الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[التعليق على كلام بعض الصوفية الذي يتضمن الاتحاد والحلول ووحدة الوجود]
وَلِهَذَا كَانَ مَشَايِخُ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفُونَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ يُوصُونَ كَثِيرًا بِمُتَابَعَةِ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَةِ الشَّرْعِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ سَلَكُوا فِي الْعِبَادَةِ لِلَّهِ مُجَرَّدَ (1) مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَإِرَادَاتِهَا وَهَوَاهَا، مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا يُشْبِهُ ضَلَالَ النَّصَارَى.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ - وَهُوَ أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ (2) -: " كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ "، وَقَالَ سَهْلٌ (3) :" كُلُّ عَمَلٍ بِلَا اقْتِدَاءٍ فَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ، وَكُلُّ عَمَلٍ بِاقْتِدَاءٍ فَهُوَ عَذَابٌ عَلَى النَّفْسِ ". وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ (4) : " مِنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ
(1) ح، ر، ى، ب: بِمُجَرَّدِ.
(2)
فِي جَمِيعِ النُّسَخِ: عَمْرُو بْنُ نُجَيْدٍ، وَأَشَارَ مُحَقِّقُ (ب) إِلَى وُجُودِ نُسْخَةٍ عِنْدَهُ فِيهَا: أَبُو عَمْرِو بْنُ نَجْدٍ، وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجِيدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ ص 454: جَدِّي لِأُمِّي، لَقِيَ الْجُنَيْدَ وَكَانَ أَكْبَرَ مَشَايِخِ وَقْتِهِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ 366 هـ. انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ وَأَقْوَالَهُ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ 1/171، طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ، ص 454 - 457، الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى 1/103 طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ 3/222 - 224 الْمُنْتَظَمَ 7/84 - 85، شَذَرَاتِ الذَّهَبِ 3/50
(3)
أَبُو مُحَمَّدٍ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ التُّسْتَرِيُّ، مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ 200 وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 283، انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ وَأَقْوَالَهُ فِي طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ ص 206 - 211، الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى 1/66 - 68، صِفَةِ الصَّفْوَةِ 4/46 - 48، شَذَرَاتِ الذَّهَبِ 2/182 - 184، الْأَعْلَامِ 3/210، وَالنَّصُّ التَّالِي فِي الْقُشَيْرِيَّةِ 1/85 (وَتَرْجَمَةُ سَهْلٍ التُّسْتَرِيِّ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ 1/83 - 85)
(4)
هُوَ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِيرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّيِّ، شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ وَبِهَا تُوُفِّيَ سَنَةَ 298 انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ وَأَقْوَالَهُ فِي: طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ ص 170 - 175، صِفَةِ الصَّفْوَةِ 4/85 - 88، الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى 1/74 - 75، وَفَيَاتِ الْأَعْيَانِ 2/111 - 112 تَارِيخِ بَغْدَادَ 9/99 - 102 الْمُنْتَظَمِ 6/106 - 108، الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ 1/109 - 111 وَهَذَا النَّصُّ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ 1/111
بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ [قَوْلًا وَفِعْلًا] (1) نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سُورَةُ النُّورِ: 54] ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " مَا تَرَكَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنَ السُّنَّةِ إِلَّا لِكِبْرٍ فِي نَفْسِهِ ".
وَهُوَ كَمَا قَالُوا، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلْأَمْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَانَ يَعْمَلُ بِإِرَادَةِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا عَيْشُ النَّفْسِ، وَهُوَ مِنَ الْكِبْرِ، فَإِنَّهُ شُعْبَةٌ (2) مِنْ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا:{لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 124] .
وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَصِلُ بِرِيَاضَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَتَصْفِيَةِ نَفْسِهِ إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ، مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعٍ لِطَرِيقِهِمْ (3) ، وَفِيهِمْ طَوَائِفُ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ صَارُوا أَفْضَلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ (4) الَّذِي يَظُنُّونَ هُمْ أَنَّهُ الْوَلِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِيهِمْ (5) مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ بِاللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَدَّعِي فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: إِنَّ هَذَا
(1) قَوْلًا وَفِعْلًا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(2)
ن: شِيعَةٌ.
(3)
ح، ب، ي، ر: لِطَرِيقَتِهِمْ.
(4)
ح، الْأَوْلِيَاءَ.
(5)
ن، و: وَمِنْهُمْ.
الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ لَهُ صَانِعٌ مُبَايِنٌ لَهُ. لَكِنَّ هَذَا يَقُولُ: هُوَ اللَّهُ (1) ، وَفِرْعَوْنُ أَظْهَرَ الْإِنْكَارَ بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنْ كَانَ فِرْعَوْنُ فِي الْبَاطِنِ أَعْرَفَ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ مُثْبِتًا لِلصَّانِعِ. وَهَؤُلَاءِ ظَنُّوا (2) أَنَّ الْوُجُودَ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْوُجُودُ الْخَالِقُ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ (3) .
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَنْ عَدَلَ عَنِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا الرَّسُولُ، إِلَى عِبَادَاتٍ بِإِرَادَتِهِ وَذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَوَاهُ، وَأَنَّهُمْ صَارُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الضَّلَالِ، [مَنْ جِنْسِ ضَلَالِ](4) النَّصَارَى. فَفِيهِمْ مَنْ يَدَّعِي إِسْقَاطَ وَسَاطَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْوُصُولَ إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ طَرِيقِهِمْ، وَيَدَّعِي مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الِاتِّحَادَ وَالْحُلُولَ الْخَاصَّ: إِمَّا لِنَفْسِهِ، وَإِمَّا لِشَيْخِهِ، وَإِمَّا لِطَائِفَتِهِ الْوَاصِلِينَ (5) ، إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ بِزَعْمِهِ (6) .
وَهَذَا قَوْلُ النَّصَارَى، وَالنَّصَارَى مَوْصُوفُونَ بِالْغُلُوِّ وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ
(1) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَةِ " فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي دَعْوَى إِيمَانِ فِرْعَوْنَ " فِي " جَامِعِ الرَّسَائِلِ " 1/203 - 210 وَانْظُرْ تَعْلِيقَاتِي هُنَاكَ.
(2)
و: يَظُنُّونَ.
(3)
انْظُرْ " جَامِعَ الرَّسَائِلِ " 1/164 - 167
(4)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) .
(5)
ن: الْوَاصِلَةِ.
(6)
بِزَعْمِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (و) .
مُبْتَدَعَةُ الْعُبَّادِ الْغُلُوُّ فِيهِمْ وَفِي الرَّافِضَةِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي إِمَّا لِنَفْسِهِ وَإِمَّا لِشَيْخِهِ [الْإِلَهِيَّةَ](1) ، كَمَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ (2) لِأَئِمَّتِهِمْ بَنِي عُبَيْدٍ، وَكَمَا يَدَّعِيه كَثِيرٌ مِنَ الْغَالِيَةِ: إِمَّا لِلِاثْنَى عَشَرِ، وَإِمَّا لِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَمِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ، كَمَا تَدَّعِيهِ النُّصَيْرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ.
وَكَذَلِكَ فِي جِنْسِ الْمُبْتَدِعَةِ الْخَارِجِينَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ [وَالتَّأَلُّهِ](3) وَالتَّصَوُّفِ، مِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنَ الْغُلَاةِ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ، وَدَعْوَى مَا هُوَ فَوْقَ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَلْسِفًا يُجَوِّزُ وُجُودَ نَبِيٍّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ، كَالسُّهْرَوَرْدِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الزَّنْدَقَةِ (4) ، وَابْنِ سَبْعِينَ (5) ، وَغَيْرِهِمَا، صَارُوا
(1) الْإِلَهِيَّةَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(2)
و: كَمَا تَدَّعِيهِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ، وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ص [0 - 9] 0
(3)
وَالتَّأَلُّهِ زِيَادَةٌ فِي (و) فَقَطْ.
(4)
شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْفُتُوحِ يَحْيَى بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أُمَيْرَكَ السُّهْرَوَرْدِيُّ، الْمَوْلُودُ بِسُهْرَوَرْدَ سَنَةَ 549، وَقُتِلَ بِحَلَبَ سَنَةَ 587 هـ، وَعُرِفَ بِفَلْسَفَتِهِ الْإِشْرَاقِيَّةِ، انْظُرْ عَنْهُ وَعَنْ آرَائِهِ: وَفَيَاتَ الْأَعْيَانِ 5/312 - 318 لِسَانَ الْمِيزَانِ 3/156 - 158، النُّجُومَ الزَّاهِرَةَ 6/114 - 115، الْأَعْلَامَ 9/169 - 170 وَانْظُرْ: كِتَابَ: " أُصُولِ الْفَلْسَفَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ " تَأْلِيفُ الدكتور مُحَمَّدْ عَلِي أَبِي رَيَّانَ (ط. الْأَنْجُلُو) الْقَاهِرَةِ 1959، الْكِتَابَ التِّذْكَارِيَّ لِلسُّهْرَوَرْدِيِّ فِي الذِّكْرَى الْمِئَوِيَّةِ الثَّامِنَةِ لِوَفَاتِهِ، أَشْرَفَ عَلَيْهِ الدكتور إِبْرَاهِيمْ مَدْكُورْ، نَشْرُ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ، الْقَاهِرَةِ 1394/1974
(5)
سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ 1/366
يَطْلُبُونَ النُّبُوَّةَ (1) ، بِخِلَافِ مَنْ أَقَرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ، وَرَأَى أَنَّ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ لَا سَبِيلَ إِلَى تَغْيِيرِهِ ; فَإِنَّهُ يَقُولُ: النُّبُوَّةُ خُتِمَتْ، لَكِنَّ الْوِلَايَةَ لَمْ تُخْتَمْ. وَيَدَّعِي مِنَ (2) الْوِلَايَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَمَا يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَهُمْ فِي (3) الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ نَوْعَانِ (4) : نَوْعٌ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ، كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ، وَيَقُولُونَ فِي النُّبُوَّةِ: إِنَّ الْوِلَايَةَ أَعْظَمُ مِنْهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ:
(1) ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ " دَرْءِ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ " 5/22 وَصَارَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ، أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُفْصِحَ بِذَلِكَ لَوْلَا السَّيْفُ، كَمَا فَعَلَ السُّهْرَوَرْدِيُّ الْمَقْتُولُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا أَمُوتُ حَتَّى يُقَالَ لِي: قُمْ فَأَنْذِرْ. وَكَانَ ابْنُ سَبْعِينَ يَقُولُ: لَقَدْ زَرَّبَ ابْنُ آمِنَةَ حَيْثُ قَالَ: لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى غَارَ حِرَاءَ لِيَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْيُ. وَعَلَّقْتُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ بِقَوْلِي: " يَقُولُ الدكتور مُحَمَّد عَلِي أَبُو رَيَّانَ فِي مُقَدِّمَتِهِ لِكِتَابِ " هَيَاكِلِ النُّورِ " لِلسُّهْرَوَرْدِيِّ ص 11 ط. التِّجَارِيَّةِ الْقَاهِرَةِ 1377/1957 إِنَّ عُلَمَاءَ حَلَبَ سَأَلُوا السُّهْرَوَرْدِيَّ أَثْنَاءَ مُنَاقَشَتِهِ فِي مَسْجِدِ حَلَبَ: هَلْ يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ نَبِيًّا آخَرَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ؟ فَأَجَابَهُمُ الشَّيْخُ بِأَنْ: " لَا حَدَّ لِقُدْرَتِهِ ". وَيَقُولُ الدكتور أَبُو الْوَفَا التَّفْتَازَانِيُّ فِي مَقَالَةِ " ابْنُ سَبْعِينَ وَحَكِيمُ الْإِشْرَاقِ "، ص 296 الْكِتَابِ التِّذْكَارِيِّ لِشِهَابِ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيِّ ط. الْقَاهِرَةِ 1394/1974 وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ابْنِ سَبْعِينَ فَإِنَّهُ فِي " بُدِّ الْعَارِفِ " يُصَرِّحُ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ رُتْبَةٌ مَمْنُوعَةٌ وَلَا طَمَعَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ أَوْ فِي طَبْعِ جِنْسِهِ أَنْ تُوجَدَ لَهُ النُّبُوَّةُ، فَالْأَنْبِيَاءُ بَشَرٌ "، انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذَانِ فِي الْمَرْجِعَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَمَا ذَكَرَهُ الدكتور أَبُو رَيَّانَ فِي: أُصُولُ الْفَلْسَفَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ، ص 304 - 312 مُقَدِّمَةِ كِتَابِ حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ لِلسُّهْرَوَرْدِيِّ ص 11 - 12 " ط بَارِيسَ "، 1952 مَجْمُوعَةٍ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِلسُّهْرَوَرْدِيِّ، كِتَابِ التَّلْوِيحَاتِ، ص 95 - 113 ط. اسْتَانْبُولَ، 1945
(2)
و: فِي
(3)
و: وَمَا يَكُونُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُرْسَلُونَ يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا، يَعْنِي الْقَوْلَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَهُمْ فِي.
(4)
و: أَنْوَاعٌ.
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ
…
فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيِّ (1)
وَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي " الْفُصُوصِ "(2) : " وَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ إِلَّا لِخَاتَمِ الرُّسُلِ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ (3) ، وَمَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ (4) ، [حَتَّى إِنَّ الرُّسُلَ إِذَا رَأَوْهُ لَا يَرَوْنَهُ -[إِذَا رَأَوْهُ](5) - إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ] (6) ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ - أَعْنِي رِسَالَةَ التَّشْرِيعِ وَنُبُوَّتَهُ (7) - تَنْقَطِعَانِ، وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَلَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا (8) . فَالْمُرْسَلُونَ، مِنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ، لَا يَرَوْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ (9) ، فَكَيْفَ بِمَنْ (10) دُونَهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ؟ وَإِنْ كَانَ
(1) لَمْ أَعْثُرْ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، وَلَكِنْ وَجَدْتُ بَيْتًا بِمَعْنَاهُ فِي كِتَابِ لَطَائِفِ الْأَسْرَارِ لِابْنِ عَرَبِيٍّ تَحْقِيقُ أَحْمَدْ زَكِي عَطِيَّةْ وَطه عَبْد الْبَاقِي سُرُور، دَارِ الْفِكْرِ الْعَرَبِيِّ، 1380/1960 ص 49 وَنَصُّهُ: سَمَاءُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ دُوَيْنَ الْوَلِيِّ وَفَوْقَ الرَّسُولِ وَفِي الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ 2/252 يَقُولُ: بَيْنَ الْوِلَايَةِ وَالرِّسَالَةِ بَرْزَخٌ فِيهِ النُّبُوَّةُ حُكْمُهَا لَا يُجْهَلُ وَانْظُرِ الْفُتُوحَاتِ 2/52 - 53
(2)
فِي فُصُوصِ الْحِكَمِ 1/62
(3)
فُصُوصُ الْحِكَمِ: مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الرَّسُولِ الْخَاتَمِ.
