المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌والزبير بن العوام رضي الله عنه - مواعظ الصحابة لعمر المقبل

[عمر المقبل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيدٌ

- ‌من مواعظ الصِّدِّيق رضي الله عنه

- ‌من مواعظ الفاروق عمر رضي الله عنه

- ‌من مواعظ الفاروق عمر رضي الله عنه

- ‌من مواعظ ذي النُّورين رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

- ‌والزبير بن العوام رضي الله عنه

- ‌من مواعظ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

- ‌من مواعظ ابن مسعودٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ ابن مسعودٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ ابن مسعودٍ - رضي الله

- ‌من مواعظ ابن مسعودٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌من مواعظ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌من مواعظ معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي الدَّرداء رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي الدَّرداء رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي الدَّرداء رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي الدَّرداء رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي ذرٍّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

- ‌من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

- ‌من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

- ‌من مواعظ ابن عمر رضي الله عنهما

- ‌من مواعظ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أُبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي هريرة رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أبي هريرة رضي الله عنه

- ‌من مواعظ عمرو بن العاص رضي الله عنه

- ‌من مواعظ عمرو بن العاص رضي الله عنه

- ‌من مواعظ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه

- ‌من مواعظ أنس بن مالك رضي الله عنه

- ‌من مواعظ عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما

- ‌من مواعظ عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما

- ‌من مواعظ عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنه

- ‌من مواعظ ابن الزبير رضي الله عنهما:

- ‌من مواعظ أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما

الفصل: ‌والزبير بن العوام رضي الله عنه

‌من مواعظ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه

-

‌والزبير بن العوام رضي الله عنه

-

إنَّهما من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وممَّن بشِّر بالجنة وهم أحياءٌ، مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو عنهما راضٍ، وأدخلهما الفاروق رضي الله عنه في مجلس الشورى السُّداسيِّ حين حضرته الوفاة.

أمَّا الأول منهم، فهو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرٍو التَّيميُّ، أبو محمدٍ، الذي سطَّر التاريخ مناقبه بأحرفٍ من نورٍ، أليس هو الذي جعل ظهره وقايةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ؟ حتى صار ظهره كظهر القنفذ من كثرة ما وقع عليه من سهامٍ رضي الله عنه، وكانت يده شلَّاء ممَّا وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ؛ ولذلك قال عنه صلى الله عليه وسلم:(أوجب طلحة)(1)؛ أي: وجبت له الجنة، وكان أبو بكرٍ رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحدٍ قال:«ذاك كلُّه يوم طلحة» ، وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل رضي الله عنه سنة ستٍّ وثلاثين، وهو ابن أربعٍ وستِّين سنةً (2).

(1) الترمذي ح (1692).

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 23، 25)، صفة الصفوة (1/ 126)، معرفة الصحابة؛ لأبي نعيم (1/ 98).

ص: 69

• ولعلَّنا نبتدئ بما نُقل عنه من مواعظ -على ندرته- بقوله رضي الله عنه (1):

«إنَّا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاء، لكنَّنا نتصبَّر» .

ومراده رضي الله عنه أنَّ حبَّ المال قد فُطرت عليه القلوب، وجُبلت عليه النفوس، لكنَّ الفرق بين البخيل والكريم، وبين الجواد والممسك، هو الصبر، ومعرفة حقيقة المال، وأنَّه غادٍ رائحٌ، وأنَّ المال الباقي في الحقيقة هو ما أنفقه العبد لا ما حبسه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاريُّ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه:(أيُّكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله؟)، قالوا: يا رسول الله، ما منَّا أحدٌ إلَاّ ماله أحبُّ إليه، قال:(فإنَّ ماله ما قدَّم، ومال وارثه ما أخَّر)(2).

