الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
• و
من مواعظ ابن الزبير رضي الله عنهما:
ما رواه محمد بن عبد الله الثَّقفيُّ، قال (1):
«شهدتُّ خُطبة ابن الزبير بالموسم، خرج علينا قبل التَّروية بيومٍ، وهو مُحرمٌ، فلبَّى بأحسن تلبيةٍ سمعتُها قطُّ، ثمَّ حمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال:
«أمَّا بعد، فإنَّكم جئتم من آفاقٍ شتَّى، وفودًا إلى الله عز وجل، فحقٌّ على الله أن يكرم وفده، فمن كان جاء يطلب ما عند الله، فإنَّ طالب الله لا يخيب، فصدِّقوا قولكم بفعلٍ؛ فإنَّ ملاك القول الفعل.
والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه! فإنَّها أيامٌ تغفر فيها الذُّنوب، جئتم من آفاقٍ شتَّى في غير تجارةٍ ولا طلب مالٍ ولا دنيا، ترجون ما هنا».
قال الثقفيُّ: «ثمَّ لبَّى ولبَّى الناس، فما رأيت يومًا قطُّ كان أكثر باكيًا من يومئذٍ» .
ما أجمل الوعظ إذا صدر من أمير عامَّةٍ! وهكذا كانت موعظة عبد الله بن الزبير هذه، فإنَّه قالها حين كان أميرًا على الحجاز.
وإنَّ وضوح موعظته لَيُغني عن الإطالة في التعليق عليها، إلَّا أَّن في موعظته ما يستوقف قارئها، فهو يُؤكِّد على النية، وصلاح القلوب، وتلك - والله - هي الزاد للقاء علام الغيوب، وهي من أعظم أسباب إجابة الدَّعوات، وإغاثة اللَّهفات، وتفريج الكربات.
ويظهر في هذه الموعظة أيضًا: فقه ابن الزبير، حيث ذكَّرهم ورغَّبهم، وبيَّن لهم سعة رحمة الله تعالى، وأنَّ الكريم سبحانه لابدَّ أن
(1) حلية الأولياء (1/ 335).
يكرم وفده، وأنَّ طالبه- جلَّ وعلا- لا يخيب، وراجيه لا يردُّ، متى ما صدق في الطلب، وأعظم الرغبة، وأظهر الافتقار.
وأشار ابن الزبير إلى الإخلاص في هذه الرحلة العظيمة - رحلة الحجِّ - حين قال: «جئتم من آفاقٍ شتَّى في غير تجارةٍ ولا طلب مالٍ ولا دنيا، ترجون ما هنا» ، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحاجُّ، لا يطلب سمعةً، ولا يبحث عن لقبٍ، بل غايته ومُناه: طلب الرِّضوان الأكبر، ومغفرة الذنب، وستر العيب، وحسن الختام.
لقد ظهر- من وصف الراوي لهذه الخطبة - أثرها على الحجَّاج في ذلك اليوم العظيم، ولعلَّ هذا من أثر صدق ابن الزبير رضي الله عنهما في وعظه.
وهكذا .. يسري أثر هذه المواعظ في الناس، حين يسري أثرها في واعظهم، الذي يُصدِّق قوله بفعله، ونصحه بتطبيقه، فإن حدث العكس، قلَّ الانتفاع به، وضعف الأثر.
وليس المراد أنَّ الإنسان لا يعظ ولا يذكِّر إلا بعد أن يستكمل الفضائل، كلَّا:
ولو لم يعظ في النَّاس من هو مذنب
…
فمن يعظ العاصين بعد محمَّد؟!
قال سعيد بن جبيرٍ: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيءٌ، ما أمر أحدٌ بمعروفٍ ولا نهى عن منكرٍ! (1).
وإنَّما المراد أن يتفقَّد قلبه وعمله؛ حتى لا يكون ممَّن قال الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
(1) ينظر: لطائف المعارف (ص 19).
تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]؛ فإنَّ هذه من أشدِّ الآيات على الواعظين والمذكِّرين.
اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن يقول ويفعل، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ، وتجاوز عن زللنا وتقصيرنا.
* * *