الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه
-
(1/ 3)
إنَّني هنا لا أترجم لأبي الحسن رضي الله عنه، ولا أتحدَّث عن علمه ومكانته، فهو الإمام حقًّا، وأمير المؤمنين صدقًا، وهو العالم العلم الكبير؛ وإنَّما هي إشارةٌ بين يدي الحديث عن بعض مواعظه!
إنَّه عليُّ بن أبي طالب - واسم أبي طالبٍ: عبد منافٍ - بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد منافٍ، أمير المؤمنين، أبو الحسن، القرشيُّ الهاشميُّ، وهو أول من أسلم من الصبيان (1)، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وابن عمِّ النبيِّ وصهره، وأحد الشجعان الأبطال، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء.
وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولي الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان (سنة 35 هـ).
قال أبو رجاءٍ العطارديُّ: رأيت عليًّا شيخًا أصلع، كثير الشَّعر، كأنَّما اجتاب (2) إهاب شاةٍ، ربعةً، عظيم البطن، وعظيم اللحية.
روى الكثير عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعرض عليه القرآن وأقرأه، ومناقبه كثيرةٌ.
(1) قيل: أسلم وعمره سبع، وقيل: ثمانٍ: وقيل: تسع، وقيل: أربع عشرة سنة.
(2)
أي: لبس.
استشهد سنة (40هـ)، قتله عبد الرحمن بن ملجمٍ المراديُّ غيلةً في مؤامرة السابع عشر من شهر رمضان (1).
- إنَّه عليٌّ رضي الله عنه، حبُّه إيمانٌ، وبغضه نفاقٌ، إنَّه الرجل الذي (يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله)(2) .. إنَّه الصِّهر القريب، والشابُّ المقرَّب الحبيب!
- إنَّه الشابُّ العالم الذي اختاره صلى الله عليه وسلم لمهمَّةٍ خطيرةٍ، وهي بعثه إلى اليمن قاضيًا.
- إنَّه العالم بكتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى قال سعيد بن المسيِّب: لم يكن أحدٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقول: سلوني، إلا عليُّ بن أبي طالبٍ (3)، بل كان الفاروق رضي الله عنه الذي يعرف أقدار الرجال -: يتعوَّذ بالله من معضلةٍ ليس لها أبو حسنٍ.
- بل قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه: إذا بلغنا شيءٌ تكلَّم به عليٌّ رضي الله عنه من فتيا أو قضاءٍ وثبت، لم نجاوزه إلى غيره (4).
وفي البخاريِّ عن سعدٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا، فقال: أتخلِّفني في الصِّبيان والنِّساء؟! قال: «ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلَاّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي» (5).
- إنَّه الرجل الذي ما مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن خيرٍ منه من آل البيت - عليهم سلام الله ورضوانه -.
(1) تاريخ الإسلام (3/ 621)، الأعلام؛ للزركلي (4/ 295).
(2)
البخاري ح (3009)، مسلم ح (2404).
(3)
فضائل الصحابة؛ لأحمد بن حنبل (2/ 646).
(4)
المدخل إلى السنن الكبرى؛ للبيهقي (131).
(5)
صحيح البخاري ح (4416).
- إنَّه أحد من شملتهم الوصيَّة النبويَّة: «أذكِّركم الله في أهل بيتي» .
- إذا ذكرت مواعظ الصحابة رضي الله عنهم، فإن مواعظ أمير المؤمنين أبي الحسن عليٍّ رضي الله عنه لها شأنها وتميُّزها؛ نظرًا لتأخُّر وفاته مقارنةً ببقية الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
لذا؛ قد يمتدُّ بنا الحديث مع مواعظه في أكثر من درسٍ أو مجلسٍ.
فمن تلك المواعظ:
• قوله في وصيَّته المشهورة لكُميل بن زيادٍ (1):
«يا كُميل بن زيادٍ، إنَّ هذه القلوب أوعيةٌ، وخيرها أوعاها للعلم، احفظ عنِّي ما أقول لك: الناس ثلاثةٌ:
عالمٌ ربَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيل نجاةٍ، وهمجٌ رعاعٌ أتباع كلِّ ناعقٍ، يميلون مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم، ولمك يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ.
يا كُميل بن زيادٍ، العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال ينقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق.
يا كُميل بن زيادٍ، محبة العالم دينٌ يدان، تكسبه الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، ومنفعة المال تزول بزواله، العلم حاكمٌ والمال محكومٌ عليه.
يا كميل، مات خزَّان المال وهم أحياءٌ! والعلماء باقون ما بقي الدهر؛ أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة».
(1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (50/ 252)، قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (2/ 984):«وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد؛ لشهرته عندهم» .
وأظنُّ أنَّ وضوح هذه المعاني تعني عن الإفاضة في التعليق عليها، إلا أنَّ اللافت في هذا أنَّه جمع لتلميذه كُميلٍ بين اللذَّات الدُّنيويَّة التي يسعى لها عموم الناس، وهي: العلم وأهله، المال، حسن الذِّكر، ثم بيَّن له كيف تعود هذه الأمور الثلاثة على صاحبها بالغنيمة في الدُّنيا قبل الآخرة.
كما أنَّه أبدع حين عقد هذه المقارنة بين العلم والمال؛ حيث قال: «العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال ينقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق» ، ومن الجميل في هذه المقارنة سهولة التعبير مع عمق المعنى، بالإضافة إلى وضوح الحجَّة العقليَّة فيها.
وشاهد هذه المقارنة في قول الإلبيريِّ في قصيدته الشهيرة:
وكنزٌ لا تخاف عليه لصًّا
…
خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه
…
وينقص إن به كفًّا شددتا
• ومن مواعظه المتينة رضي الله عنه قوله (1):
«حدِّثوا النَّاس بما يعرفون؛ أتحبُّون أن يكذَّب الله ورسوله؟!» .
وهذا من المعنى الذي يوفَّق له العاقل من حملة العلم، فليس كلُّ علمٍ يلقى على الناس، دون مراعاةٍ لأحوالهم الزمانيَّة والمكانيَّة والعلميَّة!
ومن ذلك: التحدُّث بأحاديث مشكلةٍ لا تستوعبها عقول العامة؛ إمَّا لغموض معناها، أو لكونها منسوخةً، أو لغير ذلك من العوارض العلميَّة.
(1) صحيح البخاري (1/ 37).
وتأمَّل في تعليل عليٍّ رضي الله عنه لهذا النهي، حيث يقول:«أتحبُّون أن يكذَّب الله ورسوله؟» .
سبحان الله! انظر كيف ينقلب مراد الإنسان من نفع الناس، والرغبة في إفادتهم، إلى عكس مقصوده، حينما يحدِّث بما لا تفقهه عقول الناس!
إنَّ هذا التوجيه الكريم من أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه، يهدى لإخواننا الذين يتصدَّون لوعظ الناس وإرشادهم، أن يتجنَّبوا ما قد يثير القلق أو الحيرة لدى المستمعين، من خلال ذكر بعض القصص الغريبة، أو الأخبار التي تشتمل على معانٍ لا تستوعبها عقول العامة! وفي محكم القرآن والسُّنَّة وواضح النصوص ما يكفي ويشفي.
• ومن مواعظه البليغة رضي الله عنه: قال يعزِّي رجلًا في ابنه (1):
«إنَّك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور!» .
يا للعلم والحكمة! كم نحن محتاجون لمثل هذا الفقه العمليِّ عند وقوع المصائب، فما منَّا إلا ويبتلى بمصيبةٍ تحزنه، من موت حبيبٍ وصاحبٍ وقريبٍ، فكم هو جميلٌ أن يستحضر الإنسان هذا المعنى.
وفي هذا المقام تذكر القصة التي فيها: أنَّ رجلًا كتب إلى أخٍ له فجع بوفاة ولده قائلًا: إنَّما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقِّه، فلا تجمع إلى ما أصبت به من المصيبة الفجيعة بالأجر، فإنَّها أعظم
(1) التعازي؛ لأبي الحسن المدائني (ص82).
المصيبتين عليك، والسلام (1).
لم ننته بعد من تطوافنا مع مواعظ أمير المؤمنين عليِّ رضي الله عنه؛ فللحديث صلةٌ مع مواعظه رضي الله عنه.
…
(1) العقد الفريد (3/ 256).