لقد كانت سيرة طلحة رضي الله عنه ترجمةً عمليَّةً للسَّخاء الذي جُبل عليه، وترجمةً حيَّةً لهذه الموعظة، يقول قبيصة بن جابرٍ:«صحبت طلحة، فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل مالٍ عن غير مسألةٍ منه» (3).

«وكان لا يدع أحدًا من بني تيمٍ عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، وزوَّج أيَاماهم، وأخدم عائلهم، وقضى دين غارمهم» (4).

• ومن مواعظه ووصاياه رضي الله عنه قوله (5):

«لا تشاور بخيلًا في صلةٍ، ولا جبانًا في حربٍ، ولا شابًا في جاريةٍ» .

والمعنى: أنَّ الإنسان إذا أراد المشاورة، فليختر الشخص المناسب

(1) إحياء علوم الدين (3/ 255).

(2)

البخاري ح (6442).

(3)

معجم الصحابة؛ للبغوي (3/ 411).

(4)

الطبقات الكبرى (3/ 166).

(5)

مكارم الأخلاق؛ للخرائطي (1/ 252).

ص: 70

للمشورة، وليحذر ممَّن يحمل الصفة المضادَّة للأمر الذي يستشار فيه؛ لأنَّ النتيجة معروفةٌ مسبقًا!

فمن استشار البخيل في البذل، فلن يشير عليه إلا بالإمساك، ومن استشار جبانًا في المضيِّ إلى القتال، فلن يشير عليه إلا بالبقاء والترهيب من الموت الذي لا يتقدَّم أجله ولا يتأخَّر!

وهكذا الأمر في شأن الشابِّ مع الجارية؛ فالمظنَّة هي الوقوع في المحذور.

ولهذا؛ فإنَّ من كمال عقل الإنسان أن يستشير، وأن يكون المستشار أهلًا للاستشارة، بحيث يكون معروفًا بالحكمة والعقل، والخبرة بالشيء الذي يستشار فيه، كما قال لقمان الحكيم لابنه: شاور من جرَّب الأمور؛ فإنَّه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء، وأنت تأخذه مجانًا (1).

وقال بعض الحكماء: من استشار، فإنَّه يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذُّ ربَّما زلّ، والعقل الفرد ربَّما ضلّ، وقد قيل: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار (2).

أمَّا الصحابيُّ الثاني الذي نقف مع ما وقفنا عليه من مواعظه، فهو من الذين استجابوا لله وللرَّسول من بعد ما أصابهم القرح (3)، وكان معدودًا في أنجاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (4)، وكان من السَّابقين إلى الإسلام، هو ابن عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنَّه الزُّبير بن العوَّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزَّى بن قصيٍّ، أبو عبد الله الأسديُّ، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في

(1) أدب الدنيا والدين (ص303).

(2)

أدب الدنيا والدين (ص300).

(3)

مسلم ح (2418).

(4)

تاريخ الإسلام (3/ 503).

ص: 71

قصيٍّ، قال عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(إنَّ لكلِّ نبيٍّ حواريًا، وحواريَّ الزُّبير)(1)، شهد بدرًا والمشاهد كلَّها، وشهد له النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالشهادة وهو حيٌّ؛ فقال حين كان على جبل حراءٍ فتحرَّك:(اسكن حراء؛ فما عليك إلَّا نبيٌّ، أو صدِّيقٌ، أو شهيدٌ)، وكان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعثمان، وعليُّ، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه (2).

وفضائله ومناقبه كثيرةٌ، وقد مات شهيدًا مغدورًا به من البغاة الخوارج سنة ستٍّ وثلاثين، وعمره سبعٌ وستُّون سنة، وقيل غير ذلك (3).

• والمنقول من وعظه قليلٌ، ومنه قوله (4):

«من استطاع أن تكون له خبيئةٌ من عملٍ صالح، فليفعل» .

