الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شمالى الفسطاط (القطائع) أصبح فى عهد الطولونيين مقر الحكم وأنشئ فيه مسجد ابن طولون الكبير.
المصادر:
(1)
البلوى: سيرة أحمد بن طولون، طبعة كرد على.
(2)
ابن سعيد: المغرب، طبعة زكى محمد حسن وسيدة الكاشف وشوقى ضيف، ونشره Vollers فى Fragmente ous dem Mughreb.
(3)
الطبرى، ج 2، ص 1670 وما بعدها.
(4)
اليعقوبى، طبعة هوتسما، جـ 2، ص 615 وما بعدها.
(5)
المقريزى: الخطط، ج 1 ص 313 وما بعدها.
(6)
أبو المحاسن، طبعة القاهرة، جـ 3؛ ص 1 وما بعدها.
(7)
ابن إياس، ج 1 ص 37 وما بعدها.
(8)
Egypte: Marcel، الفصل 6 وما بعده.
(9)
statthalter Din: Wustenfeled von Agypten ج 3 وما بعده.
(10)
The Life and work of: Corbet Journ of the Ahmad Ibn Tulun ROYAL ASIASTIC SOCIETY سنة 1891 ص 527 وما بعدها
(11)
History of Egypt: lane POOPLE سنة، 1891، ص 59 وما بعدها.
(12)
C.H.Becker Geschicht Agyptens Beirrage zur: ، ج 3 ص 149 - 198.
(13)
Egyptinne History de la Nation: wiet
(14)
les Tulunides: Zaky M.Hassan باريس سنة 1937.
خورشيد [زكى محمد حسن Zaky M.Hassan]
أحمد بن محمد بن حنبل
ويعرف بابن حنبل من بنى شيبان: فقيه إسلامى مشهور ولد ببغداد فى ربيع الأول عام 164 هـ (نوفمبر سنة 780 م)، ودرس أول أمره فى مسقط رأسه حتى عام 183 هـ (799 م) ثم
رحل بعد ذلك لطلب العلم فقدم العراق ثم الشام فالحجاز وانتهى باليمن؛ وعنى فى هذه الأسفار بدراسة الحديث بنوع خاص. ولما عاد إلى مسقط رأسه حضر دروس الشافعى فى الفقه وأصوله من عام 195 إلى 197 هـ (810 - 813 م). وقد حددت أقوال أهل الحديث القدامى وجهة تفكيره فى العقيدة والفقه على نحو ثابت لم يتغير. وأتاحت له الفرص بعد ذلك أن يبرهن على ثباته هذا فى عهد الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق (218 - 234 هـ - 833 - 849 م) عندما أقرت الدولة "عقائد" المعتزلة وأنزلتها المنزلة الأولى وأخذت بالشدة كل الفقهاء الذين لم يقولوا فى غير تحفظ بمذهب خلق القرآن وكان ابن حنبل أحد هؤلاء الفقهاء الذين أصابتهم المحنة. فقد سيق مكبلًا بالأغلال للمثول بين يدى المأمون بطرسوس، ولكن بلغه فى الطريق نعى هذا الخليفة. وفى عهد خليفته المعتصم احتمل فى صبر بالغ ما ناله من إيذاء وسجن دون أن يتسامح فى شئ من عقائد السلف. ولم تكف الدولة عن إيذاء ابن حنبل إلا فى عهد المتوكل عندما أخذت تعود إلى مذهب أهل السنة، فقد قدَّره هذا الخليفة فى مناسبات مختلفة ودعاه إلى بلاطه وأجرى معاشًا على أسرته دون علم منه وقد جذب علمه وورعه واستمساكه الذى لا يلين بالسنة جمهرة من التلاميذ والمعجبين إليه، وتوفى ابن حنبل ببغداد فى الثانى عشر من ربيع الأول عام 124 هـ (31 يولية سنة 855 م)، ووصف كتّاب سيرته دفنه وصفًا أسطوريًا. وقبره الذى نسج حوله كثير من الخوارق Muhomm.Stid Goldziher)، ج 1، ص 257) وكان يقوم بين "مقابر الشهداء" فى يحيى الحربية ببغداد، ظل مدة طويلة محل تقديس الناس كأنما هو قبر ولى، فلما خرب فيضان نهر دجلة هذا القبر حوالى آخر القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) تحول تقديس الناس إلى قبر ابنه عبد الله الذى كان يوجد بين مقابر قريش قرب باب التبن ورممه تيمور عام 695 هـ (1295 - 1296 م). ومنذ ذلك الوقت اختلط الأمر بين القبرين وتحولت الشعائر الدينية التى كانت تقام لأحمد إلى ابنه عبد الله Baghad during the Ab-: G.Le Strange baside Caliphate، ص 166).
وقد اشتهر من مصنفات أحمد بن حنبل نوع خاص كتابه المسمى "المسند" وهو كتاب جامع فى الأحاديث (طبع بالقاهرة عام 1131 هـ فى ستة مجلدات) جمعه ابنه عبد الله من دروسه، وزاد عليه من عنده "زوائد". ويشتمل هذا الكتاب على عدد يتراوح بين ثمانية وعشرين ألفا وتسعة وعشرين ألفا من الأحاديث (zeitschr .d.Deutsch. Morg Ges Goldzhier ج 1 ص 465 - 506 M.Hartmann DIE TRADENTEN ERTER SCHICHT IN MUSAND MITTEL.DES DIS Ahmad ibn Hanbal seminar fur Orient Sprachen zu Berlin العام التاسع. ج 2، برلين سنة 1906 م) وزاد أيضًا على مصنف أبيه "كتاب الزهد". وكان كتاب "المسند" -الذى صنفت فيه الرسائل الكثيرة الفرعية وأخذت منه المختصرات- موضوع دروس فى الدين لا تنقطع. ويذكر فى القرن الثانى عشر الهجرى (الثامن عشر الميلادى) أن جماعة من أهل التقى أتموا قراءة هذا الكتاب حتى نهايته فى ست وخمسين جلسة عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة (المرادى: سلك الدرر، جـ 4، ص 60). ونشر له غير المسند "كتاب الصلاة" وما يلزم فيها" (طبعة حجرية غير مؤرخة فى بومباى" وطبعة الخانجى فى القاهرة عام 1223 هـ). ويستشهد الفقهاء الحنابلة كثيرًا برسالة جدلية كتبها فى السجن عنوانها "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن" وقد أنكر فيها أحمد "التأويل" الذى استحدثه المعتزلة؛ كما يستشهدون بكتاب له اسمه "كتاب طاعة الرسول" الذى بين فيه ما ينبغى اتباعه عندما يبدو الحديث متعارضًا مع بعض آيات القرآن. ولقد قرر ابن حنبل عقائده فى مصنفه "كتاب السنة".
