الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تأس يا قلب من وداعٍ
…
فإن قلب الوداع عادوا
*
عاصمة الجزائر:
وفي الساعة الخامسة صباحا تحرك بنا القطار من "باتنة"، ولم يزل يخبُّ ويضع، ويحمل ويضع، حتى ضرب سواد الليل أطنابه، وفي الساعة الثامنة أشرفنا على عاصمة الجزائر، فتراءت لنا مصابيح أنوارها بمنظر أنيق، وأشكال متناسقة، وذلك لأن المدينة قائمة على أكمة مرتفعة يبتدئ العمران من أعلاها، ثم يمتد متدلياً إلى حافة البحر، فيبصر الداخل عند استقبال شوارعها المنورة، وهي طبقات بعضها فوق بعض، رونقاً مليحاً.
وبعد أن اصطفينا محلاً لمقامنا ووضع متاعنا، وتناولنا من الراحة جزءاً يسيراً، تكفأنا نجول في بعفالنواحي، فالتقينا بالسيد علي بن الحداد أحد أعيان تجارها الأفاضل، فبسط علينا من الحفاوة والترحاب رداء ضافياً، ولهذا الفاضل محل تجاري يتسامر فيه جماعة من أعيان العلماء والفضلاء، تعارفنا مع بعضهم في تلك الليلة.
ومن الغد تشرفنا بزيارة الولي الصالح الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي (1)، وزرنا بإزائه المدرسة الثعالبية التي تم بناؤها في هذه السنة، وافتتحت باحتفال رسمي يوم الاثنين 17 أكتوير، وأسست هذه المدرسة لتعليم الوطنيين العلوم العقلية والنقلية، ومنها يتخرج القضاة والعدول. ثم بعد الزوال بساعة، ذهبت إلى الجامع الجديد، ويقال له: الجامع الصغير، فوجدت
(1) من كبار علماء الجزائر، ولد فيها عام 1386 م، وتوفي بها عام 1468 م. من مؤلفاته:"الجواهر الحسان في تفسير القرآن".
العالم الفاضل الشيخ بوقندورة المفتي الحنفي جالساً في زاوية منه، وحوله جماعة من الطلبة على شكل دائرة يتناوبون سرد "صحيح الإمام البخاري" واحداً بعد واحد، والشيخ مصغ إليهم، فإذا ناب أحدهم خطأ، استرده إلى ما هو الصواب، وهذه عادتهم في سائر أيام رمضان.
وبعد صلاة الظهر تنقلنا إلى الجامع الكبير، فالتقينا بالشيخ عبد الحليم ابن سماية، فغمرنا بنفحات خلقه الناضر، واختلب ألبابنا بفصاحة لسانه الساحر، ولم نلبث معه عند هذه الملاقاة إلا مدة قصيرة لأمر عارض حال بيننا وبين استطالة الجلسة.
وفي ذلك اليوم دعانا السيد علي بن الحداد لزيارة وقت الغروب، وبعد أن تناولنا معه الفطور، توجهنا إلى ضريح الشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي، بقصد الحضور بدرس الشيخ علي ابن الحاج موسى، فمكثنا غير بعيد حتى دخل الشيخ وهو محفوف بسكينة ووقار، وجلس بالمحراب، ثم رفع يديه بقراءة الفاتحة قبل افتتاح الدرس، وبعد ذلك أخذ في تقرير مبحث: صفة الكلام من كتاب "الصغرى" للشيخ السنوسي بصوت جهور، فوضّح معناها، ثم أقام عليها الدليل ثانياً، وتعرض في أثناء ذلك إلى جلب مسائل لها تتعلق بالمبحث؛ كتنبيه على أن الحدوث الذي وصف به القرآن في بعض الآيات؛ كقوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] هو عائد إلى الألفاظ التي نتلوها، لا إلى المعنى الذي هو قائم بالذات العلية.
