الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويد الرحيل تخطفت في "جلق"
…
جسمي وأبقت مهجتي برباها (1)
فأنا خيال والبحيرة مقلة
…
لكن تطاول بالخيال كراها
هذه لمحة سريعة نقدمها من سيرة الإمام محمد الخضر حسين، نورد بعدها "مشاهد برلين" التي هي بعض ذكرياته في ألمانيا الموجزة، وقد نشرت بمجلة "المقتبس" الدمشقية في الجزأين السابع والثامن من المجلد التاسع سنة 1332 هـ - 1913 م.
والحمد لله على ما هدى، والحمد لله على نعمة الإسلام.
علي الرّضا الحسيني
*
مرافق الحياة:
يتوسط الشوارع الكبيرة في "برلين" رياض تسايرها طولاً، وتفتح فيها سبلاً للراجلين خاصة، فيكون الشارع مفصلاً إلى رصيفين وجادتين، بينهما ممر يكتنفه عمارتان من نبات تطرزه الرياحين بألوان مختلفة، ولا يشاهد الإنسان في ديارها -ولو في الأرباض- بناء بالياً، أو جداراً متداعياً، والذي ساعد على تنسيق مبانيها ومتانتها: أن عناصر الطين بمقربة من تلك المدينة، وأن الحجارة والخشب يجلبان إليها على نهر "شبري" بسهولة وقيم زهيدة.
وكثير من المباني قائمة من الحجارة الرملية، ويستعملون "البرفير" زينة في داخل البيوت، وهو ضرب من حجارة الكرانيت المرادف له في العربية كلمة: صوّان، وتفرش بعض المحلات؛ مثل: دهاليز المدارس ببلاط (استك)، وهو قطع دقيقة من الرخام، تخلط بعجين الكلس.
(1) جلق: من أسماء دمشق.
في كل منزل حمام يتخذ من الزنك، يسخن ماؤه في قصبة تنصب بازائه مثل الأسطوانة، ويتصل بحافته مجرى للماء الحار، وآخر للماء البارد، ومن فوقه الناضحة المثقبة، ولكل واحد من المجاري الثلاثة مفتاح يتميز بكتابة على جانبه.
ومن تلك الحمامات ما يتدفق إليه الماء الحار من معمل تشترك فيه منازل كثيرة، فيتيسر للإنسان أن يتطهر منها في أي دقيقة حضرت، ويقل لهذا ترددهم على الحمامات العامة، ولا يقصدونها -في الغالب- إلا لداعية زائدة على النظافة؛ إذ يوجد فيها من يقوم بعمل الدلك على قاعدة صحية.
ومن المنازل ما يتوسل لدفئه أيام البرد بإيقاد الفحم في القصبات القائمة بزاوية من زوايا المنزل على الطريقة المعروفة، ومنها ما يدفأ بوسيلة ماءٍ حار يمر في بعض نواحيه على أسلوب منتظم. وملخص ترتيبه: أن ينصب في الطبقة السفلى مرجل توقد تحته النار بتناسب، ويتصل بالمرجل قصبة يصعد فيها الماء إلى إناء فتح عند سقف الطبقة العليا، ثم ينسكب نازلاً إلى مواضع التسخين في سائر الطبقات وحجراتها، حتى يعود إلى المرجل مرة أخرى، ويتركب موقع التسخين -في الغالب- من خمس عشرة إلى عشرين أسطوانة خشبية متلاصقة، وجث يجري الماء في مجال مستدير وسطح غير ضيق يحصل الدفء الكافي.
وذكرت عند هذا الصنيع: أن جبرئيل بن بختيشوع المتوفى سنة 356 هـ، كان يضع من وراء الحجرة التي يجلس فيها مواقد تبعث من وهجها ما يكسر سورة البرد. دخل عليه أحد الفضلاء- على ما قصّه موفق الدين في "طبقات الأطباء"-، فأحس بدفءٍ، وقد أصبح البرد شديداً، فكشف له بختيشوع عن
جوانب المقعد، فإذا موضع له شبابيك خشب بعد شبابيك من حديد وكوانين فيها فحم الغضى، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزقاق، مثلما يصنع الحدّادون.
