الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مواعظ أبي الدَّرداء رضي الله عنه
-
(2/ 4)
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (1):
«معاتبة الأخ خيرٌ لك من فقده، ومن لك بأخيك كلِّه؟! أعط أخاك ولِنْ له، ولا تطع فيه حاسدًا» .
يا له من درسٍ عميقٍ في ضبط العلاقات الأخويَّة التي تفصَّمت عراها بسبب كثرة العتاب، وتنويع اللوم بأساليب كثيرةٍ!
تأمَّل هذه الجملة، وأعدها مرةً أخرى:«معاتبة الأخ خيرٌ لك من فقده، ومن لك بأخيك كلِّه؟! أعط أخاك ولِنْ له» !
من الجميل قبل أن تبدأ قصة العتاب للإخوة والأصدقاء - وحتى لا نخسرهم - أن نجيب عن هذه الأسئلة الأربعة: متى أعاتب؟ ومن أعاتب؟ وكيف؟ وماذا بعد العتاب؟
أمَّا متى؟ فالعتاب ينبغي أن يكون في أضيق الدوائر، وأن يكون بقدرٍ معقولٍ؛ حتى لا يحصل عكس مقصوده، كما قال عليٌّ رضي الله عنه:«لا تكثر العتاب؛ فإنَّ العتاب يورث الضَّغينة والبغضة، وكثرته من سوء الأدب» (2).
(1) حلبية الأولياء (1/ 215).
(2)
روضة العقلاء (182).
وأمَّا من أعاتب؟ فالحديث في عتاب الصَّديق الذي عقدتَّ بينك وبينه وشائج المودَّة، ويعزُّ عليك ما يقع منه من خطأٍ، وكذلك العتاب لشخصٍ لك به صلةٌ- كخادمٍ وزوجٍ أو قريبٍ- أمَّا عامَّة المعارف، فليس من العقل ولا الحكمة توجيه اللوم لهم، بل تغافل عنهم.
أمَّا كيف أعاتب؟ فما أجمل التلطُّف في العتاب، واللين في العبارة!
ولعلَّك تتعجَّب- كما تعجَّبت- من حديث أنس رضي الله عنه الذي قال فيه: «خدمت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟» ! (1).
فهذا خادمٌ، وصغير السنِّ جدًا حين بدأ خدمة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان عمره عشر سنواتٍ، وكلاهما - صغر السنِّ والخدمة - مظنَّة الخطأ المتكرِّر، ومع هذا فلا يسمع منه أنسٌ طيلة السنوات العشر حتى كلمة (أفٍّ)! صلوات ربِّي وسلامه عليه.
وإذا عتبت على امرئٍ أحببته
…
فتوقَّ ظاهر عيبه وسبابه
وألن جناحك ما استلان لودِّه
…
وأجب أخاك إذا دعا بجوابه
ومن حقِّ الأخ أن تغفر هفوته، وتستر زلَّته؛ فمن رام بريئًا من الهفوات، خاليًا من الزَّلات، رام مُحالًا!
وماذا بعد العتاب؟ وهو سؤالٌ مهم يجب تأمُّله قبل إلقاء اللَّوم والمعتبة؛ فإنَّ بقاء الصَّديق الصَّدوق، كثير الفضائل- على علَّةٍ فيه- خيرٌ من خسارته بسبب عتابٍ قد لا يحتمله، أو يفهمه على غير وجهه، وقد
(1) البخاري ح (6038).
قيل: تناس مساوئ الإخوان، يدم لك ودُّهم، وبالجملة: فغنيمة الأصدقاء الصالحين لا تتوقَّف عند الحياة، بل هي ممتدَّةٌ إلى يوم الدِّين:{الْأَخِلَّآءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فالله الله في حفظ الودِّ، والتغاضي عن الزلة؛ فالتغافل من شيم الكرام.
* * *
• ومن مواعظه رضي الله عنه قوله (1):
«ابن آدم، إنَّما أنت أيامٌ؛ فإذا ذهب يومٌ، ذهب بعضك.
ابن آدم، إنَّك لن تزال في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمُّك».
هذه حقيقة الزمن
…
وهذه حقيقة السنوات التي نقطعها في هذه الحياة
…
ولكأنَّما العمر بيتٌ وبناءٌ كبيرٌ، فإذا ذهب يومٌ أو ساعةٌ سقطت منه لبنةٌ
…
فتقدُّم السِّنِّ هو من جهةٍ زيادةٌ، ومن جهةٍ أخرى نقصٌ! لأنَّ حقيقته أنَّه يقرِّبك إلى أجلك.
والناس في هذا الموضوع بين غالٍ وجافٍ! فطلب طول العمر لا يحمد ولا يذمُّ لذاته، بل لمتعلَّقة وقصد الداعي به!
ودونك هذه المناجاة الجميلة التي تعبِّر عن هذا المعنى بدقةٍ، والتي بثَّها ابن الجوزيِّ في كتابه النافع:«صيد الخاطر» حيث يقول رحمه الله: «دعوت يومًا فقلت: اللَّهمَّ بلِّغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحبُّ من ذلك، فعارضني وسواسٌ من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟! فقلت له: يا أبله، لو فهمت ما تحت سؤالي، علمت أنَّه ليس بعبثٍ! أليس في كل يومٍ يزيد
(1) تاريخ دمشق؛ لابن عساكر (47/ 171).
علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم حصادي؟!
أفيسرُّني أنني متُّ منذ عشرين سنةً؟! لا والله؛ لأنِّي ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم! وكلُّ ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانيَّة، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطَّلعت على علومٍ زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي
…
ففي الصحيح: (لا يزيد المؤمن عمره إلَّا خيرًا)(1)
…
فيا ليتني قدرت على عمر نوحٍ؛ فإنَّ العلم كثيرٌ! وكلَّما حصل منه حاصلٌ، رفع ونفع» (2).
وقال رحمة الله في موضعٍ آخر؛ مبينًا متى يذمُّ طلب طول العمر: «ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفةٍ أعظم منه؛ فإنَّه لولا طول الأمل ما وقع إهمالٌ أصلًا، وإنما تُقدَّم المعاصي وتُؤخَّر التوبة لطول الأمل، وتُبادر الشهوات وتُنسى الإنابة لطول الأمل» (3).
* * *
• ومن مواعظه التي وعظ بها مسلمة بن مخلدٍ - وهو أمير مصر يومئذٍ - (4):
(1) مسلم ح (2682).
(2)
صيد الخاطر (124)، فانظر يا طالب العلم هذه الهمَّة، وهل نفسك تحدِّثك كما حدَّثت ابن الجوزيِّ نفسه بهذا؟!
(3)
صيد الخاطر (1/ 206).
(4)
مصنَّف ابن أبي شيبة (7/ 113).
إنَّها رسالةٌ واضحةٌ، وعلامةٌ تجيب عن سؤالٍ يطرحه كثيرون - إمَّا بلسان الحال أو المقال-: ما سرُّ حبِّ الناس لهذا الإنسان؟ وما سرُّ بغضهم لذاك؟! قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا، دعا جبريل فقال: إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبَّه، قال: فيحبُّه جبريل، ثمَّ ينادي في السَّماء فيقول: إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السَّماء، قال: ثمَّ يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا، دعا جبريل فيقول: إنِّي أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثمَّ ينادي في أهل السَّماء: إنَّ الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثمَّ توضع له البغضاء في الأرض)(1).
إنَّ بعث أبي الدرداء لهذه الموعظة لأميرٍ من أمراء المسلمين ليؤكِّد صورتين مشرقتين في العلاقة بين الحاكم والعالم، تطبيقًا لمبدأ النصيحة الذي قرَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث تميمٍ الدَّاريِّ:(الدِّين النَّصيحة)، قلنا: لمن؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم)(2).
أمَّا الصورة الأولى، فهي قيام العالم بما أوجب الله عليه من بذل النُّصح للحكَّام.
وأمَّا الصورة الثانية، فهي قبول هذه النصيحة، وشكر الناصح، وإكرامه.
ولا تزال الأمة بخيرٍ ما تناصحوا بينهم، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه:«لن تزالوا بخيرٍ ما أحببتم خياركم، وما قيل فيكم الحقُّ فعرفتموه؛ فإنَّ عارفه كفاعله» (3).
(1) البخاري ح (7485)، مسلم ح (2637).
(2)
مسلم ح (95).
(3)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 1141).
هذه بعض مواعظ هذا الصحابيِّ الجليل أبي الدَّرداء رضي الله عنه، والتي لم ننته بعد من قطف أفانينها.
* * *