الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ أبي الدَّرداء رضي الله عنه
-
(4/ 4)
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (1):
هكذا يحاسب أهل القرآن أنفسهم، ويوقفونها عند موارد النجاة، فإنَّ من غفل عن محاسبة نفسه هنا، يوشك أن يندم إذا نُشرت أمامه صحائف أعماله غدًا.
إنَّ الحساب اليوم - مع ما فيه من ثقلٍ، أخفُّ على النفس غدًا، وما حال المحاسب نفسه اليوم إلا كتاجرٍ يراجع حساباته لينظر أين تتَّجه تجارته؟ ليتجنَّب أسباب الخسارة، ويسعى في أسباب الربح، والغافل عن محاسبة نفسه كالتاجر الذي جيء إليه بكشف الحساب المصرفيِّ، فإذا فيه الديون التي أغرقته، وهو يحسب أنَّه يربح!
يقول الحسن رحمه الله: «إنَّ المؤمن قوَّامٌ على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنَّما خفَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدُّنيا،
(1) حلية الأولياء (1/ 213).
وإنَّما شقَّ الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر على غير محاسبةٍ» (1).
فخليقٌ بنا جميعًا أن يكون لنا جلساتٌ- بين الفينة والأخرى - نحاسب فيها أنفسنا، وننظر فيما مضى من أعمالنا، وما الذي ينتظرنا في مستقبلنا الأخرويِّ؟
وممَّا يحسن إيراده هنا: تلك الخاطرة التي قيَّدها ابن الجوزيِّ رحمه الله في «صيده» حين قال:
«تفكَّرت في نفسي يومًا تفكُّر محقِّقٍ، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن، فرأيت اللُّطف الربانيَّ؛ فمنذ الطفولة وإلى الآن أرى لطفًا بعد لطفٍ، وسترًا على قبيحٍ، وعفوًا عمَّا يوجب عقوبةً، وما أرى لذلك شكرًا إلا باللسان!
ولقد تفكَّرت في خطايا، لو عوقبت ببعضها، لهلكت سريعًا، ولو كشف للناس بعضها، لاستحييت!
ولا يعتقد معتقدٌ عند سماع هذا أنَّها من كبائر الذنوب؛ حتى يَظُنَّ فيَّ ما يَظُنُّ في الفسَّاق! بل هي ذنوبٌ قبيحةٌ في حقِّ مثلي، وقعت بتأويلاتٍ فاسدةٍ، فصرت إذا دعوت أقول: اللَّهمَّ بحمدك وسترك عليَّ اغفر لي! ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك؛ فما وجدتُّه كما ينبغي.
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذَّذ بإيراد العلم من غير تحقيق عملٍ به، وقد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر وما حصل المقصود!» (2). اهـ.
* * *
(1) حلية الأولياء (2/ 157).
(2)
صيد الخاطر (ص 474).
• ومن مواعظ أبي الدرداء رضي الله عنه قوله (1):
«ليحذر امرؤٌ أن تبغضه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر» ، ثم قال:«أتدري ما هذا؟ العبد يخلو بمعاصي الله عز وجل؛ فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر» .
يا لها من موعظةٍ بليغةٍ! لا أجد ما أوضِّح ما اشتملت عليه من معانٍ بديعةٍ أحسن ولا أجمل من كلامٍ نفيسٍ لابن الجوزيِّ حول هذه المسألة، حيث يقول رحمه الله:
«إنَّ للخلوة تأثيراتٍ تبين في الجلوة، كم من مؤمنٍ بالله عز وجل، يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي حذرًا من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالًا له، فيكون بذلك الفعل كأنَّه طرح عودًا هندياً على مجمرٍ، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو؟
وعلى قدرٍ المجاهدة في ترك ما يهوى، تقوى محبَّته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطِّيب، ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظِّم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لِمَ؟ ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وقد تمتد هذه الأراييح (2) بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدةً مديدةً ثم يُنسى، ومنهم من يذكر مئة سنةٍ، ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلامٌ يبقى ذكرهم أبدًا.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحقّ، فإنَّه
(1) حلية الأولياء (1/ 215)
(2)
جمع رائحة.
على قدر مبارزته بالذُّنوب، وعلى مقادير تلك الذُّنوب؛ يفوح منه ريح الكراهة فمتقته القلوب، فإن قلَّ مقدار ما جنى، قلَّ ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه، وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه، لا يمدحونه ولا يذمُّونه.
وربَّ خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هوَّة شقوةٍ في عيش الدُّنيا والآخرة! وكأنَّه قيل له: ابق بما آثرت! فيبقى أبدًا في التخبيط.
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثَّرت وعثَّرت، فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم؛ فإنَّ الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص» (1) ا. هـ.
* * *
• ومن مواعظه رضي الله عنه (2):
«أنصف أذنيك من فيك؛ فإنَّما جعل لك أذنان اثنتان وفمٌ واحدٌ؛ تسمع أكثر ممَّا تقول» .
ووضوح هذه الموعظة يغني عن بيانها، وكلام الحكماء في هذا المعنى كثيرٌ، وهم متَّفقون على ذمِّ الكلام بلا فائدةٍ، وإن كان بفائدةٍ فمحلُّ الذمِّ منه الكثرة التي تبعث على السآمة، أو تبدي فلتات لسانه مواطن العثار من عقله؛ ولهذا قال المهلَّب بن أبي صفرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلًا على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلًا على عقله (3).
(1) صيد الخاطر (ص 185).
(2)
عيون الأخبار (2/ 193).
(3)
العقد الفريد (2/ 303).
ولقد كثر كلام الحكماء والعقلاء في هذا المعنى؛ لأنَّ «الكلام ترجمانٌ يعبِّر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السَّرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على ردِّ شوارده؛ فحقَّ على العاقل أن يحترز من زلله بالإمساك عنه، أو بالإقلال منه» (1).
هذه بعض المختارات من الحكم والمقولات المباركة المأثورة عن حكيم هذه الأمَّة: عويمر بن زيدٍ أبي الدَّرداء الأنصاريِّ رضي الله عنه، مع التعليق عليها بما تيسَّر، والتي تفيَّأنا ظلالها في أربع حلقاتٍ مضت، وتركنا مواعظه الكثير؛ إذ القصد الإشارة إلى بعضها لا الإلمام بها جميعًا، ومن أراد الله به خيرًا نفعه بالقليل من العلم المأثور عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام.
* * *
(1) أدب الدنيا والدين (ص 275).