الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه
-
هو صُديُّ بن عجلان بن وهبٍ الباهليُّ رضي الله عنه، صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ونزل حمص
…
روى علمًا كثيرًا، كان عمره في حجَّة الوداع ثلاثين عامًا، وروي أنَّه بايع تحت الشجرة، ورويت له كراماتٌ، وعاش إلى سنة ستِّ وثمانين، وقيل: إحدى وثمانين، حديثة مرويٌّ في الكتب الستَّة (1).
• وممَّا وري من المواعظ عن هذا الصاحب الكريم: ما ذكره عنه تلميذه الجليل سليم بن عامرٍ، قال (2):
خرجنا على جنازةٍ في باب دمشق معنا أبو أمامة الباهليُّ رضي الله عنه، فلما صُلِّي على الجنازة وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة:
«يا أيُّها الناس، إنَّكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزلٍ تقتسمون فيه الحسنات والسيِّئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى المنزل الآخر، وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة، وبيت الظُّلمة، وبيت الدُّود، وبيت الضِّيق إلا ما وسَّع الله.
ثمَّ تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنَّكم لفي بعض تلك
(1) ينظر: سير أعلام النبلاء (3/ 258).
(2)
مستدرك الحاكم (2/ 434)، وينظر: الأهوال؛ لابن أبي الدنيا (78)، الأسماء والصفات؛ للبيهقي (2/ 435).
المواطن، حتى يغشى الناس أمرٌ من أمر الله، فتبيضَّ وجوه وتسودَّ وجوهٌ. ثمَّ تنتقلون منه إلى منزلٍ آخر، فيغشى الناس ظلمةٌ شديدةٌ، ثمَّ يقسم النور، فيُعطى المؤمن نورًا، ويُترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه:{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]،ولا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، يقول المنافق للذين آمنوا:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]،وهي خَدْعَةُ الله التي خدع بها المنافق، ثمَّ تلا:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا! فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب! ينادونهم: ألم نكن معكم؟ نصلِّي بصلاتكم، ونغزو بمغازيكم؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14] تلا إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15]».هذه الموعظة من أبي أُمامة رضي الله عنه من الوضوح بمكانٍ، وهي تدلُّ على علم أبي أمامة بمعاني القرآن، واغتنام الفرصة للتذكير بهذه المآلات الخطيرة التي تنتظر الناس في أرض المحشر.
وقد يقول قائلٌ: وهل كان من هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم الوعظ عند القبر؟ فيقال: لم يكن هديًا ثابتًا، بل كان في أحيانٍ قليلةٍ، ويكون لها سبب؛ كعدم جاهزية القبر - كما في حديث البراء المشهور (1) - أو لغير ذلك من الأسباب.
(1) رواه أبو داود ح (4753)، والنسائي في الكبرى ح (2139).
ومن تأمَّل هدي الصحابة رضي الله عنهم علم أنَّهم لم يكونوا يعتادون ذلك هديًا غالبًا، بل للحاجة؛ اكتفاءً بوعظ المشهد نفسه، ففي الموت فزعٌ وعبرةٌ، والقبر نفسه واعظٌ صامتٌ.
ولعلَّ أبا أمامة لحظ في المشهد ما حمله على الوعظ، فقد كان في بلاد الشام التي شهدت في أواخر حياته أحداثًا كبارًا، والله أعلم.
* * *
• ولنعد إلى موعظته رضي الله عنه، والتي قال فيها:
نعم
…
هذه هي الدُّنيا، ميدان العمل والتنافس، وهي ميدان الحسنات والسيِّئات، والناس فيها كما قال صلى الله عليه وسلم:(كلُّ النَّاس يغدو، فبايعٌ نفسه؛ فمعتقها أو موبقها)(1)، فمن اجتهد في كسب الحسنات، فقد أعتق نفسه، ومن لم يبال بتضخُّم رصيده من السيِّئات، فقد أوبق نفسه وأهلكلها
…
وهذا التنافس سيأتي عليه يوم ينقطع فيه النَّفس، ويتوقَّف عدَّاد الحسنات والسيئات، إلا أن يكون للعبد سبيلٌ يمتدُّ بسببه: إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، فمن خلَّف علمًا ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولدًا صالحًا يدعو له، فحسناته جاريةٌ، يغتبط بها في قبره، ومن خلَّف بعده سيِّئاتٍ تسبَّب فيها، فحاله عكس هذا والعياذ بالله؛ يمتلئ رصيده بالسيئات حتى يقوم الناس لربِّ العالمين.
(1) مسلم ح (223).
ومن علم أنَّ مصيره لحفرةٍ ضيِّقةٍ؛ فليجتهد في عملٍ صالحٍ يوسِّعها عليه، ونورٍ يضيء ظلمتها، فما أشدَّ غربة أهل القبور، إلا من آنس الله وحشتهم! وما أطول حسرتهم إلا من نجا برحمة الله ثمَّ بعمله الصالح!
فالله الله أن نجتهد في الاستعداد لذلك المصرع، وليوقن العبد أنَّه من صدق في سيره وسريرته مع الله، فلن يخيِّبه الله، ومن خرَّب ما بينه وبين الله، فيوشك أن يكون قد خرَّب دنياه وداره البرزخيَّة، والأخرويَّة، نعوذ بالله من الخذلان.
* * * *
• ثم قال رضي الله عنه:
وهذا تأكيدٌ للمعنى الذي سبق، فمن نوَّر الله قلبه في الدُّنيا بطاعته، امتدَّ هذا النور معه في البرزخ وفي الآخرة، ومن أظلم قلبه في هذه الدار بالمعاصي ومنكرات الأقوال والأعمال، فيوشك أن ينتقل أثر هذه الظُّلمة للبرزخ والآخرة!
ويا لها من حسرةٍ! حين يرى الإنسان أناسًا في المحشر قد أوتوا نورًا، وإذا به يريد قبسةً من هذا النور، فإذا به يحال بينه وبين ذلك، ويعجز عن إدراكه! نعوذ بالله من الحرمان.
وهذا معنى قوله رضي الله عنه: «ثمَّ تنتقلون منه إلى منزلٍ آخر، فيغشى الناس ظلمةٌ شديدةٌ، ثم يقسم النور، فيُعطى المؤمن نورًا، ويُترك الكافر والمنافق فلا يُعطيان شيئًا» .
وتأمَّل في قول المنافقين: «فيرجعون إلى المكان الذي قُسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا! فينصرفون إليهم وقد ضر بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب! ينادونهم: ألم نكن معكم؟ نصلِّي بصلاتكم، ونغزو بمغازيكم؟» .
وهذه موعظةٌ مخيفةٌ لمن يخادع الناس بمظهره، أو يظنُّ أنَّ عيشة في صفوف المسلمين يغنيه أو يشفع له! لا
…
لا! العبرة بموافقة الباطن للشرع، والبراءة من أعداء الدِّين، وإلا فستنكشف الحقائق هناك، وسيندم هؤلاء المنافقون حين لا ينفع الندم، وسيسمعون تلك الكلمة القاسية التي لا أشدَّ منها على الأسماع يومها:
…
اللَّهمَّ ألهمنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا الظاهرة والباطنة.
* * *