الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ أبي الدَّرداء رضي الله عنه
-
(1/ 4)
أبو الدَّرداء .. وإن شئت فقل: عويمر بن زيدٍ، الأنصاريُّ الخزرجيُّ، من أكابر أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخاصَّتهم، بل إذا ذكر العلماء الحكماء من الصحابة، كان من أسبق الناس إلى الذهن؛ حتى قيل عنه: حكيم هذه الأمَّة، وسيِّد القرَّاء بدمشق، وأوَّل قاضٍ لدمشق في عهد عثمان رضي الله عنه، وهو معدودٌ فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسلم يوم بدرٍ، ثمَّ شهد أحدًا، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أن يَرُدَّ من على الجبل، فردَّهم وحده، وكان قد تأخَّر إسلامه قليلًا.
قيل عنه: إنَّه من العلماء والفقهاء الذين يشفون من الداء، مات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه (1).
لقد عرف أبو الدَّرداء بالعلم والحكمة والوعظ، واشتهر بذلك في الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين -ولهذا فستكون صحبتنا له في أربعة مجالس من مواعظه؛ لعلَّ الله تعالى أن ينفعنا بها ..
(1) تنظر سيرته في: تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 93)، سير أعلام النبلاء (2/ 335).
• فمن أقواله الوعظيَّة قوله رضي الله عنه (1):
«لا تحقرنَّ شيئًا من الشرِّ أن تتَّقيه، ولا شيئًا من الخير أن تفعله» .
وهذه الموعظة يصدِّقها القرآن والسُّنَّة؛ أمَّا القرآن، ففي قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا} [الزلزلة: 7، 8]، وفي السُّنَّة: يكفي أن يتأمَّل المؤمن قصة امرأتين: إحداهما كانت بغيًّا سقت كلبًا من العطش، فغفر الله لها ودخلت الجنة (2)، وأخرى حبست هرَّةً لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض فدخلت النار (3).
وفي واقع بعض الناس تجد أنَّه يمارس الاستهانة بذرَّة الخير وذرَّة الشرِّ وهو لا يشعر، فحينما يسمع بعضهم عن دعوةٍ للتبرُّع لعملٍ خيريٍّ، يقول في نفسه، على سبيل المثال-: إمَّا أن أدفع مبلغًا كبيرًا أو لا أدفع شيئًا! بحجَّة أنَّ المبلغ اليسير لا يصنع شيئًا، وفي المقابل يستهين بعضهم بذنوبٍ ومعاصٍ بحجة أنَّها من الصغائر! وفي البخاريِّ عن أنسٍ رضي الله عنه:«إنَّكم لتعملون أعمالًا هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كنَّا لنعدُّها على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الموبقات» ، قال أبو عبد الله:«يعني بذلك: المهلكات» (4)، بوَّب عليه البخاريُّ:«باب ما يتَّقى من محقَّرات الذُّنوب» .
والموفَّق من لم يدع حسنةً يقدر عليها إلا فعلها، ولا سيِّئة إلا تركها؛ فإنَّه لا يدري ما العمل الذي يبلِّغه رضوان الله، وكذلك ما السيِّئة التي تقصم ظهره!
* * *
(1) تاريخ دمشق (47/ 161).
(2)
مسلم ح (2245).
(3)
البخاري ح (3482)، مسلم ح (2242).
(4)
البخاري ح (6492).
• ومن مواعظه رضي الله عنه (1):
«ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنَّ الخير أن يكثر عملك، ويعظم حِلمُك، وأن تباري الناس في عبادة الله، وإذا أحسنت حمدتَّ الله، وإذا أسأت استغفرت الله» . إنَّ أبا الدرداء رضي الله عنه يصحِّح بهذه الموعظة مفهومًا يقع في أذهان بعض الناس في حقيقة الخيريَّة، التي ربَّما حصرها بعضهم في كثرة المال والولد! وليست كذلك؛ فلو كانت كثرة المال والولد خيرًا، لكان الوليد بن المغيرة والعاص بن وائلٍ - اللذان غرَّهما مالهما وولدهما - من خير الناس، وليسا كذلك بنصِّ القرآن؛ قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَاتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80]، وقال في شأن الوليد:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 11 - 17] الآيات.
إذًا، ما الخير في فهم أبي الدرداء؟ «ولكنَّ الخير أن يكثر عملك، ويعظم حلمك، وأن تباري الناس في عبادة الله، وإذا أحسنت حمدتَّ الله، وإذا أسأت استغفرت الله» .