ولما كان ابن حنبل قد عنى بتتبع أسانيد الحديث أكثر من العناية بأصول الفقه، فإن بعض الفقهاء -كالطبرى مثلًا- لم يعتبره حجة فيصلًا فى مسائل الفقه، ومن ثم كان تحامل الحنابلة الشديد على الطبرى (kern فى zeitschr .d.Deutsch. Morg Ges، ج 55، ص 67، وراجع طبعته لكتاب "الاختلاف" ص 13 وما بعدها)
والحق إن ابن حنبل لم ينشئ مذهبًا خاصًا فى الفقه، ولكنه أفصح عن وجهة نظره فى مسائل فقهية معينة سأله عنها تلاميذه، نذكر منها على سبيل المثال "مسائل صالح" وهى المسائل التى وجهها إليه ابنه صالح، وكذلك أجوبته على مسائل تلميذه حرب (ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية، القاهرة سنة 1317 هـ، ص 251، 293 وما بعدها). وقد بلغت فتاواه التى استطاع ابن قيم أن يرجع إليها نحو عشرين سفرًا (هداية الحيارى، القاهر: 1323 هـ، ص 121)، ورتب بعض تلاميذه فى حياته أنظاره الفقهية، تخص بالذكر منهم أبا يعقوب إسحاق الكوسج الذى كان يرجع إلى ابن حنبل مباشرة كلما أشكل عليه الأمر؛ (الذهبى: تذكرة الحفاظ، ج 2، ص 105)؛ ثم يجئ بعد ذلك بقليل أبو بكر الخلال "مؤلف علم أحمد ابن حنبل وجامعه ومرتبه؛ (الكاتب نفسه، ب 3، ص 7) المتوفى فى بغداد عام 131 هـ (923 - 924 م)، وقد ذكر كتاب أبى بكر هذا ابن قيم الجوزية المتوفى عام 175 هـ (1350 م) فى كتابه "أعلام الموقعين" (انظر ذيل الطبرى: المعجم الصغير، ص 271) مع أنه لم يقرأ هذا الكتاب فيما يظهر. والتعاليم التى نمت على أساس أنظار ابن حنبل والتى عرفت بالمذهب الحنبلى قد أجمع أهل السنة على أنها أحد المذاهب الأربعة المعترف بها. ولما كان ابن حنبل من "أهل الحديث" فإنه لم يأخذ بـ "الرأى" إلا عند الحاجة الماسة،
وهنا أيضًا كان يستخرج الأحكام من النصوص كلما أمكنه ذلك، وقد حمله هذا على شدة العناية بالحديث، وكان فى بعض الأحيان يعتمد على أحاديث ضعيفة فى تكوين أحكامه، ولم يبلغ مذهب من مذاهب أهل السنة فى إنكار "البدع" مبلغ المذهب الحنبلى، ومن ثم اشتط أنصاره فى التمسك بالشعائر الدينية والروابط الاجتماعية وفاقوا أهل المذاهب الأخرى فى التشدد والتعصب. وتتصل عقائد أهل هذا المذهب بعقائد السلف الذين عاشوا قبل الأشعرى، بل لقد اضطر الأشعرى نفسه عند تكوينه مذهبه أن يستند فى مواضع عدة إلى مذهب ابن حنبل، بغية اكتساب المسلمين إلى جانبه، وصرح أيضًا بأنه يتفق
تماما مع تعاليم ابن حنبل وأنه تجنب كل ما يتعارض ومذهب هذا الإمام (ابن عساكر؛ zur Gesch - al -As aria: Spitta، ص 133، ونجد مجموع عقائد ابن حنبل مختصرة فى كتاب عبد القادر الجيلى: الغنية لطالبى طريق الحق، مكة سنة 1314 هـ، ج 1، ص 48 - 66).
والحنابلة -الذين لا يمثلهم الآن إلا نفر قليل من المسلمين- كانوا حتى القرن الثامن الهجرى (الرابع عشر الميلادى) أكثر من ذلك انتشارًا فى بلاد الإسلام. وذكر المقدسى أنه رآهم فى أصفهان والرى وشهرزور وغيرها من بلاد فارس، وكانت شعائرهم فى هذه البلاد تتميز بالغلو فى صوره المختلفة، فقد كانوا -قبل كل شئ- يشيدون بذكر الخليفة معاوية (المقدسى، طبعة ده غويه، ص 365، س 13؛ 384، س 14؛ 399، س 6؛ 407، س 13). وهذا التعلق بذكر الخليفة الأموى قد لا يكون بطبيعة الحال منصرفًا إليه بصفته رجلًا ورعا ولكن بصفته الخليفة الذى اعترف به أهل السنة. ويمكن أن نفسر على هذا النحو أيضًا تعلق الحنابلة بابنه يزيد ZETSch - D . DEUTSCH. MORG. GES) ج 53، ص 646، التعليق). أما فى الشام وفلسطين فإن المذهب الحنبلى الذى أدخله فيهما عبد الواحد الشيرازى فى القرن الخامس الهجرى (الثانى عشر الميلادى، انظر كتاب: الأنس الجليل، ص 263) ظل باقيا حتى القرن التاسع الهجرى (السادس عشر الميلادى؛ انظر. ZETSch - D . DEUTSCH. MORG. GES) ج 3، ص 364). وقد أحصى مجبر الدين وهو حنبلى توفى عام 927 هـ (1521 م) - فى كتابه الأنس الجليل الذى ذكرناه وشيكا (ص 592 وما بعدها) أشهر حنابلة فلسطين من القرن السادس إلى القرن التاسع الهجرى (الثالث عشر- السادس عشر الميلادى). وكان فى هذه الفترة أيضا ظهور تقى الدين بن تيمية (661 - 728 هـ - 1263 - 1328 م) فى بلاد الشام، الذى أحدث ضجة كبرى. فقد استأنف هذا الفقيه النضال فى سبيل المذهب الحنبلى، فانكر التأويل وحرم البدع كزيارة القبور والتوسل بالأولياء وغير ذلك (انظر 3 ZETSch - D . DEUTSCH. MORG. GES) ج 52 ص
540 -
563؛ ج 53، ص 51 - 67)، وكان نضاله هذا ضد المذاهب التى سادت طويلًا قبل ذلك. ولكنه خرج بعمله هذا على مقتضيات الإجماع عند أهل السنة فاضطهد، وخسر المذهب الحنبلى بسقوطه خسارة عظمى. وظل يمثل المذاهب الأربعة رسميًا -ومنها المذهب الحنبلى- قضاة فى كل الأمصار الإسلامية حتى قيام الدولة العثمانية؛ فلما امتد سلطان هذه الدولة أصابت المذهب الحنبلى ضربة قاضية، وأخذ هذا المذهب منذ ذلك الوقت يتضاءل شيئًا فشيئًا، ولو أنه كان يعتبر عنصرًا هامًا من عناصر مذهب أهل السنة فى البقاع المتفرقة التى ظهر فيها. ويمثل هذا المذهب فى الجامع الأزهر عدد يسير من الشيوخ والطلاب (رواق الحنابلة). وفى عام 1906 م - حين كان عدد شيوخ الأزهر 312 شيخًا وعدد طلابه 9069 - كان يمثل المذهب الحنبلى منهم ثلاثة شيوخ وثمانية وعشرون طالبًا. على أن المذهب الحنبلى ظهر فى القرن الثامن عشر الميلادى فى صورة جديدة قوية بظهور الوهابيين الذين نتبين فى مذهبهم أثر تعاليم ابن تيمية.
وفيما يلى أهم شيوخ الحنابلة الذين ظهروا فى العصور المتعاقبة: أبو القاسم عمر الخَرَقى المتوفى عام 334 هـ (945 - 946 م) الذى لا يزال يوجد إلى اليوم مختصره فى الفقه الحنبلى؛ وعبد العزيز بن جعفر (282 - 363 هـ = 895، 896 - 973، 974 م) الذى ظل كتابه "المقنع" قرونًا عديدة أساسا للمختصرات والشروح (طبع بعنوان "الروض المرتع فى شرح زاد المستقنع"، دمشق سنة 1303 هـ؛ انظر مجلة المشرق، ج 4، ص 879)؛ وأبو الوفاء على بن عقيل المتوفى عام 515 هـ (1122 - 1121 م) الذى اشتهر بأنه صاحب مدرسة منتجة؛ وعبد القادر الجيلى (471 - 156 هـ - 1078 - 1166 م) الذى كان صوفيًا كبيرًا، ونصيرًا، مخلصًا من أنصار ابن حنبل" وأبو الفرج بن الجوزى (508 - 597 هـ - 1114 - 1115 - 1200 م)؛ وعبد الغنى الجماعيلى المتوفى عام 600 هـ (1203 - 1204 م)؛ وموفق الدين بن قدامة المتوفى عام 620 هـ
(1223 م) الذى كثيرًا ما يتدارس الناس شرحه على مختصر الخرقى المسمى "المغنى"؛ وتقى الدين بن تيمية الذى اشتهر بالجدل والمناظرة، وتلميذه الوفى محمد بن قيم الجوزية المتوفى عام 175 هـ (1350 - 1351 م) وقد اشتهر كلاهما بصرامة عقائده وبشدة وطأته على من يعتقد غير معتقدهما، ونستطيع أن ندرس مذهب الحنابلة مما طبع أخيرًا بالقاهرة من مؤلفات هذين الفقيهين.
