الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ الصِّدِّيق رضي الله عنه
-
إنَّه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1): عبد الله (2) بن أبي قحافة - واسمه عثمان - بن عامرٍ، القرشيُّ، التَّيميُّ، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرَّة (3).
ولد بمكة، ونشأ سيِّدًا من سادات قريشٍ، وغنيًّا من كبار موسريهم، وعالمًا بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقِّبه بـ «عالم قريشٍ» (4)، وحرَّم على نفسه الخمر في الجاهليَّة فلم يشربها، ثم كانت له في عصر النبوة - وما بعده - مواقف كبيرةٌ؛ فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال (5)، له في كتب الحديث 142 حديثًا (6).
(1) تاريخ الإسلام (2/ 66): وقال أبو بكر بن عيَّاشٍ: أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن؛ لأنَّ في القرآن في المهاجرين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فمن سمَّاه الله صادقًا لم يكذب، هم سمَّوه وقالوا: يا خليفة رسول الله!
(2)
الاستيعاب (3/ 963): كان اسمه في الجاهلية: عبد الكعبة، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله، هذا قول أهل النسب: الزُّبيريِّ وغيره.
(3)
تاريخ الخلفاء؛ للسيوطي (ص26).
(4)
إكمال تهذيب الكمال (8/ 60): وعند التاريخي عن ابن عباس: كانت قريشٌ تألف منزل أبي بكر لخصلتين: الطعام، والعلم، فلما أسلم، أسلم عليه من كان يجالسه.
(5)
إكمال تهذيب الكمال (8/ 64): وقال السهيليُّ: كان يسمَّى أمير الشاكرين؛ لقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قوله: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
(6)
الأعلام؛ للزِّركلي (4/ 102).
وهو أول من جمع القرآن في اللَّوحين (1).
وتوفِّي مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة (13هـ)، وكانت خلافته سنتين ومئة يومٍ (2).
والمتأمِّل فيما روي من المواعظ عن الصِّدِّيق رضي الله عنه؛ يلحظ تنوُّعها بتنوُّع المناسبات، كما هو هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن تلكم المواعظ (3):
• خطب أبو بكرٍ رضي الله عنه الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال:
ففي هذه الموعظة تنبيهٌ من الصِّدِّيق رضي الله عنه على أنَّ الانهماك في الدُّنيا- أو التوسُّع فيها- مظنَّة الغفلة عن الذِّكر.
وفيها: أنَّ النِّعم إذا استعملت في اللَّهو الذي يصدُّ عن ذكر الله، فهي نقمٌ واستدراجٌ.
• وقال الصِّدِّيق رضي الله عنه (4):
(1) تاريخ الإسلام (2/ 68).
(2)
انظر: تاريخ الإسلام (2/ 68).
(3)
الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص93).
(4)
مقولة أبي بكر رواها البيهقيُّ في شعب الإيمان (10/ 50)، وحديث: (إنَّ الناس إذا رأوا الظَّالم
…
) أخرجه أبو داود ح (4338).
• وقال رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه -:
وما ذكره الصِّدِّيق رضي الله عنه في هاتين الموعظتين دلَّت عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة؛ قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
وفي الترمذيِّ - وقال: حديثٌ حسنٌ - عن حذيفة بن اليمان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال (والَّذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثمَّ تدعونه فلا يستجاب لكم).
بل إنَّ من أعمق التشبيهات التي تبيِّن أهمية الاحتساب، وقيام شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطورة تركه أو التقصير فيه - قوله صلى الله عليه وسلم من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنهما:«مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الَّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» (1).
(1) البخاري ح (2493).
إنَّه لخليقٌ والله ونحن نقرأ هذه الموعظة النبويَّة ثم الصِّدِّيقيَّة- أن نكون من أسرع الناس للقيام بشعيرة الاحتساب حسب القدرة والطاقة؛ حتى لا نهلك، أو تغرق سفينة مجتمعنا.
• وعن زيد بن أسلم، عن أبيه قال (1):
رأيت أبا بكرٍ رضي الله عنه آخذًا بلسانه يقول: «هذا أوردني الموارد» .
