الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله الذي جعل كتابه موعظة وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا وإمامنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، الذي كان يتخوَّل أصحابه بالموعظة، وينوِّعها عليهم حالًا، وزمانًا ومكانًا، فكان بحقِّ سيد الواعظين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحابته الذين كانوا للمواعظ خير مستمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين؛ أمَّا بعد:
فلقد أخذ الوعظ في كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم مكانًا بارزًا، ومحلًّا كبيرًا؛ وما ذاك إلا لعظيم أثره على القلوب، وحاجة النفوس إليهن خاصةً مع كثرة ملابسة الأمور التي تقسِّي القلب، وتشتِّت الذهن؛ ولهذا كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يتخوَّل أصحابه بالموعظة، والسؤال: من الواعظ؟ ومن الموعوظ؟ فإذا كان الأمر كذلك، فحاجتنا نحن إلى الوعظ أكثر وأكبر؛ فالوعظ طريقٌ من الطُّرق الموصلة إلى الجنَّة، ينير العقل، ويصلح القلب، وأثره في حصوله المحبَّة والألفة بين المسلمين أشهر من أن ينوَّه به (1).
(1) يُنظر: نضرة النعيم (8/ 3637).
يقول محمد بن عبادة المعافريُّ؛ كنَّا عند أبي شريحٍ المعافريِّ رحمه الله فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميدٍ المهريِّ، استقلُّوا قلوبكم، وتعلَّموا هذه الرغائب والرقائق؛ فإنَّها تجدِّد العبادة، وتورث الزَّهادة، وتجرُّ الصَّداقة، وأقلُّوا المسائل؛ فإنَّها في غير ما نزل تقسِّي القلب، وتورث العداوة (1).
والمتأمِّل في الهدي النبويِّ في الوعظ، يمكنه تلخيص منهجه صلى الله عليه وسلم فيما يلي:
(1)
- ممارسة الوعظ بأنواعه؛ القوليِّ والفعليِّ.
(2)
- عدم الإملال بالوعظ، كما في الصحيحين من حديث أبي وائلٍ شقيق بن سلمة، قال: كان عبد الله بن مسعودٍ يذكِّرنا كلَّ يوم خميسٍ، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، إنَّا نحبُّ حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنَّك حدَّثتنا كلَّ يومٍ، فقال: ما يمنعني أن أحدِّثكم إلا كراهية أن أملَّكم؛ «إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوَّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا» (2).
(3)
- اغتنام المناسبات، واهتبال الفرص، فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن يجعل للوعظ هيئةً معيَّنةً لا يخرج عنها، بل كانت حياته دعوةً، ودعوته حياةً، فهو يرى مشهدًا من المشاهد، فيغتنمه ليربط الصحابة بمعنى من المعاني الشريفة، فمثلًا: يقول جابر رضي الله عنه مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوق، داخلًا من بعض العالية، والناس كَنَفَتَهُ، فمرَّ بجدي أسكَّ - يعني: صغير الأذنين - ميِّتٍ، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال:(أيُّكم يحبُّ أنَّ هذا له بدرهم؟)، فقالوا: ما نحبُّ أنَّه لنا بشيءٍ، وما نصنع به؟ قال:(أتحبُّون أنَّه لكم؟)،
(1) سير أعلام النبلاء (7/ (182)).
(2)
البخاري ((70))، مسلم ((2821)).
قالوا: والله لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه؛ لأنَّه أسكُّ، فكيف وهو ميِّتٌ؟ فقال:(فوالله للدُّنيا أهون على الله، من هذا عليكم)(1).
وفي إحدى الغزوات قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ، فإذا امرأةٌ من السبي تبحث عن صبيِّها الصغير الذي فقدته، فوجدته فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النَّار؟)، قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألَاّ تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لله أرحم بعباده من هذه بولدها)» (2).
(4)
- ومن الهدي النبويِّ في الوعظ: التعميم في الخطاب: (ما بال أقوام)، هذا هو الأصل المطَّرد، والأعمُّ الأغلب في وعظه صلى الله عليه وسلم، ويندر أن ينصَّ على شخصٍ بعينه؛ فإنَّ النفوس تكره وتنفر من مثل هذا.
5 -
الإيجاز والاختصار، وعدم الإطالة إلا نادرًا لمصلحةٍ عارضةٍ.
ومن تأمَّل في مواعظ الصحابة رضي الله عنهم، وجدهم قد ساروا على هذا الهدي العظيم، فهم خير هذه الأمة، وأبرُّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلُّها تكلُّفاً - كما وصفهم بذلك الحسن البصريُّ رحمه الله (3).
ولما سبقت الإشارة إليه؛ وقع الاختيار على مواعظهم، للتعليق على ما تيسَّر منها؛ لتميُّزها بعدة مزايا:
1 -
أنها مواعظ صادرةٌ عن تلاميذ سيِّد الواعظين صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّهم جمعوا بين العلم العميق المؤصَّل، وسهولة العبارة التي جعلتهم يتكلَّمون بكلامٍ يفهمه عامة الناس في عصرنا فضلًا عمَّن
(1) صحيح مسلم (4/ 2272).
(2)
البخاري (5999)، مسلم (2754).
(3)
الشريعة، للآجري (4/ 1686)
قبلهم، بينما تجد في بعض عبارات العبَّاد الذين عاشوا في قرونٍ بعدهم شيئًا من التكلُّف، والغموض، وأحيانًا لا تسلم من إشكالاتٍ شرعيَّةٍ.
(3)
- قصر مواعظهم، وسهولة فهمها، وتطبيقها.
(4)
- أنَّها مواعظ مترجمةٌ عمليًّا في واقعهم، فلا يعجز الباحث أن يجد في سيرهم الترجمة العمليَّة لها، وهذا له أثره في الإفادة منها. قيل لحمدونٍ القصَّار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنَّهم تكلَّموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلَّم لعزِّ النفوس، وطلب الدُّنيا، ورضا الخلق (1).
يقول ابن القيِّم رحمه الله مبيِّنًا هذا المعنى في حقِّ الصحابة رضي الله عنهم: «ولا ريب أنَّهم كانوا أبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلُّفاً، وأقرب إلى أن يوفَّقوا لما لم نوفَّق له نحن؛ لما خصَّهم الله تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الربِّ تعالى؛ فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزةٌ في فطرهم وعقول» .اهـ (2).
إذا تبيَّن هذا، فلنبيِّن على وجه الاختصار معنى الوعظ وحقيقته:
فالوعظ في اللُّغة يدور على الترغيب، والترهيب، قال ابن فارسٍ: الوعظ: التخويف، والعظة الاسم منه، وقال الخليل: هو التذكير بالخير وما يرقُّ له قلبه (3).
(1) صفة الصفوة (2/ 313).
(2)
إعلام الموقعين (4/ 113).
(3)
مقاييس اللغة (6/ 126).
وقال الذَّهبيُّ: «الوعظ فنٌّ بذاته، يحتاج إلى مشاركةٍ جيِّدةٍ في العلم، ويستدعي معرفةً حسنةً بالتفسير، وإكثارًا من حكايات الفقراء والزُّهاد» (1).
وههنا معنى مهمُّ يتعلَّق بالوعظ، شكا منه الصحابة رضي الله عنهم وخافوا على أنفسهم من النِّفاق بسببه، فبيَّن لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجه الصواب؛ ذلك أنَّ حنظلة الأسيِّديَّ رضي الله عنه قال: لقينى أبو بكرٍ، فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنَّا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكرٍ، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما ذاك؟)، قلت: يا رسول الله نكون عندك، تذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كأنَّا رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والَّذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً) ثلاث مرَّاتٍ (2).
يوضِّح ابن الجوزي رحمه الله هذا المعنى فيقول:
«قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظةٌ، فإذا انفصل عن مجلس الذِّكر، عادت القسوة والغفلة، فتدبَّرت السبب في ذلك، فعرفته، ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أنَّ القلب لا يكون على صفه من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين:
(1) زغل العلم (ص49).
(2)
صحيح مسلم (4/ 2106).
أحدهما: أنَّ المواعظ كالسِّياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها.
والثَّاني: أنَّ حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلَّة، قد تخلَّى بجسمه وفكره عن أسباب الدُّنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، فكيف يصحُّ أن يكون كما كان؟!
وهذه حالةٌ تعمُّ الخلق! إلا أنَّ أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر، فمنهم من يعزم بلا تردُّدٍ، ويمضي من غير التفاتٍ، فلو توقَّف بهم ركب الطبع لضجُّوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة!
ومنهم أقوامٌ يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدَّم من المواعظ إلى العمل أحيانًا، فهم كالسُّنبلة تميلها الرِّياح.
وأقوامٌ لا يؤثِّر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماءٍ دحرجته على صفوانٍ» (1).اهـ.
ولا يفوتني هنا أن أنوِّه بالجهد الكبير الذي بذله الشيخ صالحٌ الشامي - أثابه الله - في كتابه «مواعظ الصحابة» ، والذي جمع فيه جملةً كبيرةً من مواعظهم، واستفدتُّ منه كثيرًا، لكنَّ الكتاب لم يتعرَّض لها بالتعليق والشرح، بل كان هدفه الجمع - وهو هدفٌ نبيلٌ.
أما هذا الكتاب، فهدفه الأكبر: جمع بعض هذه المواعظ، والتعليق عليها، بما يوضِّح شيئًا من دلالتها، مع الحرص على ربطها بواقعنا الذي نعيشه.
ومن أهمِّ النتائج التي خرجت بها - بعد هذا التَّطواف في مئات
(1) صيد الخاطر (ص23).
المواعظ - أنَّ عددًا ليس بالقليل من الأحاديث الموقوفة على الصحابة، يرويها بعض الضعفاء مرفوعةً، فيجعلها من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ومن نافلة القول: أنَّ الأئمة في مثل هذه الأبواب لا يشدِّدون في الأسانيد، من حيث تطبيق قواعد المحدِّثين عليها، وهذا ما جعلني أتأسَّى بهم، مع وقوفي على أسانيد تلك المواعظ التي رويت في الكتب المسندة.
وقد اجتهدتُّ في عدم إيراد ما قد يستنكر من متون هذه الموا عظ، وحرصت على إيراد ما له أصلٌ صحيحٌ، أو لا تمنع منه القواعد الشرعيَّة، والأصول المرعيَّة لهذه الشريعة العظيمة.
وقد قدَّمت بين يدي المواعظ بتمهيدٍ، أشرت فيه إلى جملةٍ من النصوص الشرعيَّة، وكلام الأئمة في فضل الصحابة وخطورة تنقُّصهم.
اللَّهمَّ إنِّي أحببت من اخترتهم لصحبة نبيِّك صلى الله عليه وسلم حبًا كبيرًا؛ لنصرتهم لدينك، ودفاعهم عن نبيِّك صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا، اللَّهمَّ أسلكني - وقارئ هذه الأحرف- فيمن قلت فيهم:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
اللَّهمَّ فاحشرني ووالديَّ، وأهل بيتي، ومشايخي، ومن له حقٌّ عليَّ، وقارئ هذه المواعظ في زمرتهم، وارزقنا الانتفاع بمواعظهم! والحمد لله ربِّ العالمين.
كتبه عمر بن عبد الله بن محمد المقبل في 19/ 12/1434 هـ للمراسلة
للتواصل الموقع الرسمي: www.almuqbil.com للتواصل على تويتر: dr_almuqbil
البريد العادي: السعودية ـ القصيم ـ المذنب
الرمز البريدي 51931 ـ ص. ب: 16