وقد نشأ فى القرن الحادى عشر الهجرى (السابع عشر الميلادى) عدد من مشاهير فقهاء الحنابلة فى قرية بُهُوت فى المحلة الكبرى بمصر، نذكر منهم عبد الرحمن البهوتى المتوفى عام 1051 هـ (1641 - 1642 م) وتلميذه محمد البهوتى المتوفى عام 1088 هـ (1677 - 1678 م). وقد عاش كل منهما بالقاهرة ودرس بها. ويعتمد فى دراسة المذهب الحنبلى بالجامع الأزهر على كتاب "نيل المآرب"(وهو شرح على "دليل الطالب" لمؤلفه مرعى بن يوسف، المترسل المعروف، المتوفى عام 1030 هـ = 1621 م) الذى صنفه عبد القادر بن عمر الدمشقي المتوفى عام 1135 هـ (1625 م) وطبع فى بولاق عام 1288 هـ.
وقد كتب أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب المتوفى عام 795 هـ (1393 - 1393 م)"طبقات الحنابلة" وهو لا يزال مخطوطًا (انظر kat leipziq: vollers رقم 708).
وأثبتت فهارس دار الكتب المصرية عددًا وافرًا من المصنفات التى ألفت فى الفقه الحنبلى (ج 3، ص 293 - 301).
(انظر غير ما ذكرنا: w.M. Patton Ahmad ibn Hanbal and the Mahna، (ليدن سنة 1897 م)، ومقالة عن هذا الكتاب لكولدسيهر zeitschr .d.Deutsch. Morg Ges ج 52، ص 155 وما بعدها، وانظر لكولدسيهر أيضًا مقالة فى المجلة نفسها، ج 62، بعنوان zur Gescg. der hanbalit . Bewegungen Gescg. der d. arab Litter . Brockelmann جـ 1، ص 181 وما بعدها).
[كولدتسيهر Goldziher]
+ أحمد بن حنبل، "إمام بغداد": متكلم وفقيه ومحدث مشهور (164 - 241 هـ = 780 - 855 م) ومن أعظم الشخصيات حيوية فى الإسلام؛ وقد أثر ابن حنبل فى التطور التاريخى للإسلام وفى نهضته الحديثة؛ وأسس أحد المذاهب السنية الأربعة الكبرى وهو المذهب الحنبلى، وكان عن طريق تلميذه ابن تيمية الجد الأول للوهابية، وقد أوحى أيضًا إلى حد ما بحركة الإصلاح المحافظة للسلفية.
1 -
حياته: كان أحمد بن حنبل عربيا من بنى شيبان من ربيعة، وكان له دور فعال فى غزو العراق وخراسان، وقد نزحت أسرته، التى كانت تقيم أول الأمر فى البصرة، إلى مَرْو مع جده حنبل بن هلال والى سرخس فى عهد الأمويين وواحد من أوائل دعاة العباسيين.
ولد أحمد فى ربيع الثانى سنة 164 هـ (ديسمبر سنة 780 م) بعد أشهر قلائل من نزوح أبيه محمد بن حنبل -الذى كان منخرطًا فى جيش خراسان- إلى بغداد حيث توفى عقب ذلك بثلاث سنين. على أن أحمد ورث ملكًا قليلًا لأسرته أتاح له حياة متواضعة ولكنها تغنيه عن الناس.
وقد درس أحمد فقه اللغة والشريعة والحديث فى بغداد، ثم انصرف منذ عام 179 هـ (795 م) إلى دراسة الحديث؛ وفى طلبه جد مرتحلا إلى العراق والحجاز واليمن والشام؛ ويجب أن نطرح ما قيل من زيارته لإيران وخراسان بل إلى المغرب الأقصى، لأن ذلك يدخل فى باب الأساطير، وكان أحمد قد زار الكوفة سنة 183 هـ، وأقام فى البصرة أكثر من ذلك، فقد زارها أول مرة سنة 186 هـ، ثم عاد إليها سنة 190، وسنة 194 هـ، وسنة 200 هـ. وتردد على مكة أكثر، فقد أدى فريضه الحج خمس مرات: سنة 187، وسنة 191، وسنة 196، وسنة 197 هـ (وأعقبت حجه فى هذه السنة "جاورة" فى المدينة) وسنة 198 هـ وقد أعقبتها هذه المرة أيضًا (مجاورة) أخرى دخلت به فى سنة 199 هـ، ومن بعدها زار المحدث عبد الرزاق فى صنعاء (المناقب، ص 22 - 23؛ الترجمة، ص 13 - 24).
وكانت دراساته للفقه والحديث على عدد كبير من الشيوخ بقيت أسماؤهم (المناقب، ص 33 - 36؛ الترجمة، ص 13 - 24). وفى بغداد حضر دروس القاضى أبى يوسف المتوفى سنة 182 هـ (798 م)، ولم يتأثر أحمد بأبى يوسف تأثرًا كبيرًا؛ وكذلك درس بانتظام على هشيم بن بشير تلميذ إبراهيم النخعى، وذلك من سنة 179 إلى سنة 183 هـ (المناقب، ص 52؛ البداية، ج 10، ص 183 - 184). وكان إمام شيوخه من بعد سفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هـ (813 - 814 م) وهو الحجة الأكبر لمدرسة الحجاز. أما أشهر شيوخه فهما: عبد الرحمن بن مهدى البصري المتوفى سنة 198 هـ (813 - 814 م)، ووكيع ابن الجراح الكوفي المتوفى سنة 197 هـ (812 - 813 م). على أن تكوين أحمد الفقهى يرجع فوق كل شئ، كما يقول ابن تيمية (منهاج السنة، ج 4، ص 143) إلى مدرسة الحديث ومدرسة الحجاز؛ ومن ثم لايمكن أن يعد ببساطة -كما يقال أحيانًا- تلميذ، للشافعى الذى عرف أحمد آثاره الفقهية، أو قل عرف على الأقل بعضًا منها، وإن كان لم يلقه فيما يظهر إلا مرة واحدة، وكان ذلك فى بغداد سنة 195 هـ (البداية، ج 10، ص 251 - 255، 326 - 327).
والسياسة التى انتهجها المأمون حوالى نهاية حكمه بتأثير بشر المريسى، وهى تأييد الدولة لمذهب المعتزلة قد أحدثت فى حياة أحمد فترة من المحنة أكسبته من بعد صيتًا مدويًا. وقد أنكر أحمد بشدة القول بخلق القرآن وهو قول يعارض مذهب أهل السنة. فلما سمع المأمون بذلك، وكان فى طرسوس، أمر بأن يشخص إليه أحمد ومعارض آخر هو محمد بن نوح. فكبلا بالأصفاد وحملا إليه، وما إن غادرا الرقة إليه حتى بلغهما نبأ وفاة الخليفة، فأعيدا إلى بغداد، وتوفى ابن نوح فى الرحلة، ولما وصل ابن حنبل قصبة الدولة سجن أولًا فى اليسارية، ثم فى دار عُمارة، ثم سُجن أخيرًا فى السجن العام بدرب الموصلى (المناقب، ص 308 - 317؛ الترجمة، ص 40 - 56؛ البداية، ج 10، ص 272 - 280).