(4)
فُصُوصُ الْحِكَمِ: وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَلِيِّ الْخَاتَمِ.
(5)
إِذَا رَأَوْهُ فِي (و) ، فَقَطْ، وَفِي " فُصُوصِ الْحِكَمِ " مَتَى رَأَوْهُ.
(6)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) .
(7)
فُصُوصُ الْحِكَمِ: أَعْنِي نُبُوَّةَ التَّشْرِيعِ وَرِسَالَتَهُ.
(8)
الْفُصُوصِ: وَالْوِلَايَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا.
(9)
ن: الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ خَطَأٌ.
(10)
الْفُصُوصِ: مَنْ.
خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ تَابِعًا فِي الْحُكْمِ لِمَا جَاءَ بِهِ خَاتَمُ الرُّسُلِ مِنَ التَّشْرِيعِ، فَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي مَقَامِهِ، وَلَا يُنَاقِضُ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ أَنْزَلَ، وَمِنْ وَجْهٍ (1) يَكُونُ أَعْلَى ".
قَالَ (2) : " وَلَمَّا مَثَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم[النُّبُوَّةَ](3) بِالْحَائِطِ مِنَ اللَّبِنِ، فَرَآهَا قَدْ كَمُلَتْ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ (4) ، فَكَانَ هُوَ صلى الله عليه وسلم مَوْضِعَ اللَّبِنَةِ، وَأَمَّا خَاتَمُ (5) الْأَوْلِيَاءِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا، فَيَرَى مَا مَثَّلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (6) ، وَيَرَى نَفْسَهُ فِي الْحَائِطِ مَوْضِعَ لَبِنَتَيْنِ، وَيَرَى نَفْسَهُ (7) تَنْطَبِعُ [فِي](8) مَوْضِعَ [تَيْنِكَ](9) اللَّبِنَتَيْنِ، فَيَكْمُلُ الْحَائِطُ (10) ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِكَوْنِهِ رَآهَا لِبِنْتَيْنِ أَنَّ الْحَائِطَ لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ
(1) ن، و: كَمَا أَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ.
(2)
بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ بِخَمْسَةِ أَسْطُرٍ 1/63
(3)
النُّبُوَّةَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(4)
الْفُصُوصِ: مِنَ اللَّبِنِ وَقَدْ كَمُلَ سِوَى مَوْضِعِ لَبِنَةٍ.
(5)
الْفُصُوصِ: فَكَانَ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّبِنَةَ غَيْرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَرَاهَا إِلَّا كَمَا قَالَ لَبِنَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا خَاتَمُ.
(6)
الْفُصُوصِ: فَيَرَى مَا مَثَّلَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(7)
الْفُصُوصِ: وَيَرَى فِي الْحَائِطِ مَوْضِعَ لِبِنَتَيْنِ، وَاللَّبِنُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَيَرَى اللَّبِنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَنْقُصُ الْحَائِطَ عَنْهُمَا وَتَكْمُلُ بِهِمَا، لَبِنَةَ ذَهَبٍ وَلَبِنَةَ فِضَّةٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ.
(8)
فِي: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(9)
تَيْنِكَ: فِي (و) فَقَطْ، وَهِيَ فِي فُصُوصِ الْحُكْمِ.
(10)
الْفُصُوصِ: اللَّبِنَتَيْنِ، فَيَكُونُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ تَيْنِكَ اللَّبِنَتَيْنِ، فَيَكْمُلُ الْحَائِطُ.
وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَاللَّبِنَةُ الْفِضَّةُ هِيَ ظَاهِرُهُ (1) وَمَا يَتَّبِعُهُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، كَمَا هُوَ آخِذٌ عَنِ اللَّهِ فِي السِّرِّ مَا هُوَ فِي الصُّورَةِ (2) الظَّاهِرَةِ مُتَّبِعٌ فِيهِ ; لِأَنَّهُ يَرَى الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَرَاهُ هَكَذَا، وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الذَّهَبِيَّةِ فِي الْبَاطِنِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمُلْكُ الَّذِي يُوحَى [بِهِ](3) إِلَى الرَّسُولِ ".
قَالَ (4) : فَإِنْ فَهِمْتَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ (5) ، فَقَدْ حَصَلَ لَكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ (6) ".
قُلْتُ: وَقَدْ بَسَطْنَا الرَّدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ، وَبَيَّنَّا كَشْفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْخَيَالِ، وَالنِّفَاقِ وَالزَّنْدَقَةِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالِاتِّحَادِ الْخَاصِّ، فَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالنُّصُوصِ [الظَّاهِرَةِ](7) ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ هَذَا مِمَّا يُشَارُ إِلَيْهِ وَيُرْمَزُ بِهِ، وَلَا يُبَاحُ بِهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ مُعَظِّمًا لِلرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ [ظَنَّ أَنَّ الرَّسُولَ](8) كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَبُحْ بِهِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْبَشَرُ أَنْ يَبُوحُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ
(1) الْفُصُوصِ: لَبِنَتَيْنِ أَنَّهُ تَابِعٌ لِشَرْعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ الْفِضَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُهُ.
(2)
الْفُصُوصِ: بِالصُّورَةِ.
(3)
بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(4)
فِي فُصُوصِ الْحُكْمِ 1/63 بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ مُبَاشَرَةً.
(5)
الْفُصُوصِ: مَا أَشَرْتُ بِهِ.
(6)
الْفُصُوصِ: النَّافِعُ بِكُلِّ شَيْءٍ.
(7)
الظَّاهِرَةِ: زِيَادَةٌ فِي (ب) فَقَطْ.
(8)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِلرَّسُولِ، زَعَمَ أَنَّهُ تَعَدَّى حَدَّ الرَّسُولِ، وَهَذَا الضَّلَالُ حَدَثَ قَدِيمًا مِنْ جُهَّالِ الْعِبَادِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْعَارِفُونَ، كَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ: سَيِّدِ الطَّائِفَةِ (1) - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - (2) لَمَّا سُئِلَ عَنِ التَّوْحِيدِ قَالَ: " التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنِ الْقِدَمِ "(3) فَإِنَّهُ كَانَ عَارِفًا، وَرَأَى أَقْوَامًا يَنْتَهِي بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى الِاتِّحَادِ، فَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَكَانَ أَيْضًا [طَائِفَةٌ](4) مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَعُوا فِي الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، الَّذِي لَا يُمَيَّزُ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، فَدَعَاهُمُ الْجُنَيْدُ إِلَى الْفَرْقِ الثَّانِي، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، الَّذِي يُمَيَّزُ فِيهِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَهُ، وَمِنْهُمْ لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ مَا جَرَى مِنْ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَعْرَابِيُّ فِي " طَبَقَاتِ
(1) سَيِّدِ الطَّائِفَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (و) .
(2)
ح، ب: سِرَّهُ، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ الْبَغْدَادِيُّ الْخَزَّارُ، أَصْلُ أَبِيهِ مِنْ نَهَاوَنْدَ، وَكَانَ يَبِيعُ الزُّجَاجَ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ الْقَوَارِيرِيُّ، وَالْجُنَيْدُ إِمَامُ الصُّوفِيَّةِ، وَسُمِّيَ بِسَيِّدِ الطَّائِفَةِ لِضَبْطِ مَذْهَبِهِ بِقَوَاعِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ 279 وَقِيلَ 298 انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ وَأَقْوَالَهُ فِي: طَبَقَاتُ الصُّوفِيَّةِ ص 155 - 163، الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى 1/72 - 74، صِفَةِ الصَّفْوَةِ 2/235 - 240، وَفَيَاتِ الْأَعْيَانِ 1/323 - 325، شَذَرَاتِ الذَّهَبِ 2/228 - 230، طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ 2/260 - 265، الْأَعْلَامِ 2/137 - 138.
(3)
أَوْرَدَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَنَسَبَهَا إِلَى الْجُنَيْدِ الْقُشَيْرِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ 1/24 - 25 وَقَالَ: التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقِدَمِ مِنَ الْحَدَثِ.
(4)
طَائِفَةٌ سَاقِطَةٌ مَنْ (ن) .
النُّسَّاكِ " (1) وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ، وَمِنْ شُيُوخِ (2) أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، [كَانَ](3) مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَخْبَارِ الزُّهَّادِ وَأَهْلِ الْحَقَائِقِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُنَيْدُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، بِهِمَا يَزُولُ مَا وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ. وَلِهَذَا كَانَ الضُّلَّالُ مِنْهُمْ يَذُمُّونَ الْجُنَيْدَ عَلَى ذَلِكَ، كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ، فَإِنَّ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْإِسْرَا إِلَى الْمَقَامِ الْأَسْرَى "(4) مَضْمُونُهُ حَدِيثُ نَفْسٍ وَوَسَاوِسُ (5) شَيْطَانٍ حَصَلَتْ فِي نَفْسِهِ، جَعَلَ ذَلِكَ مِعْرَاجًا كَمِعْرَاجِ الْأَنْبِيَاءِ (6) ، وَأَخَذَ يَعِيبُ عَلَى الْجُنَيْدِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّيُوخِ مَا ذَكَرُوهُ، وَعَابَ عَلَى الْجُنَيْدِ قَوْلَهُ:" التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنِ الْقِدَمِ " وَقَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا جُنَيْدُ، مَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِلَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهُمَا، وَأَنْتَ إِمَّا
(1) ن: أَبُو سَعْدٍ الْأَعْرَابِيُّ، وَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ 246، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 341، وَذَكَرَ سَزْكِينُ كِتَابَهُ " طَبَقَاتِ النُّسَّاكِ "، وَقَالَ: أَفَادَ مِنْهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " وَالذَّهَبِيُّ فِي " تَذْكِرَةِ الْحُفَّاظِ ". وَانْظُرْ تَرْجَمَتَهُ وَأَقْوَالَهُ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ 1/165، طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ، ص 427 - 430، شَذَرَاتِ الذَّهَبِ 2/354 - 355، حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ 10/375 - 376، لِسَانِ الْمِيزَانِ 1/308 - 309، الْأَعْلَامِ 1/199 سَزْكِينَ م [0 - 9] ج [0 - 9] ص 155 - 156.
(2)
ن: وَمِنْ أَصْحَابِ.
(3)
كَانَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
(4)
هَذَا الْكِتَابُ لِابْنِ عَرَبِيٍّ ضِمْنَ مَجْمُوعَةِ رَسَائِلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، ط حِيدَرْ آبَادَ الدِّكِنْ 1367/1948
(5)
و: وَوَسْوَسَةُ.
(6)
انْظُرْ كِتَابَ " الْإِسْرَا إِلَى مَقَامِ الْأَسْرَى وَانْظُرْ قَوْلَهُ ص 9 - 10 " فَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، وَسِرُّ وُجُودِي مُتَهَجِّدٌ قَائِمٌ، جَاءَنِي رَسُولُ التَّوْفِيقِ، لِيَهْدِيَنِي سَوَاءَ الطَّرِيقِ، وَمَعَ بُرَاقِ الْإِخْلَاصِ، عَلَيْهِ لِبَدُ الْفَوْزِ وَلِجَامُ الْإِخْلَاصِ، فَكَشَفَ عَنْ سَقْفِ مَحَلِّي، وَأَخَذَ فِي نَقْضِي وَحَلِّي، وَشَقَّ صَدْرِي بِسِكِّينِ السَّكِينَةِ، وَأَسْرَى بِي مَنْ حَرَمِ الْأَكْوَانِ، إِلَى قُدُسِ الْجِنَانِ، فَرَبَطْتُ الْبُرَاقَ بِحَلَقَةِ بَابِهِ، وَأُتِيتُ بِالْخَمْرِ وَاللَّبَنِ، فَشَرِبْتُ مِيرَاثَ تَمَامِ اللَّبَنِ، وَتَرَكْتُ الْخَمْرَ، حَذِرًا أَنْ أَكْشِفَ السِّرَّ بِالسُّكْرِ.
قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ، فَكَيْفَ تُمَيِّزُ؟ " (1) .
وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمُمَيِّزَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ هَذَا، لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ ثَالِثًا، بَلْ كُلُّ إِنْسَانٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ هُوَ ثَالِثًا، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ يُمَيِّزُ نَفْسَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ثَالِثٌ.
وَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ الْجُنَيْدُ رحمه الله، وَأَمْثَالُهُ مِنَ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ، وَقَعَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، حَتَّى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ، وَمِنَ الْمُعَظِّمِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، الْمُحِبِّينَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الذَّابِّينَ عَنْهَا - وَقَعُوا فِي هَذَا غَلَطًا لَا تَعَمُّدًا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ هَذَا نِهَايَةُ التَّوْحِيدِ. كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ "
(1) لَمْ أَجِدْ هَذَا الْكَلَامَ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ، وَيَبْدُو أَنَّهُ فِي كِتَابٍ آخَرَ لِابْنِ عَرَبِيٍّ، وَوَجَدْتُ نَصًّا مِنْ كِتَابِ " التَّجَلِّيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ "، لِابْنِ عَرَبِيٍّ نَشَرَهُ الدكتور عُثْمَانْ يَحْيَى ضِمْنَ مَقَالِهِ " نُصُوصٌ تَارِيخِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِنَظَرِيَّةِ التَّوْحِيدِ فِي التَّفَكُّرِ الْإِسْلَامِيِّ " وَهُوَ مَقَالٌ فِي " الْكِتَابِ التِّذْكَارِيِّ: مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ فِي الذِّكْرَى الْمِئَوِيَّةِ الثَّامِنَةِ لِمِيلَادِهِ " نَشْرُ الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلتَّأْلِيفِ وَالنَّشْرِ. 1389/1969 وَهَذَا النَّصُّ فِي ص 264 وَهُوَ: " رَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي هَذَا التَّجَلِّي فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي التَّوْحِيدِ: يَتَمَيَّزُ الْعَبْدُ مِنَ الرَّبِّ؟ وَأَيْنَ تَكُونُ أَنْتَ عِنْدَ هَذَا التَّمْيِيزِ؟ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا وَلَا رَبًّا، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِي بَيْنُونَةٍ تَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ وَالْعِلْمَ بِالْمَقَامَيْنِ، مَعَ تَجَرُّدِكَ عَنْهُمَا حَتَّى تَرَاهُمَا، فَخَجِلَ وَأَطْرَقَ "، وَانْظُرْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى ص 268
مَعَ عِلْمِهِ وَسُنَّتِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ وَدِينِهِ (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " أَشْيَاءَ حَسَنَةً نَافِعَةً، وَأَشْيَاءَ بَاطِلَةً. وَلَكِنْ هُوَ فِيهِ يَنْتَهِي إِلَى الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الِاتِّحَادِ. وَلِهَذَا قَالَ (2) : " بَابُ التَّوْحِيدِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 18] التَّوْحِيدُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْحَدَثِ (3) .
قَالَ (4) : وَإِنَّمَا نَطَقَ الْعُلَمَاءُ بِمَا نَطَقُوا بِهِ، وَأَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ (5) إِلَى مَا أَشَارُوا إِلَيْهِ (6) فِي هَذَا الطَّرِيقِ لِقَصْدِ تَصْحِيحِ التَّوْحِيدِ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ فَكُلُّهُ مَصْحُوبُ الْعِلَلِ ".
(1) صَاحِبُ كِتَابِ " مَنَازِلُ السَّائِرِينَ "، هُوَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْهَرَوِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، كَانَ يُدْعَى شَيْخَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ إِمَامَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَرَاةَ وَيُسَمَّى خَطِيبَ الْعَجَمِ لِتَبَحُّرِ عِلْمِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَنُبْلِهِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ 481. انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي: طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ 2/247 - 248، الذَّيْلِ لِابْنِ رَجَبٍ 1/50 - 68، الْأَعْلَامِ 4/267، تَذْكِرَةِ الْحُفَّاظِ 3/1183 - 1190، مُعْجَمِ الْمُؤَلِّفِينَ 6/133 - 134. وَانْظُرْ كِتَابَ " شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ "، تَأْلِيفُ دكتور مُحَمَّدْ سَعِيدْ عَبْد الْمَجِيدْ سَعِيدْ الْأَفْغَانِيِّ (ط. دَارِ الْكُتُبِ الْحَدِيثَةِ) الْقَاهِرَةِ 1388/1968
(2)
ص 110 - 113 (ط. الْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ الْفَرَنْسِيِّ) ، تَحْقِيقُ س. دي لوجيه، الْقَاهِرَةِ 1962
(3)
الْحَدِيثُ: كَذَا فِي (و) ، مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: الْحُدُوثِ.
(4)
بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ مُبَاشَرَةً.
(5)
ن: وَأَشَارَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ.
(6)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: بِمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ.
قَالَ (1) : " وَالتَّوْحِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: (2) : الْأَوَّلُ (3) : تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، وَالثَّانِي (4) : تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ وَهُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: تَوْحِيدٌ قَائِمٌ بِالْقِدَمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ.
فَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْأَوَّلُ فَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ](5) ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الظَّاهِرُ الْجَلِيُّ، الَّذِي نَفَى الشِّرْكَ الْأَعْظَمَ، وَعَلَيْهِ نُصِبَتِ الْقِبْلَةُ، وَبِهِ وَجَبَتِ الذِّمَّةُ، وَبِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ، وَانْفَصَلَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَصَحَّتْ بِهِ الْمِلَّةُ لِلْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُومُوا بِحُسْنِ (6) الِاسْتِدْلَالِ، بَعْدَ أَنْ سَلِمُوا (7) مِنَ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ وَالرِّيبَةِ، بِصِدْقِ شَهَادَةٍ صَحَّحَهَا قَبُولُ الْقَلْبِ.
هَذَا (8) تَوْحِيدُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَصِحُّ بِالشَّوَاهِدِ، وَالشَّوَاهِدُ هِيَ الرِّسَالَةُ، وَالصَّنَائِعُ تَجِبُ (9) بِالسَّمْعِ، وَتُوجَدُ (10) بِتَبْصِيرِ الْحَقِّ، وَتَنْمُو (11) عَلَى مُشَاهَدَةِ (12) الشَّوَاهِدِ ".
(1) بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ مُبَاشَرَةً.
(2)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: وُجُوهٍ.
(3)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ.
(4)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي.
(5)
عِبَارَةُ " وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ " فِي (و) ، مَنَازِلِ السَّائِرِينَ فَقَطْ.
(6)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ص 111: بِحَقِّ.
(7)
سَلِمُوا: كَذَا فِي (و)، مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: يَسْلَمُوا.
(8)
هَذَا: كَذَا فِي (و) ، " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ "، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: وَهَذَا.
(9)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: يَجِبُ.
(10)
ن: وَتَوْحِيدُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ، ح، ي: وَتُؤْخَذُ، مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: وَيُوجَدُ.
(11)
ن، و: مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: وَيَنْمُو.
(12)
و: مَشَاهِدِ.
قَالَ (1) : " وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّانِي الَّذِي يَثْبُتُ بِالْحَقَائِقِ فَهُوَ تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ. وَهُوَ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ، وَالصُّعُودُ عَنْ (2) مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ (3) ، وَعَنِ التَّعَلُّقِ بِالشَّوَاهِدِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ (4) فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا، وَلَا فِي النَّجَاةِ (5) وَسِيلَةً (6) ، فَيَكُونُ (7) مُشَاهِدًا سَبَقَ (8) الْحَقُّ بِحُكْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَوَضْعِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَتَعْلِيقِهِ (9) إِيَّاهَا بِأَحَايِينِهَا، وَإِخْفَائِهِ (10) إِيَّاهَا فِي رُسُومِهَا (11) ، وَيُحَقِّقُ (12) مَعْرِفَةَ الْعِلَلِ، وَيَسْلُكُ (13) سَبِيلَ إِسْقَاطِ الْحَدَثِ (14) . هَذَا تَوْحِيدُ (15) الْخَاصَّةِ الَّذِي يَصِحُّ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ، وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ، وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ ". قَالَ (16) : " وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّالِثُ فَهُوَ تَوْحِيدٌ اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ،
(1) بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ مُبَاشَرَةً ص 111
(2)
ح: مِنْ.
(3)
و: الْمَعْقُولِ.
(4)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ تَشْهَدَ.
(5)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: لِلنَّجَاةِ.
(6)
عِنْدَ كَلِمَةِ " وَسِيلَةً " تَعُودُ نُسْخَةُ (م) بَعْدَ الِانْقِطَاعِ.
(7)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: فَتَكُونُ.
(8)
ن: يَسْبِقُ، م: لِسَبْقِ.
(9)
ن، م: وَتَعْلِيقِهَا.
(10)
ب (فَقَطْ) : وَإِخْفَائِهِ.
(11)
و: شُئُونِهَا.
(12)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، ر، ح، ي وَتُحَقِّقُ.
(13)
ن، مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَتَسْلُكُ.
(14)
م، ب: الْحُدُوثِ.
(15)
ح، ب: هَذَا هُوَ تَوْحِيدُ.
(16)
بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ مُبَاشَرَةً، ص 112
وَاسْتَحَقَّهُ بِقَدْرِهِ، وَأَلَاحَ مِنْهُ لَائِحًا إِلَى أَسْرَارِ طَائِفَةٍ مِنْ صَفْوَتِهِ، وَأَخْرَسَهُمْ عَنْ نَعْتِهِ، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ بَثِّهِ. وَالَّذِي يُشَارُ [بِهِ](1) إِلَيْهِ عَلَى أَلْسُنِ الْمُشِيرِينَ أَنَّهُ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ (2) ، وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّمْزَ فِي ذَلِكَ التَّوْحِيدِ عِلَّةٌ، لَا يَصِحُّ [ذَلِكَ التَّوْحِيدُ](3) إِلَّا بِإِسْقَاطِهَا.
هَذَا قُطْبُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسُنِ عُلَمَاءِ أَهْلِ هَذَا الطَّرِيقِ (4) ، وَإِنْ زَخْرَفُوا لَهُ نُعُوتًا، وَفَصَلُوهُ فُصُولًا (5) ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّوْحِيدَ تَزِيدُهُ الْعِبَارَةُ خَفَاءً (6) ، وَالصِّفَةُ نُفُورًا، وَالْبَسْطُ صُعُوبَةً، وَإِلَى هَذَا التَّوْحِيدِ (7) شَخَصَ أَهْلُ الرِّيَاضَةِ وَأَرْبَابُ الْأَحْوَالِ، وَإِلَيْهِ (8) قَصَدَ أَهْلُ التَّعْظِيمِ، وَإِيَّاهُ (9) عَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ فِي عَيْنِ الْجَمْعِ، وَعَلَيْهِ تَصْطَلِمُ الْإِشَارَاتُ، ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ عَنْهُ (10) لِسَانٌ، وَلَمْ تُشِرْ إِلَيْهِ عِبَارَةٌ، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ وَرَاءَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مُكَوَّنٌ، أَوْ يَتَعَاطَاهُ خَبَرٌ (11) ، أَوْ يُقِلُّهُ سَبَبٌ ".
قَالَ (12) : " وَقَدْ أَجَبْتُ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ (13) سَائِلًا سَأَلَنِي عَنْ تَوْحِيدِ الصُّوفِيَّةِ
(1) بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ جَمِيعِ النُّسَخِ، وَأُثْبِتُهَا مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ.
(2)
ب، م: الْحُدُوثِ.
(3)
عِبَارَةُ " ذَلِكَ التَّوْحِيدُ " سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(4)
و: مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: عُلَمَاءِ هَذَا الطَّرِيقِ.
(5)
فُصُولًا كَذَا فِي (ن) ، (م) مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: تَفْصِيلًا.
(6)
و: جَفَاءً، ن: حَقًّا.
(7)
ح، ب، ر، ي: وَإِلَى أَهْلِ هَذَا التَّوْحِيدِ.
(8)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: وَلَهُ.
(9)
ي، ر: وَإِلَيْهِ وَإِيَّاهُ.
(10)
ن، م: بِهِ.
(11)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ص 113: حِينٌ.
(12)
بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ مُبَاشَرَةً ص 113
(13)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الزَّمَانِ.
بِهَذِهِ الْقَوَافِي الثَّلَاثِ:
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ
…
إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ
…
عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ
…
وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ
قُلْتُ: وَقَدْ بَسَطْتُ (1) الْكَلَامَ عَلَى [هَذَا وَأَمْثَالِهِ] فِي غَيْرِ (2) هَذَا الْمَوْضِعِ، لَكِنْ نُنَبِّهُ هُنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَنَقُولُ؟ أَمَّا التَّوْحِيدُ [الْأَوَّلُ](3) الَّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَبِهِ بَعَثَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنَ الرُّسُلِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 45] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 36] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 25] .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْ كُلٍّ مِنَ الرُّسُلِ، مِثْلِ نُوحٍ وَهُودٍ، وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ، وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُمْ قَالُوا لِقَوْمِهِمُ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ. وَهَذَا أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَآخِرُهَا.
(1) و: بَسَطْنَا.
(2)
ن، م: عَلَيْهِ فِي غَيْرِ.
(3)
الْأَوَّلُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) .
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» "(1) . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا: " «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» "(2) . وَقَالَ: " «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» "(3) .
وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مَمْلُوءٌ مِنْ تَحْقِيقِ هَذَا التَّوْحِيدِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَتَعْلِيقِ النَّجَاةِ وَالْفَلَاحِ، وَاقْتِضَاءِ السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاضِلُونَ فِي تَحْقِيقِهِ، وَحَقِيقَتُهُ إِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ. وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ مَقْرُونٌ بِالْبَقَاءِ (4) ، وَهُوَ أَنْ تُثْبِتَ إِلَهِيَّةَ الْحَقِّ فِي قَلْبِكَ، وَتَنْفِيَ إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ، فَتَجْمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَتَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَالنَّفْيُ هُوَ الْفَنَاءُ، وَالْإِثْبَاتُ هُوَ الْبَقَاءُ. وَحَقِيقَتُهُ أَنْ تَفْنَى بِعِبَادَتِهِ عَمَّا سِوَاهُ، [وَمَحَبَّتِهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ](5) ، وَبِخَشْيَتِهِ عَنْ خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِمُوَالَاتِهِ عَنْ مُوَالَاةِ مَا سِوَاهُ، وَبِسُؤَالِهِ عَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ، وَبِالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ عَنْ الِاسْتِعَاذَةِ (6) بِمَا سِوَاهُ، وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى
(1) سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/121
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 1/55 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَطْعًا) ، " الْمُسْنَدِ "(ط. الْمَعَارِفِ) 1/376
(3)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 2/122
(4)
ن، م: بِالْفَنَاءِ.
(5)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(6)
ن: وَبِالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ عَنْ الِاسْتِغَاثَةِ.
مَا سِوَاهُ، وَبِالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ عَنِ التَّفْوِيضِ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَبِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ عَنِ الْإِنَابَةِ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَبِالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَى مَا سِوَاهُ، وَبِالتَّخَاصُمِ إِلَيْهِ عَنِ التَّخَاصُمِ إِلَى مَا سِوَاهُ.
وَقَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 14] .
(1) ح، ر، ي، ب، م: يَقُولُ.
(2)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (و) .
(3)
و: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ.
(4)
عِبَارَةُ " وَلَك الْحَمْدُ " لَيْسَتْ فِي (و) .
(5)
ب: أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ حَقٌّ، ح: أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ.
(6)
الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه مَا فِي الْبُخَارِيِّ 2/48 - 49 (كِتَابُ التَّهَجُّدِ، بَابُ التَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ) وَجَاءَ الْحَدِيثُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى فِي الْبُخَارِيِّ وَهُوَ فِي: مُسْلِمٍ 1/532 - 534 (كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، بَابُ الدُّعَاءِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَقِيَامِهِ) . وَالْحَدِيثُ فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ وَالْمُوَطَّأِ، وَهُوَ فِيَ " الْمُسْنَدِ "(ط. الْمَعَارِفِ) 4/249 - 250، 291 - 292، 5/125
وَقَالَ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 114] .
وَقَالَ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ - وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ - بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 64 - 66] .
وَقَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ - قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 161 - 164] .
وَهَذَا التَّوْحِيدُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ، وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِ هَذَا التَّوْحِيدِ لِأُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، ثُمَّ لِلْخَلِيلَيْنِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا -. فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ:" «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» "(1) .
(1) هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ سَبَقَ فِيمَا مَضَى 1/475 عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ مَكَانَهُ فِي مُسْلِمٍ وَنَصُّهُ فِيهِ:" إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ هُنَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما فِي: سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/50 (الْمُقَدِّمَةُ، بَابٌ فِي فَضَائِلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَضْلُ الْعَبَّاسِ، وَنَصُّهُ: " إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ، فَمَنْزِلِي وَمَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُجَاهَيْنِ، وَالْعَبَّاسُ بَيْنَنَا مُؤْمِنٌ بَيْنَ خَلِيلَيْنِ "، إِلَّا أَنَّ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الزَّوَائِدِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ، وَكَذَا قَالَ عَنْهُ الْأَلْبَانِيُّ إِنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي " ضَعِيفِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " 2/66
وَأَفْضَلُ الرُّسُلِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمُ ; فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَنْ «خَيْرِ الْبَرِيَّةِ: " إِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ» (1) . وَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ إِمَامًا، وَجَعَلَهُ أُمَّةً، وَالْأُمَّةُ الْقُدْوَةُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ، فَإِنَّهُ حَقَّقَ هَذَا التَّوْحِيدَ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّتُهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 26 - 28] .
