الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ ابن مسعودٍ رضي الله عنه
-
(2/ 4)
• ومن مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل قوله رضي الله عنه (1):
حينا تستمع إلى هذه الوصيَّة من هذا الصحابيِّ الجليل الذي عمِّر بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعد وفاة وزيريه وخليفتيه: أبي بكرٍ وعمر، وهو الذي شعر بمرارة فقد معلِّم الناس الخير، وبلوعة فقد أعلم هذه الأمَّة بعد نبيِّها، وفي الوقت ذاته يستشعر معناها؛ لأنَّه عاش حتى احتاج الناس إلى علمه، بل قال يومًا عن نفسه -متحدِّثًا بفضل الله عليه -:«لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورةً، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أَّن أحدًا أعلم منِّي، لرحلت إليه» ، قال شقيقٌ: فجلست في حلق أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدًا يردُّ ذلك عليه، ولا يعيبه.
فإذا استشعرت هذا كلَّه، وقعت هذه الوصية من ابن مسعودٍ موقعها من نفسك.
(1) نثر الدر في المحاضرات (2/ 52).
هذه الوصية -بالعناية بالعلم حال الصِّغر- تلتقي تمامًا مع موقفٍ عمليٍّ وقع لابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، يترجم فيه هذه الوصية؛ إذ يقول رضي الله عنهما: لمَّا توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجلٍ من الأنصار: يا فلان، هلمَّ فلنسأل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّهم اليوم كثيرٌ! فقال: واعجبًا لك يا بن عباسٍ! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم من ترى؟ فتركت ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائلٌ، فأتوسَّد ردائي على بابه، فتسفي الرِّيح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يابن عمِّ رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك، فأسأله عن الحديث، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال «كان هذا الفتى أعقل منِّي» (1).
إنَّ هذا النموذج من الشباب المثبِّطين، أو الذين لا ينظرون لأبعاد الأمور - يفوِّتون على أنفسهم وعلى غيرهم فرص البناء والتحصيل العلميِّ، والسبب؟ وجود الأكابر في حياتهم! وأنَّ الناس لن يحتاجوا لهم في وجودهم! والسؤال الذي ينبغي أن يسأله هؤلاء أنفسهم: هؤلاء الأكابر، ألم يكونوا يومًا من الدهر صغارًا مثلكم؟! ثم صاروا كبارًا احتاج الناس إلى علمهم؟ فالله الله أيُّها الشباب، ضعوا القطن في آذانكم ولا تستمعوا لهذه المقولات التي لا تُنتج إلا جيلًا من الكُسالى، وفئامًا من الزَّمنى في علمهم وعملهم! وتأكَّدوا أنَّكم وإن كنت اليوم صغار قومٍ، فستكونون كبار قومٍ آخرين (2)،
وسيحتاج الناس إلى علمكم
(1) سنن الدارمي ح (590)، وصححه الحاكم (1/ 188).
(2)
في «المدخل إلى السنن الكبرى» ؛ للبيهقي (ص371) من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان في هذا المكان - خلف الكعبة - حلقةٌ، فمرَّ عمرو بن العاص
يطوف، فلمَّا قضى طوافه جاء إلى الحلقة، فقال: ما لي أراكم نحَّيتم هؤلاء الغلمان عن مجلسكم؟! لا تفعلوا، أوسعوا لهم وأدنوهم، وأفهموهم الحديث؛ فإنَّهم اليوم صغار قومٍ ويوشك أن يكونوا كبار آخرين، قد كنَّا صغار قومٍ ثم أصبحنا كبار آخرين.
وروى البيهقي (ص371) من طريق شرحبيل بن سعد، قال: دعا الحسن بن عليِّ بنيه وبني أخيه، فقال: يا بنيَّ ويا بني أخي، إنَّكم صغار قومٍ يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلَّموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو يحفظه، فليكتب وليضعه في بيته.
إن استمررتم في الطريق، ومن سار وصل، بعون الله وتوفيقه.
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (1):
«والله الذي لا إله غيره، ما يضر عبدًا يصبح على الإسلام ويمسي عليه ما أصابه من الدُّنيا» .
الله أكبر! إنَّه الفرح بالهداية لهذا الدِّين الذي تهون عند فقده كلُّ مصيبةٍ! خاصةً إذا تذكَّر الإنسان أثر هذه الشهادة العظيمة (لا إله إلا الله) في الدُّنيا والآخرة، أمَّا في الدُّنيا، فأمرها ظاهرٌ، وأمَّا في الآخرة، فإنَّ من بديع العبارات السلفيَّة التي تبيِّن موقع هذه الكلمة قول ابن عيينة رحمه الله:«ما أنعم الله على العباد نعمةً أعظم من أن عرَّفهم (لا إله إلَّا الله)، وإنَّ (لا إله إلَّا الله) لهم في الآخرة كالماء في الدُّنيا» (2).
ويوضِّح ذلك أكثر، قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 91]، فهل تصوَّرت ماذا يعني أن يهديك الله لقول هذه الكلمة والعمل بمقتضاها؟ إنَّ هؤلاء الكفار لو
(1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص159).
(2)
الدر المنثور، في التفسير بالمأثور (5/ 44).
جاؤوا بسبيكةٍ ذهبيَّةٍ بحجم الكرة الأرضيَّة، لم تنفعهم ولم تنقذهم من العذاب! بينما لو جاؤوا بـ (لا إله إلا الله) لنفعتهم، فتبيَّن بهذا أنَّ هذه الكلمة التي ينطقها الطفل الصغير -من أطفالنا -خيرٌ من سبيكةٍ ذهبيةٍ بحجم الكرة الأرضية! بل أعظم!
ولهذا كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم حريصًا أن يسمعها من عمِّه أبي طالبٍ، ولكن سبق القدر بموته على الكفر، ولله الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة!
ألا ما أحوجنا -ونحن في عصرٍ كثرت فيه الشكوى من المنغِّصات -أن نستذكر هذه الموعظة من ابن مسعودٍ: «والله الذي لا إله غيره، ما يضرُّ عبدًا يصبح على الإسلام ويمسي عليه ما أصابه من الدُّنيا» ، فالدُّنيا أمدها قصير، وعُمْر أحدنا فيها أقصر من أن نملأه بالمنغِّصات؛ ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يسلِّي نفسه بنحو هذا المعنى فيقول:«إذا ذكرت الموت، هان عليَّ كلُّ أمر الدُّنيا، إنما هو طعامٌ دون طعامٍ، ولباسٌ دون لباسٍ، وإنَّها أيامٌ قلائل!» (1).
• ومن مواعظ ابن مسعود رضي الله عنه الزهديَّة (2):
«الدُّنيا كلُّها غمومٌ، فما منها من سرورٍ، فهو ربحٌ» .
ومنطلق ابن مسعودٍ في هذا عددٌ من الآيات القرآنيَّة؛ منها قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، وقوله تعالى عن أهل الجنة -وهم يتحدَّثون بنعمة الله تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]، وغيرها من الآيات.
(1) سير أعلام النبلاء (11/ 215).
(2)
السيرة الحلبية (1/ 397).
ولا ريب أنَّ استحضار هذا المعنى ممَّا يهوِّن على العبد ما يمرُّ به من مُنغِّصات ومكدِّراتٍ، وأن يعلم أنَّ هذه الدار كما قال الشاعر:
جبلت على كدرٍ وأنت تريدها
…
صفوًا من الأقذاء والأكدار
ومكلِّف الأيَّام ضدَّ طباعها
…
متطلِّبٌ في الماء جذوة نار
إنَّ فقه حقيقة الحياة لَمِن أعظم الأدوية وأنجعها في تخفيف وطأة الهموم التي عصفت بملايين القلوب، حين عاشوا الدُّنيا على غير حقيقتها، وطلبوا منها ما لم يجعله الله فيها.
والحقيقة أنَّ الدُّنيا منذ خلقها الله هي الدُّنيا! وإنما الفرق هو في كيفية التعامل معها؛ ولهذا تجد أخوين شقيقين، عاشا في بيئةٍ واحدةٍ، وظروفٍ متشابهةٍ جدًّا، لكنَّ أحدهما سعيدٌ والآخر شقيٌّ، ومن أهمِّ الأسباب طريقة التعامل، وكيفية النظر لهذه الحياة، فمن فقه حقيقتها استراح، ومن غابت عنه الحقيقة تعب وتعنَّى.
ولابن مسعودٍ كلمةٌ أخرى في هذا السياق تجلِّي فقهه لهذه الحياة، فيقول:«ما أحدٌ أصبح في الدُّنيا إلا وهو ضيفٌ، وماله عاريَّةٌ، والضيف مرتحلٌ، والعاريَّة مردودةٌ» (1).
ويقول -أيضًا -: «ليس للمؤمن راحةٌ دون لقاء الله، فمن كانت راحته في لقاء الله، فكأن قد» (2).
ولِمَن لم يفقه حقيقة هذه الدُّنيا، أُهديه هذا الخبر الغريب، فقد ذكر ابن أبي الفيَّاض في (تاريخه) قال: أُخبرت أنَّه وُجد في تاريخ
(1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص163).
(2)
حلية الأولياء (1/ 136).
عبد الرحمن الناصر - خليفة الأندلس الشهير - أنَّ أيام السرور التي صفت له عُدَّت، فكانت أربعة عشر يومًا! وقد ملك خمسين سنة ونصفًا (1)، فهل من معتبرٍ؟
…
(1) سير أعلام النبلاء (8/ 266).