الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ عمرو بن العاص رضي الله عنه
-
(1/ 2)
هو عمرو بن العاص بن وائلٍ السَّهميُّ، أبو عبد لله، ويقال: أبو محمدٍ، وُصِفَ بأنَّه داهية قريشٍ، ومن يُضرب به المثل في الفطنة، والدَّهاء، والحزم.
هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا في أوائل سنة ثمانٍ، مرافقًا لخالد بن الوليد، وحاجب الكعبة عثمان بن طلحة، ففرح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقدومهم وإسلامهم، وأمَّره صلى الله عليه وسلم على بعض الجيش، وجهَّزه للغزو، ومن أشهر الغزوات التي تأمَّر عليها: غزوة ذات السَّلاسل.
كان من فرسان قريشٍ، وأبطالهم في الجاهليَّة، مذكورًا بذلك فيهم.
وكان شاعرًا حسن الشعر، حُفظ عنه منه الكثير في مشاهد شتَّى.
وكان من رجال قريشٍ رأيًا، ودهاءً، وحزمًا، وكفاءةً، وبصرًا بالحروب، ومن أشراف ملوك العرب، ومن أعيان المهاجرين.
توفي رضي الله عنه سنة (43هـ)، وله نحوٌ من 100 سنةٍ (1).
…
(1) تنظر ترجمته باختصار: سير أعلام النبلاء (3/ 55).
• لقد رويت عن عمرٍو رضي الله عنه بعض المواعظ؛ ومنها (1):
هذه الموعظة من عمرٍو رضي الله عنه تُشكِّل قاعدةً من قواعد السعادة لمن تأمَّلها؛ فإنَّ المُلاحظ أنَّ بعض الناس يصنع في حياته ألوانًا من التعاسة؛ بسبب كثرة ملالته، وسيطرة هاجس التجديد المتكرِّر، وغلبة النظرة المثاليَّة في حياته، وفي علاقاته الاجتماعيَّة، وفي أثاثه ومُقتنياته!
فأمَّا المقتنيات، فعبَّر عنها عمرٌو بالثوب، فهو لا يملُّ من لبسه والاكتساء به، ما دام يسعه ولا يشينه.
وبعض الناس- لملالته- لا يكاد يبقى في يده مالٌ إلا بدَّده في ثوبٍ جديدٍ، أو أثاثٍ جديدٍ، أو ترميماتٍ لبيته، دون حاجةٍ تُذكر لذلك!
وفي شأن الزواج يقول: «ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي» !
إنَّها النظرة المعتدلة لحقيقة العلاقة الزوجيَّة، وليست النظرة المثاليَّة، التي تحمل بعض الناس على التبرُّم من الزوجة لأدنى تقصيرٍ، أو طلب التعدُّد وكثرة الطلاق دون معنًى مُعتبرٍ، وكأنَّه كاملٌ في أخلاقه وطباعه!
فعمرٌو رضي الله عنه يرى أنَّ العلاقة الزوجيَّة تستقيم بالقدر الأدنى، الذي عبَّرت عنه تلك القاعدة النبويَّة في الحياة الزوجيَّة، التي قرَّرها صلى الله عليه وسلم بقوله:(لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقًا، رضي منها آخر)(2)؛ لأنَّ عمرًا - وهو الرجل الذي مُلئ عقلًا - يُدرك أنَّ الحياة الزوجيَّة - وسائر
(1) تاريخ دمشق (46/ 183).
(2)
رواه مسلم ح (1469).
العلاقات الاجتماعيَّة- ما لم تقم على اغتفار الزلَّات، واحتمال الهفوات، فلن يصبر أحدٌ على أحدٍ، ولن تدوم علاقةٌ على وجه الأرض، لكن يبقى الوفاء، ويبقى احتمال الأخطاء، والسعي في تقويمها، والثناء على الأخلاق الحسنة؛ فبذلك تذهب الملالة، وتستمرُّ الحياة.
وثالثة المعاني التي ذكرها عمرٌو رضي الله عنه في موعظته: قوله: «ولا أملُّ دابَّتي ما حَمَلَتْني» . قارن هذا بمن آتاه الله مالًا، فهو يغيِّر سيارته في أوقاتٍ قصيرةٍ ويتتبَّع «الموديلات» الجديدة!
