الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ ابن مسعودٍ - رضي الله
عنه -
(3/ 4)
• ومن مواعظ هذا العلم الكبير من أعلام الصحابة قوله رضي الله عنه (1):
«والذي لا إله إلا هو، ما على ظهر الأرض شيءٌ أحقُّ لطول سجنٍ من لسانٍ!» .
هذا القسم من هذا الصحابيِّ الجليل، يدلُّ على فقهه لخطورة هذه الجارحة، ونصوص الشرع المطهَّر مشحونةٌ بالتحذير من ذلك.
وأنت إذا تأمَّلت كثيرًا من المشاكل الفرديَّة والجماعيَّة - بل أحيانًا بين بعض الدول - وجدتَّ مُنطلقها من كلمةٍ ألقاها صاحبها دون أن يقدِّر أثرها، الذي ربَّما صار أشدَّ من أثر النار في الهشيم!
وفي التاريخ عبرةٌ؛ تقوم حربٌ بين قبيلتين، أو تذهب نفسٌ بسبب كلمةٍ أو قصيدةٍ شعريَّةٍ!
وأشدُّ من ذلك كلِّه، ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة، ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النَّار أبعد ما بين المشرق والمغرب)(2).
بل كم من كلمةٍ جلبت لصاحبها الأذى الطويل، ولو سكت لكان خيرًا له! وما أجمل قول الأوَّل:
(1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص162).
(2)
البخاري ح (6477) مسلم ح (2988).
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه
…
وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل
فعثرته بالقول تودي برأسه
…
وعثرته بالرِّجل تبرا على مهل
• وابن مسعودٍ رضي الله عنه يكرِّر هذا المعنى في مواعظ أخرى له، فيقول لرجلٍ طلب وصيته (1):
«ليسعك ببتك، واكفف لسانك، وابك على ذكر خطيئتك» .
وقال مرَّةً: «إيَّاكم وفضول القول، فبحسب المرء من الكلام ما بلغ من حاجته» (2).
وهذه الجملة الأخيرة: «إيَّاكم وفضول القول» تأخذ معنًى أبعد في الوصية بحفظ اللِّسان عمَّا لا يعني؛ فإنَّ الترجمة تفيد أنَّ من اعتاد الكلام فيما لا يعني، قسا قلبه، ولم يأمن الزَّلَّة والخوض فيما يضرُّه.
وكلُّ هذا يدخل تحت تلك الجملة النبويَّة المحكمة: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)(3).
ولقد أحسن ابن السَّمَّاك الواعظ حين قال عن اللسان: «سبعك بين لحييك -يعني: اللسان -تأكل به كلَّ من مرَّ عليك، قد آذيت أهل الدُّور في الدُّور، حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم! وأنت ها هنا تنبشهم، إنَّما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنَّه ينبغي لك أن يدلَّك على ترك القول في أخيك ثلاث خلالٍ: أمَّا واحدةٌ، فلعلَّك أن تذكره بأمرٍ هو فيك، فما
(1) صفة الصفوة: (1/ 158).
(2)
أنساب الأشراف؛ للبلاذري (11/ 228).
(3)
البخاري ح (6018) مسلم ح (47).
ظنُّك بربِّك إذا ذكرت أخاك بأمرٍ هو فيك؟ ولعلَّك تذكره بأمرٍ فيك أعظم منه، فذلك أشدُّ استحكامًا لمقته إيَّاك، ولعلَّك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: ارحم أخاك، وأحمد الذي عافاك؟! (1).
وبالجملة فشأن اللسان خطيرٌ، ومن أجل ذلك صنَّف العلماء كتبًا مستقلةً في الصمت وفي المنطق، وضمَّنوا كتبهم في الآداب الكلام الكثير عن هذا الموضوع، الذي يجب على كلِّ ناصحٍ لنفسه أن يراعيه ويرعاه.
* ومن مواعظه رضي الله عنه (2):
«كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار جهلًا!» .
وصدق رضي الله عنه، وهو بهذا ينطلق مباشرةً إلى ثمرة العلم، وهي الخشية، بدلًا من الدخول في تعريفها، وهكذا كان شأن السلف؛ قليلو التكلُّف، عميقو العبارات في إيصال المعاني.