ومما يدل على صلاح حال هذا الرجل، وصفاء سريرته: أنه ما جرى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على لسانه إلا ارتعد صوته، وفاضت دموعه، ثم أقيمت صلاة العشاء، فتقدم ذلك الشيخ وصلى بالجماعة إماماً، وقرأ في الركعة الأولى
سورة القارعة، فلما بلغ إلى قوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] أخذته عبرة شديدة. وسمعته يجهر بالتأمين بعد الفاتحة في الصلاة، فعجبت من مخالفته للرواية المشهورة، وهي عدم تأمين الإمام في الجهر، وبلغني أنه خوطب في ذلك، فأجاب بأنه يختار رواية المدنيين؛ لترجحها بالحديث الصحيح. يريد بذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"إذا أمّن الإمام، فأمنوا"، وهو ظاهر في تأمين الإمام في الصلاة الجهرية، والمتمسكون برواية البصريين المشهورة يؤولون "أمن" على: بلغ موضع التأمين؛ كأنجد: إذا بلغ نجداً؛ بدليل حديث: "إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين"، ولعل الشيخ ممن يستبعد ذلك التأويل، ولا يرى الحديث الأخير ظاهر الدلالة على عدم تأمين الإمام.
وعرجنا في إيابنا على محل السيد أحمد بن مراد المعد لبيع الكتب، فالتقينا بالشيخ محمد بوشنب أحد المدرسين بالمدرسة الثعالبية، فأخذنا معه أطراف محاورة أطلعتنا على ماله من النباهة التامة، والتفقه في الأمور الحديثة، زيادة عما له من التفنن. ثم انصرفنا، وصحبنا أحد الفضلاء فذكر لفظ "مجلة"، فاستنبأنا عن معناه لغة، فسقنا إليه عبارة "القاموس": مجلة - بالفتح-: الصحيفة فيها الحكمة، أو كل كتاب.
وفي اليوم الثاني من أيام إقامتنا، دعانا الشيخ عبد الحليم بن سماية إلى زورة محله في الساعة الخامسة مساءً، وكان منزله في أقصى المدينة وأعلاها، فصعدنا إليه على السيارة الكهربائية، سارت بنا في خطها الحديدي نحو 20 دقيقة، ووقفت أمام ضريح الولي الكامل الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري المتوفي سنة 1208 هـ، فنزلنا هناك، ووجدنا الشيخ
عبد الحليم في انتظارنا، فذهب بنا إلى داره، وارتقى بنا إلى طبقتها العليا، وتنفست مدة المسامرة، فتواصلت حلقاتها نحو ست ساعات.
جرتنا المناسبة إلى الخوض في شؤون المدرسين، فقلنا: ليس المدرس حقيقة من يلقى المسائل على حسب ما تحويه الأوراق جيدها على رديها من غير أن يعرضها على محك النقد، ويزنها بمعيار النظر؛ فإن من المسائل ما لم تحط التآليف بتحقيقاتها واستخراج خباياها، فقال لي الشيخ: مثال ذلك من فن البيان: الاستخدام؛ فإن البيانيين يعدونه من المحسنات المعنوية، ولا يبينون كيف يعود حسنه إلى المعنى، ثم استرسل في بيان رجوعه إلى المعنى بكلام يشهد لصاحبه بسلامة الذوق، والولوع بالكشف عن أسرار المسائل، دون الاكتفاء بتصوراتها المجردة، ثم استطردنا أن الاستخدام لا يختص بالضمير كما نص عليه الشهاب الخفاجي في "حواشي البيضاوي"، بل يكون بغيره؛ كالاستثناء؛ نحو: أبداً حديثي ليس بالمنسوخ إلا في الدفاتر، والتمييز نحو:
أخثِ الغزالة إشراقاً وملتفتاً
والعطف، وعليه خرج قوله تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 4]. فالمراد من الصلاة: معناها الشرعي، ووقع عطف {وَلَا جُنُبًا} باعتبار معناها المجازي، وهو المسجد. وأطلعني على صدر مقالة له فصيحة المباني، شريفة الموضوع، مفرغة في قالب الإنشاء العصري، ووعدنا بإرسالها عند استكمالها.