يا لها من موعظةٍ بليغةٍ، ووصيَّةٍ فذَّةٍ! ذلك أنَّ الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بإخلاص العمل، ولمَّا كان الإخلاص يحتاج إلى مجاهدةٍ، خاصةً إذا كان العمل كبيرًا، والأثر عظيمًا، والإنسان كثير الخلطة للخلق؛ لذا كان السلف - ومنهم الزبير - يوصون بمثل هذه الوصيَّة، وهي أن يكون للإنسان خبيئة عملٍ صالحٍ، لا يطلع عليها إلا الله تعالى؛ فإنَّ الإخلاص ما خالط عملًا إلا عظَّمه، ولأنَّ اطِّلاع الناس على العمل - وإن لم يسارع له العبد -له ضريبته من جهة حاجته إلى الإخلاص، والبعد عن حظِّ النفس، والرغبة في ثناء الخلق.

(1) البخاري ح (2691) واللفظ له، مسلم ح (2415)، ويُنظر: تاريخ الإسلام (3/ 502): الحواريُّ: الناصر، وقال الكلبيُّ: الحواريُّ: الخليل، وقال مصعبٌ الزبيريُّ: الحواريُّ: الخالص من كلِّ شيءٍ.

(2)

مسلم ح (2417).

(3)

منتهى السول (1/ 602).

(4)

الزهد؛ لأحمد (ص119).

ص: 72

قال عبد الله بن داود الخريبي رحمه الله: «كانوا - أي: السلف - يستحبُّون أن يكون للرجل خبيئةٌ من عملٍ صالحٍ، لا تعلم به زوجته ولا غيرها» (1).

لهذا؛ فإنَّ من توفيق الله تعالى للعبد للعبد أن يحرص على هذه الوصية الزُّبيريَّة: «من استطاع أن تكون له خبيئةٌ من عملٍ صالحٍ، فليفعل» . فإن قلت: مثِّل لي بمثالٍ على الخبيئة، فالجواب: أمثلة هذا كثيرةٌ، كأن تدمع عينك وأنت خالٍ بربك! أو تتصدَّق بصدقةٍ فتخفيها؛ حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك، ونحو هذه الأعمال الصالحة.

ذكر ابن المبارك عند الإمام أحمد- رحمهم الله جميعًا - فقال الإمام أحمد: «ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئةٍ كانت له» (2).

• ومن مواعظ الزُّبير العمليَّة:

ما رواه البخاريُّ في صحيحه عن عبد الله بن الزبير بن العوَّام رضي الله عنهما قال: لمَّا وقف الزبير يوم الجمل دعاني، فقمت إلى جنبه، فقال:«يا بُنيَّ، إنَّه لا يقتل اليوم إلا ظالمٌ أو مظلومٌ، وإنِّي لا أُراني إلا سأقتل اليوم مظلومًا، وإنَّ من أكبر همِّي لَدَيْنِي، أفترى يبقي دَيْنُنَا من مالنا شيئًا؟ ..» .

قال عبد الله: فجعل يوصيني بدَيْنه، ويقول:«يا بُنيَّ، إن عجزت عنه في شيءٍ، فاستعن عليه مولاي» ، فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبة، من مولاك؟! قال:«الله» !

(1) سير أعلام النبلاء (9/ 349).

(2)

صفة الصفوة (2/ 330).

ص: 73

قال عبد الله: فوالله ما وقعت في كربةٍ من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه، فيقضيه

قال: فكان للزبير أربع نسوةٍ، ورفع الثُّلث، فأصاب كلَّ امرأةٍ ألف ألفٍ ومائتا ألفٍ، فجميع ماله خمسون ألف ألفٍ، ومائتا ألفٍ (1).

أرأيتم كيف يعظ السلف أبناءهم عمليًّا؟ لم يقل الزبير: إذا عجزت فاذهب للسلطان -مثلًا -مع أنَّ هذا جائزٌ، أو اذهب لفلانٍ، أو اجمع قريشًا، بل علَّقه بالله تعالى، الذي بيده خزائن السموات والأرض، فما كانت النتيجة؟! إنَّه الغنى بالله، والاستغناء عن الخلق، والرِّزق الواسع، وقضاء الديون.

