الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رحلتي إلى سورية ولبنان
(1)
سافرت من القاهرة يوم السبت 11 جمادى الآخرة، ووصلت إلى دمشق في الساعة السادسة بعد ظهر يوم الأحد، وكانت إقامتي بمنزل شقيقنا السيد زين العابدين حسين، المقيم بحي الميدان، وقد عُرف أهل هذا الحي الكبير بالمحافظة على الأخلاق الإسلامية، كما عرف بالحزم والأمانة في التجارة، وهم بعد قيامهم بأهم جانب من التجارة في دمشق نجد لهم فروعاً في أكثر البلاد السورية، وفي فلسطين، وشرق الأردن، ولو وجد في كل قطر من الأقطار الإسلامية جد ونشاط في التجارة والصناعة كهذا الجد والنشاط، لما انحازت الثروة في الشرق إلى طائفة اليهود وغيرهم من الأجانب، ولكانت حال المسلمين الاقتصادية لا تقل عن حال غيرهم من الطوائف. وتقدم الحالة الاقتصادية من أهم وسائل رقي الأمة وسعادتها.
أقبل من الغد فضلاء المدينة وعلماؤها وأدباؤها، يتفضلون بالزيارة والمؤانسة، وعقدت بعد هذا اجتماعات في منازل خاصة، أدعى إليها، ويشهدها كثير من كبار العلماء والفضلاء، والذين يعتنون بالبحث عن شؤون العالم الإسلامي، وطرق إصلاح حالتها الاجتماعية.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الخامس والسابع من المجلد السابع عشر الصادر في ذي القعدة سنة 1363 هـ.
وقابلت فخامة رئيس الجمهورية شكري بك القوتلي، وكانت بيني وبينه صداقة من قبل أن أستوطن مصر، ولقيت منه احتفاء دلّ على أحسن رعايته للعهد، وحمدت له ما اتجهت إليه همته من العمل لأن يكون في دمشق معهد ديني يشتمل على مراحل التعليم من الابتدائي والتجهيزي والعالي والتخصص. أوفد فخامته أحد الموظفين بالقصر لإبلاغي تحيته.
وفي دمشق كلية شرعية، وقد أتم القسم التجهيزي مرحلته في هذه السنة، وعُقد لطلبته امتحان لأخذ الشهادة النهائية، وجاءتني دعوة من شيخ الكلية الأستاذ الجليل الشيخ حسن الشطي للاشتراك في امتحانهم، فحضرت يوم امتحانهم في علوم القرآن، وكان من أعضاء هذه اللجنة: الأساتذة الأجلّة: المفتي الشيخ محمد الأسطواني، والقاضي الشيخ عزيز الخاني، ونقيب الأشراف السيد سعيد حمزة، وأستاذ التفسير الشيخ بهجت البيطار، ودخل في أثناء الامتحان مدير الأوقاف العمومية جميل بك الدهان، وساطع بك الحصري المعهود إليه بالنظر في نظم التعليم بالمعارف، ومدير أوقاف العاصمة الأستاذ أحمد القاسمي، وجرى امتحان الطلاب، وكانت نتيجة الامتحان مبشّرة بنجاح التعليم في هذه الكلية، ومشجعة للذين يقدرون التعليم الديني قدره من رجال الحكومة على رعايتها، والعمل لتوسيع دائرتها.
وقابلت وزير المعارف نصوح بك البخاري، فأحسن معاليه اللقاء، ودار الحديث في وظيفة العلماء من الدعوة إلى الحق بحكمة وحسن أسلوب، ودار الحديث عن حال مصر ونهضتها العلمية والأدبية، فقلت: إن في مصر خيراً كثيراً، وفيها بجانب هذا الخبر الكثير ما يجب الحذر منه؛ أعني: نزعة الإلحاد التي تظهر في مقالات أو خطب تصدر من نفر لا يقيمون للعفاف وزناً، وضاقت
عقولهم عن أن تفهم أن الإصلاح الديني أساس كل سعادة، وقلت له عندما عزمت على الانصراف:"إنما يزيد نهضة علمية مربوطة بآداب الإسلام".
سافرت في 6 يوليو إلى بيروت لتمثيل مجمع فؤاد الأول في المؤتمر الطبي، وحضرت حفلة الافتتاح، ومما لاحظته في الحفلة: أن الصف الثالث من الكراسي الأمامية مكتوب على أول كرسي منه أنه معد لرجال الدين، وجلس بهذا الصف نحو ستة من رجال الدين المسيحي، ولم نر فيه أحداً من رجال الدين الإسلامي، مثل: المفتي، أو القاضي، أو رئيس محكمة الاستئناف الشرعية، ولم أحضر بقية حفلات المؤتمر لأعذار قاهرة.
زرت الكلية الشرعية أو الفاروقية التي كان لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر فاروق الأول الفضل في إسعادها والنهوض بها، ولقيت هناك المتولي إدارة شؤونها من قبل وزارة المعارف المصرية الأستاذ عبد العزيز أحمد، فأطلعنا على منهج تعليمها، ونتيجة امتحانها، واجتمعنا في دمشق وبيروت ببعض المتخرجين فيها، فوثقنا بأنها مؤسسة محمودة الأثر، ولا سيما في تلك البلاد التي هي في حاجة إلى حركة إسلامية حكمية.
دخلت مسجداً لأداء صلاة الجمعة، وكان خطيبه الأستاذ البارع الشيخ سعدي ياسين، فارتجل خطبة راعى فيها ما تقتضيه الحالة الحاضرة من إرشاد، ونبه في الخطبة على حضوري بالمسجد، فأخذ الناس بعد الخطبة يتبينون بأنظارهم الشخص الذي نبه له الخطيب، وأقبل كثير منهم للتحية.
