الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه
-
(1/ 2)
هو أنس بن مالك بن النَّضر بن ضمضم الأنصاريُّ، النَّجَّاريُّ رضي الله عنه، أحد أعلام الصحابة المشاهير؛ لاتِّصاله الوثيق برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث طالت صحبته له، فبلغت عشر سنواتٍ.
وصفه الذَّهبيُّ بقوله: الإمام، المفتي، المقرئ، المحدِّث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاريُّ، الخزرجيُّ، النَّجَّاريُّ، المدنيُّ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته من النساء، وتلميذه، وآخر أصحابه موتًا.
روى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم علمًا جمًّا، وعن: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعدَّةٍ من الصحابة رضي الله عنهم، وروى عنه خلقٌ عظيمٌ من التابعين، سرد الحافظ المزِّيُّ في «التهذيب» نحو مائتي نفسٍ من الرواة عنه.
وكان يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشرٍ، ومات وأنا ابن عشرين.
فصحب نبيَّه صلى الله عليه وسلم أتمَّ الصُّحبة، ولازمه أكمل الملازمة منذ هاجر، وإلى أن مات، وغزا معه غير مرَّةٍ، وبايع تحت الشجرة.
جاءت به أمُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هذا ابني أنسٌ، أتيتك به يخدمك، فادع الله له، فقال:(اللَّهمَّ أكثر ماله وولده).
قال رضي الله عنه: فوالله إنَّ مالي لكثيرٌ، حتى إنَّ كرماً لي - أي: عنبًا - لتحمل في السنة مرَّتين، وولد لِصُلبي مائةٌ وستةٌ، وقد مات منهم ثمانون - وقيل: سبعون - في طاعون الجارف الذي وقع سنة تسعٍ وستِّين (1).
استعمله أبو بكرٍ الصِّدِّيق ساعيًا على الصدقة، بعد أن استشار فيه الفاروق، فقال له الفاروق رضي الله عنه: ابعثه، فإنَّه لَبيبٌ كاتبٌ.
مات- على الأصحِّ - سنة ثلاثٍ وتسعين، وقد جاوز المئة (2).
* * *
• رويت عنه بعض المواعظ؛ منها قوله (3):
«إذا لقيت امرأةً فغمِّض عينيك حتى تمضي» .
قد تبدو هذه الوصيَّة في غضِّ البصر مكرَّرة ومعتادةً، لكنَّنا - والله- بحاجةٍ للتذكير بها، خاصةً في عصرنا الذي تفتَّحت الأعين على صورٍ لا قبل للناس بها، فالصالح من الناس- ممَّن يتحاشى رؤية امرأةٍ أجنبيَّةٍ - يُبتلى بسبب انتشار وسائل نشر الصور بشيءٍ من هذا البلاء! فكان حقًّا على اللبيب العاقل أن ينتبه لهذا المنفذ الخطير الذي أودى بقلوبٍ كانت معلَّقةً بالعرش، فهوى بها إطلاق النظر إلى الفرش!
بل ذكر القرطبيُّ رحمه الله قصةً في كتابه «التَّذكرة» (4) يقشعرُّ لها البدن،
(1) كان طاعون الجارف بالبصرة سنة 69 هـ، قال المدائني: حدَّثني من أدرك ذلك، قال: كان ثلاثة أيام، فمات نحو مائتي ألف نفسٍ، وقال غيره: مات في طاعون الجارف لأنسٍ من أولاده وأولادهم سبعون نفسًا [دول الإسلام: 1/ 52].
(2)
ينظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (3/ 395)، الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 275).
(3)
الزهد؛ للإمام أحمد (ص 172).
(4)
التذكرة، بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 193).
حاصلها أنَّ رجلًا صالحًا مؤذِّنًا وقعت عينه على امرأةٍ نصرانيَّةٍ، فعلقها قلبه، فخطبها، واشترط أهلها أن يتنصَّر، فوافق! فتنصَّر، لكنَّه مات قبل أن يدخل بها!
نعوذ بالله من الخذلان وسوء الخاتمة!
ولخطورة هذا النظر؛ جاء الأمر بغضِّ البصر للرجال والنساء، على خلاف المعتاد في غالب أوامر القرآن، التي تكتفي بتوجيه الخطاب للعموم، فقال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 30، 31].
بل نصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أنَّ من أهمِّ مقاصد النكاح غضَّ البصر، فقال:(يا معشر الشَّباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوَّج؛ فإنَّه أغضَّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصَّوم؛ فإنَّه له وجاءٌ)(1).
ولمَّا نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطُّرقات، قال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، ما لنا بُدٌّ من مجالسنا نتحدَّث فيها! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فإذا أبيتم إلَّا المجلس، فأعطوا الطَّريق حقَّه)، قالوا: وما حقُّه؟ قال: (غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السَّلام، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر)(2) فبدأ بغضِّ البصر.
وإذا كان هذا التوجيه الربانيُّ والنبويُّ يتكرَّر في تلك الحِقبَة من الزمن، التي كانت عامَّة النساء فيها على قدرٍ كبيرٍ من الحشمة والسِّتر؛
(1) البخاري ح (5066)، مسلم ح (1400).
(2)
البخاري ح (6229)، مسلم ح (2121).
فكيف سيكون الحال في عصرنا، الذي تنوَّعت فيه الصور وأساليب الإغراء بها، واستهدف الشباب والفتيات بها؟!
لقد كثرت الشكوى من قسوة القلوب، وضعف الخشوع في الصلاة، ومن تأمَّل في أعظم الأسباب تأثيرًا في ذلك، أدرك أنَّ إطلاق البصر في الحرام يأتي في مقدِّمتها.
والحديث في هذه المسألة يطول، والمقصود الإشارة إلى خطورة التساهل في ذلك، وعدم الركون إلى ما في القلب من صلاحٍ أو تُقًى، فلربَّ نظرةٍ أوقعت في قلب صاحبها البلابل! كما يروى عن الإمام أحمد رحمه الله.
ومن أعظم طرق علاج هذه البليَّة: ما قاله الجنيد - لمَّا سُئل: بما يُستعان على غضِّ البصر؟ - قال: بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره.
وهذا - والله - هو أنجع الأدوية؛ استشعار مراقبة الله عز وجل.
ومن وفِّق لغضِّ بصره، أكرمه الله بكراماتٍ كثيرةٍ؛ منها:
- راحة القلب من قسوته، وصفاؤه من مُكدِّرات الخشوع، فسيجد لصلاته لذَّةً، ولتلاوته لكلام مولاه لذَّةً، ولمناجاته لذَّةً.
- بركة اتِّباع الشرع المطهَّر، وما الظنُّ بعبدٍ أطاع خالقه، وخالف هواه؟ أيخذل الله قلبه؟ لا والله!
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: «اعلم - وفَّقك الله - أنَّك إذا امتثلت المأمور به من غضِّ البصر- عند أول نظرةٍ - سلِمتَ من آفاتٍ لا تُحصى، فإذا كَّررت النظر لم تأمن أن يُزرع في قلبك زرعًا يصعب قلعه، فإن كان قد حصل ذلك، فعلاجه: الحِميَة بالغضِّ فيما بعد، وقطع مراد الفكر
بسدِّ باب النظر، فحينئذٍ يسهل علاج الحاصل في القلب؛ لأنَّه إذا اجتمع سيلٌ فسُدَّ مجراه، سَهُلَ نَزْف الحاصل، ولا علاج للحاصل في القلب أقوى من قطع أسبابه، ثم زجر الاهتمام به؛ خوفًا من عقوبة الله عز وجل، فمتى شرعت في استعمال هذا الدواء، رُجي لك قُرب السلامة» (1). اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إنَّ غضَّ البصر عن الصورة التي نُهي عن النظر إليها - كالمرأة والأمرد الحسن- يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذَّته، التي هي أحلى وأطيب ممَّا تركه لله؛ فإنَّ من ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه.
وأمَّا الفائدة الثانية في غض البصر، فهي: أنَّه يورث نور القلب والفراسة؛ قال تعالى عن قوم لوطٍ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فالتعلُّق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسُكر القلب؛ بل جنونه.
وذكر سبحانه آية النور عقيب آيات غضِّ البصر، فقال:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فغضُّ بصره عمَّا حَرُمَ، يُعوِّضه الله من جنسه بما هو خيرٌ منه؛ فيُطلق نور بصيرته، ويَفتَحُ عليه.
والفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان النُّصرة مع سلطان الحُجَّة، وفي الأثر:«الذي يخالف هواه، يفرق الشيطان من ظلِّه» ؛ ولهذا يوجد في المتَّبع لهواه من الذُّلِّ- ذلِّ النفس
(1) ذم الهوى (ص 144).
وضعفها ومهانتها- ما جعله الله لمن عصاه، فإنَّ الله جعل العزَّة لمن أطاعه، والذِّلَّة لمن عصاه؛ قال تعالى:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تعالى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]؛ ولهذا كان في كلام الشيوخ: الناس يطلبون العزَّ من أبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله» (1) انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
* * *
(1) مجموع الفتاوى (21/ 252 - 258).