المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أهل الكتاب معهم حق وباطل] - منهاج السنة النبوية - جـ ٥

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي كلام الرافضي على فضائل علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الكلام على حَدِيثُ الْكِسَاءِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ كلام الرافضي عن قوله تعالي فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ تابع كلام الرافضي عن فضائل علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ نسب الرافضي حديثا موضوعا إلى الإمام أحمد أن علي هو الوصي والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ تابع كلام الرافضي عن فضائل علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ السَّابِعُ حديث موضوع آخر يذكره الرافضي في فضائل علي والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّامِنُ حديث آخر صحيح يذكره الرافضي قال لعلي أنت مني وأنا منك والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ التَّاسِعُ تابع كلام الرافضي عن فضائل علي وقول عمرو بن ميمون والرد عليه]

- ‌[الْفَصْلُ الْعَاشِرُ كلام الرافضي عن فضائل علي وكلام أَخْطَبُ خَوَارِزْمَ والرد عليه]

- ‌[قول الرافضي " المطاعن في الصحابة كثيرة إلا آل البيت " والرد عليه]

- ‌[قاعدة جامعة " لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ يَرُدُّ إِلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتِ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ]

- ‌[الكلام فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ وَتَأْثِيمِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ]

- ‌[فَصْلٌ كَلَامُ الذَّامِّ لِلْخُلَفَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ هُوَ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى]

- ‌[زعم الرافضة أن إِجْمَاعَهم هُوَ إِجْمَاعُ الْعِتْرَةِ وَأن إِجْمَاعُ الْعِتْرَةِ مَعْصُومٌ]

- ‌[الحق لا يخرج عن أهل السنة]

- ‌[إجماع الصحابة يغني عن دعوى أي إجماع آخر]

- ‌[أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ]

- ‌[أقوال الرافضة التي انْفَرَدُوا بِهِا عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ]

- ‌[الأقوال التي انفردت بها الطوائف الْمُنْتَسِبة إِلَى السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ]

- ‌[الحق دائما مع السنة والآثار الصحيحة]

- ‌[فَصْلٌ اللَّهَ أَمَرَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَسَبَّهُمُ الرَّافِضَةُ]

- ‌[التعليق على كلام بعض الصوفية الذي يتضمن الاتحاد والحلول ووحدة الوجود]

- ‌[الكلام على رؤية الله تعالى]

- ‌[فَصْلٌ الكلام على محبة الله تعالى]

- ‌[الكلام عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ]

- ‌[الرد على أهل النظر وأهل الرياضة]

- ‌[مناقشة ابن المطهر على كلامه عن مثالب أبي بكر في زعمه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه عند الاحتضار والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على عدم خروج أبي بكر وعمر مع جيش أسامة والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوله أبدا والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع يسار سارق والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر أنه أحرق الفجاءة السلمي بالنار والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي أن أبا بكر خفي َلَيْهِ أَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على علم علي رضي الله عنه والرد عليه]

- ‌[كلام الرافضي على فضائل علي رضي الله عنه والتعليق عليه]

- ‌[كلام الرافضي على أبي بكر أنه أَهْمَلَ حُدُودَ اللَّهِ فَلَمْ يَقْتَصَّ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ والرد عليه]

الفصل: ‌[أهل الكتاب معهم حق وباطل]

فِيهَا، بَلِ النَّصُّ عَلَى خِلَافِهَا] (1) ، فَاحْتَاجَ هَؤُلَاءِ إِلَى دَعْوَى مَا يَدْعُونَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ حُجَّةٌ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْحَدِيثِ فَالنُّصُوصُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هِيَ عُمْدَتُهُمْ، وَعَلَيْهَا يَجْمَعُونَ إِذَا أَجْمَعُوا، لَا سِيَّمَا وَأَئِمَّتُهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَكُونُ قَطُّ إِجْمَاعٌ صَحِيحٌ عَلَى خِلَافِ نَصٍّ إِلَّا وَمَعَ الْإِجْمَاعِ نَصٌّ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ، يُعْرَفُ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِذَلِكَ النَّصِّ الْآخَرِ. فَإِذَا كَانُوا لَا يُسَوِّغُونَ أَنْ تُعَارَضَ النُّصُوصُ بِمَا يُدَّعَى مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، لِبُطْلَانِ تَعَارُضِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عِنْدَهُمْ، فَكَيْفَ إِذَا عُورِضَتِ النُّصُوصُ بِمَا يُدَّعَى مِنْ إِجْمَاعِ الْعِتْرَةِ أَوْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ .

وَكُلُّ مَنْ سِوَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنَ الْفِرَقِ فَلَا يَنْفَرِدُ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِقَوْلٍ صَحِيحٍ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مَا هُوَ حَقٌّ. وَبِسَبَبِ ذَلِكَ وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ، وَإِلَّا فَالْبَاطِلُ الْمَحْضُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلَ الشُّبَهَاتِ، وَقِيلَ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.

[أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ]

وَهَكَذَا أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى لَهُمْ:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 42]، وَقَالَ:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 8]، وَقَالَ عَنْهُمْ:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 150]، وَقَالَ عَنْهُمْ:

(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

ص: 167

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 91] .

وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا بِدَعًا خَلَطُوهَا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَفَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا (1) شِيَعًا، فَصَارَ (2) فِي كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ الَّذِي مَعَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَيُصَدِّقُونَ بِالْبَاطِلِ الَّذِي مَعَهُمْ.

[وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ ; فَإِنَّ مَعَهُمْ](3) حَقًّا وَبَاطِلًا (4) ، فَهُمْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ فَرِيقٍ يُكَذِّبُ بِمَا مَعَ الْآخَرِ مِنَ الْحَقِّ وَيُصَدِّقُ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، كَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ ; فَهَؤُلَاءِ يُكَذِّبُونَ بِمَا ثَبَتَ مِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، وَيُصَدِّقُونَ بِمَا رُوِيَ فِي فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، وَيُصَدِّقُونَ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ تَكْفِيرِهِ وَتَكْفِيرِ مَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُحِبُّهُ. وَهَؤُلَاءِ يُصَدِّقُونَ بِمَا رُوِيَ فِي فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَيُكَذِّبُونَ بِمَا رُوِيَ فِي فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيُصَدِّقُونَ بِمَا ابْتَدَعُوهُ مِنَ التَّكْفِيرِ وَالطَّعْنِ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ.

وَدِينُ الْإِسْلَامِ وَسَطٌ بَيْنِ الْأَطْرَافِ الْمُتَجَاذِبَةِ. فَالْمُسْلِمُونَ وَسَطٌ فِي التَّوْحِيدِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالْيَهُودُ (5) تَصِفُ الرَّبَّ بِصِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْمَخْلُوقُ، وَيُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ. كَمَا قَالُوا: إِنَّهُ بَخِيلٌ، وَإِنَّهُ فَقِيرٌ، وَإِنَّهُ لَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ تَعِبَ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ

(1) أ، ي، ر، و: وَصَارُوا.

(2)

ح، ب: فَكَانَ.

(3)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .

(4)

حَقًّا وَبَاطِلًا: كَذَا فِي (ب) ، فَقَطْ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: حَقٌّ وَبَاطِلٌ.

(5)

ن فَقَطْ: فَالنَّصَارَى، وَهُوَ خَطَأٌ.

ص: 168

الْجَوَّادُ الَّذِي لَا يَبْخَلُ وَالْغَنِيُّ الَّذِي لَا يُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْقَادِرُ الَّذِي لَا يَمَسُّهُ لُغُوبٌ. وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْغِنَى عَمَّا (1) سِوَاهُ هِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ سَائِرَهَا.

وَالنَّصَارَى يَصِفُونَ الْمَخْلُوقَ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا، وَيُشَبِّهُونَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

فَالْمُسْلِمُونَ وَحَّدُوا اللَّهَ وَوَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنَزَّهُوهُ عَنْ جَمِيعِ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَنَزَّهُوهُ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لَا بِصِفَاتِ النَّقْصِ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.