وأقام هذا الأستاذ الخطيب بمنزله مأدبة شهدها بعض أهل العلم والفضل، كما أقام الأستاذ السيد صادق الجبالي مادبة شهدها طائفة من العلماء والفضلاء، مثل: الشيخ محمد الأنسي رئيس محكمة الاستئناف الشرعية.
وعزمت "جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية" هنالك على إقامة حفلة احتفاء، ووزعوا أوراق الدعوة، وكان في ضمن برنامج الحفلة:"كلمة يقولها المحتفى به"، فأجبت الدعوة، واخترت أن تكون كلمتي في تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
وأرسلوا في الموعد أحد مندوبي الجمعية، فحضرنا هنالك، ووجدنا في الانتظار فضيلة رئيس الجمعية الأستاذ الشيخ أحمد العجوز، مع طائفة كبيرة من أعضاء الجمعية وغيرهم من المدعوين، فألقى أمين سر الجمعية كلمة تعرض فيها لجانب كبير من أعمال الجمعية، وخطب الأستاذ رئيس الجمعية، وخطب الأستاذ الشيخ سعدي ياسين، ثم جلست على منبر الخطابة، وشكرت الجمعية على احتفائها، وحضرات الخطباء على حسن ظنهم الذي أراهم الذرّة مني ذُرى، ثم ألقيت الدرس منبهاً فيه على فضل الإسلام في إصلاح الشؤون الاجتماعية، ومنبهاً للشبان على شُبه يوردها ملاحدتنا بقصد التضليل؛ ليحذروها.
وجلسنا بعد انتهاء الحفلة حيناً مع رئيس الجمعية، فرأيناه داعياً إلى الحق على بصيرة، وهو من المتخرجين في الأزهر الشريف.
وزرنا ضريح الإمام عبد الرحمن الأوزاعي المتوفى سنة 157 هـ، وهو في بناء قائم على شاطئ البحر.
ثم عدت إلى دمشق، وأقامت لنا "جمعية الشبان المسلمين" حفلة احتفاء شهدها جمع كبير من أهل العلم والفضل، ومن بينهم: سماحة الأستاذ الأكبر مفتي دمشق الشيخ محمد الأسطواني، وخطب فيها حضرات الأجلاء: رئيس الجمعية الأستاذ محمد بن المبارك، والأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا المدرس
بكلية الحقوق، والقاضي الأستاذ علي الطنطاوي، وألقيت بعد هؤلاء كلمة شكر لحضراتهم على ما غمروني به من ثناء لست أهلاً له، وأتبعت كلمة الشكر بكلمات في "الجمعيات الإصلاحية"(1) التي نشرت في الجزء الثالث والرابع من المجلد السابع عشر من هذه المجلة.
وسرني من هذه الحفلة أنها كانت وليدة عاطفة أدبية إسلامية خالصة، وأن خطباءها كانوا من شباب الأساتذة الذين أضافوا إلى ثقافتهم العصرية ثقافة إسلامية صحيحة، وطالما سمعتهم ينقدون مؤلفات بعض المنحرفين عن السبيل في مصر وغيرها، ويذكرون ما فيها من أمراض عقلية أو خلقية، فأحمد الله على أن الصفرة من شبابنا لا ينخدعون بما في تلك المؤلفات من زخرف القول، كما انخدع بها كثير ممن يقرؤون، وقد وضعوا أفكارهم بين يدي المؤلف يقلبها كيف يشاء.
وطلب مني أعضاء هذه الجمعية إلقاء محاضرة خلقية، فألقيتها بعد أسبوع، وهي المحاضرة التي نشر قسم منها في الجزء السادس من المجلد السابع عشر من هذه المجلة تحت عنوان:"السمو الخلقي في الإسلام"(2)، وخطب قبل إلقائها الأستاذ الفاضل خيري الجلاد، حامل شهادة كلية الشريعة، وخطب بعد إلقائها الأستاذ مصطفى السباعي المعروف في مصر بغيرته الدينية، وشجاعته الأدبية، وهو الآن يرأس في حمص جمعية تدافع عن الإسلام ونظمه الاجتماعية.
ولجمعية التمدن الإسلامي نهضة حازمة، وكانت هذه الجمعية قد نظمت
(1) انظر كتاب: "هدى ونور" للإمام.
(2)
انظر كتاب: "محاضرات إسلامية" للإمام.
محاضرات إسلامية تلقى بعد العصر في كل أيام رمضان بجامع علي باشا، وطلب مني زعماء هذه الجمعية إلقاء درس هنالك، فألقيت درساً في تفسير قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11].
وصليت الجمعة في جامع الدقاق بالميدان، فاقترح عليّ فضيلة الأستاذ الجليل خطيب الجامع الشيخ بهجت البيطار إلقاء درس بالجامع، وأعلن عنه عقب خطبة الجمعة، وكان موضوع الدرس: حديث مسلم: "من نفّس عن مؤمن كربة في الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" إلخ الحديث. ويعد انتهاء الدرس، وانصرافنا من المسجد، قال لي بعض الأساتذة: ألا تسمح بزيارة الأستاذ الشيخ الأشمر زعيم الحركة المقاومة لتبرج النساء وخروجهن عن فضيلة الحشمة؟ فمررنا بدار الأستاذ، وجلسنا معه نحو نصف ساعة.
وحضرت بدروس الوعظ التي تلقى بالجامع الأموي في رمضان، دروس الأساتذة الأجلّة: الشيخ هاشم الخطيب، والشيخ حسن حبنكة، والشيخ محمود ياسين، والشيخ بهجت البيطار، وأعجبت بحسن إلقاء هذه الدروس، واختيار موضوعها، ونقد شؤون كان في استطاعة الحكومة إصلاحها.