ويفتحون في النوادي الكبيرة مراوح ذات آلات، تجلب إليها الهواء النقي أو النسيم البارد بإدارة كهربائية. فمن محال القهوة ما يسع أكثر من ألف نسمة، فتجد الجالسين صفوفاً مرصوصة، ولا يحس الداخل بكدر في الهواء مع ما يقع من التدخين. وهذا أيضاً ذكّرني: أن بختيشوع الذي دبّر طريقة تسخين الحجرات إذا دبّت عقارب البرد، قد فكّر في وجه استخلاص النسيم البارد إذا رمت الظهيرة بجمراتها، فكان يعد من خلف القبة التي يتبوؤها مواضع مرصف فيها قطع من الثلج، ويأخذ الغلمان مراوح يستثيرون بها من ذلك الثلج نسيماً بارداً، فيهب إلى القبة في طريقة متجددة.
وكانوا يستوقدون الشمع، ويعض أصحاب البيوت يصنعونه من شحم البقر بأيديهم إلى قريب من سنة 1840 م، فظهر بينهم زيت الغاز المعدني، اكتشفوه في أربع ولايات من ألمانيا، ولكن منابعها ليست بغزيرة، وقد تهللت اليوم بالضرورة مسارج الكهرباء والغاز البخاري في كل محلة.
أما القصور القيصرية، فكانت تنار بالشمع المستخلص من عسل النحل، ثم انبجست فيها أنوار الكهرباء سنة 1888 هـ.
لا تخلو أبواب البيوت ودواخل الحجرات من أجراس يستند تنظيمها بين الضغط على أزرارها، ورنةٌ مطرقتها إلى مجرى كهربائي، تستمده من معمل تشترك فيه محلات متعددة. ويصنعون في كل حجرة من الفنادق الشهيرة ثلاثة أجراس، يدعو النزيل بأحدها من تكفف بتنظيم الحجرة، وبثانيها من يعين لمناولة ما يحتاج إليه من مثل طعام أو شراب، ويثالثها من يختص بحمل الأمتعة.
ترتبط المنازل بأسلاك حاكي الصدى (التلفون) وقد ريحوا بوسيلته قسطاً عظيماً من أوقاتهم، فيكون الإنسان في غنى عن أن يبدد قطعة من الوقت، الذي هو سلك عمره في مسافة الذهاب إلى مكان، والإياب عنه بإبلاع كلمة، والإنصات إلى مثلها، وقد أصبح من المعتاد عندهم أن الإنسان لا يضرب بخطوة إلى زيارة أحد، حتى يعلم بهذه الوسيلة أنه حاضر في منزله، ويفهم من خطابه أنه لم يكن في حال يقتضي تأخير اللقاء إلى دفعة أخرى.
وتسلم إدارته لكل من عقد في محله فرعاً منه مجلداً، يحتوي على أسماء المشتركين فيه مرتبة على أحرف الهجاء، مع بيان الأعداد التي جعلت علماً على فروعهم. فمن أراد ليخابر آخر، خاطب الموظف في مركز دائرته أولاً، وأعلمه بالعدد الذي جعل على الفرع الواقع في منزل صاحبه، فيهيئ طريقة المخابرة معه. واختاروا أن يكون الموظفون في هذه الدوائر نساء، وقالوا في علة ذلك: إن التجربة كشفت على أن كلام المرأة في هذه الآلة أوضح من كلام الرجل، وأمكن في السمع.
ولا داعي إلى رفع الصوت عند المخابرة فيه، فإن المتكلم يلقي بكلامه في مكر تلفون:"آلة تقوية الصوت الضعيف"، بل ربما أدى الجهر بالقول فوق العادة إلى فوات بعض الأحرف، أو عدم تمكنها من سمع المخاطب.
يضعون في المطابخ موازين تسمى: ميزان المطبخ، يزنون بها ما يشترون من لوازم المطبخ ونحوه؛ لكي يتيقنوا نصح البائع أو خيانته، وعِلْم الباعة بمثل هذا مما يجعلهم على استقامة وحذر من التطفيف بالوزن.
ويتخذون الريش حشواً لألحفة الفراش التي تكون من كتان غالباً، فيجمعون في صنعهم هذا بين دفئها، وخفة وقعها، ويستعملون للطبخ بإرشاد