وهذا كلُّه - كما هو ظاهرٌ - لا يعني إهمال الأسباب، ولكنَّها موعظةٌ يُقصد منها لفت النظر إلى أهمية التعلُّق بالله، خاصةً في هذه القضية الحقوقيَّة بين الناس - وهي الدَّين الذي أثقل كواهل الكثيرين- فإليهم نهدي هذا الموقف، ونقول لهم: إذا ضاقت عليكم، وعجزتم عن ديونكم، فقولوا: يا مولانا، اقض عنَّا ديوننا، قولوا بألسنتكم وقلوبكم.

رضي الله عن طلحة بن عبيد الله، ورضي الله عن الزُّبير بن العوَّام، وجمعنا بهما في جنَّات النعيم، مع الذين أنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

(1) البخاري ح (3129).

ص: 74

من مواعظ عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه

هو أحد أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وأحد العشرة، وأحد السِّتة أهل الشُّورى، وأحد السابقين البدريِّين، وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام، وأحد من كان يُفتِي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

إنَّه عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوفٍ الزُّهريُّ القرشيُّ، أبو محمدٍ، المتوفَّى سنة 32 من الهجرة، وهو ابن اثنتين وسبعين، ويقال خمسٍ وسبعين (2)، دفن بالبقيع، فقال عليٌّ رضي الله عنه يوم وفاته:«اذهب يابن عوفٍ؛ فقد أدركت صفوها، وسبقت رنقها! -أي: كدرها -» (3).

• أمَّا مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل، فهي- على قلَّتها -بليغةٌ، وعميقة الدَّلالة فيما أشارت إليه، ومن ذلك قوله (4).

«ابتلينا بالضَّرَّاء فصبرنا، وابتلينا بالسَّرَّاء فلم نصبر» .

وهذه من متين الفقه لمعاني الكتاب والسُّنَّة، فإنَّ الصبر على الضراء والشدَّة ظاهر المعنى، ويدركه كلُّ أحدٍ، لكنَّ الذي لا يتفطَّن له إلا الألبَّاء، وذوو العقول والنُّهى: الصبر على الغنى، والرخاء، ورغد

(1) سير أعلام النبلاء (1/ 86).

(2)

صفة الصفوة (1/ 133).

(3)

تاريخ الإسلام (3/ 396).

(4)

الترمذي ح (2464).

ص: 75

العيش، وما يترتَّب عليه من تبعاتٍ وتكاليف، فقلَّ من يتفطَّن له؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:(فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أن تبسط عليكم الدُّنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)(1).

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: «وكلتا النعمتين - الضراء والسراء - تحتاج مع الشكر إلى الصبر؛ أمَّا الضراء، فظاهرٌ، وأمَّا نعمة السراء، فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر؛ فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لمَّا كان في السراء اللذَّة، وفي الضراء الألم؛ اشتهر ذكر الشكر في السراء، والصبر في الضراء؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11] الآية» (2) انتهى.

«فالرجل كلَّ الرجل من يصبر على العافية، ومعنى الصبر عليها: ألَاّ يركن إليها، ويعلم أنَّ كلَّ ذلك مستودعٌ عنده، وعسى أن يسترجع على القرب، وألَّا يرسل نفسه في الفرح بها، ولا ينهمك في التنعُّم واللذة، واللهو واللعب، وأن يرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق، وفي بدنه ببذل المعونة للخلق، وفي لسانه ببذل الصِّدق، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه» (3).

يقول الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، قال ابن رجب رحمة الله معلِّقًا على هذه الآية:

(1) البخاري ح (4015)، مسلم ح (2961) من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه.

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 209).

(3)

إحياء علوم الدين (4/ 69).