ومصداق قوله رضي الله عنه قول الحقِّ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، فإذا وُجدت الخشية، فقد وُجدت ثمرة العلم، وإن لم يكن الإنسان عالمًا، وإذا ذهبت أو قلَّت الخشية، فقد ذهبت بركة العلم وثمرته الكبرى، وإلا فما فائدة العلم إذا لم يورث خشيةً تمنع من الوقوع في المحذور، وتدلُّ على فعل ما ينبغي؟ ولهذا قال ابن مسعودٍ:«وكفى بالاغترار جهلًا» ؛ ذلك أنَّ بعض الناس -ممَّن أُوتي حظًا من العلم -قد يقع في أنواعٍ من التأويلات والتَّكلُّفات، فيتوسَّعون في بعض
(1) صفوة الصفوة (2/ 102).
(2)
الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص158).
المسائل، أو يسوِّغون لأنفسهم الوقوع في المشتبهات؛ حتى يقودهم ذلك إلى مهيع المحرَّمات، فتذبل شجرة الخشية في قلوبهم، ويقع الاغترار بسعة العفو، وسبق الرحمة، ثم لا يدري إلا وقد عصى أو قارب، فيجد في قلبه قسوةً! ويعاد السؤال مرةً أخرى: ما قيمة العلم هنا إذا لم يحمل على الخشي والورع؟!
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (1):
«لو سخرت من كلبٍ، خشيت أن أحوَّل كلبًا!» .
هذا أثرٌ من آثار العلم الذي امتلأ به صدر ابن مسعودٍ رضي الله عنه؛ ذلك أنَّ السخرية ليست من خصال أهل الإيمان الذين ناداهم الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا} [الحجرات: 11]، بل يمتدُّ هذا إلى كفِّ ألسنتهم عن السخرية بغير المكَّلفين؛ إذ الخالق للكلِّ هو الله تعالى، ولو شاء الله لكان الإنسان مثل من سخر به!
وهذا المعنى تواردت عليه كلمات السلف رحمهم الله فهذا إبراهيم النَّخعيُّ يقول: «إنِّي لأرى الشيء أكرهه، فما يمنعني أن أتكلَّم فيه إلا مخافة أن أُبتلى بمثله» (2).
وقال أبو ميسرة: «لو رأيت رجلًا يرضع عنزًا فسخرت منه، خشيت أن أكون مثله» (3).
(1) الزهد؛ لهناد بن السري (2/ 570).
(2)
البيهقي في الشُّعب ح (6353).
(3)
التاريخ الكبير = تاريخ ابن أبي خيثمة - السفر الثالث (3/ 173).
وقال ابن سيرين: «عيَّرت رجلًا، وقلت: يا مفلس! فأفلست بعد أربعين سنةً!» (1).
وعن الحسن قال: «كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنبٍ قد تاب منه، لم يمت حتى يبتليه الله به» (2).
فإذا كانت هذه حالهم في الحذر من السخرية بالحيوانات، أفتراهم يطلقون ألسنتهم بالسخرية ببني آدم؟!
شرُّ الورى من بعيب النَّاس مشتغلًا
…
مثل الذُّباب يُراعي موضع العلل
وإذا كان هذا المعنى محرَّمًا في عموم الناس، فهو في حقِّ العلماء أشدُّ وأقبح، وإذا كان من أجل علمهم ودينهم الذي عرفوا به، فالمسألة أخطر، ولله درُّ الإمام مالكٍ الذي قال:«أدركت بهذه البلدة -يعني: المدينة -أقوامًا لم تكن لهم عيوبٌ، فعابوا الناس فصارت لهم عيوبٌ، وأدركت بها أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فسكتوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم» (3).
لا تهتكن من مساوي النَّاس ما سترا
…
فيهتك الله سترًا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
…
ولا تعب أحدًا منهم بما فيكا
• ومن مواعظه قوله رضي الله عنه:
«إنَّكم في ممرِّ الليل والنهار في آجالٍ منتقصة، وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتةً، فمن يزرع خيرًا يوشك أن يحصد رغبةً، ومن زرع شرًّا
(1) صيد الخاطر (ص39).
(2)
الصمت؛ لابن أبي الدنيا (ص170).
(3)
الضوء اللامع، لأهل القرن التاسع (1/ 106).
فيوشك أن يحصد ندامةً، ولكلِّ زارع مثل الذي زرع، لا يسبق بطاءٌ بحظِّه، ولا يدرك حريصٌ ما لم يقدَّر له، فمن أعطي خيرًا فالله أعطاه، ومن وقي شرًا فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة» (1).
ولعلَّ في وضوح هذه الموعظة - مع ما سبقت الإشارة إليه - ما يغني عن التعليق عليها.
هذه نبذٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه
…
ومازال في مواعظه الكثير مَّما يستحُّق الوقوف معه، نتدارس بعضها في المواعظ التالية.
…
(1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص161).