الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها هناءة العيش، وبعد أن أمضى المحتفلون ساعة في أحاديث أدبية تاريخية جميلة، ودعوا صاحب الدعوة شاكرين له كرمه وأريحيته".
*
الكلمة التي ألقيتها في منزل الدكتور المالكي:
سادتي الأجلاء! أشكر لحضراتكم وحضرة صاحب الدعوة الدكتور الكبير عبد الوهاب المالكي بك على هذا الاحتفاء البالغ صادراً من صميم الفوائد، وقد أثنى حضرة الدكتور وحضرات إخوانه الخطباء على ثناء لا أستحقه، وعلى أي حال كنت، لا يسعني إلا أن أقابله بشكر جزيل؛ لأنه صادر عن عاطفة أدبية نبيلة، وإذا دلّ هذا الثناء على شيء، فإنما يدل على أن المودة الخالصة تجعل السها في نظر صاحبها قمراً، بل تريه الذرة درّة، وتخيل إليه فيما لا طعم له ولا رائحة: أنه لذيذ الطعم، ذكي الرائحة، وإذا ارتحت لهذا الاحتفال، فلأنه مظهر عاطفة مودة كانت قد ربطت بيني وبين حضرة صاحب الدعوة، وبعض حضرات المحتفلين منذ عهد بعيد، وإن هذا الاحتفاء قد دلّ على تلك المودة بعبارات جديدة، لا أنها بليت فجددها؛ لأن المودة القائمة على الفضيلة لا يمسها بِلًى حتى تحتاج إلى تجديد.
قلت هذا، وما زلت أذكر أيام كان الدكتور المالكي تلميذاً بالمدرسة السلطانية، وكنت أرى منه الجد في طلب العلم، والشجاعة الأدبية المكسوة بالحياء والأدب الرفيع، وكنت أشعر منه بإجلال ممزوج بصدق الود، حتى إذا مرّ على خاطري ذكريات أيام الدراسة بالمدرسة السلطانية وأنا بمصر، وجدت صورة ذلك التلميذ (عبد الوهاب المالكي) في أول ما يخطر في نفسي.
سادتي! كنت نشأت نشأتي العلمية في تونس، ووجدت أمامي طائفة
غير قليلة من أهل العلم الصحيح والبصائر النيرة، وكان هناك غافلون عن بعض ما يقتضيه الحال من إصلاح، فقمت بجانب من الدعوة إلى ما أراه خيراً للأمة الإسلامية، ولا أكتمكم أني كنت أشعر بمناوأة من جانب أولئك الغافلين.
وانتقلت إلى دمشق، وعهد إليّ بالتدريس في بعض مدارسها، وأقبلت على التدريس في بعض مساجدها، وكتبت مقالات كثيرة في صحفها، وأقمت على هذه السيرة نحواً من سبع سنين، وكانت الصلة بيني وبين علمائها وأدبائها وفضلائها صافية محكمة.
ثم رحلت إلى القاهرة، فلقيت من كبار علمائها، وصفوة أدبائها، ورجال نهضتها، ورؤساء دولتها احتفاء وتكرمة، غير أن مدينة كمدينة القاهرة لا تخلو من نفر ينتمون إلى العلم أو الأدب لا يبالون أن يجحدوا، ويدعون إلى هذا الجحود، فكنت فيمن ينبه لهذه الحقائق، ويشير إلى أن تلك الدعوة غير رابحة، ولا أكتمكم أيضاً أني لاقيت قسطاً من مناوأة أولئك الجاحدين.
هذه الأوطان الثلاثة التي قضيت بها عمراً غير قصير، وإذا كان فضل العلماء المحققين، والأدباء المستقيمين، والرؤساء الراشدين، قد غطى في تونس ومصر على ما أشرت إليه من مناوأة بعض الغافلين أو الجاحدين حتى أنسانيها، ولم تبلغ أن يكون لها في حياتي الأدبية أثر، فإن الأعوام التي قضيتها بين أهل دمشق لم أشعر فيها على ما أذكر إلا برقة العطف، وحسن اللقاء أينما كنت، فإذا حننت إلى دمشق، فإنما أحن إلى الخلق الكريم، والأدب الأخّاذ بالألباب، وقد شهد لها بهذه المزايا كثير من نزلائها العلماء والأدباء من قبلي، والسلام عليكم ورحمة الله.