وكان المعتصم، الخليفة الجديد، ميالًا إلى الكف عن هذه المحنة، إلا أن القاضى المعتزلى أحمد ابن أبى دؤاد أقنعه؛ فيما يقال، بأن من الخطر على سلطان الدولة أن تتخلى عن موقف اتخذته بعد رسميًا. ومن ثم استدعى أحمد للمثول بين يدى الخليفة فى رمضان سنة 319 هـ، ولكنه مضى يرفض القول بخلق القرآن رفضا باتًا، فضرب بشدة ثم سمح له بالعودة إلى داره بعد حبس استمرَّ فى جملته نحوا من سنتين. وعاش أحمد فى عزلة طوال خلافة المعتصم، وامتنع عن إلقاء الدروس فى الحديث، ولما تولى الواثق الخلافة سنة 337 هـ (843 م) حاول أحمد أن يستأنف دروسه، ولكنه لم يلبث أن آثر الانقطاع عنها، وإن لم يكن قد منع رسميًا من إلقائها، وذلك خشية أن يتعرض لنقمة القاضى المعتزلى؛ ولذلك ظل على اعتكافه، بل لقد كان يعمد فى بعض الأحيان إلى الاختفاء -كما يقال- فرارًا من أعدائه (المناقب، ص 348 - 349).
ولما رد المتوكل لمذهب أهل السنة مكانته السابقة بعد توليه الخلافة سنة 232 هـ (847 م) استطاع أحمد أن يستأنف نشاطه فى التدريس؛ ومع ذلك فإنه لم يظهر فى زمرة المحدثين الذين أقامهم الخليفة سنة 334 هـ للرد على الجهمية والمعتزلة (المناقب، ص 356). وقد أدى اختفاء أئمة الشخصيات التى تصدرت فى أيام المحنة إلى تمهيد الطريق لقيام عِشْرَة بين الخليفة وبين الفقيه المستقل الرأى، وأقيل أحمد بن دؤاد من منصبة سنة 237 هـ (852 م)، بل لقد قيل فى بعض الروايات إن خلفه ابن أكثم قد أوصى به أحمد لدى الخليفة (البداية، ج 1، ص 315 - 316، 319 - 339). وأبدى أحمد تقاربًا للبلاط لأول مرة فلم يوفق، وقد ظل تاريخ هذا التقارب وظروفه غامضين (المناقب، ص 359 - 362) ثم دعا المتوكل أحمد إلى البلاط فى سامراء سنة 227 هـ. والظاهر أن الخليفة كان يريد منه أن يعطى دروسًا فى الحديث للأمير الصغير المعتز، ويمكن أيضًا أن نفترض أن الخليفة قد طافت بذهنه فكرة الاستعانة بالفقيه المشهور فى رد مذهب أهل السنة إلى ما كان عليه. وأتاحت هذه الرحلة إلى
سامراء لابن حنبل فرصة الاتصال بشخصيات البلاط دون لم ن يتعرض لخطر التساهل من جانبه. وتبدى الروايات التى انتهت إلينا أنه قوبل عند وصوله بالترحاب من الحاجب وصيف وأنزل بقصر إيتاخ الفخم وحمّل بالهدايا وقدم إلى المعتز، ولكنه أعفى أخيرًا -بناء على طلبه- من أن يكلف بأية مهمة خاصة بالنسبة لسنه وضعف صحته، وعاد إلى بغداد بعد إقامة قصيرة دون أن يلقى الخليفة (المناقب، ص 373 - 378؛ الترجمة، ص 58 - 75؛ البداية، ج 10، ص 314، 316، 337 - 340).
وتوفى أحمد بن حنبل فى ربيع الأول سنة 241 هـ (يولية سنة 855 م) فى الخامسة والسبعين بعد مرض قصير، ودفن فى مقابر الشهداء بالقرب من باب حرب. والروايات التى أحاطت بوصف جنازته، وإن كان بعضها يدخل فى باب الأساطير، إلا أنها تعطينا فكرة عن مشاعر الجماهير الصادقة نحوه، وقد كان قبره مشهدًا لمظاهرات من الولاء المتأجج مما حمل السلطات المدنية على حراسة مقبرته (المناقب، ص 409 - 418؛ الترجمة، ص 75 - 82؛ البداية، ج 10، ص 340 - 343)؛ وأصبح هذا القبر من أكثر الأماكن فى بغداد احتشادًا بالزائرين. وقد زوده الخليفة المستضئ سنة 574 هـ (1178 - 1179 م) بنقش يمجد ذلك المحدث المشهور ويصفه بأنه أصدق مدافع عن السنة (البداية، ج 12، ص 300). ومحا هذا النقش فيضان لدجلة حدث فى القرن الثامن الهجرى (الرابع عشر الميلادى؛ انظر Le Strange: Baghdad، ص 166).
وأعقب أحمد من كل من زوجتيه ابنًا واحدًا: صالحًا وعبد الله، علاوة على ستة أولاد من سراريه لا نعلم عنهم شيئًا غير ذلك (المناقب، ص 298 - 306). ويقال إن صالحًا (ولد فى بغداد سنة 202 هـ - 818 - 819 م، وتوفي وهو قاض لإصفهان سنة 266 هـ - 879 - 880 م) قد نشر جزءًا كبيرًا من فقه أبيه (الطبقات، ج 1، ص 173 - 176). وكان عبد الله معنيا بالحديث خاصة، وعن طريقه نشر الجزء الأكبر من آثار أحمد؛ وتوفى عبد الله فى بغداد ودفن بمقبرة قريش، وإلى قبره تحول
تقديس الناس الذى كان منصرفًا إلى قبر أبيه عندما انمحى هذا القبر من بعد (الطبقات، ج 1، ص 180 - 188). وكلا الابنين اللذين كانا متصلين اتصالًا وثيقا بالحياة العقلية لأبيهما يعدان من أهم منشئى ذلك البنيان المجمع الذى يضم المذهب الحنبلى.
3 -
آثاره: أشهر آثار أحمد بن حنبل مجموعة الأحاديث المسماة "المسند"(الطبعة الأولى، القاهرة سنة 1311 هـ). وكان أحمد يولى هذا الأثر عناية عجيبة، إلا أن ابنه عبد الله هو الذى جمع ورتب ذلك الحشد الحاشد من المادة، وأضاف إليه هو نفسه بعض الزيادات. وروى تلميذ أحمد البغدادى: أبو بكر القطيعى المتوفى سنة 368 هـ (978 - 979 م) المسند برواية عبد الله مع بعض الزيادات. وقد رتبت الأحاديث فى هذه المجموعة الحاشدة بحسب الموضوعات كما فى صحيحى البخارى ومسلم، ولكنها منسوبة إلى أسماء أول من رواها. ومن ثم كانت هذه الأحاديث طائفة من المسانيد الخاصة تراكمت بعضها على بعض، وهى تشمل أحاديث أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى وأئمة الصحابة، وتنتهى بمسانيد الأنصار والمكيين والمدنيين وأهل الكوفة والبصرة والشآميين.
وهذا الترتيب وإن كان يفصح عن جهد عقلى صادق، إلا أنه قد جعل من العسير أن ينتفع به إلا الحفاظ، ومن ثم أعيد هذا الترتيب فى بعض الأحيان، إذ نجد المحدث ابن كثير فى كتاب فى جامع المسانيد العشرة"، قد رتب بترتيب أسماء الصحابة الأبجدى الأحاديث الواردة فى "مسند" ابن حنبل، وفى الكتب الصحاح الستة، والطبرانى "المعجم"، ومسندى البزار وأبي يعلى الموصلى (الشذرات، جـ 6، ص 231). ويتبع ابن زكنون المتوفى سنة 837 هـ (1432 - 1434 م؛ انظر الشذرات، ج 7، ص 222 - 223) فى مصنفه "كتاب الدرارى" ترتيب كتب صحيح البخاري، ولهذا المصنف ميزة كبيرة هى أنه أدخل ضمن الأحاديث التى يرويها مقتطفات عدة من كتب الحنابلة وخاصة ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم. وهذا المصنف الضخم كان
ذخيرة لعدة طبعات من كتب المتون الحنبلية فى الخمسين السنة الأخيرة.
وفى نطاق الحديث يعد) حمد بن حنبل "مجتهدًا مستقلًا، وقد كان قادر، -كما يقول ابن تيمية (المنهاج، ج 4، ص 143) - على أن "يختار لنفسه" من ذلك الحشد من الأحاديث والأقوال التى تلقاها عن شيوخه. ولا يمكن بوجه من الوجوه أن نقول فيه ما قاله الطبرى من أنه محدث فحسب وليس فيه شئ من "الفقيه" الذى يعنى بالأحكام القياسية. ذلك أنه -كما بين ابن عقيل من قبل- "قد خرج عنه [أى من أحمد بن حنبل] اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم، وخرج عنه من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم". ويجب ألا يكون "أصحاب الحديث" متعارضين من حيث الأصول تعارضًا شديدًا مع "أصحاب الرأى"، وذلك أن من العسير أن نخرج من الأحاديث بمفهوم ما، أو نحل متناقضاتها وخلافاتها، أو نستنبط منها ما يمكن أن يستنبط من أحكام، إلا إذا استعنا فى ذلك بأقل قدر ممكن من الحكم الشخصى.
والرسالتان الأساسيتان اللتان نستطيع بهما أن ندرس موقف أحمد بن حنبل من العقائد هما الرسالة القصيرة المسماة: "رد على الجهمية والزنادقة"، و"كتاب السُنّة"(طبعت الرسالتان معًا فى القاهرة طبعة غير مؤرخة؛ وطبعت رواية أطول لكتاب السنة فى مكة سنة 1349 هـ). ويشرح ابن حنبل فى الرسالة الأولى ويرد على أقوال جهم ابن صفوان الذى اعتنق آراءه -التى ذاعت ذيوعًا كبيرًا فى خراسان- بعض تلاميذ أبى حنيفة وتلاميذ عمرو ابن عبيد. أما فى رسالته "كتاب السنة" فهو يعيد النظر فى بعض المسائل الكلامية التى سبق إثارتها فى رسالة الرد على الجهمية ويحدد بشكل قاطع موقفه هو من جميع مسائل العقيدة الجوهرية (انظر أيضًا الطبقات، ج 1، ص 24 - 36). ومن كتبه الأخرى فى العقيدة التى انتهت إلينا: "كتاب الصلاة"(القاهرة سنة 1323 هـ، وسنة 1347 هـ) فى أهمية صلاة الجماعة وأحكام إقامتها على وجهها، وقد رواه تلميذ من أقدم تلاميذه وهو مهنًا بن يحيى الشامى واختاره من الفهرس
الذى صنفه القاضى أبو الحسين بمراجع فى التراجم (الطبقات، ج 1، ص 345 - 380). ويجب أن نلاحظ أن له مخطوطين لم يطبعا هما: "المسند من مسائل أحمد بن حنبل"(انظر بروكلمان قسم 1، ص 311) الذى رواه أبو بكر الخلال، ويحتمل أن يكون قطعة من "كتاب الجامع"(انظر ما سيأتي) وهو مهم فى دراسة آراء ابن حنبل السياسية الدينية؛ و"كتاب الأمر" الذى رواه غلام الخلال (مخطوط بالظاهرية).
وفى "كتاب الورع"(القاهرة سنة 1340 هـ؛ وقد ترجم جزءًا منه G.H. Bosquet et P. Charles-Dominique Hesperis فى سنة 1952 م، ص 97 - 112) نجد آراء أحمد فى مسائل يبدو فيها الورع لازمًا فى رأيه، وقد نسقت هذه الآراء فى صورة ملاحظات مرتبة ترتيبًا إجماليًا، وأضاف إليها راويها أبو بكر المروزي آراء الفقهاء الآخرين فى هذه المسائل نفسها أو فى مسائل تتصل بها مدافعا عن ذلك فيما يظهر ببيان أن أقوال أحمد فى الشبهات التى تساور أهل التقى وفى حياة الزهد والتعبد، يمكن أن تقارن بأقوال معاصرية إبراهيم بن أدهم، وفضيل بن عياض، أو ذى النون وترجحها. ومما يلاحظ أن هذا الكتاب (انظر Abd al-Jalil Aspects interieurs de l Islam ص 228 تعليق 193) قد أمعن فى الاستشهاد به أبو طالب المكي فى كتابه "قوت القلوب"، كما نقل عنه بعد الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين".
المسائل: كان أحمد بن حنبل يرجع إليه فى المسائل التى تتصل بالعقائد والأخلاق والفقه على اختلاف أنواعها، ولعله لم يمنع تدوين آرائه منعًا قاطعًا كما تقرر بعض الروايات، وإن كان من المحقق أنه حذر سائله من تدوين آرائه إذ يحتمل فى هذه الحالة أن تحل محل قواعد السلوك التى مرجعها إلى القرآن والسنة. وهو يخالف الشافعى فى أنه لم يسع قط إلى عرضها عرضًا منتظمًا على اعتبار أنها داخلة فى مادة المذهب. ويجب أن ننظر إلى الغرض الأساسى من مذهبه على ضوء أنه ردة على تدوين الفقه. أما وقد كان الفقه
الإسلامى فى صورته الأولية شرعة تقوم فى أساسها على الرواية الشفوية تترك فى تفريعاتها العامة مجالًا واسعًا للاختلافات الشخصية، فإن أى تدوين منتظم لهذا الفقه -بفرضه مثلًا فى حدود تفكير فقيه بعينه من فقهائه أو تجميده بالتدوين- يغير من صفته الذاتية.
وكان تدوين ردوده على المسائل وترتيبها على الأبواب العامة للفقه من عمل ولديه صالح وعبد الله وعمل غيرهما من تلاميذ ابن حنبل الذين نذكرهم فيما يلى:
1 -
إسحاق بن منصور الكوسج المتوفى سنة 251 هـ (865 - 866، الطبرى، ج 1، ص 133 - 135)؛ 2 - أبا بكر الأثرم المتوفى سنة 260 هـ (873 - 874 م) أو سنة 273 هـ (886 - 887 م؛ جـ 1، ص 66 - 74)؛ 3 - حنبل بن إسحاق المتوفى سنة 273 هـ (ج 1، ص 143 - 145)؛ 4 - عبد الملك الميمونى المتوفى سنة 274 هـ (887 - 888 م؛ ج 1، ص 212 - 216)؛ 5 - أبا بكر المروذى المتوفى سنة 275 هـ (888 - 889؛ ج 1، ص 56 - 63)؛ 6 - أبا داود (ج 1، ص 156 - 163، طبع بالقاهرة سنة 1353 هـ السجستانى المتوفى سنة 275 هـ، ج 1 ص 156 - 163، طبع بالقاهرة سنة 1353 هـ = 1934 م)؛ 7 - حربا الكرمانى المتوفى سنة 280 هـ (873 - 874 م؛ ج 1، ص 145 - 146)؛ 8 - إبراهيم ابن إسحاق الحربي المتوفى سنة 285 هـ (898 - 899 م؛ ج 1، ص 86 - 93). وثمة مجموعات أخرى أيضًا" ثم إن طبقات ابن أبى يعلى تشمل إجابات رد بها ابن حنبل على عدة زوار له.
وهذه المواد المتفرقة جمعها فى "كتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد" تلميذ لأبي بكر المروذى هو المحدث أبو بكر الخلّال المتوفى سنة 131 هـ (923 - 924 م) الذى كان يدرس ببغداد فى مسجد المهدى (الطبرى، ج 2، ص 12 - 15؛ تاريخ بغداد، ج 5، ص 112 - 113). وقد أحسن ابن تيمية تقدير ما كان للخلال من شأن، إذ قال (كتاب الإيمان، ص 158) إن مصنفه "كتاب السنة" هو أوفى مرجع ممكن لمعرفة "الأصول الدينية" فى عند أحمد بن حنبل،
كما أن مصنفه "كتاب فى العلم" هو أقيم خزانة يرجع اليها فى دراسة "الأصول الفقهية" عند أحمد. وهذه ألمصنفات هى بلا شك فروع لكتاب الجامع أو تناول جديد له. ويقول ابن قيم الجوزية (أعلام الموقعين، القاهرة، ج 1، ص 31) إن "كتاب الجامع" يقع فى عشرين مجلدًا. وهذا الكتاب، فيما نعلم الآن، مفقود إلا قطعة منه أشرنا إليها آنفا. على أنه تغلغل فى حصيلة ابن تيمية وابن قيم، ومن ثم فإن دراسة هذين الكاتبين تعوضنا بعض التعويض عن فقده إذ تعيننا هذه الدراسة على تقدير فكر ابن حنبل.
وقد أتم ما صنفه ابن الخلال تلميذه عبد العزيز ابن جعفر المتوفى سنة 363 هـ (973 - 974 م) الذى اشتهر بغلام الخلال، ولم يرض عبد العزيز فى جميع الأحوال بشروح شيخه لأفكار ابن حنبل، ومع أن مصنفه "زاد المسافر" هو دون "كتاب الجامع" شأنًا إلا أنه يشمل طائفة من الزيادات التى يرجع إليها فى كثير من الأحيان. والخلافات التى أبقى عليها هذا "المجموع" فى عرض أفكار ابن حنبل هى التى تفسر لماذا يفرق الحنابلة بين "نص" صاحب المذهب، والروايات المنسوبة إليه، و"التنبيهات" التى أدلى بها، وبين "الأوجاه" فحسب التى ارتآها تلاميذ ابن حنبل.
ويذكر ابن الجوزى له (المناقب، ص 191) تفسيرًا يعتمد على مائة وعشرين ألف حديث، وغير ذلك من مصنفات فقدت الآن (انظر أيضًا Brockelmann، ج 1، ص 193؛ قسم 1، ص 309 - 310).
3 -
مذهبه: عانى المذهب الحنبلى أحيانا من شغب بلِن بعض أتباعه نشأ من تعصب قليل فى النظرة، كما عانى من إسراف فى الحرفية التزمه أتباع آخرون عن جهل أو تحد، وقد تعرض فى مراحل تاريخه لعدة معارضين أقوياء من أهل المذاهب الأخرى المختلفة الذين تتعارض مبادئهم معه فكان هؤلاء إذا أمسكوا عن تعمد الانتقاص منه، اتحدوا فى مهاجمته أو أحاطوه بستار من الشكوك الماكرة. ولم يحفل مستشرقو الغرب به إلا قليلًا، ولم يكونوا فى حكمهم بأقل من ذلك شدة.
وقد أصبح الرأى المستقر هو أن مذهب ابن حنبل فيه قول بوجود الله مع المغالاة العنيفة فى الاستمساك بالتشبيه؛ وفيه سلفية ممعنة فى المذهبية إلى حد لا يمكن أن يتيح لها البقاء، وروح من التعصب مشتعل بالهياج العصبى، وافتقار أصيل إلى
التواؤم الاجتماعى، وضرب من العجز المقيم لتقبل النظام المقرر. والدراسة المباشرة لآثاره تدل على أننا يجب ألا نلتمس الأغراض المسيطرة على تعاليمه من هذه الأحكام العامة على مذهبه.
صفات الله: الله عند ابن حنبل هو الله الذى جاء فى القرآن. والاعتقاد بالله هو الاعتقاد بالصفات التى وصف بها نفسه فى كتابه. ومن ثم يجب أن نسلم بأن صفاته: السميع والبصير والمتكلم والقادر والمريد والحكيم وغيرها، هى حق، كما أن الصفات الأخرى جميعًا التى تدخل فى "المتشابه" -كالكلام عن يده وعرشه ووجوده فى كل مكان ورؤية المؤمنين له يوم البعث- كلها أيضًا حق. وأخذًا بالحديث يجب أن نسلم أيضًا بأن الله سبحانه يتنزل إلى السماء الدنيا فى ثلث الليل الأخير ليستمع إلى دعوات عباده، كما يجب أن نسلم فى الوقت نفسه بظاهر لفظ القرآن (سورة الإخلاص) إن يقول إن الله أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد؛ (كتاب السنة، ص 37؛ كتاب المناقب، ص 155). ومن ثم أنكر ابن حنبل بشدة قول الجهمية بالتعطيل وتأويل القرآن والحديث، كما أنكر فى شدة لا تقل عن ذلك تشبيه المشبهة وسلك معهم فى مناظراته الجهمية راميًا إياهم بأنهم مشبهة بلا وعى منهم.
ويجب -فى عقيدة أحمد فى الله- أن يوْمن المرء بالله "بلا كيف" ويترك لله فهم أسراره تعالى، ويطرح دقائق علم الكلام فى تناوله للعقائد لأنها تنطوى على الغرور والخطر (كتاب السنة، ص 37؛ المناقب، ص 155 - 156). وكان هذا الموقف غاية فى البساطة وغاية فى القوة أيضًا من حيث النظرة القرآنية حتى أن الأشعرى حين تخلى عن مذهب المعتزلة أخذ يسعى، إما عن لطف فى التدبير وإما عن تقبل
صادق النية، إلى الاستظلال براية ابن حنبل قبل أن يرجع إلى عقيدته الأولى فى أمور بعينها، وأخذ تلاميذه على تعاقبهم يتوسعون فى هذا الرجوع فى مسائل الصفات والقرآن وشرعية أقوال المتكلمين فى العقائد.
القرآن: والقرآن هو كلام الله غير مخلوق، وقولك إن القرآن كلام الله ووقوفك عند ذلك رفض لاتخاذ موقف، وهذا يدخلك فى زندقة الواقفية، وهى بحكم ما تثيره من شك إثم أكبر من زندقة أصرح من ذلك هى زندقة الجهمية (كتاب السنة، ص 37 - 38) ولا يفهم من القرآن أنه المعنى المجرد وحسب، بل يفهم منه أيضًا القرآن بحروفه وكلماته وتعابيره وأفكاره، القرآن فى واقعه الحى كله، وهو الذى تحير طبيعته فى ذاته أفهامنا.
اللفظ بالقرآن: من العسير أن نحدد موقف ابن حنبل من هذه المسألة، وتقرر بعض الروايات أنه كان يرى أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق. وفى كتاب السنة (ص 38) لا يزيد ابن حنبل على القول:"ومن زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله فهو جهمى". وهو إذ يذم، من حيث المبدأ، اللفظية اللذين يقولون بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، لا يتخذ خطوة إيجابية أخرى فى تكوين مذهبه مما حير الحنابلة المتأخرين. ويرى ابن تيمية أن هذه المسألة هى أولى المسائل التى قام من حولها انقسام حق فى الرأى بين القدماء (انظر، Taymiyya Essoi sur
…
bn H.Laoust ص 172)، ويقرر أن ابن حنبل توقف حيالها. ويسوق ابن تيمية نفسه فى رسالته "الواسطية" قاعدة تنطوى على الحذر بدت فى نظره متمشية مع روح المذهب الحنبلى:"إذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه فى المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبلغًا مؤديًا".
أصول الفقه عنده: يخالف ابن حنبل الشافعى فى أنه لم يكتب رسالة فى أصول الفقه، ولا يمكن أن نسلم بأن الآثار المتأخرة المشهورة لمدرسته، وهى الآثار التى صنفت بإحكام العارف بأصول الصنعة فى جو من المناظرة مع
المذاهب الأخرى، تعبر عن أفكاره تعبيرًا دقيقًا. ذلك أن مذهبه هو نفسه، كما نستطيع أن نتبينه من "المسائل"، أكثر أولية من التخريجات المحكمة المتأخرة، ولكنه يتميز بأنه وضع المبادئ الأولى لأصول الفقه فى مذهبه.
القرآن والسنة: يقول مذهب ابن حنبل بأنه يعتمد فوق كل شئ على القرآن مع الأخذ فيه بظاهر اللفظ لا بالتأويل، كما يعتمد على الحديث. ويستفاد من رواية ابن حنبل نفسه (المسند، ج 1، ص 56 - 57) أنه كان يهدف إلى أن يجمع فى مسنده الأحاديث المشهورة فى زمانه. ومن ثم نجد فى مجموعته هذه، على حد مصطلحه هو، أحاديث ثبتت حجيتها على نحو سليم ومن ثم جاز أن تسمى "صحيحة"، وأحاديث ليس لها نصيب من القبول إلا ظن بحجيتها وما من سبب يقينى يدعو إلى رفضها باعتبارها "ضعيفة"، أو قل "أحاديث صحيحة" و "أحاديث حسنة" إذا أخذنا بالتصنيف الذى قرره الترمذى. وإنما حدث فى وقت متأخر عن ذلك كثيرًا، حين بلغ ابن الجوزى بنقد الحديث غاية الصرامة من حيث أصوله، أن وجه اللوم إلى ابن حنبل لقبوله أحاديث موضوعة، وقد نفى عنه هذه التهمة كثير من المحدثين مثل ابن تيمية وابن حجر العسقلانى. والرأى الذى أخذ يسود الآراء فى هذا الشأن هو أنه توجد فى المسند إلى جانب الأحاديث الصحيحة أحاديث حسنة "أو""غريبة"، ومع ذلك فإن هذه الأحاديث الحسنة أو الغريبة ليس فيها مع التشدد ما لا يمكن قبوله.
فتاوى الصحابة والإجماع: وللقرآن والسنة تتمة تتمثل فى مرجع ثالث يستقى منهما ويكملهما وهو فتاوى الصحابة. والأسباب التى تدعم فى نظر أحمد شرعية هذا المرجع الجديد فى العقائد واضحة، هى أن الصحابة كانوا يعلمون ويدركون ويطبقون أحكام القرآن والسنة على نحو أسلم من الأجيال المتأخرة، وجميع هؤلاء الصحابة أهل للاحترام والتوقير. كما أن النبى صلى الله عليه وسلم قد نصح المسلمين فى وصيته بأن يسيروا على سنته وعلى سنة الخلفاء الراشدين الذين سيخلفونه
وأن يتجنبوا جميع البدع. وحيثما اختلف الصحابة كان من اليسير التماس الرأى الأصوب بالرجوع إلى القرآن والسنة وإعلاء أحكامهما على كل حكم (المناقب، ص 161).
أما من حيث التفضيل فإن أحمد بن حنبل قد بدأ بأبى بكر ثم عمر ثم أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر لأن كلا منهم أهل للخلافة وكلا منهم إمام، وهؤلاء هم: عثمان، وعلى، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، ثم من شهدوا بدرا، ثم المهاجرون ثم الأنصار (كتاب السنة، ص 38؛ المناقب، ص 159 - 161). وهذا المذهب السنى الذى يوفق بين الأقوال المتعارضة يعترف بفضل على وشرعية خلافته، ولكنه يرد أيضًا اعتبار خصومه وأولهم معاوية الذى كان شأنه فى التمكين للإسلام يشيد به الحنابلة دائما ولا يوجبون بالضرورة إهمال أحكامه.
وأحكام التابعين تستأهل أيضًا أن تدخل فى الاعتبار من حيث هى شاهد على التفسيرات الممدوحة. والإجماع فى مثل هذه المسائل العقائدية يعبر عن انعقاد الرأى على حقيقة تقوم على القرآن والسنة، ولكنه لا يكون فى ذاته، بالمعنى الصحيح، مصدرًا مستقلاً من مصادر الفقه. فالجماعة قد تقع فى الخطأ كلها إن لم تهتد بنور الوحى الذى أتى به الحديث (انظر ص 239 - 242).
وظيفة المفتى: أول واجب يفرض على المفتى هو الالتزام فى أمانة بالتراث الروحى الذى رواه الشيوخ، واجتناب آية نزعة للاستحداث أو الابتداع. ومن ثم ينكر ابن حنبل الرأى، أى التطوع بإبداء رأى شخصى (أبو داود: المسائل ص 275 - 277) ولكنه لم يجعل ذلك قاعدة من قواعد السلوك تقتضى الوقوف أمام النصوص موقفًا جامدًا بإطلاق يستحيل على المرء أن يقفه؛ ولم يرفض أحمد القياس ولكنه لم يقدر كل التقدير قيمته من حيث هو أداة لتكوين مذهب أو الكشف عن قاعدة كما فعل ابن تيمية وابن القيم من بعد متأثرين بمؤثرات عقلية.
وقد أكثر أحمد من الأخذ بالاستصحاب، وهو طريقة فى التدليل
تقوم على استدامة إثبات الحالة الفقهية ما لم تقم ظروف تقتضى تغييرها؛ وكذلك بالذرائع وهى طريقة أخرى فى التدليل، وذلك أن الله إذا كلف العباد أمرًا، فكل ما يتعين وسيلة له مطلوب بطلبه، وإذا نهى الناس عن أمر، فكل ما يؤدى إلى الوقوع فيه حرام أيضًا. وفكرة "المصلحة" التى تبيح تحديد الحالة الفقهية أو التوسع فيها تنطبق أيضًا على مذهب أحمد، وان كان لم يفعل ما فعله ابن تيمية وتلميذه الطوفى من التوسع فى استعمالها وتنظيم هذا الاستعمال.
ولنكرر هنا تشبيها قال به ابن قيم فإنه فيما يبدو يملو خير تمثيل العناية المزدوجة التى أبداها ابن حنبل بالحديث وبالواقع: أن المفتى كالطبيب، فالطبيب يجب عليه أن يجعل علاجه موائمًا لحالة المريض، والمفتى يجب عليه أن يجتهد فى أن يستنبط من مراجع الفقه العلاج الخلقى الذى يجب أن يطبق على حالة بعينها. ومن ثم فإن شيوخ الحنابلة إذ كفوا بإطلاق عن فتح باب الاجتهاد فما ذلك إلا لأنهم رأوا أن استمرار الاجتهاد لا محيص عنه لفهم المبادئ الفقهية وتطبيقها.
الخلافة والعرب: إن آراء ابن حنبل السياسية: التى يرد بها أساسا على الخوارج والشيعة (الروافض) تؤكد أولًا وقبل كل شئ شرعية أن تكون الخلافة فى قريش: "والخلافة فى قريش ما بقى من الناس اثنان، ليس لأحد - من الناس أن ينازعهم فيها، ولا نقر لغيرهم إلى قيام الساعة؛ (كتاب السنة، ص 35). وقد دافع عن العرب حين كانت الشعوبية محتدمة فى أيامه ولكنه لم يقل بتفوقهم: "ونعرف للعرب حقها وفضلها، وسابقتها، ونحبهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. سب العرب نفاق، وبغضهم نفاق" (المصدر السابق، ص 38)، نفاق لأن وراء هذا السب أو البغض كان يكمن غرض أخفى من ذلك، هو القضاء على الإسلام بإحياء الإمبراطوريات القديمة أو إعادة صور حضارية أخرى.
وقد اعتمد ابن حنبل على السنة التى سنها أبو بكر وعمر فى قوله بشرعية أن يعهد للخليفة إلى من يخلفه، على أن
أى عهد من هذا القبيل لا يكون ناجزًا إلا إذا أعقبته مبايعة يقسم فيها الإمام والممثلون المفوضون للرأى العام على الإخلاص المتبادل احترامًا لكلام الله (Essai، ص 287) ، أما رأى ابن حنبل فى واجبات الإمام فيتبع المخطوط
العامة للشروح الفقهية، وهو يترك للإمام، فى إطار أحكام القرآن والسنة، حرية واسعة فى أن يتخذ للمصلحة جميع ما يراه ضروريا للنهوض المادى والأدبى بالمجتمع. وفى هذا تكمن بذرة للك الفكرة الهامة ألا وهى "السياسة الشرعية" التى أصّلها ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية.
وأعضاء الجماعة يدينون بالطاعة للإمام، فلا يجوز لهم المعارضة فى حكمته "والجهاد ماض، قائم مع الإمام، بر، أو فاجرًا، ولا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. والجمعة والحج والعيدان: مع الأئمة، وإن لم يكونوا بررة عدولًا أتقياء. ودفع الصدقات. والأعشار والخراج والفئ، والغنائم: إلى الأمراء، عدلوا فيها أو جاروا"(كتاب السنة، ص 35). فإذا سعى الأمير إلى معصية الله وجب أن يواجه فى هذا الشأن بعدم الطاعة، بلا دعوة إلى إثارة فنتة مسلحة لا يمكن تبريرها ما دام الإمام يقيم الصلاة فى أوقاتها. على أن كل عضو من أعضاء الجماعة عليه واجب آخر هو أن يأمر، فى حدود علمه وقدرته، بالمعروف وينهى عن المنكر. ومن ثم وجب على الفقهاء، بحكم ولا يتهم، أن يحيوا السنة وأن يجعلوا الرأى العام متيقظًا دائمًا، ويفرضوا على الإمام اتباع أحكام الدين دون أن يخرجوا عن حدود الطاعة له.
روح الجماعة: تقوم سياسة أحمد على لم شمل الجماعة ووحدة العقيدة، وهو يعارض فكرة الجماعة فى الفتنة، بل لقد ذهب فى مسألة "التكفير" إلى حد اتخاذ موقف سمح فيه شئ من تساهل المرجئة، ذلك أنه يقول بأنه لا ينبغي أن يخرج عن الإسلام أى مسلم يرتكب الذنب إلا إذا استند فى ذلك على حديث يؤخذ بظاهر لفظه (كتاب السنة، ص 35 - 36)، ولا يذكر فى هذا الخصوص إلا ثلاثة ذنوب تقتضى التكفير وهى: ترك الصلاة، وشرب الخمر، ونشر الآراء المتزندقة التى
تعارض عقائد الإسلام، واقتصر فى ذكر الزنادقة على الجهمية والقدرية. أما عن التكفير بمعناه الصحيح فهو يستعيض عنه بالكف المستمر عن معاشرة الزنادقة فى نطاق الجماعة:"ولا أحب الصلاة خلف أهل البدع، ولا الصلاة على من مات منهم"(كتاب السنة، ص 35 - 36).
الأخلاق: يسيطر التشدد فى المسائل الخلقية على مذهب ابن حنبل سيطرة تامة، فعنده أن غاية الأفعال هى غبادة الله. وهو يقرر بما يخالف المرجئة أن الإيمان "قول وعمل ونية وتمسك بالسنة"(كتاب السنة، ص 34). ومن ثم فالإيمان "يزيد وينقص"، وهو يقتضى ارتباطا كاملا من المخلوق حتى أن أى مؤمن لا يستطيع أن يقرر شيئًا إلا على الاستثناء فيستدرك:"إن شاء الله". ونخرج من هذا بأن الإيمان ليس جملة من الشعائر وإنما هو يقتضى مجموعة معقدة من العقائد الخلقية، يقتضى: إخلاصًا تامًا فى عبادة الله، وإنكارًا للدنيا، وتهذيبًا للمشاعر، ونزعة إلى الزهد، وشجاعة أدبية تقوم على ترك ما تحب إلى ما تخشى (الفتوة)؛ وخشية لله، وعقلا متشككًا يتجنب الشبهات (المناقب، ص 194 - 269). ومن ثم فإن عقيدة ابن حنبل ليس فيها شئ من الفيهقة التى تستمسك فى أمور الشرع بالحرفية.
العبادات والمعاملات: ليس المقام - هنا مقام التحليل المستفيض للأحكام الأصولية التى تكون "الفروع" عند ابن حنبل فى الميدانين اللذين يندرجان تحت هذه الفروع وهما العبادات والمعاملات أو العادات، ذلك أن العرض المنهجى لها الذى ورد فى المختصر للخرقى لم يزد على نقل آراء فريدة لابن حنبل وترتيب محدود لأرائه. ويصدق هذا على كتاب العمدة لابن قدامه، على قيمته بالنسبة لمن يريد أن يعرف شيئًا عن المذهب الحنبلى فى القرن السابع الهجرى الموافق الثالث عشر الميلادى (انظر Precis de droit d lbr Qudama، دمشق سنة 1950 م).
ولكن ثمة قاعدة هامة جدًا أبرزها ابن تيمية، وهى فيما يبدو لنا تمثل الحنبلية الأولى: ما من شئ يمكن أن
يقال إنه يفرض على الناس واجبات اجتماعية إلا العبادات التى أمر بها الله صراحة، ثم العكس، وهو: ما من شئ حرمه الشرع إلا العبادات التى حرمها الله فى القرآن وفى السنة، وهذا هو المبدأ الذى أجمله ابن تيمية قائلًا قولته "توقيف فى العبادات وعفو فى المعاملات" أى الصرامة المسرفة فى تطبيق العبادات والسماحة الواسعة فى جميع مسائل المعاملات (Essai، ص 444)، ولذلك يجب أن تترك حرية واسعة للطرفين فى وضع شروط العقد وخاصة فيما يتعلق بالإجراءات بحيث لا يمكن إلغاء آية أحكام فيه إلا إذا كانت مخالفة لصريح القرآن والسنة فى الميسر والربا. وقد رد ابن حنبل فى كتاب السنة (ص 38) على المحاسبى فى قوله بأن السعى الحر إلى الربح الشريف واجب دينى.
على أنه فى العبادات لم يقل إلا بشرعية ما نص عليه القرآن والسنة وعلى الوجه الذى جاء به هذا النص. ولا يرجع تشدد المذهب الحنبلى إلى روح التعبد والعناية بالتفاصيل التى يسعى هذا المذهب إلى مراعاتها فى أداء الفرائض الدينية، بقدر ما يرجع إلى إنكاره الاعتراف بأية قيمة شرعية لصور العبادة التى استحدثها "اجتهاد" الزهاد والمتصوفة، أو حتى بالأحكام الاعتسافية التى تحكم بها السلطات الإدارية. وهذه النظرة المعادية للبدع (بقايا الوثنية، وما ابتدعته الأجيال المتأخرة، وتسللات الحضارات الدخيلة) قد تجلت بعنف شديد فى البربهارية والوهابية الأولى.
المصادر:
التراجم:
(1)
فصل فى كتاب أبى بكر الخلال المتوفى سنة 131 هـ (923 - 924 م) عن تاريخ المذهب الحنبلى، لم يبق منه إلا صفحات قلائل فى المكتبة الظاهرية بدمشق.
(3)
كتيب أبى بكر البيهقي المتوفى سنة 458 هـ (1065 - 1066 م) وقد استشهد ابن الأثير فى مصنفه البداية، ج 10، ص 234 - 243، بفقرات كبيرة منه (وثمة ترجمة منسوبة أيضًا للهروى المتوفى سنة 481 هـ الموافقة 1088 - 1088 م)؛ وهنالك سيرتان موسعتان هما: