الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه
-
(2/ 3)
• ومن مواعظ أمير المؤمنين، الإمام الفصيح، أبي الحسن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله (1):
وهذا المعنى الذي ذكره رضي الله عنه منتزعٌ من قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
إنَّ فهم هذه الحقيقة يكشف لك سرًا من أسرار تبدُّل النِّعم على أممٍ وجماعاتٍ وأفرادٍ، وصدق الله إذ يقول:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (2):
«من لانت كلمته، وجبت محبَّته» .
صدق رضي الله عنه! فإنَّ شواهد الواقع على هذا أكثر من أن تحصر!
وإنَّ أحقَّ من ينبغي عليهم مراعاة هذا المعنى والسعي إليه: الدُّعاة
(1) الشكر؛ لابن أبي الدنيا (ص11).
(2)
العقد الفريد (2/ 138).
إلى الله تعالى؛ ذلك أنَّ الرفق في الخطاب، واجتناب الكلمات الجافية، له أثره القويُّ في تأليف القلوب، وإصغاء الأسماع لما يريد المتكلِّم قوله؛ ولهذا أمر الله تعالى موسى وأخاه هارون -حين بعثهما إلى أشدِّ طغاة الأرض- بلين الكلام؛ وعلَّل ذلك لهما فقال سبحانه:{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
وإذا كان الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، فمن الواعظون بعده؟ ومن بعد الصحابة موعوظون؟!
نعم، قد يحتاج إلى الشِّدِّة في بعض المواضع، لكن المؤكَّد أنَّها استثناء، وليست أصلًا.
وفيما يخصُّ لين الكلام، وأثره على محبة الناس، فإنَّ أولى الناس بلين الكلام هم: الوالدان، والزوجة والأولاد، ومن لهم حقٌّ على الإنسان -كمشايخه ومعلِّميه -ثم كبار السنِّ وعموم الناس، كما قال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وفي قراءةٍ سبعيَّةٍ:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ، فشمل ذلك: حسن اللفظ، وحسن الأداء.
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (1):
«حِلمُك على السَّفيه يكثِّر أنصارك عليه»
والمعنى: أنَّ الإنسان قد يبتلى بسفيهٍ يرمي كلامًا يجرح، أو يتصرَّف تصرُّفًا يؤذي، فإن قابله الإنسان بسفهٍ، فقد نزل إلى مستواه، وإن
(1) العقد الفريد (2/ 138).
سكت عنه وأعرض، تولَّى الناس الدفاع عنه، والانتصار له، وهذا من ثمار التخلُّق بأخلاق عباد الرحمن الذين لا يكتفون بالسكوت عمَّا يلقونه من السَّفه، بل يرتقون درجةً أعظم، وهي مقابلة السَّفه بالقول الليِّن، والخطاب السديد! كما قال الله عنهم:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]
إنَّ مقابلة السفيه بمثل قوله، وإن جاز شرعًا، فإنَّه ليس من درجات الكمال، بل الأولى الإعراض عنهم؛ لأنَّهم - لسفههم - يظُّنُّون أنَّ إجابتهم على سفههم نوعٌ من الاعتبار لهم؛ ولهذا يجمل بالعاقل أن يتحاشى هذا، على حدِّ قول الأوَّل:
يُخاطبني السَّفيه بكلِّ قُبحٍ
…
فاكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهةً وأزيد حلمًا
…
كعودٍ زاده الإحراق طِيبا
وهذا النوع من السفهاء، لئن كان الإنسان لا يلقاهم في الزمن السابق إلا لِمامًا، فإنَّه اليوم يلقاهم كلَّ يومٍ بل بالساعات! من خلال مواقع التواصل الاجتماعيِّ - كتوتير والفيسبوك! - وهذا شيءٌ معروفٌ ومجرَّبٌ لمن له أدنى مشاركةٍ في هذه المواقع، ولا دواء أحسن من الإعراض عنهم، ولقد رأى المجرِّبون صدق مقولة أبي الحسن رضي الله عنه «حلمك على السَّفيه يكثِّر أنصارك عليه» .
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (1):
(1) الذريعة، إلى مكارم الشريعة (ص210).
وهذه الموعظة هي ثمرة تجارب طويلةٍ عاشها عليُّ رضي الله عنه بنفسه، وقبل ذلك مع أستاذة ومعلِّمه الأوَّل صلى الله عليه وسلم.
إنَّ الاستشارة أمارةٌ على عقل المستشير؛ ذلك أنَّ الرأي الفذَّ ربَّما زل، والعقل الفرد ربَّما ضلّ- كما يقول بعض العلماء-.
وقد قال بعض السَّلف: من حقِّ العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء.
وقال بعضهم: «الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه» (1).
وشواهد الحال - فضلًا عن شواهد السُّنَّة - تؤكِّد أهمية الاستشارة، وتتأكَّد أهميتها كلَّما عظم الأمر الذي سيقدم عليه الشخص، وتتأكَّد أكثر وأكثر حين يتعلَّق الأمر بجماعةٍ من الناس أو بالأمَّة!
إنَّ ممَّا يوسف عليه: أن ترى بعض الناس - وخاصة الشباب - ربَّما أقدم على أمورٍ مهمَّةٍ ومصيريَّةٍ في حياته دون استشارةٍ أو استخارةٍ! يحمله على ذلك التَّعجُّل وضعف الإدراك للمآلات! وهذا غلطٌ عظيم، غالبًا يقع معه الندم، ولكن بعد فوات الأوان حيث يتعذَّر الاستدراك!
ولو كان أحدٌ من الخلق يستغني عن الاستشارة، لاستغنى عنها المؤيَّد بالوحي صلى الله عليه وسلم، الذي قال الله له:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، قال الحسن البصريُّ وغيره: ما أمر الله تعالى نبيَّه بالمشاورة لحاجةٍ منه إلى رأيهم؛ وإنَّما أراد أن يعلِّمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمَّته من بعده (2).
(1) أدب الدنيا والدين (ص300).
(2)
تفسير القرطبي (4/ 250).
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل، ومن تأمَّل السِّيرة، وجد كيف طبَّقها صلى الله عليه وسلم عمليًا، بل كان له من خاصَّة أصحابه - كالخلفاء الأربعة - من يستشيرهم ويراجعهم.
إذا بلغ الرَّأي المشورة فاستعن
…
برأي نصيحٍ أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشُّورى عليك غضاضةً
…
فإن الخوافي قوَّةٌ للقوادم
ويؤكِّد عليُّ رضي الله عنه في موعظته هذه على فائدةٍ أخرى من فوائد الاستشارة، وهي: أنَّها أبعد عن الملامة؛ ملامة الشخص لنفسه، أو ملامة الناس له، ولسان حاله يقول: قد استشرت الخلق، واستخرت الخالق، وهذا غايةُ وُسْعِي!
وأعرف من أهل العلم المعاصرين -وهو في عشر السبعين متَّع الله بحياته على حسن عملٍ - من لا يقدم على أيِّ خطوةٍ في حياته العلميَّة والدعويَّة إلا وقد استشار، وقال لي مرةً: لم أندم يومًا في حياتي على قرارٍ اتَّخذته ولو جاء الأمر على خلاف مرادي؛ لأنَّني لا أقدم إلا بعد استخارةٍ واستشارةٍ، وهذا غاية ما في وُسْعِي.
• ومن مواعظه رضي الله عنه:
(1) البصائر والذخائر (3/ 27).
قوله: «رمى عَرَضًا» يقال: أصابه سهم عرضٍ، إذا جاءه من حيث لا يدري من رماه. مقاييس اللغة (4/ 280).
وسمع رجلًا يذمُّ الدُّنيا، فقال:«إنَّها لدار صدقٍ لمن صدقها، ودار عافيةٍ لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها» (1).
هذه جملةٌ من مواعظ هذا الإمام الجليل، والأمير الكريم، أبي الحسن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، بقي لنا جولةٌ ثالثةٌ في رياض وعظه.
****
(1) ذم الدنيا (ص77).