ص: 76

«فجعل كلَّ ما يصيب الإنسان من شرٍّ أو خيرٍ فتنةً؛ يعني: أنَّه محنةٌ يُمتحن بها؛ فإن أُصيب بخيرٍ، امتُحن به شكره، وإن أُصيب بشرٍّ امتُحن به صبره، وفتنة السراء أشدُّ من فتنة الضراء؛ قال بعض السلف: فتنة الضراء يصبر عليها البرُّ والفاجر، ولا يصبر على فتنة السراء إلا صدِّيقٌ، ولمَّا ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء، صبر ولم يجزع، وقال: كانت زيادةً في إيماني، فلمَّا ابتلي بفتنة السراء - وهي شهرته وإقبال الناس عليه وتعظيمهم له - جزع وتمنَّى الموت صباحًا ومساءً، وخشي أن يكون نقصًا في دينه!» (1).

إنَّ من تأمَّل الواقع، أدرك عمق هذه الموعظة التي قالها عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه:«ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر» ، فكم شاهد الناس أقوامًا كانوا أيام فقرهم وتوسُّط حالهم الماديَّة على قدرٍ جيدٍ من الديانة، ورعاية الحقوق، والصِّلة، فلمَّا فتحت عليهم الدُّنيا وبسطت لهم، تغيَّرت أحوالهم للأسوأ! ودخلوا في مضايق الأمور، ومقاطع الحقوق؛ فمنهم من سجن، ومنهم من هجرة الناس، ومنهم

ومنهم!

فنسأل الله تعالى العفو والعافية في حال السراء والضراء، وأن يجعلنا ممَّن إذا ابتلي بالخير أو الشرِّ صبر.

• ومن مواعظ عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه قوله (2):

«يا حبَّذا المال؛ أصون به عرضي، وأرضي به ربِّي!» .

صدق رضي الله عنه، وهذا القول منه هو الفقه؛ فإنَّ الشرع لا يذمُّ جمع

(1) اختيار الأولى، في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى (123).

(2)

أدب الدنيا والدين (1/ 329).

ص: 77

المال لذات الجمع؛ وإنَّما يذمُّه إذا جمعه صاحبه ثم قصَّر في أداء حقوقه -كالزكاة والنفقة والصِّلة والصدقة - أو تسبَّب في تعلُّقه الزائد عن حدِّه بالدُّنيا.

وأمَّا ما سرى في أبجديَّات بعض الزهَّاد، من ذمِّ المال مطلقًا، فهو كلامٌ لا يجري على قواعد الشرع ولا أصوله.

والصحيح في مسألة جمع المال وعدمه أن يفصَّل فيها، فيقال:

إن كان جمعه لمجرَّد الجمع، مع التقصير في حقِّ الله وحقِّ عباده فيه، أو ألهى عن الواجبات الشرعيَّة، أو كان سببًا في رقَّة الديانة وضعفها، فهو مذمومٌ بلا شكٍّ، أمَّا إن جمعة الإنسان لغرضٍ صالحٍ، فأنفقه في سبيل الله، ودعم مشاريع الخير، وعرف الجامع حقَّ الله فيه، فأدَّى زكاته، وأدَّى حقوقه الأخرى، فهو ليس بمذمومٍ؛ وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب.

وعند التأمُّل في حياة الصحابة رضي الله عنهم وتعامل النبيِّ صلى الله عليه وسلم معهم، يتَّضح ما ذكرناه بجلاءٍ، فمن الذي جهَّز جيش العسرة؟ ومن الذي حفر بئر رُومة؟ بل من الذي جهَّز النبيَّ صلى الله عليه وسلم عندما أراد الهجرة؟ وكم نفع الله بأموال تجار الصحابة في قيام الدولة الإسلاميَّة! وكم نفع الله بأموال تجار المسلمين في هذا الزمان في قيام الدعوة، ودعم الجهاد وتجهيز المجاهدين في سبيل الله، وانتشار الخير في أنحاء العالم!