وَكَذَلِكَ فِي النُّبُوَّاتِ ; فَالْيَهُودُ تَقْتُلُ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ، وَتَسْتَكْبِرُ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَتُكَذِّبُهُمْ (2) وَتَتَّهِمُهُمْ بِالْكَبَائِرِ. وَالنَّصَارَى يَجْعَلُونَ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَلَا رَسُولٍ نَبِيًّا وَرَسُولًا، كَمَا يَقُولُونَ فِي الْحَوَارِيِّينَ: إِنَّهُمْ رُسُلٌ، بَلْ يُطِيعُونَ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ كَمَا تُطَاعُ الْأَنْبِيَاءُ. فَالنَّصَارَى تُصَدِّقُ بِالْبَاطِلِ، وَالْيَهُودُ تُكَذِّبُ بِالْحَقِّ.

وَلِهَذَا كَانَ فِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ شَبَهٌ (3) مِنَ الْيَهُودِ، وَفِي مُبْتَدِعَةِ أَهْلِ

(1) ب فَقَطْ: عَمَّنْ.

(2)

وَتُكَذِّبُهُمْ: كَذَا فِي (ن) ، (ب)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَتُكَذِّبُ بِهِمْ.

(3)

ن، م: شُبْهَةٌ.

ص: 169

التَّعَبُّدِ شَبَهٌ (1) مِنَ النَّصَارَى ; فَآخِرُ أُولَئِكَ الشَّكُّ وَالرَّيْبُ، وَآخِرُ هَؤُلَاءِ الشَّطْحُ وَالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةُ، لِأَنَّ أُولَئِكَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ فَصَارُوا إِلَى الشَّكِّ، وَهَؤُلَاءِ صَدَّقُوا بِالْبَاطِلِ فَصَارُوا إِلَى الشَّطْحِ، فَأُولَئِكَ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ، [يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ](2) ، وَهَؤُلَاءِ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا.

فَمُبْتَدِعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ طَلَبُوا الْعِلْمَ بِمَا ابْتَدَعُوهُ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْعِلْمَ الْمَشْرُوعَ وَيَعْمَلُوا بِهِ، فَانْتَهَوْا إِلَى الشَّكِّ الْمُنَافِي لِلْعِلْمِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْمَشْرُوعِ، لَكِنْ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَكَانُوا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ.

وَمُبْتَدِعَةُ الْعُبَّادِ (3) طَلَبُوا الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ بِمَا ابْتَدَعُوهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ إِلَّا الْبُعْدُ مِنْهُ ; فَإِنَّهُ مَا ازْدَادَ مُبْتَدِعٌ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بُعْدًا.

وَالْبُعْدُ عَنْ رَحْمَتِهِ (4) ، هُوَ اللَّعْنَةُ وَهُوَ غَايَةُ النَّصَارَى. وَأَمَّا الشَّرَائِعُ فَالْيَهُودُ مَنَعُوا الْخَالِقَ أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا بِغَيْرِ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْأَوَّلِ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ مَا شَرَعَهُ. وَالنَّصَارَى جُوَّزُوا لِأَحْبَارِهِمْ أَنْ يُغَيِّرُوا مِنَ الشَّرَائِعِ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِمْ رَسُولَهُ (5) ، فَأُولَئِكَ عَجَّزُوا الْخَالِقَ، وَمَنَعُوهُ مَا

(1) ن، م: شُبْهَةٌ.

(2)

مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) ، (أ)، (ي) وَفِي (ر) : لُجِّيٍّ إِلَى قَوْلِهِ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.

(3)

ن، أ، ر: الْعِبَادَةِ.

(4)

ن، م: عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.

(5)

ن، م: رُسُلَهُ.

ص: 170

تَقْتَضِيهِ قُدْرَتُهُ وَحِكْمَتُهُ فِي النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ. وَهَؤُلَاءِ جَوَّزُوا لِلْمَخْلُوقِ أَنْ يُغَيِّرَ مَا شَرَعَهُ الْخَالِقُ، فَضَاهَوُا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ (1) .

وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ ; فَالنَّصَارَى يَعْبُدُونَهُ بِبِدَعٍ ابْتَدَعُوهَا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. وَالْيَهُودُ مُعْرِضُونَ عَنِ الْعِبَادَاتِ، حَتَّى فِي يَوْمِ السَّبْتِ الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِعِبَادَتِهِ، إِنَّمَا يَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِالشَّهَوَاتِ. فَالنَّصَارَى مُشْرِكُونَ بِهِ وَالْيَهُودُ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ.

وَالْمُسْلِمُونَ عَبَدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ بِمَا شَرَعَ، وَلَمْ يَعْبُدُوهُ بِالْبِدَعِ. وَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ دِينُ إِبْرَاهِيمَ. فَمَنِ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ فَهُوَ مُسْتَكْبِرٌ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 48] .

وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 60] .

وَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: فِي الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّجَاسَاتِ ; فَالنَّصَارَى لَا تُحَرِّمُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْخَبَائِثَ الْمُحَرَّمَةَ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، حَتَّى أَنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ بِالنَّجَاسَاتِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَلَا يَغْتَسِلُونَ مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَا يَتَطَهَّرُونَ لِلصَّلَاةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الرَّاهِبُ عِنْدَهُمْ أَبْعَدَ عَنِ الطَّهَارَةِ، وَأَكْثَرَ مُلَابَسَةً لِلنَّجَاسَةِ كَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ.

(1) ح: الْمَخْلُوقَاتِ بِالْخَالِقِ، و: الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ.

ص: 171

وَالْيَهُودُ (1) حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ أُحِلَّتْ لَهُمْ، فَهُمْ يُحَرِّمُونَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مَا هُوَ مَنْفَعَةٌ لِلْعِبَادِ، وَيَجْتَنِبُونَ الْأُمُورَ الطَّاهِرَاتِ (2) مَعَ النَّجَاسَاتِ، فَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ لَا يَأْكُلُونَ مَعَهَا وَلَا يُجَالِسُونَهَا، فَهُمْ فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ عُذِّبُوا بِهَا.

فَأُولَئِكَ (3) يَتَنَاوَلُونَ الْخَبَائِثَ الْمُضِرَّةَ، مَعَ أَنَّ الرُّهْبَانَ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، فَيُحَرِّمُونَ الطَّيِّبَاتِ وَيُبَاشِرُونَ النَّجَاسَاتِ، وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُونَ الطَّيِّبَاتِ النَّافِعَةَ، مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ قُلُوبًا، وَأَفْسَدِهِمْ بَوَاطِنَ.

وَطَهَارَةُ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا طَهَارَةُ الْقَلْبِ، فَهُمْ يُطَهِّرُونَ ظَوَاهِرَهُمْ وَيُنَجِّسُونَ قُلُوبَهُمْ.

وَكَذَلِكَ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مُتَوَسِّطُونَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ. فَهُمْ فِي عَلِيٍّ وَسَطٌ بَيْنِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ. وَكَذَلِكَ فِي عُثْمَانَ وَسَطٌ بَيْنَ الْمَرْوَانِيَّةِ وَبَيْنَ الزَّيْدِيَّةِ. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَسَطٌ بَيْنَ الْغُلَاةِ فِيهِمْ وَالطَّاعِنِينَ عَلَيْهِمْ. وَهُمْ فِي الْوَعِيدِ وَسَطٌ بَيْنِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ. وَهُمْ فِي الْقَدَرِ وَسَطٌ بَيْنِ الْقَدَرِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ. وَبَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ. وَهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَسَطٌ بَيْنِ الْمُعَطِّلَةِ وَبَيْنَ الْمُمَثِّلَةِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ سِوَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ آثَارَ

(1) ح، ر، ي، ب: فَالْيَهُودُ.

(2)

ح، ب: الطَّاهِرَةَ.

(3)

ب فَقَطْ: وَأُولَئِكَ.

ص: 172