هكذا هم أئمة السلف؛ يصحِّحون المفاهيم المغلوطة، أو التي حصل فيها انحرافٌ، ومن ذلك هذا المعنى؛ فإنَّ كثرة المال والولد لا تمدح ولا تذمُّ لذاتها، فكم في أعداء الله تعالى من هو أغنى من مئات
(1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 159).
الملايين من المسلمين، وأكثر ولدًا، ولكنَّ الشأن في أثر هذه النِّعم على العبد، وأجلُّها: ترجمتها بالشكر، والذي عبَّر عنه أبو الدرداء بقوله:«وأن تباري الناس في عبادة الله عز وجل» ، ثمَّ إن وفَّقك الله لشيءٍ من ذلك، فلا تغترَّ أو تعجب؛ فإنَّما هذا فضل الله أيضًا:«فإن أحسنت حمدتَّ الله تعالى، وإن أسأت استغفرت الله عز وجل» ، فاللَّهمَّ اجعلنا ممَّن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
* * *
• ومن مواعظه رضي الله عنه لأحد إخوانه (1):
رضي الله عن أبي الدرداء؛ فلقد نصح وأوجز وأبلغ!
أمَّا توقِّي دعوة المظلوم، فلقد سبق بالتحذير منها إمامه ونبيُّه صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له:(واتَّق دعوة المظلوم؛ فإنَّه ليس بينها وبين الله حجابٌ)(2)، وجاء في روايةٍ خارج الصحيح:(وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه)(3)، فهل يعي هذه الوصيَّة ويتفكَّر فيها من لا يبالون بظلم الناس، وخاصةً المستضعفين منهم؛ كالخدم والعمَّال ونحوهم؟! كان معاوية رضي الله عنه يقول:«إنِّي لأستحيي أن أظلم من لا يجد عليَّ ناصرًا إلا الله» (4)!
ثمَّ قال أبو الدرداء لصاحبه: «واعلم أنَّ قليلًا يغنيك، خيرٌ من كثيرٍ
(1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 167).
(2)
البخاري ح (1496)، مسلم ح (19).
(3)
أحمد ح (8795) وقد حسَّن الحافظ ابن حجرٍ إسنادها في فتح الباري (3/ 360).
(4)
درر الحكم؛ لأبي منصور الثعالبي (55).
يلهيك»! وهذه حقيقةٌ؛ إذ أكثر المتاع الدنيويِّ بركةً ما أعان على طاعة الله، ونفع العباد والإحسان إليهم، وأمَّا ما ألهى منه عن حقِّ الله وحقوق الخلق، فهو متاعٌ شيطانيٌّ، لا خير فيه، وسيعلم المفرِّطون غبَّ ما جمعوا يوم يسأل الإنسان عن ماله من أين جمعه؟ وفيم أنفقه؟!
ثمَّ ختم وصيَّته لصاحبه فقال: «وأعلم
…
أنَّ البرَّ لا يَبلى، وأنَّ الإثم لا يُنسى». وهذه حقيقةٌ، فالبرُّ والإحسان لا يبلى ولا يذهب أثره، بل هو من جنس الكلمة الطيِّبة التي تؤتي أكلها كلَّ حينٍ بإذن ربِّها، وقد ينسى المؤمن إحسانه ونفعه، لكنَّ الله تعالى يحفظ ذلك له، ويبارك له فيه. وفي المقابل، فالإثم- إذا لم يتب منه صاحبه - فإنَّه لا يَبلى، ولا يُمحى من الكتاب، إلا إذا رحم الله تعالى وأذن يوم المحشر.
وهذا المعنى الذي ذكره أبو الدرداء رضي الله عنه دلَّت عليه آياتٌ كثيرةٌ، طالما بكى عندها السلف الصالح وخافوا منها؛ كقوله تعالى:{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]، وكقوله عز وجل:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، قال التابعيُّ الجليل عون بن عبد الله معلِّقًا على هذه الآية:«ضجَّ والله القوم من الصِّغار قبل الكبار!» (1).
والمقصود أنَّ أرباب البصائر والقلوب الحيَّة عرفوا «أنَّ الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنَّهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذَّرِّ من
(1) التمهيد؛ لابن عبد البر (2/ 84).
الخطرات واللحظات، وتحقَّقوا أنَّه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النَّفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن مُنقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزى والمقت سيِّئاته» (1).
هذه بعضٌ من مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه، وللحديث عنها بقيةٌ.
* * *
(1) إحياء علوم الدين (4/ 393).