(1) الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي مُسْلِمٍ 4/1839 (كِتَابُ الْفَضَائِلِ، بَابُ مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم)، وَلَفْظُهُ:" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام ". وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/302 (كِتَابُ السُّنَّةِ، بَابُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ) " الْمُسْنَدِ " (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/178، 184
وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 75 - 77] .
وَالْخَلِيلُ هُوَ الَّذِي تَخَلَّلَتْ مَحَبَّةُ خَلِيلِهِ قَلْبَهُ (1)، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَسْلَكٌ لِغَيْرِهِ كَمَا قِيلَ:
قَدْ تَخَلَّلَتْ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي
…
وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ [مَأْخُوذٌ مِنَ الْخَلِيلِ، وَهُوَ الْفَقِيرُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ بِالْفَتْحِ. كَمَا قِيلَ:
(1) و، ي: مَحَبَّةُ الْخَلِيلِ قَلْبَهُ، ح: مَحَبَّتُهُ قَلْبَ خَلِيلِهِ.
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ
…
يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرَمُ (1)
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ (2) مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّانِي فَإِنَّ كَمَالَ] (3) حُبِّهِ لِلَّهِ هُوَ مَحَبَّةُ عُبُودِيَّةٍ وَافْتِقَارٍ، لَيْسَتْ كَمَحَبَّةِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ، فَإِنَّهَا مَحَبَّةُ اسْتِغْنَاءٍ وَإِحْسَانٍ.
وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 111] .
فَالرَّبُّ لَا يُوَالِي عَبْدَهُ مِنْ ذُلٍّ (4) ، كَمَا يُوَالِي الْمَخْلُوقَ لِغَيْرِهِ، بَلْ يُوَالِيهِ إِحْسَانًا إِلَيْهِ، وَالْوَلِيُّ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَالْوِلَايَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ. وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْحُبُّ، وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ الْبُغْضُ، وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ. فَهَذَا جُزْءٌ مَعْنَاهُ (5) ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ يَقْرُبُ إِلَى (6) وَلِيِّهِ، وَالْعَدُوُّ يَبْعُدُ عَنْ عَدُوِّهِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْخَلَّةُ تَسْتَلْزِمُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَاسْتِيعَابَ الْقَلْبِ، لَمْ يَصْلُحْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخَالِلَ مَخْلُوقًا (7)، بَلْ قَالَ:" «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ» "(8) .
(1) الْبَيْتُ مِنْ شِعْرِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى (دِيوَانُهُ، ط. دَارِ الْكُتُبِ ص 153)
(2)
و: أَنَّهَا.
(3)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) .
(4)
ح، ب: مِنَ الذُّلِّ.
(5)
و: مَعْنَاهَا.
(6)
ح، ب: مِنْ.
(7)
ن، م: أَحَدًا.
(8)
سَبَقَ الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 1/512
وَلِهَذَا امْتَحَنَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ. وَالذَّبِيحُ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ ابْنُهُ الْكَبِيرُ إِسْمَاعِيلُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ " الصَّافَّاتِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ (1) سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرَهُ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أَمَرَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ، لِئَلَّا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةُ مَخْلُوقٍ تُزَاحِمُ مَحَبَّةَ الْخَالِقِ، إِذْ كَانَ قَدْ طَلَبَهُ وَهُوَ بِكْرُهُ.
وَكَذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ يَقُولُ: " اذْبَحِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ "، وَفِي تَرْجَمَةٍ أُخْرَى " بِكْرُكَ "، وَلَكِنْ أَلْحَقَ الْمُبَدِّلُونَ لَفْظَ إِسْحَاقَ، وَهُوَ بَاطِلٌ (2) . فَإِنَّ إِسْحَاقَ هُوَ الثَّانِي مِنْ أَوْلَادِهِ (3) بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَيْسَ هُوَ وَحِيدُهُ وَلَا بِكْرُهُ، وَإِنَّمَا وَحِيدُهُ وَبِكْرُهُ إِسْمَاعِيلُ.
وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ الذَّبِيحِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: 112] . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [سُورَةُ هُودٍ: 71] . فَكَيْفَ يُبَشِّرُهُ بِوَلَدٍ ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِهِ؟ .
وَالْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ وَقَعَتْ لِسَارَّةَ، وَكَانَتْ قَدْ غَارَتْ مِنْ هَاجَرَ لَمَّا وَلَدَتْ إِسْمَاعِيلَ، وَأَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَذْهَبَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأَمِّهِ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الضَّيْفُ - وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ - لِإِبْرَاهِيمَ، بَشَّرُوهَا (4) بِإِسْحَاقَ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ مَعَ بَقَاءِ إِسْمَاعِيلَ؟ .
وَهِيَ لَمْ تَصْبِرْ عَلَى وُجُودِ إِسْمَاعِيلَ وَحْدَهُ، بَلْ غَارَتْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنٌ
(1) قَدْ كَانَ: كَذَا فِي (ح) ، (ب)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: كَانَ قَدْ.
(2)
ح، ي، ر، و: مُمْتَنِعٌ.
(3)
و: مِنَ الْأَوْلَادِ.
(4)
ب فَقَطْ: وَبَشَّرُوهَا.
مِنْ غَيْرِهَا، فَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى ذَبْحِ ابْنِهَا وَبَقَاءِ ابْنِ ضُرَّتِهَا؟ وَكَيْفَ يَأْمُرُ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ (1) وَأُمُّهُ مُبَشَّرَةٌ بِهِ وَبِابْنِ ابْنِهِ [يَعْقُوبَ](2) ؟ وَأَيْضًا (3) فَالذَّبْحُ إِنَّمَا كَانَ بِمَكَّةَ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ لِلْحَاجِبِ:" «إِنِّي رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ فِي الْكَعْبَةِ، فَخَمَّرَهُمَا (4) ; فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْكَعْبَةِ شَيْءٌ يُلْهِي الْمُصَلِّي» "(5) . وَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ هُمَا اللَّذَانِ بَنَيَا الْكَعْبَةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِسْحَاقُ (6) كَانَ فِي الشَّامِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ بِالذَّبْحِ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا إِذَا كَانَ لَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا صَارَ لَهُ ابْنَانِ، فَالْمَقْصُودُ لَا
(1) و: إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ.
(2)
وَبِابْنِ ابْنِهِ يَعْقُوبَ: كَذَا فِي (م) وَفِي (ن) ، (ر)، (ي) : وَبِابْنِ ابْنِهِ، وَفِي (ح) ، (ب) وَبِابْنِهِ وَسَقَطَتْ عِبَارَةُ " وَبِابْنِ ابْنِهِ " مِنْ (و) .
(3)
ح، ب: أَيْضًا، وَسَقَطَتِ الْكَلِمَةُ مِنْ (و) .
(4)
ح، ي، ب: فَخَمَّرَهَا، وَفِي هَامِشِ (ر) " يَعْنِي: فَغَطَّاهُمَا ".
(5)
الْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 2/289 - 290 (كِتَابُ الْمَنَاسِكِ، بَابٌ فِي دُخُولِ الْكَعْبَةِ) وَنَصُّهُ: " حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمُسَدَّدٌ، قَالُوا: ثِنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ الْحَجَبِيِّ، حَدَّثَنِي خَالِي، عَنْ أُمِّي صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ الْأَسْلَمِيَّةَ تَقُولُ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَعَاكَ؟ قَالَ: قَالَ: إِنِّي نَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرَ الْقَرْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ. قَالَ ابْنُ السَّرْحِ: خَالِي مُسَافِعُ بْنُ شَيْبَةَ. وَجَاءَ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ رَقَمِ 2030: قَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فَرُوِيَ كَمَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِهِ مُسَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، عَنِ امْرَأَةٍ مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ خَالِهِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أُمَّهُ. وَجَاءَ الْحَدِيثُ - مَعَ أَخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ - فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 4/68، 5/380 وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ 1/316 وَقَالَ السُّيُوطِيُّ " حم (أَحْمَدُ) ض (الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْجِنَانِ) ق (الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ) عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ ".
(6)
ن، م: وَإِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ خَطَأٌ.
يَحْصُلُ إِلَّا بِذَبْحِهِمَا جَمِيعًا. وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ إِسْحَاقُ، فَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنِ الْيَهُودِ، أَهْلِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ.
[وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ](1) .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْخَلِيلَيْنِ هُمَا أَكْمَلُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ تَوْحِيدًا ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ هُوَ أَكْمَلُ تَوْحِيدًا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنِ الرُّسُلِ، فَضْلًا عَنْ أُولِي الْعَزْمِ، فَضْلًا عَنِ الْخَلِيلَيْنِ.
وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِمَا بِتَحْقِيقِ إِفْرَادِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ لِغَيْرِ اللَّهِ أَصْلًا، بَلْ يَبْقَى الْعَبْدُ (2) مُوَالِيًا لِرَبِّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُحِبُّ مَا أَحَبَّ، وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ، وَيَرْضَى بِمَا رَضِيَ (3) ، وَيَسْخَطُ بِمَا سَخِطَ (4) ، وَيَأْمُرُ بِمَا أَمَرَ، وَيَنْهَى عَمَّا نَهَى.
وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ وَسَمَّاهُ " تَوْحِيدَ الْخَاصَّةِ "، فَهُوَ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ رُبُوبِيَّةً (5) الرَّبُّ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَنَّهُ وَحْدَهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، وَالْفَنَاءُ إِذَا كَانَ فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ: وَهُوَ (6) أَنْ
(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م)، وَفِي (و) بَدَلًا مِنْهُ:" وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ ". وَقَالَ ابْنُ الْهَادِي فِي " الْعُقُودِ الدُّرِّيَّةِ " ص 54 " وَلَهُ جَوَابٌ فِي أَنَّ الذَّبِيحَ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ "، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " أَسْمَاءِ مُؤَلَّفَاتِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ "، ص 22.
(2)
ب فَقَطْ: لِغَيْرِ اللَّهِ أَصْلًا، وَكَمَالُ هَذَا التَّوْحِيدِ يُوجِبُ أَنْ يَبْقَى الْعَبْدُ.
(3)
رَضِيَ: كَذَا فِي (و)، (ب) وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: يَرْضَى.
(4)
ن، م، ي: يَسْخَطُ.
(5)
ح، ب، و: بِرُبُوبِيَّةٍ.
(6)
ب فَقَطْ: هُوَ.
يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْقَلْبِ شُهُودُ مَعْبُودِهِ وَذِكْرُهُ وَمَحَبَّتُهُ، حَتَّى لَا يُحِسَّ بِشَيْءٍ آخَرَ، مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَا أَثْبَتَهُ الْحَقُّ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْحِكَمِ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى الْقَلْبِ شُهُودُ الْوَاحِدِ، كَمَا يُقَالُ: غَابَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ.
كَمَا يُذْكَرُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُحِبُّ آخَرَ، فَوَقَعَ الْمَحْبُوبُ فِي الْيَمِّ، فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنَا وَقَعْتُ فَلِمَاذَا وَقَعْتَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: غِبْتُ بِكَ عَنِّي، فَظَنَنْتُ أَنَّ أَنِّي (1) . فَصَاحِبُ هَذَا الْفَنَاءِ إِذَا غُلِبَ (2) فِي ذَلِكَ فَهُوَ مَعْذُورٌ، لِعَجْزِهِ عِنْدَ غَلَبَةِ ذِكْرِ الرَّبِّ عَلَى قَلْبِهِ عَنْ شُعُورِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَمَا يُعْذَرُ مَنْ سَمِعَ الْحَقَّ فَمَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَكَمَا عُذِرَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم لَمَّا صُعِقَ حِينَ تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ.
وَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ غَايَةَ السَّالِكِينَ، وَلَا لَازِمًا لِكُلِّ سَالِكٍ. [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ سَالِكٍ](3) مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، هُمْ أَفْضَلُ. وَمَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ هَذَا الْفَنَاءُ وَلَا صَعْقٌ وَلَا مَوْتٌ (4) عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا تَجِدُ (5) هَذَا الصَّعْقُ فِي التَّابِعِينَ، لَا سِيَّمَا فِي عُبَّادِ الْبَصْرِيِّينَ.
(1) ب: فَظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنَا، ن، م: حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَنِّي.
(2)
ح، ر، ب: إِذَا غَابَ.
(3)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(4)
ح، ب: وَلَا صُعِقَ وَلَا مَاتَ.
(5)
تَجِدُ: كَذَا فِي (ي) وَفِي (ن) تَجِدُ وَفِي (م) يَجِدُ وَفِي (ح) ، (ر)(و)(ب) تَجَدَّدَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا الْفَنَاءَ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا سَيْرُ الْعَارِفِينَ. وَهَذَا أَضْعَفُ [مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ](1) . وَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ (2) مِنْ قَوْلِهِ: " مَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ " وَقَوْلِهِ: " أَيْنَ أَبُو يَزِيدَ؟ أَنَا أَطْلُبُ أَبَا يَزِيدَ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ " وَنَحْوُ ذَلِكَ (3)، فَقَدْ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; وَلِهَذَا يُقَالُ عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا أَفَاقَ أَنْكَرَ هَذَا.
