الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما
(4/ 4)
• ومن مواعظه قوله رضي الله عنه (1):
«لقد عشنا برهةً من دهرنا وإنَّ أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلَّم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يُوقف عنده فيها كما تعلَّمون أنتم القرآن» ، ثمَّ قال:«لقد رأيت رجالًا يُؤتى أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدَّقل!» .
يا لها من موعظةٍ بليغةٍ! وصفت الداء والدواء، وبيَّنت شيئًا من علل المسلمين مع كتاب الله تعالى.
وإنَّها لموعظةٌ خليقةٌ بالتأمَّل والاعتبار؛ فهي صادرةٌ عن مُعايشٍ لأوائل التنزيل، ومُشاهدٍ بل ومُدركٍ لما وقع من تغيُّرٍ في حال الأمَّة مع كتاب ربِّها بعد وفاة نبِّيها صلى الله عليه وسلم، وبعد انتهاء الخلافة الراشدة.
يُوضِّح ابن عمر في هذه الموعظة الطريقة الصحيحة لتلقِّي هذا القرآن، وهي: تلقِّي الآيات والمعاني التي تزيد الإيمان في القلب، فإنَّ
(1) رواه ابن منده في الإيمان (1/ 369) ح (207)، والحاكم في المستدرك (1/ 91)، والبيهقي في «الكبرى» (3/ 171)، قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه» .
الإيمان إذا وقر في القلب (1)، سهل عليه بعد ذلك أن يتلقَّى التكاليف مهما عظمت.
لقد كانت أصول هذه التربية قائمةً على التربية على الإيمان بالله وتوحيده، وتوقير رسوله صلى الله عليه وسلم ونُصرته، والتعلُّق بالآخرة؛ من خلال تدبُّر آيات الله تعالى، والعيش معها، وتلقِّي رسالات الله تلقِّي السعيد بها، المُغتبط بمضامينها، المستعدِّ لتنفيذها.
فإن أردتَّ مثالًا يُوضِّح المراد، فتأمَّل في آثار التربية النبويَّة للصحابة رضي الله عنهم في مكة وأوائل قدومه المدينة- قبل أن تكثر الشرائع والأحكام الفقهيَّة- فلمَّا وقعت غزوة بدرٍ على غير ميعادٍ، بل ونفوس بعض الصحابة كارهةٌ للقتال، ومع هذا كلِّه ظهرت آثار تلك التربية الإيمانيَّة العظيمة؛ في بسالة الصحابة وبطولاتهم، وإظهار النصرة لله ورسوله قولًا وعملًا.
ثمَّ بعد ذلك تنزَّلت الشرائع، وأحكام الحلال والحرام؛ فتلقَّتها النفوس المؤمنة، التي تربَّت على الانقياد والتسليم، كما قال تعالى:{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فكان الصحابة رضي الله عنهم أسرع الناس استجابةً، وأبعدهم عن التباطؤ في التنفيذ.
فما الذي حدث بعد ذلك؟
يشخِّص ابن عمر المشكلة بقوله: «لقد رأيت رجالًا يؤتى أحدهم
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 213): «أي: سكن فيه وثبت؛ من الوقار الحلم والرَّزانة» .
القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدَّقل!».
هذه المشكلة- التي ذكرها ابن عمر- اتَّفق عليها عددٌ من الصحابة الذين طالت حياتهم، وأدركوا الفتوحات، وكثرة دخول الناس في الإسلام- خاصةً من الأعاجم - وممَّن وافقه عليها: ابن مسعودٍ، وجندب بن عبد الله، وغيرهما.
ففي الصحيحين: أنَّ رجلًا قال لابن مسعودٍ: إنِّي لأقرأ المفصَّل في ركعةٍ! فقال عبد الله: «هذًّا كهذِّ الشِّعر! إنَّ أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع» (1).
ويقول جندب بن عبد الله رضي الله عنه: كنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونحن فتيانٌ حزاورةٌ (أي: أشدَّاء أقوياء)«فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن، ثمَّ تعلَّمنا القرآن، فازددنا به إيمانًا» (2).
والشاهد من هذا بيان منهج الصحابة رضي الله عنهم في تلقِّي هذا القرآن، والحرص على تطبيقه في الأمة؛ لمن أحبَّ السَّير على منهجهم، والنجاة في الدُّنيا والآخرة.
