْعَصْرِ بَعْدَ الِاصْفِرَارِ، وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ. فَلَوْ عَلِمَتِ الْعَامَّةُ أَنَّ تَفْوِيتَ الصَّلَاةِ كَتَفْوِيتِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، لَاجْتَهَدُوا فِي فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّ رَمَضَانَ يَشْتَرِكُ فِي صَوْمِهِ جَمِيعُ النَّاسِ، وَالْوَقْتُ مُطَابِقٌ لِلْعِبَادَةِ لَا يُفْصَلُ (4) عَنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ شُرُوطٌ كَالصَّلَاةِ. وَالصَّلَاةُ وَقْتُهَا مُوَسَّعٌ، فَيُصَلِّي بَعْضُ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَبَعْضُهُمْ فِي
(1) ن: لَا أَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ.
(2)
ح: وَهَذَا قَدْ يَجِبُ، ر، م: وَهَذَا يَجِبُ، ب: وَهَذَانِ يَجِبُ.
(3)
ن، م: بَلْ هُوَ كُفْرٌ.
(4)
ح، ب: لَا يَنْفَصِلُ.
آخِرِهِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، وَفِيهَا وَاجِبَاتٌ يَظُنُّ الْجُهَّالُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا مَعَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ مُطْلَقًا، فَيَقُولُونَ: نَفْعَلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ.
فَهَذَا الْجَهْلُ أَوْجَبَ تَفْوِيتَ الصَّلَاةِ التَّفْوِيتَ (1) الْمُحَرَّمَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ فَوَّتَهَا: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ، أَوْ تَسْقُطُ عَنْكَ الصَّلَاةُ، وَإِنْ قَالَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَكِنْ يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّكَ بِمَنْزِلَةٍ مَنْ زَنَى وَقَتَلَ النَّفْسَ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ عَمْدًا، إِذْ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا مَا بَقِيَ لَهُ جُبْرَانٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ. بَلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْكَبَائِرِ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَيْفَ بِالتَّفْوِيتِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؟ وَحِينَئِذٍ فَعَلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ أَكْثَرَ مِنْ قَضَائِهَا، فَصَلِّ صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً، لَعَلَّهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهَا عَنْكَ مَا فَوَّتَّهُ، وَأَنْتِ مَعَ ذَلِكَ عَلَى خَطَرٍ، وَتَصَدَّقْ فَإِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَلْهَاهُ بُسْتَانُهُ عَنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَتَصَدَّقَ بِبُسْتَانِهِ.
وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِسَبَبِ الْخَيْلِ، طَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ، فَعَقَرَهَا كَفَّارَةً لِمَا صَنَعَ.
فَمَنْ فَوَّتَ صَلَاةً وَاحِدَةً عَمْدًا فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً عَظِيمَةً، فَلْيَسْتَدْرِكْ بِمَا أَمْكَنَ مِنْ تَوْبَةٍ وَأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ. وَلَوْ قَضَاهَا لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ (2) الْقَضَاءِ رَافِعًا إِثْمَ مَا فَعَلَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْقَضَاءُ، يَقُولُونَ: نَأْمُرُهُ بِأَضْعَافِ الْقَضَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وَإِذَا قَالُوا: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، فَلِأَنَّ الْقَضَاءَ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَةٌ، كَمَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ. وَالرَّحْمَةُ وَالتَّخْفِيفُ تَكُونُ لِلْمَعْذُورِ وَالْعَاجِزِ، لَا تَكُونُ
(1) التَّفْوِيتَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(2)
مُجَرَّدُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ر) .
لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ الْمُتَعَمِّدِينَ لَهَا، الْمُفَرِّطِينَ فِي عَمُودِ الْإِسْلَامِ.
وَالصَّلَاةُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَعَجَزَ عَنْهُ، أَوْ نَذَرَ صِيَامًا أَوْ حَجًّا فَمَاتَ، هَلْ يُفْعَلُ عَنْهُ؟ فَقَالَ:" «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ أَوْ أُمِّكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أَمَا كَانَ يُجْزِي عَنْهُ؟ " قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَاللَّهُ (1) أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» "(2) . وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِقَبُولِ الْقَضَاءِ عَنِ الْمَعْذُورِ مِنْ بَنِي آدَمَ ; فَإِنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ وَأَكْرَمُ، فَإِذَا كَانَ الْآدَمِيُّونَ يَقْبَلُونَ الْقَضَاءَ عَمَّنْ مَاتَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِقَبُولِهِ أَيْضًا، لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُقْضَى حُقُوقُهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْمَيِّتِ، وَهِيَ أَوْجَبُ مَا يُقْضَى مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ دَيْنَ الْمَيِّتِ لَا يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ قَضَاؤُهُ، لَكِنْ يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ فِعْلُ مَا وَجَبَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ.
وَالسَّائِلُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنِ الْإِجْزَاءِ وَالْقَبُولِ، لَمْ يَسْأَلْ عَنِ الْوُجُوبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجَابَ عَنْ سُؤَالِهِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَقَبُولِ الْقَضَاءِ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ (3) ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلْمَعْذُورِ (4) . وَأَمَّا صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ الْمُفَوِّتُ عَمْدًا (5) فَلَا يَسْتَحِقُّ تَخْفِيفًا وَلَا رَحْمَةً، لَكِنْ إِذَا تَابَ فَلَهُ
(1) ح، ب: إِنَّ اللَّهَ.
(2)
الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي: مُسْلِمٍ 2/804 كِتَابُ الصِّيَامِ بَابُ قَضَاءِ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ، سُنَنَ التِّرْمِذِيِّ 2/110 كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ بُرَيْدَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(3)
وَالرَّحْمَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح)(ر) .
(4)
ح، ر: لِلْمَعْرِفَةِ.
(5)
ح، ب: الْكَبِيرَةِ الْمُتَعَمِّدُ، وَسَقَطَتْ عِبَارَةُ (الْمُفَوِّتُ عَمْدًا) مِنْ (و) .
أُسْوَةٌ بِسَائِرِ التَّائِبِينَ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَيَجْتَهِدُ فِي طَاعَةِ (1) اللَّهِ وَعِبَادَاتِهِ بِمَا أَمْكَنَ، وَالَّذِينَ أَمَرُوهُ بِالْقَضَاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ (2) لَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ [يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِثْمُ، بَلْ يَقُولُونَ: بِالْقَضَاءِ](3) يَخِفُّ عَنْهُ الْإِثْمُ، وَأَمَّا إِثْمُ التَّفْوِيتِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا فَهُوَ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَحْتَاجُ: إِمَّا إِلَى تَوْبَةٍ، وَإِمَّا إِلَى حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، وَإِمَّا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْقُطُ بِهِ الْعِقَابُ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الطَّاقَةِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، كَالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ مُدِحَ مِنَ الْأُمَّةِ (4) أَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ عَلَى شَيْءٍ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَفَعَ بِهِ قَدْرَهُ، فَهُوَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، فَالثَّوَابُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ (5) ، وَالنُّصْرَةُ لِمَنْ نَصَرَهُ، وَالسَّعَادَةُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ (6) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالْمُعَلِّمِينَ لِلنَّاسِ دِينَهُ، وَالْحَقُّ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ وَأَتْبَعُهُمْ لَهُ أَعَمَلُهُمْ بِسُنَّتِهِ وَأَتْبَعُهُمْ لَهَا، وَكُلُّ قَوْلٍ خَالَفَ قَوْلَهُ فَهُوَ إِمَّا دِينٌ مَنْسُوخٌ وَإِمَّا دِينٌ مُبَدَّلٌ لَمْ يُشْرَعْ قَطُّ.
وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي مُفَاوَضَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ رضي الله عنه: " خَيْرُنَا أَتْبَعْنَا لِهَذَا الدِّينِ " وَعُثْمَانُ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ [رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ](7) .
(1) ح، ب: طَاعَاتِ.
(2)
مِنَ الْعُلَمَاءِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(3)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(4)
ر، ح: الْأَئِمَّةِ.
(5)
الرَّسُولُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) ، (أ) .
(6)
ن: وَسَلَامُهُ، أ: وَالْمَلَائِكَةُ.
(7)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .