الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
محادثات علمية في المدرسة التجارية بدمشق:
وزرنا المدرسة التجارية، فتلقانا مديرها الشيخ مصطفى طنطاوي، وأحد مدرسيها الشيخ محمود بكامل المبرة، وعرّفنا الشيخ مصطفى بنموذج تعليمها.
وبمناسبة ذكر اللغة الفارسية في جملة اللغات التي تدرس بها، قلنا: إن للغة الفارسية مزية، ولهذا أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بها في الصلاة لمن عجز على العربية، فقال لي: بل الإمام يجيز القراءة بأي لسان، اتفق، ولا يخص هذا الحكم بالفارسية، وقد كنت طالعت هذه المسألة مقيدة بالفارسية في كتاب "الأحكام" لأبي بكر بن العربي، ثم أعدت النظر في بعض كتب المذهب الحنفي، فوجدت أحد الفقهاء، وهو الشيخ البرادعي نص على تخصيص الحكم بالفارسية، ولعل الراجح في المذهب خلافه.
ومما أورده في المحادثة: أن الحريق الذي حدث بدمشق لهذه السنة، قد أحاط بساحة المدرسة من جهاتها الأربع، ولم يتناول من مبانيها فتيلاً، فقلت له:{وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17] فوقعت لديه موقع الارتياح.
ودار على البساط حكم العلوم الرياضية والطبيعية في نظر الإسلام، ومما أدرجناه في هذه المحاورة: قول القرافي في "فروقه": قد يغمض على الفقيه والحاكم الحق في كثير من المسائل بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة، فينبغي لذوي الهمم العلية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم، وتجاذبنا خلاصة ما حققه الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب "المنقذ من الضلال" عند بحثه عن علم الطبيعيات، ونصه: "أما علم الطبيعيات، فهو بحث عن أجسام العالم: السماوات، وكوكبها، وما تحتها من الأجسام المفردة؛
كالماء، والهواء، والتراب، والنار، ومن الأجسام المركبة؛ كالحيوان، والنبات، والمعادن، وما تحتها، وعلى أسباب تغيرها، واستحالتها وامتزاجها، وذلك يضاهي بحث الطبيب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسية والخادمة، وأسباب استحالة مزاجها، وكما ليس من شروط الدين إنكار علم الطيب، فليس من شروطه إنكار ذلك العلم، إلا في مسائل معينة ذكرناها في "تهافت الفلاسفة"، ثم قال:"وأصل جملتها: أن يعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى، لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها، فالشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، لا فعل لشيء منه بذاته عن ذاته".
فهذا التقرير من إمام عرف شعاب هذه العلوم، بعد أن رسخ في العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية، يشهد شهادة عادلة بأن الإسلام يسع صدره لكل ما يتدرج في حقيقة العلم ما لم يتحقق ضرره؛ كعلم السحر.
ودعانا هذا الشيخ إلى احتفال أقامه في هذه المدرسة لتوزيع الشهادات على تلامذتها، وكان النادي يحتوي على ما يناهز خمسمائة نسمة، فيهم العلماء، وأرباب المناصب العالية، فوضعوا في صدره منصة شامخة، وصعد عليها فريق من التلامذة، وألقوا خطباً من محفوظاتهم باللغات الثلاث: العربية، ثم التركية، ثم الفرنسية، ويعد هذا قام غلام على المنصة، وألقى على التلامذة خطاباً أودع في ضمنه: أن هذه الشهادات التي سيبسطون أيديهم لتناولها، إنما منحوا بها محاباة، وأنهم سيتقلدونها عن غير استحقاق، فنهض أحد التلامذة، وأجابه عن ذلك الخطاب بمقال أومأ فيه إلى كفاءتهم، وأوسع له المجال في اختبارهم، فأجرى ذلك التلميذ عليهم الاختبار واحداً عقب آخر، وعرض عليهم أسئلة في العلوم التي تزاول بالمدرسة؛ كالحساب، والهندسة، والجغرافيا،