إنِّني أدعو إخواني- من أولياء الأمور في بيوتهم - لتطبيق هذا المنهج النبويِّ الذي ربَّى به صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، بل هو المنهج الربانيُّ الذي ربَّى به الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وأعني به التربية بالإيمان قبل القرآن، بأن يحرص المربِّي على غرس المعاني الكبار، وهي: توحيد الله
(1) البخاري ح (775)، مسلم ح (822) واللفظ له.
(2)
سنن ابن ماجه ح (61).
وطاعته، وطاعة رسوله ومحبته، والتذكير الدائم - وبأساليب القرآن- بالدار الآخرة.
إنَّني واثقٌ أنَّ سلوك هذا المنهج النبويِّ سوف يختصر مسافاتٍ كبيرة في التربية، وسيكون من أعظم الزاد في الدُّنيا ويوم المعاد.
* * * *
• ومن مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما قوله (1):
«لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصَّدر» .
هذه الموعظة قبسةٌ من ميراث النبوة- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- التي قرَّر فيها قاعدةً مُحكمةً من قواعد الدِّين بقوله: (إنَّ الحلال بيِّنٌ، وإنَّ الحرام بيِّنٌ، وبينهما مُشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من النَّاس، فمن اتَّقى الشُّبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشُّبهات، وقع في الحرام
…
) الحديث (2).
والمراد بالمشتبه: هو الذي يقع فيه خلافٌ معتبرٌ بين العلماء في حلِّه وحرمته، أو يكون فيه شبهةٌ معتبرةٌ شرعًا في حلِّه وحرمته، كما يقع في بعض المكاسب التي يتعاطاها الناس؛ كالمساهمة في الشركات المختلطة، ونحو ذلك من المعاملات التي يتجاذبها أصل تحليلٍ وأصل تحريمٍ، ومثل: شرب أو أكل ما اختلف في حلِّه وحرمته من المطعومات والمشروبات، ومثل بعض صور الأنكحة المختلف فيها.
فمن تركها (فقد استبرأ لدينه وعرضه)، وهو أصلٌ كبيرٌ في طلب
(1) رواه البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(بني الإسلام على خمسٍ)(1/ 10).
(2)
البخاري ح (52)، مسلم ح (1599) واللفظ له.
البراءة للدِّين والعرض، الذي قد يلحقه طعنٌ فيهما بسبب تقحُّمه لموارد الشُّبه! وهو الذي عناه ابن عمر في موعظته هذه.
وهذا المعنى، ورد فيه الحديث المشهور:(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(1) وهو مع ما فيه من كلامٍ من جهة إسناده؛ إلا أنَّه معنًى اتَّفق الصحابة عليه.
ومن المهمِّ جدًّا- ونحن نتحدَّث عن الورع- أن نذكر ضابطه؛ حتى لا يختلَّ الميزان، ومن أحسن من وقفت على كلامٍ له في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول:
وبالجملة، فإنَّ الدِّين عظيمٌ، والحرص على سلامته علامة توفيقٍ وإيمانٍ، والتهاون في باب الورع يوشك أن يُوقع في الحرام مع مرور الزمن؛ ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إنِّي لأحبُّ أن أدع بيني وبين الحرام سُترةً من الحلال لا أخرقها.
(1) رواه الترمذي ح (2518)، والنسائي ح (5711)، وينظر في تفصيل الكلام عليه:«جامع العلوم والحكم» ؛ للحافظ ابن رجب (1/ 277) ح (11).
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 511).
وقال الحسن البصريُّ: ما زالت التقوى بالمتَّقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال؛ مخافة الحرام.
وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه (1).
ألا ما أحوج الأمة إلى أئمةٍ في الورع مع تنامي وكثرة موارد الشُّبه؛ ليقتدي بهم الناس، وليروا جميل أفعالهم، كما سمعوا الجميل من أقوالهم!
رضي الله عن الصحابيِّ الجليل، الإمام الورع الزاهد أبي عبد الرحمن، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجزاه الله عنَّا وعن الإسلام وأهله خير الجزاء.
* * *
(1) ينظر في هذه النقول وغيرها: كتاب «الورع» ؛ للمروذي، (ص 59) وما بعدها.