فَهَذَا وَنَحْوُهُ كُفْرٌ، لَكِنْ إِذَا زَالَ الْعَقْلُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ، كَالنَّوْمِ
(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(2)
أَبُو يَزِيدَ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى الْبَسْطَامِيُّ وَيُقَالُ: بَا يَزِيدَ، صُوفِيٌّ شَهِيرٌ لَهُ شَطَحَاتٌ كَثِيرَةٌ، يَقُولُ الزِّرِكْلِيُّ:" وَفِي الْمُسْتَشْرِقِينَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ قَائِلٍ بِمَذْهَبِ الْفَنَاءِ Nirvana وَيُعْرَفُ أَتْبَاعُهُ بِالطَّيْفُورِيَّةِ أَوِ الْبَسْطَامِيَّةِ "، وُلِدَ سَنَةَ 188 وَتُوُفِّيَ سَنَةَ 261 انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ وَمَذْهَبَهُ فِي: طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ ص 67 - 74، الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى 1/65 - 66، صِفَةِ الصَّفْوَةِ 4/89 - 94، شَذَرَاتِ الذَّهَبِ 2/143 - 144، مِيزَانِ الِاعْتِدَالِ 2/346 - 347، الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ 1/80 - 82، الْأَعْلَامِ 3/339
(3)
للدكتور عَبْد الرَّحْمَن بَدَوِي كِتَابُ " شَطَحَاتِ الصُّوفِيَّةِ "، أَوْرَدَ فِيهِ الْكَثِيرَ مِنْ شَطَحَاتِ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ وَنَشَرَ فِيهِ رِسَالَةَ " النُّورُ مِنْ كَلِمَاتِ أَبِي طَيْفُورٍ " الْمَنْسُوبَةَ إِلَى السَّهْلَجِيِّ (ط. النَّهْضَةِ الْمِصْرِيَّةِ)، الْقَاهِرَةِ 1949 " وَوُجَدْتُ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ النَّصَّ التَّالِيَ ص 65. قَصَدَ أَبَا يَزِيدَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ ذِي النُّونِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ تَطْلُبُ؟ قَالَ: أَبَا يَزِيدَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَبُو يَزِيدَ يَطْلُبُ أَبَا يَزِيدَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَرَجَعَ إِلَى ذِي النُّونِ وَأَخْبَرَهُ فَغُشِيَ عَلَيْهِ. وَهُوَ نَصٌّ مُقَارِبٌ لِلنَّصِّ الثَّانِي الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ (وَانْظُرْ ص 110) . أَمَّا النَّصُّ الْأَوَّلُ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَهُوَ يُنْسَبُ فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَلَّاجِ (انْظُرْ كِتَابَ " مَدْخَلٌ إِلَى التَّصَوُّفِ الْإِسْلَامِيِّ " للدكتور أَبِي الْوَفَا التَّفْتَازَانِيِّ، ص 129 ط. دَارِ الثَّقَافَةِ الْقَاهِرَةِ 1979)، عَلَى أَنَّ الْبَسْطَامِيَّ لَهُ عِبَارَاتٌ مُشَابِهَةٌ بَلْ أَكْثَرُ شَنَاعَةً مِثْلُ قَوْلِهِ:" سُبْحَانِي مَا أَعْظَمَ سُلْطَانِي "، " شَطَحَاتِ ص 111 " وَقَوْلُهُ لَمَّا جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَرَأَ عِنْدَهُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لِشَدِيدٌ قَالَ:" وَحَيَاتِهِ إِنَّ بَطْشِي أَشَدُّ مِنْ بَطْشِهِ "، (شَطَحَاتِ ص 111) وَقَوْلِهِ:" كُنْتُ أَطُوفُ حَوْلَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ، فَلَمَّا أَنْ وَصَلْتُ إِلَيْهِ رَأَيْتُ الْبَيْتَ يَطُوفُ حَوْلِي " ص 108
وَالْإِغْمَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُؤَاخَذًا بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ فِي حَالِ عَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مِنْ ضَعْفِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ.
وَأَمَّا الْفَنَاءُ الَّذِي يَذْكُرُهُ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " فَهُوَ الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، لَا فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ (1) ، وَهُوَ يُثْبِتُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ نَفْيِ الْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ (2) ، كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ (3) ، وَإِنْ كَانَ رحمه الله مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُبَايَنَةً لِلْجَهْمَيَّةِ فِي الصِّفَاتِ، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَهُ " الْفَارُوقُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ وَالْمُعَطَّلَةِ "(4) وَصَنَّفَ كِتَابَ " تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّةِ "(5) وَصَنَّفَ كِتَابَ " ذَمُّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ "(6) ، وَزَادَ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى صَارَ يُوصَفُ بِالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ، لَكِنَّهُ فِي الْقَدَرِ عَلَى رَأْيِ الْجَهْمِيَّةِ، نُفَاةُ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ.
(1) ن، م: الْأُلُوهِيَّةِ.
(2)
ح، ب: الْقُدْرَةِ وَالْمُجْبِرَةِ.
(3)
وَيَقْصِدُ بِهِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ أَبَا إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيَّ الْأَنْصَارِيَّ صَاحِبُ مُنَازِلِ السَّائِرِينَ
(4)
و: الْفَارُوقُ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ. . وَذَكَرَ مُحَمَّدْ سَعِيدْ الْأَفْغَانِيُّ هَذَا الْكِتَابَ فِي كِتَابِهِ عَنِ الْهَرَوِيِّ وَقَالَ (ص 102)" ذَكَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ فِي ص 51 مِنْ كِتَابِهِ " الذَّيْلُ عَلَى طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ " وَأَيْضًا أَشَارَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بَاشَا (الْمُجَلَّدُ الْأَوَّلُ ص 452) وَالْعَلَّامَةُ السُّبْكِيُّ (طَبَقَاتُ الشَّافِعِيَّةِ ج [0 - 9] ص [0 - 9] 20)
(5)
ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ الْأَنْصَارِيُّ فِي كِتَابِهِ " ذَمُّ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ "(انْظُرْ كِتَابَ الْأَفْغَانِيِّ ص 105)
(6)
ذَكَرَهُ مُحَمَّدْ سَعِيدْ الْأَفْغَانِيُّ فِي كِتَابِهِ (ص 104 - 105) وَأَشَارَ إِلَى وُجُودِ نُسَخٍ خَطِّيَّةٍ مِنْهُ فِي الْمَكْتَبَةِ الظَّاهِرِيَّةِ وَفِي مَكْتَبِ الْمَتْحَفِ الْبِرِيطَانِيِّ بِلُنْدَنَ وَفِي مَعْهَدِ الْإِلَهِيَّاتِ بِأَنْقِرَةَ كَمَا أَنَّ مِنْهُ نُسْخَةً مُصَوَّرَةً فِي مَعْهَدِ الْمَخْطُوطَاتِ بِالْجَامِعَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ لَخَّصَهُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ:" صَوْنُ الْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ ". وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ نُصُوصًا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فِي " دَرْءِ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ " 2/82 - 83 7/185
وَالْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ نَوْعٌ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ نَوْعٌ، وَهَذَا الْفَنَاءُ عِنْدَهُ لَا يُجَامِعُ الْبَقَاءَ ; فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِكُلِّ مَا سِوَى حُكْمِ الرَّبِّ بِإِرَادَتِهِ الشَّامِلَةِ، الَّتِي تُخَصِّصُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصِّصٍ.
وَلِهَذَا قَالَ فِي " بَابِ التَّوْبَةِ " فِي لَطَائِفِ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ (1) : " اللَّطِيفَةُ (2) الثَّالِثَةُ: أَنَّ (3) مُشَاهَدَةَ الْعَبْدِ الْحُكْمَ لَمْ تَدَعْ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ، لِصُعُودِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَانِي إِلَى مَعْنَى الْحُكْمِ " أَيِ الْحُكْمِ الْقَدَرِيِّ، وَهُوَ خَلْقُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ ; فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ فِي الْوُجُودِ فَرْقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ، بَلْ يَقُولُ: كُلُّ مَا سِوَاهُ مَحْبُوبٌ لَهُ، مَرْضِيٌّ لَهُ، مُرَادٌ لَهُ، سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لَيْسَ يُحِبُّ شَيْئًا وَيُبْغِضُ شَيْئًا، فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ هَذَا لَا يَكُونُ مَعَهَ اسْتِحْسَانُ حَسَنَةٍ، وَلَا اسْتِقْبَاحُ سَيِّئَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ ; إِذْ الِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِقْبَاحُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ: يَسْتَحْسِنُ مَا يُلَائِمُهُ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا يُنَافِيهِ.
وَفِي عَيْنِ الْفَنَاءِ لَا يَشْهَدُ نَفْسَهُ وَلَا غَيْرَهُ، بَلْ لَا يَشْهَدُ إِلَّا فِعْلَ رَبِّهِ، فَعِنْدَ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ لَا يَسْتَحْسِنُ شَيْئًا وَيَسْتَقْبِحُ آخَرَ، عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ، الْمُتَّبِعِينَ لِجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَمْثَالِهِ.
وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْقَدَرِيَّةَ فِي أَنَّ مَشِيئَةَ الرَّبِّ وَإِرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ سَوَاءٌ. ثُمَّ قَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ: وَهُوَ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، فَهُوَ لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَشَاؤُهُ ; فَيَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ.
(1) فِي كِتَابِهِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ص 11
(2)
مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَاللَّطِيفَةُ.
(3)
أَنَّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ر) ، (ي) .
وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُجْبِرَةُ: بَلْ هُوَ يَشَاءُ كُلَّ شَيْءٍ، فَهُوَ يُرِيدُهُ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.
وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ: فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ. وَأَمَّا الْإِرَادَةُ فَتَكُونُ تَارَةً بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ، وَتَارَةً بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ: قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا. وَقَوْلُ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَاخْتَارَ هُوَ التَّسْوِيَةَ، وَأَبُو الْمَعَالِي يَقُولُ: إِنَّ أَبَا الْحَسَنِ أَوَّلُ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا، لَكِنِّي رَأَيْتُهُ فِي " الْمُوجَزِ " قَدْ حَكَى قَوْلَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَعَنِ ابْنِ كُلَّابٍ، وَعَنِ الْكَرَابِيسِيِّ، وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ يَقُولُ:" أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ يُحِبُّهُ، غَيْرُ الْأَشْعَرِيِّ ".
وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فَهُوَ فِي " الْمُعْتَمَدِ " يُوَافِقُ الْأَشْعَرِيَّ، وَفِي " مُخْتَصَرِهِ " ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ، وَذَكَرَ فِي " الْمُعْتَمَدِ " قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ يَقُولُ بِالْفَرْقِ، وَتَأَوَّلَ كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ بِتَأْوِيلٍ بَاطِلٍ (1) . لَكِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُعَاقِبُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ شَامِلَةً لِلنَّوْعَيْنِ، فَهُمْ يُسَلِّمُونَ الْفَرْقَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِ، وَالْمُدَّعُونَ لِلْمَعْرِفَةِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْفَنَاءِ فِيهِمَا يَطْلُبُونَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ مُرَادٌ، بَلْ يُرِيدُونَ مَا يُرِيدُ الْحَقُّ - تَعَالَى - ; فَيَقُولُونَ: الْكَمَالُ أَنْ تَفْنَى عَنْ إِرَادَتِكَ، وَتَبْقَى مَعَ إِرَادَةِ رَبِّكَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
(1) أَمَامَ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي هَامِشِ نُسْخَتَيْ (ر)(ي) كَتَبَ مَا يَلِي: " وُجِدَ فِي أَصْلِ الْأَصْلِ مَكْتُوبٌ بِخَطِّ مُصَنِّفِهِ مِنْ عِنْدِ الْإِشَارَةِ إِلَى قَوْلِهِ: " وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ قَوْلِهِمْ ". وَالْإِشَارَةُ فِي النُّسْخَتَيْنِ عِنْدَ الْعِبَارَةِ التَّالِيَةِ الَّتِي تَبْدَأُ هَكَذَا: لَكِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ. . ".
الرَّبِّ سَوَاءٌ، فَلَا يَسْتَحْسِنُونَ حَسَنَةً، وَلَا يَسْتَقْبِحُونَ سَيِّئَةً.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا مُحَرَّمٌ شَرْعًا، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ قَوْلِهِمْ. وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي تَوْحِيدِهِمْ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الثَّانِي:" إِنَّهُ إِسْقَاطُ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ " فَإِنَّ عِنْدَهُمْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ شَيْئًا بِسَبَبٍ، بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهُ لَا بِهِ.
قَالَ: " وَالصُّعُودُ عَنْ مُنَازَعَاتِ الْعُقُولِ، وَعَنِ التَّعَلُّقِ بِالشَّوَاهِدِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ فِي التَّوْحِيدِ دَلِيلًا، وَلَا فِي التَّوَكُّلِ سَبَبًا، [وَلَا فِي النَّجَاةِ وَسِيلَةً " وَذَلِكَ ; لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ شَيْءٌ يَكُونُ سَبَبًا] (1) لِشَيْءٍ أَصْلًا، وَلَا شَيْءَ جُعِلَ لِأَجْلِ شَيْءٍ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ.
فَالشِّبَعُ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ بِالْأَكْلِ، وَلَا الْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي الْقَلْبِ بِالدَّلِيلِ، وَلَا مَا يَحْصُلُ لِلْمُتَوَكِّلِ مِنَ الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ لَهُ سَبَبٌ أَصْلًا: لَا فِي نَفْسِهِ، وَلَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا الطَّاعَاتُ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ، وَلَا الْمَعَاصِي سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، فَلَيْسَ لِلنَّجَاةِ وَسِيلَةٌ، بَلْ مَحْضُ الْإِرَادَةِ الْوَاحِدَةِ يَصْدُرُ عَنْهَا كُلُّ حَادِثٍ، وَيَصْدُرُ مَعَ الْآخَرِ مُقْتَرِنًا بِهِ اقْتِرَانًا عَادِيًّا، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا مُعَلَّقٌ بِالْآخَرِ، أَوْ سَبَبٌ لَهُ، أَوْ حِكْمَةٌ لَهُ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ اقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، يُجْعَلُ أَحَدُهُمَا أَمَارَةً وَعَلَمًا، وَدَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ أَحَدُ الْمُقْتَرِنَيْنِ عَادَةً كَانَ الْآخَرُ مَوْجُودًا مَعَهُ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ فِي الْقَلْبِ حَاصِلًا بِهَذَا الدَّلِيلِ، بَلْ هَذَا أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الِاقْتِرَانَاتِ الْعَادِيَّةِ.
(1) مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) .
وَلِهَذَا قَالَ: " فَيَكُونُ مُشَاهِدًا سَبَقَ الْحَقُّ بِحُكْمِهِ وَعِلْمِهِ " أى: يَشْهَدُ أَنَّهُ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ وَحَكَمَ بِهِ، أَيْ أَرَادَهُ وَقَضَاهُ وَكَتَبَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ إِلَّا هَذَا. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ يَتْرُكُونَ الْأَسْبَابَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَيَجْعَلُونَ وُجُودَ السَّبَبِ كَعَدَمِهِ.
وَمِنْهُمْ قَوْمٌ يَتْرُكُونَ الْأَسْبَابَ الْأُخْرَوِيَّةَ، فَيَقُولُونَ: إِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ وَالْحُكْمُ أَنَّا سُعَدَاءُ فَنَحْنُ سُعَدَاءُ، وَإِنْ سَبَقَ أَنَّا أَشْقِيَاءُ فَنَحْنُ أَشْقِيَاءُ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعَمَلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ الدُّعَاءَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ (1) مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ، وَمُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ، وَمُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.
وَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِسْقَاطِ الْأَسْبَابِ نَظَرًا إِلَى الْقَدَرِ (2)، فَرَدَّ ذَلِكَ. كَمَا [ثَبَتَ] (3) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَدَعُ الْعَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ؟ فَقَالَ:" لَا. اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» "(4)
(1) الْفَاسِدَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ب) .
(2)
ح، ب: لِلْقَدَرِ.
(3)
ثَبَتَ: زِيَادَةٌ فِي (ح) ، (ب) .
(4)
هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ مَرْوِيٍّ - مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي أَكْثَرِ كُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، انْظُرْ مَثَلًا فِي الْبُخَارِيِّ 2/96 (كِتَابُ الْجَنَائِزِ، بَابُ مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ) 6/170 - 171 (كِتَابُ التَّفْسِيرِ بَابُ سُورَةِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ، 8/123 - 124 (كِتَابُ الْقَدَرِ، بَابُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) ، مُسْلِمٍ 4/2039 - 2040 (كِتَابُ الْقَدَرِ، بَابُ كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ الْآدَمِيِّ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) ، سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/307 - 308 (كِتَابُ السُّنَّةِ، بَابٌ فِي الْقَدَرِ) . وَجَاءَ الْحَدِيثُ فِي: سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 3/301 - 302 (كِتَابُ الْقَدَرِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ) ، سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ 1 - 31 (الْمُقَدِّمَةُ، بَابٌ فِي الْقَدَرِ) ، " الْمُسْنَدِ "(ط. الْمَعَارِفِ) ، فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، انْظُرِ الْأَرْقَامَ 621، 1067، 1068، 1110، 1181، 1348. .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 57] .
(1) جَمَعَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هُنَا بَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَبَيْنَ جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رضي الله عنه جَاءَ فِي مُسْلِمٍ 4/2041 - 2042 (الْمَوْضِعِ السَّابِقِ فِي التَّعْلِيقِ السَّابِقِ) وَفِيهِ: أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: " لَا، بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [سُورَةُ الشَّمْسِ: 7، 8] .
(2)
سَبَقَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا مَضَى 3/232
وَقَالَ: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: 5] .
وَقَالَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 14] .
وَقَالَ: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 52] .
وَقَالَ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 26] .
وَقَالَ: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 16] .
وَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سُورَةُ الشُّورَى: 52] .
وَقَالَ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [سُورَةُ الرَّعْدِ: 7] فَكَيْفَ لَا يُشْهَدُ الدَّلِيلُ؟ ! .
قَالَ: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 61] .
وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [سُورَةُ يُونُسَ: 9] .
وَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [سُورَةُ الطُّورِ: 21] .
وَقَالَ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 1] .
وَقَالَ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [سُورَةُ الْحَاقَّةِ: 24] .
وَقَالَ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 32] .
وَقَالَ: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 29] .
وَقَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [سُورَةُ الطَّلَاقِ: 2 - 3] .
وَقَالَ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 159] .
وَقَالَ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا - وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 160 - 161] .
وَقَالَ: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 6] .
وَقَالَ: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 85] .
وَقَالَ: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [سُورَةُ الْإِنْسَانِ: 42] .
وَقَالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 190] .
وَقَالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 164] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
(* وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِسَعْدٍ: " عَسَى أَنْ تُخَلَّفَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ» *)(1) ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْصِبْ عَلَى تَوْحِيدِهِ دَلِيلًا، وَلَا جَعَلَ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ وَسِيلَةً، وَلَا جَعَلَ لِمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ عِبَادِهِ سَبَبًا.
وَهُوَ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ، وَخَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ بِسَبَبٍ مِنْهُ، لَكِنَّ الْأَسْبَابَ كَمَا قَالَ فِيهَا (2) أَبُو حَامِدٍ، وَأَبُو الْفَرَجِ [بْنُ الْجَوْزِيِّ] (3) وَغَيْرُهُمَا:" الِالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا تَغْيِيرٌ (4) فِي وَجْهِ الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ ".
وَالتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ (5) مِنْ مَعْنَى التَّوْحِيدِ (6) وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، فَالْمُوَحِّدُ (7) الْمُتَوَكِّلُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْأَسْبَابِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا،
(1) مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (و)، وَالْحَدِيثُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه الْبُخَارِيُّ 2/81 (كِتَابُ الْجَنَائِزِ بَابُ رِثَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ) وَنَصُّهُ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي. . الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ ". وَجَاءَ الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ مَرَّةً أُخْرَى فِي 5/68 - 69 (كِتَابِ مَنَاقِبِ الْأَنْصَارِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ. .) ، وَجَاءَ مَرَّةً ثَالِثَةً فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ.
(2)
لَكِنَّ التَّوْحِيدَ كَمَا قَالَ فِيهِ.
(3)
ابْنُ الْجَوْزِيِّ سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ر) ، (ي) .
(4)
ب: تَغْبِيرٌ، وَتَغَيُّرٌ، ن: تُعْتَبَرُ.
(5)
ح، ر: مُلْتَئِمٌ.
(6)
ن، م: وَالتَّوَكُّلُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مَعْنَى التَّوْحِيدِ، وَسَقَطَتْ كَلِمَةُ مَعْنَى الثَّانِيَةُ مِنْ (ب) .
(7)
ن، م: فَالْمُؤْمِنُ.
وَلَا يَثِقُ بِهَا، وَلَا يَرْجُوهَا، وَلَا يَخَافُهَا ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ سَبَبٌ يَسْتَقِلُّ بِحُكْمٍ، بَلْ كُلُّ سَبَبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى أُمُورٍ أُخْرَى تُضَمُّ إِلَيْهِ، وَلَهُ مَوَانِعُ وَعَوَائِقُ تَمْنَعُ مُوجِبَهُ، وَمَا ثَمَّ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِالْإِحْدَاثِ إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَا شَاءَ خَلَقَهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يُحْدِثُهَا وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْمَوَانِعَ، فَلَا يَجُوزُ التَّوَكُّلُ إِلَّا عَلَيْهِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 160] .
وَمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَهُوَ حَقٌّ. وَقَدْ عَلِمَ وَحَكَمَ بِأَنَّ الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ يُحْدِثُهُ هُوَ - سُبْحَانَهُ - بِالسَّبَبِ الْفُلَانِيِّ. فَمَنْ نَظَرَ إِلَى عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَلْيَشْهَدِ الْحُدُوثَ بِمَا أَحْدَثَهُ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْحُدُوثِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ شُهُودُهُ مُطَابِقًا لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ.
فَمَنْ شَهِدَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْوَلَدَ لَا مِنْ أَبَوَيْنِ لَسَبْقِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ ; فَهَذَا شُهُودُهُ عَمًى، بَلْ يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى سَبَقَ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ بِأَنْ يَخْلُقَ الْوَلَدَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَالْأَبَوَانِ سَبَبٌ فِي وُجُودِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَبَقَ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ بِحُدُوثِهِ بِلَا سَبَبٍ. وَإِذَا كَانَ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ قَدْ أَثْبَتَ السَّبَبَ، فَكَيْفَ أَشْهَدَ الْأُمُورَ بِخِلَافِ مَا هِيَ [عَلَيْهِ] (1) فِي عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ؟ وَالْعِلَلُ الَّتِي تُنْفَى نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى الْأَسْبَابِ وَتَتَوَكَّلَ عَلَيْهَا. وَهَذَا شِرْكٌ مُحَرَّمٌ (2) . وَالثَّانِي: أَنْ تَتْرُكَ مَا أَمِرْتَ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ،
(1) عَلَيْهِ: زِيَادَةٌ فِي (ح) ، (ب) ، (ر) .
(2)
ح: شِرْكٌ وَمُحَرَّمٌ.
وَهَذَا أَيْضًا مُحَرَّمٌ.
بَلْ عَلَيْكَ أَنْ تَعْبُدَهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَكَ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُعِينَكَ عَلَى مَا أَمَرَكَ بِهِ، وَأَنْ يَفْعَلَ هُوَ مَا لَا تَقْدِرُ أَنْتَ عَلَيْهِ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْكَ (1) ، فَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ إِلَّا تَرْكَ مَا أَمَرَكَ بِهِ الرَّبُّ أَمْرَ إِيجَابٍ أَوِ اسْتِحْبَابٍ (2) ، وَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ بِهِ فَلَيْسَ عِنْدَهُ عِلَّةٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَجْهَلُ حَقِيقَةَ مَا أُمِرَ بِهِ [كَمَا أُمِرَ بِهِ](3) فَيَكُونُ مِنْهُ عِلَّةٌ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " يَسَلُكُ سَبِيلَ إِسْقَاطِ الْحَدَثِ، إِنْ أَرَادَ أَنِّي (4) أَعْتَقِدُ نَفْيَ حُدُوثِ شَيْءٍ، فَهَذَا مُكَابَرَةٌ وَتَكْذِيبٌ بِخَلْقِ الرَّبِّ وَجَحْدٌ لِلصَّانِعِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنِّي أُسْقِطُ الْحَدَثَ مِنْ قَلْبِي فَلَا أَشْهَدُ مُحْدَثًا - وَهُوَ مُرَادُهُمْ - فَهَذَا خِلَافُ مَا أُمِرْتُ بِهِ، وَخِلَافُ الْحَقِّ.
بَلْ قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَشْهَدُ حُدُوثَ الْمُحْدَثَاتِ بِمَشِيئَتِهِ بِمَا (5) خَلَقَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِمَا خَلَقَهُ مِنَ الْحِكَمِ (6) ، وَمَا أُمِرْتُ أَنْ لَا أَشْهَدَ بِقَلْبِي حُدُوثَ شَيْءٍ قَطُّ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " يَفْنَى (7) مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى (8) مَنْ لَمْ يَزُلْ " إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ
(1) ح، ر، و، ي: وَأَنْ يَفْعَلَ هُوَ مَا يَفْعَلُهُ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْكَ.
(2)
و: بِهِ الرَّبُّ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، ن: بِهِ الرَّبُّ أَمْرَ إِيجَابٍ وَاسْتِحْبَابٍ، م: بِهِ الرَّبُّ أَمْرَ إِيجَابٍ أَوِ اسْتِحْسَانٍ.
(3)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) ، (و) ، (ب) .
(4)
و: أَنْ.
(5)
و: وَبِمَا.
(6)
مِنَ الْحِكَمِ: كَذَا فِي (ح) ، (ي)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: مِنَ الْحِكْمَةِ.
(7)
و: فَنَى.
(8)
و: وَبَقِيَ.
يَبْقَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ [بِهِ](1) بِحَيْثُ يَشْهَدُ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُحْدِثُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَلِمَا أَرَادَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ، فَهَذَا حَقٌّ. وَإِنْ أَرَادَ (2) أَنِّي لَا أَشْهَدُ قَطُّ مَخْلُوقًا، بَلْ لَا أَشْهَدُ إِلَّا الْقَدِيمَ فَقَطْ ; فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالتَّحْقِيقِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَهَذَا إِذَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ كَانَ مَعْذُورًا. أَمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا (3) أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ; فَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُرَادَهُمْ قَالَ (4) : " هَذَا تَوْحِيدُ الْخَاصَّةِ، الَّذِي يَصِحُّ بِعِلْمِ الْفَنَاءِ، وَيَصْفُو فِي عِلْمِ الْجَمْعِ، وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ "، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ أَنْ يَشْهَدَ (5) الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مُجْتَمِعَةً فِي خَلْقِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهَا صَادِرَةٌ بِإِرَادَتِهِ، لَا يُرَجِّحُ (6) مَثَلًا عَنْ مَثَلٍ، فَلَا يُفَرِّقُ بَيْن مَأْمُورٍ وَمَحْظُورٍ، وَحَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَأَوْلِيَاءِ [اللَّهِ] وَأَعْدَائِهِ (7) .
وَالْوُقُوفُ عِنْدَ هَذَا الْجَمْعِ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْجُنَيْدُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ طَرِيقِ أَهْلِ اللَّهِ أَهْلِ الْحَقِّ (8) ; فَإِنَّهُمْ أَمَرُوا بِالْفَرْقِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ (9) مَعَ هَذَا الْجَمْعِ أَنَّ الرَّبَّ فَرَّقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ، فَأَحَبَّ هَذَا،
(1) بِهِ: زِيَادَةٌ فِي (ح) ، (ر) ، (ب) ، (ي) .
(2)
و: وَإِنْ أُرِيدَ.
(3)
ح: لِمَا.
(4)
أَيِ: الْأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ، وَهُوَ كَلَامُهُ الَّذِي سَبَقَ مِنْ قَبْلُ.
(5)
ح، ر، ي: أَنْ تَشْهَدَ.
(6)
ح، ر، ي: بِإِرَادَةٍ تُرَجِّحُ.
(7)
ن، م، و: وَأَوْلِيَاءَ وَأَعْدَاءٍ.
(8)
ب فَقَطْ: أَهْلِ التَّحْقِيقِ.
(9)
ح، ر، ي: أَنْ تَشْهَدَ.
وَأَبْغَضَ هَذَا، وَأَثَابَ عَلَى هَذَا، وَعَاقَبَ عَلَى هَذَا، فَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَشْهَدُ الْفَرْقَ (1) فِي الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ فِي الْفَرْقِ، لَا (2) يُشْهَدُ جَمْعًا مَحْضًا، وَلَا فَرْقًا مَحْضًا (3) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَيَجْذِبُ إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ " فَسَيَأْتِي. وَهَؤُلَاءِ شَرِبُوا مِنَ الْعَيْنِ الَّتِي شَرِبَ مِنْهَا نُفَاةُ الْقَدَرِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَالُوا: الْأَمْرُ أُنُفٌ. قَالُوا: إِذَا سَبَقَ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ بِشَيْءٍ، امْتَنَعَ أَنْ يَأْمُرَ بِخِلَافِهِ، وَوَجَبَ وُجُودُهُ. وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَكِنَّ أُولَئِكَ كَانُوا مُعَظِّمِينَ (4) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; فَظَنُّوا أَنَّ إِثْبَاتَ مَا سَبَقَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ يُنَافِيهِ، فَأَثْبَتُوا الشَّرْعَ وَنَفَوُا الْقَدْرَ.
وَهَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنْ أَثْبَتُوا الْقَدَرَ وَنَفَوْا عَمَّنْ شَاهَدَهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ حَسَنَةً يَأْمُرُ بِهَا، أَوْ يَسْتَقْبِحَ سَيِّئَةً يَنْهَى عَنْهَا ; فَأَثْبَتُوا الْقَدَرَ، وَأَبْطَلُوا الشَّرْعَ عَمَّنْ شَاهَدَ الْقَدَرَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشَدُّ مُنَافَاةً لِدِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ قَوْلِ نُفَاةِ الْقَدَرِ.
قَالَ: " وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الثَّالِثُ فَهُوَ تَوْحِيدٌ اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَقَّهُ بِقَدَرِهِ. . . إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ " وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُ. فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ الطَّرِيقِ، كَالْجُنَيْدِ وَغَيْرِهِ، حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ الْخَاصُّ، مَنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَحِّدُ هُوَ الْمُوَحَّدُ، وَلَا يُوَحِّدُ
(1) و: وَيَشْهَدُ بِهَذَا الْفَرْقِ.
(2)
ح، ر، ي: وَلَا.
(3)
عِبَارَةُ " وَلَا فَرْقًا مَحْضًا " سَاقِطَةٌ مِنْ (و) .
(4)
و: مُعَطَّلِينَ.
اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ غَيْرَ اللَّهِ يُوَحِّدُ اللَّهَ فَهُوَ جَاحِدٌ عِنْدَهُمْ، كَمَا قَالَ:
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ (أَيْ مِنْ وَاحِدٍ غَيْرِهِ)
…
إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ الْمُوَحَّدُ وَالْمُوَحِّدُ. وَلِهَذَا قَالَ:
تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ
…
عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
يَعْنِي إِذَا تَكَلَّمَ الْعَبْدُ بِالتَّوْحِيدِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِ نَفْسِهِ، فَيَسْتَعِيرُ مَا لَيْسَ لَهُ، فَيَتَكَلَّمُ بِهِ، وَهَذِهِ عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ، وَلَكِنْ إِذَا فَنَى عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ، وَكَانَ الْحَقُّ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى لِسَانِهِ، حَيْثُ فَنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَزُلْ، فَيَكُونُ الْحَقُّ هُوَ النَّاطِقُ بِنَعْتِ نَفْسِهِ، لَا بِنَعْتِ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ هُوَ الْمُوَحَّدُ وَهُوَ الْمُوَحِّدُ، وَلِهَذَا قَالَ: تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ - أَيْ تَوْحِيدُ الْحَقِّ إِيَّاهُ - أَيْ: نَفْسُهُ هُوَ (1) ، تَوْحِيدُهُ هُوَ، لَا تَوْحِيدَ الْمَخْلُوقِينَ لَهُ) فَإِنَّهُ لَا يُوَحِّدُهُ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ النَّاطِقُ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى لِسَانِ خَاصَّتِهِ، لَيْسَ النَّاطِقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ، كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ: إِنَّ اللَّاهُوتَ تَكَلَّمَ بِلِسَانِ النَّاسُوتِ.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ أَوْ تَصَوَّرَهُ، وَهُوَ يَشْهَدُ غَيْرَ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِمُوَحِّدٍ (2) عِنْدَهُمْ. وَإِذَا غَابَ وَفَنَى عَنْ نَفْسِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ; فَتَمَّ لَهُ مَقَامُ تَوْحِيدِ الْفَنَاءِ (3) ، الَّذِي يَجْذِبُهُ (4) ، إِلَى تَوْحِيدِ أَرْبَابِ الْجَمْعِ، صَارَ الْحَقُّ هُوَ
(1) ن، م، و: هِيَ.
(2)
ح، ر، ي: فَلَيْسَ يُوَحِّدُ.
(3)
و: تَمَّ لَهُ مَقَامُ الْفَنَاءِ ; ر، ح، ي: فَتَمَّ لَهُ تَوْحِيدُ الْفَنَاءِ.
(4)
ب فَقَطْ: الَّذِي يَجْذِبُهُ.
النَّاطِقُ الْمُتَكَلِّمُ بِالتَّوْحِيدِ، وَكَانَ هُوَ الْمُوَحِّدُ، وَهُوَ الْمُوَحَّدُ، لَا مُوَحِّدَ غَيْرَهُ.
وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يَصِيرَ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فَيَتَّحِدُ اللَّاهُوتُ وَالنَّاسُوتُ، كَمَا يَقُولُ النَّصَارَى: إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِمَا كَانَ يُسْمَعُ مِنَ الْمَسِيحِ هُوَ اللَّهُ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الَّذِينَ سَمِعُوا مِنْهُ هُمْ رُسُلُ اللَّهِ، وَهُمْ عِنْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (1) .
وَلِهَذَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ طَائِفَةٌ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ وَقَعُوا فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ مُطْلَقًا وَمُعَيَّنًا، فَكَانُوا يُنْشِدُونَ قَصِيدَةَ ابْنِ الْفَارِضِ، وَيَتَحَلَّوْنَ بِمَا فِيهَا مِنْ تَحْقِيقِ الِاتِّحَادِ الْعَامِّ، وَيَرَوْنَ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ هُوَ مَجْلًى وَمَظْهَرٌ، ظَهَرَ فِيهِ عَيْنُ الْحَقِّ، وَإِذَا رَأَى أَحَدُهُمْ مَنْظَرًا حَسَنًا (2) أَنْشَدَ:
يَتَجَلَّى فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ
…
بِلِبَاسٍ (3) مِنَ الْجَمَالِ جَدِيدِ
وَيُنْشِدُ الْآخَرُ:
هَيْهَاتَ يَشْهَدُ نَاظِرَيْ مَعَكُمْ سِوَى
…
إِذَا أَنْتُمْ عَيْنُ الْجَوَارِحِ وَالْقُوَى
(* وَيُنْشِدُ الثَّالِثُ:
أُعَايِنُ فِي كُلِّ الْوُجُودِ جَمَالَكُمْ
…
وَأَسْمَعُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ نِدَاكُمُ (4)
(1) و: وَمُوسَى وَعِيسَى.
(2)
و: مَا أُلِفُوا بِهِ.
(3)
و: فِي لِبَاسٍ.
(4)
بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ فِي (ن) ، (م)، (ي) :" وَأَرْشُفُ "، وَبَعْدَهَا بَيَاضٌ فِي (ن) ، (م) ، وَكُتِبَ فِي (ي) وَيَتْلُوهُ بَيَاضٌ.
وَتَلْتَذُّ (1) إِنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي
لِأَنِّيَ فِي التَّحْقِيقِ لَسْتُ سِوَاكُمُ
*) (2) وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ قَوْلِ النَّصَارَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَظْهَرُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، لَمْ يُمْكِنْ أَصْحَابَ هَذَا الِاتِّحَادِ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ كَمَا تَكَلَّمَتْ بِهِ النَّصَارَى، بَلْ صَارَ عِنْدَهُمْ مِمَّا يُشْهَدُ وَلَا يُنْطَقُ بِهِ، وَهُوَ عِنْدُهُمْ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي لَا يُبَاحُ بِهَا، وَمَنْ بَاحَ بِالسِّرِّ قُتِلَ.
وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْحَلَّاجَ لَمَّا بَاحَ (3) بِهَذَا السِّرِّ وَجَبَ قَتْلُهُ ; وَلِهَذَا قَالَ (4) : " هُوَ تَوْحِيدٌ اخْتَصَّهُ الْحَقُّ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَقَّهُ بِقَدْرِهِ، وَأَلَاحَ مِنْهُ لَائِحًا إِلَى أَسْرَارِ طَائِفَةٍ مِنْ صَفْوَتِهِ، وَأَخْرَسَهُمْ عَنْ نَعْتِهِ، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ بَثِّهِ ".
فَيُقَالُ: أَمَّا تَوْحِيدُ الْحَقِّ نَفْسَهُ (5) بِنَفْسِهِ، وَهُوَ عِلْمُهُ بِنَفْسِهِ وَكَلَامُهُ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 18]، وَقَوْلِهِ:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [سُورَةُ طَه: 14] ; فَذَاكَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ، كَمَا تَقُومُ بِهِ سَائِرُ صِفَاتِهِ مِنْ حَيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ لَا يُفَارِقُ ذَاتَ الرَّبِّ وَيَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ أَصْلًا، كَسَائِرِ صِفَاتِهِ، بَلْ صِفَاتُ الْمَخْلُوقِ لَا تُفَارِقُ ذَاتَهُ وَتَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَيْفَ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ؟ ! .
(1) م: وَأَلْتَذُّ.
(2)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (و) .
(3)
ن، م: أَبَاحَ.
(4)
ن: وَلِهَذَا قُتِلَ قَالَ.
(5)
ح، ب: لِنَفْسِهِ.
وَلَكِنْ هُوَ - سُبْحَانَهُ - يُنَزِّلُ (1) عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ مَا أَنْزَلَهُ (2) ، كَمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ (3) ، وَهُوَ كَلَامُهُ، عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ.
وَقَدْ قَالَ - سُبْحَانَهُ -: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 18] ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَأُولُو الْعِلْمِ مِنْ عِبَادِهِ يَشْهَدُونَ، وَالشَّهَادَاتُ مُتَطَابِقَةٌ مُتَوَافِقَةٌ.
وَقَدْ يُقَالُ: هَذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ هَذِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا نَوْعُهَا، وَلَيْسَ نَفْسُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ هِيَ نَفْسُ صِفَةِ الْخَالِقِ، وَلَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ كَلَامُهُ - سُبْحَانَهُ - مَسْمُوعًا مِنَ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ، لَيْسَ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ لَهُ وَسَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، بِمَنْزِلَةِ سَمْعِ مُوسَى لَهُ مِنَ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَإِنَّ مُوسَى سَمِعَ نَفْسَ كَلَامِ الرَّبِّ، كَمَا يَسْمَعُ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ، كَمَا يَسْمَعُ الصَّحَابَةُ كَلَامَ الرَّسُولِ مِنْهُ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَسَمِعُوهُ مُبَلِّغًا عَنِ اللَّهِ، كَمَا يَسْمَعُ (4) التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُبَلَّغًا عَنْهُ.
وَلِهَذَا قَالَ لِرَسُولِهِ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 67]، وَقَالَ:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [سُورَةُ الْجِنِّ: 28] .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «بَلِّغُوا عَنِّي [وَلَوْ آيَةً] » "(5) . وَقَالَ:
(1) و: نَزَّلَ.
(2)
و، م: مَا أَنْزَلَ، و: مَا نَزَّلَهُ.
(3)
م: الْفُرْقَانِ.
(4)
و: كَمَا سَمِعَ.
(5)
وَلَوْ آيَةً: زِيَادَةٌ فِي (و) فَقَطْ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ "، وَهُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما فِي: الْبُخَارِيِّ 4/170، (كِتَابُ الْأَنْبِيَاءِ بَابُ مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) ، سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 4/147 (كِتَابُ الْعِلْمِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) ، الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 9/250 - 251، 11/127، 207
" «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا (1) حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ ; فَرُبَّ حَامِلِ فَقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ (2) ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» "(3) . وَقَالَ: " «أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» "(4) .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " وَأَلَاحَ مِنْهُ لَائِحًا إِلَى أَسْرَارِ طَائِفَةٍ مِنْ صَفْوَتِهِ، وَأَخْرَسَهُمْ عَنْ نَعْتِهِ، وَأَعْجَزَهُمْ عَنْ بَثِّهِ ".
فَيُقَالُ: أَفْضَلُ صَفْوَتِهِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَأَفْضَلُهُمُ الرُّسُلُ، وَأَفْضَلُ الرُّسُلِ أُولُو الْعَزْمِ، وَأَفْضَلُ أُولِي الْعَزْمِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَمَا أَلَاحَهُ اللَّهُ عَلَى أَسْرَارِ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَكْمَلُ تَوْحِيدٍ عَرِفَهُ الْعِبَادُ، وَهُمْ قَدْ تَكَلَّمُوا بِالتَّوْحِيدِ وَنَعَتُوهُ وَبَثُّوهُ، وَمَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا
(1) ح، ب: مِنِّي.
(2)
ح، ب: فِقْهٍ إِلَى غَيْرِ فَقِيهٍ.
(3)
وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، كَمَا جَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُقَارِبَةٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، رضي الله عنهم، فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 4/141 - 142 كِتَابُ الْعِلْمِ بَابُ مَا جَاءَ فِي الْحَثِّ عَلَى تَبْلِيغِ السَّمَاعِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 3/438، (كِتَابُ الْعِلْمِ بَابُ فَضْلِ نَشْرِ الْعِلْمِ) ، سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/84 - 86 (الْمُقَدِّمَةُ، بَابُ مَنْ بَلَّغَ عِلْمًا) ، " الْمُسْنَدِ "(ط. الْحَلَبِيِّ) 3/225
(4)
الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 4/324 (كِتَابُ السُّنَّةِ بَابٌ فِي الْقُرْآنِ) سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 4/255 (كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، بَابُ مَا جَاءَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ".
وَارِثِ نَبِيٍّ، أَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ يَعْلَمُ تَوْحِيدًا لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِهِ، بَلْ كُلُّ مَا عَلِمَهُ الْقَلْبُ أَمْكَنَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ، لَكِنْ قَدْ لَا يَفْهَمُهُ إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ.
فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يُبَيِّنَ مَا عَرَّفَهُ اللَّهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ. فَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
ثُمَّ يُقَالُ: إِنْ أُرِيدَ بِهَذَا اللَّائِحِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ نَفْسُهُ هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ فِي قُلُوبِ صَفْوَتِهِ لِاتِّحَادِهِ بِهِمْ، أَوْ حُلُولِهِ فِيهِمْ. فَهَذَا قَوْلُ النَّصَارَى، وَهُوَ بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا.
وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يُعَرِّفُ صَفْوَتَهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ مَا لَا يُعَرِّفُهُ غَيْرَهُمْ. فَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ مَا قَامَ بِقُلُوبِهِمْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الرَّبِّ [الْخَالِقِ] تَعَالَى (1) ، بَلْ هُوَ الْعِلْمُ بِهِ وَمَحَبَّتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَتَوْحِيدُهُ.
وَقَدْ يُسَمَّى الْمَثَلُ الْأَعْلَى، وَيُفَسَّرُ بِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سُورَةُ الرُّومِ: 27] أَيْ فِي قُلُوبِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمِثَالُ الْحُبِّيُّ وَالْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ (2) . وَقَدْ يُخَيَّلُ لِنَاقِصِ الْعَقْلِ إِذَا أَحَبَّ شَخْصًا مَحَبَّةً تَامَّةً، بِحَيْثُ فَنِيَ فِي حُبِّهِ، حَتَّى لَا يَشْهَدَ فِي قَلْبِهِ غَيْرُهُ، أَنَّ نَفْسَ الْمَحْبُوبِ صَارَ (3) فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ غَالِطٌ (4) فِي ذَلِكَ، بَلِ الْمَحْبُوبُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِمَّا فِي بَيْتِهِ، وَإِمَّا فِي الْمَسْجِدِ (5) ، وَإِمَّا فِي
(1) ن، م: لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الرَّبِّ - تَعَالَى -، ب: لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْخَالِقِ، ح، ر، و، ي: لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الرَّبِّ الْخَالِقِ.
(2)
و: الْمِثَالُ الْعَلِيُّ وَالْمِثَالُ الْحِسِّيُّ.
(3)
ن: صَارَتْ.
(4)
ن، م: وَهَذَا غَلَطٌ.
(5)
ن، م: إِمَّا فِي الْمَسْجِدِ وَإِمَّا فِي بَيْتِهِ.
مَوْضِعٍ آخَرَ. وَلَكِنَّ الَّذِي فِي قَلْبِهِ هُوَ مِثَالُهُ.
وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَنْتَ فِي قَلْبِي، وَأَنْتَ فِي فُؤَادِي، وَالْمُرَادُ هَذَا الْمِثَالُ ; لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ ذَاتَهُ، فَإِنَّ ذَاتَهُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ. كَمَا يُقَالُ: أَنْتَ بَيْنَ عَيْنَيْ، وَأَنْتَ دَائِمًا عَلَى لِسَانِي (1)، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مِثَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي
…
وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَكَيْفَ تَغِيبُ (2)
وَقَالَ آخَرُ:
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ
…
لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
فَجَعَلَهُ سَاكِنًا عَامِرًا لِلْقَلْبِ لَا يُنْسَى، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ ذَاتَهُ حَصَلَتْ فِي قَلْبِهِ كَمَا يَحْصُلُ (3) الْإِنْسَانُ السَّاكِنُ فِي بَيْتِهِ، بَلْ هَذَا الْحَاصِلُ هُوَ الْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ. (* وَقَالَ آخَرُ:
وَمِنْ عَجَبٍ أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ
…
وَأَسْأَلُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيتُ وَهُمْ مَعِي
وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا
…
وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي *) (4)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الْقَائِلِ: " الْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ " وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْ قَوْلِهِ: " مَا وَسِعَتْنِي أَرْضِي وَلَا سَمَائِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، التَّقِيُّ النَّقِيُّ، الْوَرِعُ (5) اللَّيِّنُ (6) "، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ
(1) ح، ر: دَائِمًا فِي لِسَانِي.
(2)
و: فَأَيْنَ تَغِيبُ.
(3)
و: جُعِلَتْ فِي قَلْبِهِ كَمَا يَجْعَلُ.
(4)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (و) .
(5)
الْوَرِعُ: كَذَا فِي (ح) ، (ب)، وَفِي سَائِرِ النُّسَخِ: الْوَارِعُ.
(6)
قَالَ الْعِجْلُونِيُّ فِي " كَشْفِ الْخَفَاءِ " 2/195: " ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ "(أَيِ الْغَزَالِيُّ)، بِلَفْظِ: قَالَ اللَّهُ: لَمْ يَسَعْنِي سَمَائِي وَلَا أَرْضِي، وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ اللَّيِّنِ الْوَادِعِ - قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِهِ: لَمْ أَرَ لَهُ أَصْلًا. وَوَافَقَهُ فِي " الدُّرَرِ " تَبَعًا لِلزَّرْكَشِيِّ، وَذَكَرَ الْعِجْلُونِيُّ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فَقَالَ:" وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ مَعْرُوفٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "، ثُمَّ قَالَ:" وَقَالَ فِي " الْمَقَاصِدِ " تَبَعًا لِشَيْخِهِ فِي " اللَّآلِئِ ": لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ مَعْرُوفٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثَ فِي " الدُّرَرِ الْمُنْتَثِرَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ " ص 175 تَحْقِيقُ الدكتور مُحَمَّدِ بْنِ لُطْفِي الصَّبَّاغِ، ط. الرِّيَاضِ 1403/1983، وَبَيَّنَ الدكتور الصَّبَّاغُ فِي تَعْلِيقِهِ مَوَاضِعَ الْحَدِيثِ فِي كُتُبِ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ.
نَفْسَهُ يَكُونُ فِي قَلْبِ كُلِّ عَبْدٍ، بَلْ فِي الْقَلْبِ مَعْرِفَتُهُ، وَمَحَبَّتُهُ، وَعِبَادَتُهُ.
وَالنَّائِمُ يَرَى فِي الْمَنَامِ إِنْسَانًا يُخَاطِبُهُ وَيُشَاهِدُهُ، وَيُجْرِي مَعَهُ فُصُولًا (1) ، وَذَلِكَ الْمَرْئِيُّ قَاعِدٌ فِي بَيْتِهِ، أَوْ مَيِّتٌ فِي قَبْرِهِ، وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالَهُ. وَكَذَلِكَ يَرَى فِي الْمِرْآةِ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ، وَيَرَاهَا تَكَبُرُ بِكِبَرِ الْمَرْآةِ، وَتَصْغُرُ بِصِغَرِهَا، وَتَسْتَدِيرَ بِاسْتِدَارَتِهَا، وَتَصِفُوا بِصَفَائِهَا، وَتِلْكَ مِثَالُ الْمَرْئِيَّاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمِرْآةِ، وَأَمَّا نَفْسُ الشَّمْسِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، فَلَمْ تَصِرْ ذَاتُهَا فِي الْمِرْآةِ.
وَقَدْ خَاطَبَنِي مَرَّةً شَيْخٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا، وَكَانَ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّ الْحَلَّاجَ قَالَ:" أَنَا الْحَقُّ " ; لِكَوْنِهِ كَانَ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ. فَقَالَ: الْفَرْقُ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَالْحَلَّاجِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 24] وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْحَلَّاجُ فَكَانَ فَانِيًا (2) عَنْ نَفْسِهِ، وَالْحَقُّ نَطَقَ عَلَى لِسَانِهِ. فَقُلْتُ لَهُ: أَفَصَارَ الْحَقُّ فِي قَلْبِ الْحَلَّاجِ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ كَمَا يَنْطِقُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ؟ !
(1) و: فُصُولٌ.
(2)
ب فَقَطْ: غَائِبًا.
(1 وَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ قَلْبِ الْحَلَّاجِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ (1) 1) ، فَقَلْبُ (2) الْحَلَّاجِ أَوْ غَيْرِهِ كَيْفَ يَسَعُ ذَاتَ الْحَقِّ؟ ! ثُمَّ الْجِنِّيُّ يَدْخُلُ فِي جَسَدِ الْإِنْسَانِ وَيَشْغَلُ (3) جَمِيعَ أَعْضَائِهِ، (4 وَالْإِنْسَانُ الْمَصْرُوعُ لَا يُحِسُّ بِمَا يَقُولُهُ الْجِنِّيُّ وَيَفْعَلُهُ بِأَعْضَائِهِ (4) 4) ، لَا يَكُونُ الْجِنِّيُّ فِي قَلْبِهِ فَقَطْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ كُلُّ مَا قَامَ بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ عَرَضٌ مِنَ الْأَعْرَاضِ، لَيْسَ شَيْئًا مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْجِنِّيُّ بِقَلْبِهِ الَّذِي هُوَ رُوحُهُ.
وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَدَّعُونَ (5) أَنَّ ذَاتَ الْحَقِّ قَامَتْ بِقَلْبِهِ فَقَطْ، فَهَذَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ (6) ، فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ جل جلاله؟ ! .
وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ» "(7) ; فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: " «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» فَيُقَالُ لَهُمُ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ مَا أَرَدْتُمْ مِنَ الْحُلُولِ
(1) سَاقِطٌ مِنْ (و) .
(2)
ن، م: فَقُلْتُ، و: وَقُلْتُ.
(3)
و: وَيَسْتَعْمِلُ.
(4)
سَاقِطٌ مِنْ (و) .
(5)
و: قَدْ يَزْعُمُونَ.
(6)
و: الْمُكَلَّفِ.
(7)
هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، وَأَوَّلُهُ - وَهَذِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ - " إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ. . "، الْحَدِيثَ، وَهُوَ فِي: مُسْلِمٍ 1/303 - 305 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ) ، سُنَنِ النَّسَائِيِّ 2/75 - 76 (كِتَابُ الْإِمَامَةِ، بَابُ مُبَادِرَةِ الْإِمَامِ) 2/192 - 193 (كِتَابُ التَّطْبِيقِ بَابُ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّشَهُّدِ) .
وَالِاتِّحَادِ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ بَلَّغَكُمْ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَأَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ يَسْمَعُ (1) دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ فَاحْمَدُوهُ أَنْتُمْ، وَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ; حَتَّى يَسْمَعَ اللَّهُ لَكُمْ دُعَاءَكُمْ ; فَإِنَّ الْحَمْدَ قَبْلَ الدُّعَاءِ سَبَبٌ لِاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ.
وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، يَقُولُ الْمُرْسِلُ لِرَسُولِهِ: قُلْ عَلَى لِسَانِي كَذَا وَكَذَا، وَيَقُولُ الرَّسُولُ لِمُرْسِلِهِ: قُلْتُ عَلَى لِسَانِكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَقُولُ الْمُرْسِلُ أَيْضًا: قُلْتُ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِي (2) كَذَا وَكَذَا.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [سُورَةُ الشُّورَى: 51] ، فَاللَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنَ الْبَشَرِ بِرِسَالَةٍ، كَانَ مُكَلِّمًا لِعِبَادِهِ بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ، بِمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ، وَكَانَ مُبَيِّنًا لَهُمْ بِذَلِكَ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 94] أَيْ: بِوَاسِطَةِ رَسُولِهِ. وَقَالَ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: 18]، وَقَالَ:{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} [سُورَةُ الْقَصَصِ: 3]، وَقَالَ:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 3] .
فَكَانَتْ تِلْكَ التِّلَاوَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالْقَصَصُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ ; فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُكَلِّمُ عِبَادَهُ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ يُرْسِلُهُ، فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ; وَلِهَذَا جَاءَ بِلَفْظِ
(1) ب فَقَطْ: سَمِعَ.
(2)
ح: رَسُولِكُمْ.
الْجَمْعِ، فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ الْمُطَاعُ بِجُنْدِهِ يُقَالُ فِيهِ: نَحْنُ نَفْعَلُ كَذَا، وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ فِيمَا يَخْلُقُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَمَا خَلَقَهُ وَأَمَرَ بِهِ بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ فِيهِ: نَحْنُ فَعَلْنَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: 18] .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي قَلْبِكَ، ثُمَّ أَنْ (1) نَقْرَأَهُ بِلِسَانِكَ، فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاسْتَمِعْ لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ (2) .
كَمَا قَالَ (3) فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [سُورَةُ طه: 114] أَيْ: لَا تَعْجَلْ بِتِلَاوَةِ مَا يَقْرَؤُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْضِيَ جِبْرِيلُ تِلَاوَتَهُ، بَلِ اسْتَمِعْ لَهُ حَتَّى يَقْضِيَ (4) تِلَاوَتَهُ، ثُمَّ
(1) أَنْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ح) ، (ر) ، (ب) .
(2)
الْحَدِيثُ - مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ -، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الْبُخَارِيِّ 1/4 (كِتَابُ بَدْءِ الْوَحْيِ، بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ. .) ، 6/163 (كِتَابُ التَّفْسِيرِ، سُورَةُ الْقِيَامَةِ) 9/152 - 153 (كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَكَ. .) ، وَالْحَدِيثُ أَيْضًا فِي مُسْلِمٍ 1/330 - 331 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ الِاسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ) ، الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 3/278، (مُخْتَصَرًا) 5/69 وَأَوْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ الْحَدِيثَ فِي تَفْسِيرٍ (ط. الشَّعْبِ) 5/312، 8/303 - 304 وَلَفْظُ الْحَدِيثِ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ (الْبُخَارِيِّ 6/163) :" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي فِي (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: 16، 17] قَالَ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ (وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِع (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ. قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ ".
(3)
ح، ب: كَمَا قِيلَ.
(4)
ح، ب: تُقْضَى.
بَعْدَ هَذَا اقْرَأْ مَا أَنْزَلَهُ (1) إِلَيْكَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ، وَأَنْ تَقْرَأَهُ بِلِسَانِكَ، ثُمَّ أَنْ تُبَيِّنَهُ (2) لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَهَابِ جِبْرِيلَ عَنْكَ.
وَقَوْلُهُ: " وَالَّذِي يُشَارُ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسُنِ الْمُشِيرِينَ أَنَّهُ إِسْقَاطُ الْحَدَثِ (3) ، وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ ".
فَيُقَالُ: مُرَادُهُمْ بِهَذَا نَفْيُ الْمُحْدَثِ (4)، أَيْ: لَيْسَ هُنَا إِلَّا الْقَدِيمُ، وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ. فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ نَفْيُ الْمُحْدَثِ (5) بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْقَدِيمُ، فَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى، إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ إِلَى قَوْلِ الْيَعْقُوبِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى ; فَإِنَّ الْيَعْقُوبِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنِ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ امْتَزَجَا وَاخْتَلَطَا فَصَارَا جَوْهَرًا وَاحِدًا، وَأُقْنُومًا وَاحِدًا، وَطَبِيعَةً وَاحِدَةً، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْيَدَيْنِ اللَّتَيْنِ سَمَّرَتَا (6) هُمَا الْيَدَانِ اللَّتَانِ خُلِقَ بِهِمَا آدَمُ.
وَأَمَّا النُّسْطُورِيَّةُ فَيَقُولُونَ بِحُلُولِ اللَّاهُوتِ فِي النَّاسُوتِ، وَالْمَلَكَانِيَّةُ (7) يَقُولُونَ: شَخْصٌ وَاحِدٌ، لَهُ أُقْنُومٌ وَاحِدٌ، بِطَبِيعَتَيْنِ وَمَشِيئَتَيْنِ (8) . وَيُشَبِّهُونَهُ بِالْحَدِيدَةِ وَالنَّارِ، وَالنُّسْطُورِيَّةُ يُشَبِّهُونَهُ بِالْمَاءِ فِي الظُّرُوفِ، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ يُشَبِّهُونَهُ بِاخْتِلَاطِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ، وَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ (9) .
(1) ب (فَقَطْ) : مَا أُنْزِلَ.
(2)
و: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ.
(3)
ب، م: الْحُدُوثُ.
(4)
و: الْحَدَثِ.
(5)
ح: فَإِنْ أُرِيدَ نَفْيٌ لِلْحَدَثِ.
(6)
ن: شَمَّرْنَا
(7)
ح: وَالْمَلَكِيَّةُ.
(8)
و: وَنِسْبَتَيْنِ.
(9)
ب فَقَطْ: وَالْحُمْرِ، وَانْظُرْ أَقْوَالَ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنُّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلَكَانِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ لِلشَّهْرَسْتَانِيِّ 1/203 - 208 الْفِصَلِ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ 1/110 - 132 وَانْظُرْ كِتَابَ " الْجَوَابِ الصَّحِيحِ لِمَنْ بَدَّلَ دِينَ الْمَسِيحِ " لِابْنِ تَيْمِيَّةَ ط. الْمَدَنِيِّ الْقَاهِرَةِ 1379/1959