الله أكبر! هذا كلام الصِّدِّيق عن لسانه، فماذا نقول نحن؟! ولك أن تتصوَّر- أخي القارئ - ما هي الكلمات التي خشي منها أبو بكرٍ؟ وما الكلام الذي جعله يقول مثل هذا الكلام؟! إنَّها خشية الله، التي جعلته يفكِّر في كلامٍ مباحٍ قاله ولا حاجه له، أو قال كلامًا في غير موضعه اجتهادًا وتأوُّلًا!
أما والله، إنَّا لأحقُّ بهذه الكلمة من الصِّدِّيق رضي الله عنه! ونحن الذين نتكلَّم أكثر مما نعمل، وقلَّ أن نسلم من الغيبة، فإن سلمنا منها لم نسلم من استماعها والسكوت عنها!
• وقال الصِّدِّيق رضي الله عنه (2):
إنَّ من أعظم المواعظ العمليَّة في حياة الصِّدِّيق رضي الله عنه في باب العفو - أنَّه حين أقسم أن يقطع النفقة عن ابن خالته مسطح بن أثاثة رضي الله عنه
(1) الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص90).
(2)
مسند الصديق (ص73)؛ لأبي بكر المروزي.
بعد أن جرى لسانه بمقال أهل الإفك، ثم نزل قوله تعالى:{وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22]، لم يزد عل أن قال: بلى والله! ثم أعاد النَّفقة إلى مسطح.
حين تتأمل هذا الموقف، فإنَّك ستجد لقوله هذا موقعًا عظيمًا.
• وقال الصِّدِّيق رضي الله عنه عن آل بيت رسول الله (1):
«يا أيُّها النَّاس، ارقبوا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته» .
وفي الصحيحين عنه رضي الله عنه أنَّه قال: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي! (2).
هذه كلماتٌ كان يعظ بها الناس، ويذكِّرهم على المنبر، وفي مناسباتٍ متنوِّعةٍ، ليبيِّن منزلة آل بيته صلى الله عليه وسلم في نفسه، وأقسم رضي الله عنه وهو الصادق أنَّ صلته لقرابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليه من أن يصل قرابته، فأين من يطعن فيه ويتَّهمه بعداوته لآل البيت الأطهار الكرام؟!
• وقال رضي الله عنه (3):
«أطوع الناس لله أشدُّهم بغضًا لمعصيته» .
وهذا معنى دقيقٌ؛ فإنَّ كثيرًا من الناس قد يفعل جملة من
(1) مصنَّف ابن أبي شيبة (6/ 374).
(2)
البخاري ح (3810)، مسلم ح (1759).
(3)
جمهرة خطب العرب (1/ 446).
الطاعات، بل ويكثر منها، لكنَّه ضعيف المقاومة عند وجود أسباب المعصية؛ فمن كان كذلك، فطاعته ناقصةٌ، وولايته فيها خللٌ، وهذا معنى قول سهل بن عبد الله التُّستريِّ رحمه الله:«أعمال البرِّ يعملها البرُّ والفاجر، ولا يجتنب المعاصي إلا صدِّيقٌ» (1).
• وقال رضي الله عنه في خطبته (2):
• وقال رضي الله عنه:
«وجدنا الكرم في التَّقوى، والغنى في اليقين، والشَّرف في التَّواضع» (3).
ولنختم بدعاءٍ مأثورٍ من دعواته رضي الله عنه، حيث يقول:«اللَّهمَّ إنَّا نسألك الذي هو خيرٌ لنا في عاقبة الخير، اللَّهمَّ اجعل آخر ما تعطينا من الخير رضوانك، والدرجات العلى من جنَّات النَّعيم» (4).
اللَّهمَّ اجمعنا بالصِّدِّيق في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ.
****
(1) حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء (13/ 211).
(2)
الطبقات الكبرى (3/ 183).
(3)
إحياء علوم الدين (3/ 343).
(4)
الزهد؛ لأحمد بن حنبل (ص93).