وممَّا يؤسف عليه أن بعض الناس يظنُّ أن من يسعى في جمع المال معدودٌ خارج دائرة الصالحين، بعيدٌ عن وصف الزهاد، مصنَّفٌ من أهل الدُّنيا بإطلاقٍ تصنيفًا بغيضًا!

وماذا أجدت هذه النظرة هؤلاء؟! إلا تأخُّرًا في مشاريع الخير،

ص: 78

وعنتًا ومشقَّةً عند السعي في إقامة أيِّ مشروعٍ خيريٍّ، وتسوُّلًا مهذَّبًا عند أبواب التجار، فاضطرَّ هذا النوع من الناس إلى العودة إلى هؤلاء الذين سلبنا عنهم وصف الزهد والرغبة في الآخرة! والحمد لله أنَّ هذا الأمر ليس عامًّا، ولا شائعًا؛ لكنَّه موجودٌ (1).

وقد أبدع الإمام ابن الجوزيِّ رحمه الله في حديثه عن هذه المسألة في فصولٍ متفرِّقةٍ من كتابه الماتع «صيد الخاطر» .

• ومن مواعظ عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه العمليَّة (2):

أنَّه لمَّا أتي بطعامٍ، وكان صائمًا، فقال:

«قتل مصعب بن عميرٍ وهو خيرٌ منِّي، وكفِّن في بردةٍ إن غطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطِّي رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير منِّي، ثمَّ بسط لنا من الدُّنيا ما بسط، أو قال: أُعطينا من الدُّنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجِّلت لنا، ثمَّ جعل يبكي حتى ترك الطعام» .

هكذا هي القلوب الحيَّة! لا تنسيها النعمة عبادة الشكر والذِّكر والتَّفُّكر في الحال والمآل.

إنَّ عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه يضرب بهذا الموقف درسًا عمليًا لأرباب المال، الذين أحيا الله قلوبهم، فلم تُنسهم بسطة الرزق شكر المنعم، ولا تذكُّر ما سلف وما هم مقبلون عليه.

(1) انظر كلامًا قيِّما لابن الجوزي في كتابه القيم: «صيد الخاطر» (283، 286) حول هذه النقطة.

(2)

البخاري ح (4045).

ص: 79

تأمَّل قوله: «وقد خشينا أن تكون حسناتنا- وفي روايةٍ: طيِّباتنا- عجِّلت لنا» ، يقول هذا وهو المبشَّر بالجنة! يقول هذا وهو الذي أنفق في سبيل الله ما أنفق! يقوله وهو لا يشكُّ في وعد الله ورسوله .. لكنَّ المؤمن ما دام نفسه يتردَّد، فهو يطير بجناحي الخوف والرجاء، حتى إذا اقتربت ساعة الرحيل، غلَّب جانب الرجاء بربِّه الذي وفَّقه للخير، وأمدَّه بالخير، وأنعم عليه وبسط في رزقه.

وفي هذه القصة: «فضل الزهد، وأنَّ الفاضل في الدِّين ينبغي له أن يمتنع من التوسُّع في الدُّنيا؛ لئلا تنقص حسناته، وإلى ذلك أشار عبد الرحمن بقوله: خشينا أن تكون حسناتنا قد عجِّلت لنا» (1).

وفي هذه القصة تواضع عبد الرحمن بن عوفٍ، حيث ذكر مصعب بن عميرٍ، وقال: إنَّه خيرٌ منِّي، مع أنَّ ابن عوفٍ ممَّن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة!

إنَّهم الكبار حقًّا! إذا ازداد فضل الله على أحدهم، ازداد تواضعًا لربِّه، ألا ترى كيف دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة متواضعاً، منكِّسًا رأسه لله تعالى، معترفًا بفضله؟ وها هو تلميذه عبد الرحمن بن عوفٍ يكرِّر المعنى ذاته.

رضي الله عن عبد الرحمن بن عوفٍ، وجمعنا به في دار كرامته، ومع سادة أوليائه الذين أنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

(1) فتح الباري؛ لابن حجر (7/ 354).

ص: 80