وقد يقول قائلٌ: وما الضَّير في ذلك؟ وقد آتاه الله مالًا؟
فالجواب: أنَّ تعليل عمرٍو في آخر موعظته يوضِّح هذا: «إنَّ الملال من سيِّاء الأخلاق» ، فلئن كان اليوم مقتدرًا، فقد لا يكون غدًا كذلك، ولئن تتبَّع طبعه الملول، فسيذهب وقته وماله في تتبُّع الكماليات.
كما أنَّ الملول من الناس لا يصلح أن يقود، ولا أن يتسنَّم الأعمال الكبار، بل إنَّ سرعة الملل تحرم الإنسان من أنواعٍ كثيرةٍ من الخير، ومن أدار بصره في الواقع، أدرك هذا جيِّدًا، وبلا عناءٍ.
* * * *
ومن مواعظ عمرو بن العاص رضي الله عنه قوله (1):
• «ثلاثٌ لا أناة فيهنَّ: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميِّت، وتزويج الكُفْءِ» .
العرب كانت تذمُّ العجلة، وتمسيِّها أمَّ الندامات، لكن جاء الإسلام
(1) العقد الفريد (2/ 119).
ليصحِّح بعض المفاهيم الخاطئة في هذا المعنى
…
فإنَّ الأناة في بعض الأمور مذمومةٌ ومُلامةٌ، ومنها الأمور التي أشار إليها عمرٌو رضي الله عنه، وهي:
o العمل الصالح: فالمؤمن يعلم أنَّ ترك المبادرة للعمل الصالح هو في حقيقته تفويت لتجارةٍ رابحةٍ مع الله تعالى.
o والثانية: دفن الميِّت، فحقُّه أن يكرم بدفنه؛ فإنَّ الله تعالى قال:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21].
o وتزويج الكُفْءِ، فمتى ما تقدَّم الكفءُ للموليَّة - بنتًا كانت أم أختًا - فليبادر بتزوجيه، فإنَّ الفرصة الجيِّدة قد لا تتكرَّر، وقد أحسن القائل:
إذا هبَّت رياحك فاغتنمها
…
فعقبى كلِّ خافقةٍ سكون
ولا تقعد عن الإحسان فيها
…
فلا تدري السُّكون متى يكون
• ومن المواعظ التي رويت عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، ما تصوِّره هذه القصة التي وقعت بينه وبين الحبر عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما حين دخل عليه، فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال:
قال ابن عباسٍ: هيهات! صار ابن أخيك أخاك، ولا يشاء أن يبكي إلا بكيت (1).
(1) حلية الأولياء (9/ 120).
لله أولئك الرجال
…
إنَّهم أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم! تأمَّل في إزرائهم على أنفسهم! وتأمَّل في خوفهم من لقاء ربِّهم!
وها هو عمرٌو- وقد قارب المئة- يطلب من ابن عباسٍ أن يعظه وقد رقَّ عظمه، ونحل جسده، وأدبر عن الدُّنيا، وأقبل على الآخرة!
وها هو ابن عباس يعلن عن مشاركته هذا الخوف حين قال: هيهات! صار ابن أخيك أخاك
…
ولا يشاء أن يبكي إلا بكيت.
والمعنى: أنَّني لست صغيرًا، بل كبرت وصرت مثقلًا بالذنوب التي تبكي منها يا عمرو! فرضي الله عنهم وأرضاهم.
ما أحوجنا- ونحن أهل الغفلة والتقصير- أن نتأمَّل في أمثال هذه المواعظ التطبيقيَّة من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم! الذين لا كان ولا يكون مثلهم في بذلهم، وجهادهم، وتضحيتهم لهذا الدِّين، وهم مع هذا على خوفٍ عظيمٍ من ذنوبهم، وتقصيرهم في حقِّ مولاهم.
إنَّ أمثال هذه المواعظ ينبغي أن يكون أثرها علينا واقعًا عمليًّا، في الاستعداد ليوم الرحيل، والتخفُّف من الذنوب والآثام قبل النَّقلة المفاجئة التي لا نجد فيها وقتًا للاستعتاب والندم!
والسعيد - والله - من قدم على مولاه مُخفًّا من الذنوب والآثام، خفيف الظَّهر من حقوق العباد، أعاننا الله على ذلك بمنِّه وكرمه، وجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا أواخرها، وخير يومٍ لنا في حياتنا اليوم الذي نلقاه فيه.
هذه بعضٌ من مواعظ الصحابيِّ الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه، وما زال للحديث صلةٌ، في المجلس القادم إن شاء الله.