الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
-
سعدٌ رضي الله عنه، أبو إسحاق، أحد أكابر أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، من العشرة المبشَّرين بالجنة، وأحد السابقين البدريِّين، فتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عيَّنهم الفاروق لشورى الخلافة، وأول من رمى بسهمٍ في سبيل الله، أسلم وهو ابن 17 سنةً، وشهد بدرًا والمشاهد، وقاد معركة القادسيَّة، كان مستجاب الدعوة، إنَّه سعد بن أبي وقَّاص - واسمه مالكٌ - بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلابٍ الزُّهريُّ (1)، مات سنة خمسٍ وخمسين رضي الله عنه.
• ومن جملة المواعظ التي نقلت عنه (2):
أنَّه رضي الله عنه وقع بينه وبين خالد بن الوليد كلامٌ، يقع مثله بين الإخوة عادةً، فأراد رجلٌ أن يسبَّ خالد بن الوليد عند سعدٍ، فقال له سعدٌ -واعظًا بقوله وفعله-:
«مه! إنَّ ما بيننا، لم يبلغ ديننا»
الله أكبر! إنَّها نفوس الكبار، التي لا تسمح لأحدٍ أن يصطاد في
(1) ينظر: سير أعلام النبلاء، ط. الرسالة (1/ 92)، تهذيب التهذيب (3/ 483)، الأعلام؛ للزركلي (3/ 87).
(2)
صفة الصفوة (1/ 135).
الماء العكر! ولا تسمح -أيضًا -بتضخيم الأخطاء، ولا ترضى بنقل الخصومة الشخصيَّة وجعلها خصومةً دينيَّةً.
إنَّها موعظةٌ في الصدق والتجرُّد، يطبِّقها أصحاب النفوس الكبيرة.
وهذا الموقف من سعدٍ رضي الله عنه يذكِّرنا بموقفٍ مشابهٍ للإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه الله، فقد كان أحد المحدِّثين يقع فيه (1)، فدخل عليه مرةً بعض طلبة الحديث، فقال: من أين أقبلتم؟ قلنا: من مجلس فلانٍ، فقال: اكتبوا عنه؛ فإنَّه شيخٌ صالحٌ، فقلنا: إنَّه يطعن عليك! فقال: «فأيُّ شيءٌ حيلتي؟! شيخٌ صالحٌ قد بُلِي بي» (2)!
إنَّه نفس المبدأ؛ فالإمام أحمد -مثل سعدٍ رضي الله عنه لا يرضى بنقل الخلاف الشخصيِّ وجعله خلافًا دينيًّا يوالي عليه ويعادي عليه، بل يجعل الاختلاف الذي مردُّه وجهة نظرٍ، أو ربَّما حسدٌ، أو غير ذلك من الأسباب، يجعله في خانةٍ، والاختلاف الذي سببه دينيٌّ وشرعيٌّ في خانةٍ أخرى.
وهذه المسألة -في الحقيقة -ممَّا تختلط فيها الأوراق عند بعض الفضلاء من المحسوبين على العلم والدعوة -فضلًا عمَّن سواهم -وهو فقدٌ لميزان الإنصاف والعدل، فما أعزَّ الإنصاف مع الخصوم ومع عموم من نختلف معهم والله المستعان!
• ومن مواعظه رضي الله عنه ما أوصى به ابنه قائلًا (3):
«يا بُنيَّ، إذا أردتَّ أن تصلِّي فأحسن الوضوء، وصلِّ صلاةً ترى أنَّك
(1) هو: محمد بن العلاء، أبو كريب رحمه الله.
(2)
سير أعلام النبلاء (11/ 317).
(3)
الزهد؛ لأحمد بن حنبل (149).
لا تصلِّي بعدها أبدًا، وإيَّاك والطمع؛ فإنَّه فقرٌ حاضرٌ، وعليك بالإياس؛ فإنَّه الغنى، وإيَّاك وما يعتذر منه من القول والعمل، وافعل ما بدا لك».
لقد جمع سعدٌ في وصيَّته هذه أصولًا في العبادة والخلق.
أمَّا العبادة، فبوصيَّته بإحسان الوضوء، وإحسان الصلاة، وقد اختصر عليه سؤالًا يمكن أن يطرحه ابنه: كيف أحسن صلاتي؟ فيأتي الجواب: «وصلِّ صلاة ترى أنَّك لا تصلِّي بعدها أبدًا» !
سبحان الله! ماذا لو دخلنا صلواتنا بهذا الشعور التوديعيِّ؟! إذًا لتغيرت أحوالنا، ولصلحت أمورنا.
أمَّا الخُلُقُ، فقد أوصاه بوصيةٍ تتعلَّق بالجانب الخُلقيِّ، وهي الحذر من الطمع، وعلَّل ذلك بقوله:«فإنَّه فقرٌ حاضرٌ» ! ثمَّ أتبعها بما يوضِّح معناها فقال: «وعليك بالإياس؛ فإنَّه الغنى» .
وصدق رضي الله عنه، ومن تأمَّل ما وصف الله به المنافقين في سورة التوبة، أدرك هذا المعنى جيدًا، قال تعالى عن أولئك المنافقين:{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهكذا كان حال من كان متعلِّقًا برئاسةٍ أو ثروةٍ ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيقٌ له إذا لم يحصل.
والعبوديَّة في الحقيقة هي رقُّ القلب وعبوديَّته، فما استرقَّ القلب واستعبده، فهو عبده؛ ولهذا يقال:(الطمع فقرٌ، واليأس غنًى، وإنَّ أحدكم إذا يئس من شيءٍ، استغنى عنه)، وهذا أمرٌ يجده الإنسان من نفسه؛ فإنَّ الأمر الذي ييئس منه، لا يطلبه ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه
فقيرًا إليه ولا إلى من يفعله، وأمَّا إذا طمع في أمرٍ من الأمور ورجاه، تعلَّق قلبه به، فصار فقيرًا إلى حصوله وإلى من يظنُّ أنَّه سببٌ في حصوله، وهذا في المال والجاه والصُّور وغير ذلك» (1).انتهى.
ثمَّ أوصى سعدٌ ابنه فقال: «وإيَّاك وما يعتذر منه من القول والعمل» ، والمعنى: لا تتكلَّم بكلامٍ، أو تعمل عملًا يحوجك إلى الاعتذار، فالكلمة ما دامت لم تخرج من الفم، فأنت تملكها، فإن خرجت مَلَكَتْك، وكذلك الفعل.
ولا يعفي الإنسان أن يفعل فعلًا فيه إشكالٌ أو ريبةٌ، يحوجه إلى التوضيح والبيان؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم قولًا مُحكمًا، وقاعدةً من قواعد هذا الشرع:«فمن اتَّقى الشُّبهات، استبرأ لدينه وعرضه» (2).
كم من إنسانٍ ألقى كلمةً أحوجته إلى ما كان يكره من الاعتذار والذلِّ للخلق!
ومن الأمثلة الواقعيَّة: أنَّ أحدهم ربَّما سمع كلامًا عن شخصٍ من الناس، فتحدَّث به في المجالس دون تثبُّتٍ! وأصبح يتكلَّم في المجالس: فلانٌ قال كذا، وفعل كذا! ثم تبيَّن له بعد مدَّةٍ أنَّ ما كان يقوله عن فلانٍ غير صحيحٍ! هنا سيضطرَّ إلى ما كان غنيًّا عنه، ولو كلَّف نفسه قليلًا عناء التثبُّت، لارتاح وأراح! لكنَّه وقع في أمرٍ لا يمكن تداركه، وما أحسن قول الأوَّل:
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه
…
وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل
فعثرته بالقول تودي برأسه
…
وعثرته بالرِّجل تبرا على مهل (3)
(1) مجموع الفتاوى (10/ 181).
(2)
البخاري ح (52)، مسلم ح (1599).
(3)
عيون الأخبار (2/ 196).
وكلَّما كان موقع الكلمة خطيرًا من جهة الزمان والمكان والحال، صار التَّوقِّي أكثر وأكبر؛ فلربَّما تكلَّم الإنسان بكلمةٍ كان فيها حتفه! ألا ما أجمل أن يسمع الابن من أبيه أمثال هذه المواعظ والوصايا!
إنَّ من المؤسف أنَّ بعض الأبناء لا يكاد يسمع من أبيه إلا اللوم والتقريع، دون أن يسمع أمثال هذه الكلمات الأبويَّة الحانية، التي تكون رصيدًا له في الحياة.
• ومن وصايا سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه لابنه، وهي موعظةٌ بليغةٌ (1):
إنَّ الكبر - كما هو معلومٌ - أول ذنبٍ عصي الله به، فإبليس لمَّا أمر بالسجود استكبر، ومن تأمَّل في السبب الجامع، وجده كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].
ولقد أحسن سعدٌ رضي الله عنه حين بيَّن لابنه ما يدفع عنه آفه الكبر فقال: «وليكن فيما تستعين به على تركه علمك بالذي منه كنت، والذي إليه تصير، وكيف الكبر مع النُّطفة التي منها خلقت، والرَّحم التي منها قذفت، والغذاء الذي به غذيت؟!» أي: تذكَّر إن دعتك نفسك للكبر أوَّل خلقتك؛ فأنت وأفقر شخصٍ على وجه الأرض مادَّتكما واحدةٌ،
(1) العقد الفريد (2/ 197).
ومخرجكما واحدٌ، ومصيركما واحدٌ؛ إلى حفرةٍ في صدعٍ من الأرض! فعلام الكِبْرُ؟!
إن كان الكبر لحسن الصورة، فما أنت الذي صوَّرت نفسك! وإن كان لمالٍ، فلم ترزقك نفسك!
وإن كان لنسبٍ أو حسبٍ، فلم تخيَّر في اختيار نسبك وحسبك، بل هو محض اختيار الله! فعلام الكبر؟!
ولله درُّ القائل:
تواضع تكن كالنَّجم لاح لناظرٍ
…
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدُّخان يعلو مكانه
…
على طبقات الجوِّ وهو وضيع
وهذه مقتطفاتٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل سعد بن أبي وقَّاصٍ، فرضي الله عن سعدٍ، وجمعنا به في دار كرامته، ومع سادة أوليائه الذين أنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
****