وكان هذا الفاضل زار الحاضرة قديماً، وأقام بها نحو ثمانية أيام أخذ فيها "المقولات العشر" تدريساً عن الشيخ محمد بن عيسى الجزائري
- رحمه الله، والتقينا بالعالم الشهير الشيخ عبد القادر المجاوي بعد شهودنا مجلس درسه "جوهرة التوحيد" بمسجد سيدي محمد الشريف، فحيانا بتحيات أكدت للتعارف القديم ميثاقاً، وصبّت علينا شيمه الشريفة من المؤانسة كأساً دهاقاً، وحينما عزمنا على الانصراف، أخذ علينا عهداً على تجديد الزيارة في الليلة القابلة، فعقبنا ذلك العهد بالوفاء، وبعد صلاة التراويح ذهب الشيخ ونحن في صحبته إلى جامع الشريف، وأقرأ به درسه الاعتيادي من "الأربعين النووية" في مجمع عظيم من الخاصة والعامة، وكان حديث تلك الليلة:"الدين النصيحة"، ثم عدنا إلى السمر، ومعنا جماعة من التلامذة.
نستحسن من دروس هذا الشيخ اقتصاره في كل فن على تقرير مسائله التي يشملها موضوعه، وعدم خلط بعضها ببعض. وقد كنت -عافاكم الله- ممن ابتلي درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، وأتوكأ في ذلك على أدنى مناسبة، حتى أفضى الأمر إلى أن لا أتجاوز في الدرس شطر بيت من ألفية ابن مالك -مثلاً-، ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج، عقيمة عن الإنتاج، ونرجو أن تكون توبتنا من سلوكها توبة نصوحاً.
ولهذا الشيخ أيضاً خلق عظيم نحمده عليه، وهو سلوكه في معاملة التلامذة طريقاً وسطاً، لا ينحط عن مكانة عزة النفس، ولا يرتفع عن ساحة التواضع، تحمله عواطف النسب العلمي على العناية بشؤونهم، وبذل الوسع في قضاء مآريهم، ويصده علو الهمة عن مجاراتهم فيما يزري بخطته الشريفة.
أأغرسه عزاً وأجنيه ذلة
…
إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولعل هذا الخلقال في لا ينبل الرجل إلا به، هو الذي غرس له في قلوب الجمهور مودة واحتراماً. وغالب القضاة وعدول المملكة الجزائرية
تخرجوا على يديه؛ لأنه كان درّس بقسنطينة أيضاً سنين متطاولة.
وشهدت مجلس ختم العالم الفاضل الشيخ السعيد لصغرى السنوسي بجامع سيدي رمضان، بحضرة جماعة من العلماء، وجمّ غفير من غيرهم، فقرع الأسماع بمواعظ حسنة، ونصائح مفيدة، ودبجها بمسائل شتى من النحو والبيان والبديع، وساق في أثنائها أحاديث فضل التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم "محمد".
وفي صبيحة تلك الليلة اجتمعنا ببعض المنتسبين للعلم، فسألنا عن رتبة تلك الأحاديث، فقلنا: قد نقلها جماعة من المحدثين، ولم يتعقبوها بشىِء، وإلى ذلك استند الشيخ في إيرادها، ثم ذكرنا له ما نعهده لملَّا علي قاري في شأنها، وهو: من علامات وضع الحديث مناقضته لما جاءت به الشريعة مناقضة ظاهرة، ومن ذلك أحاديث من اسمه محمد أو أحمد، وإن كل من تسمّى بهذا الاسم لم يدخل النار، فهذا يناقض ما علم من الدين: أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة.
واجتمعنا بالعالم البارع الشيخ محمد بن مصطفى خوجة بدكان السيد أحمد بن مراد، فمد علينا من الملاطفة رواقاً، وفتح علينا رياض أنس كانت مغلقة أبوابها إغلاقاً، فنظم في سلك المسامرة فرائد، وأنشدنا من بنات أفكاره قلائد، ثم ختمنا بالتعريج على ما هو الأحسن في طرق التعليم، فأبديت ما نراه الطريقة المثلى في هذا الموضوع، خلاصته: هو أن الرتبة الابتدائية والرتبة الوسطى، ينبغي للمعلّم الاقتصار فيها على تقرير المسائل مجردة عن ذكر الخلافات، والأدلة الطويلة الذيل، حتى إذا اقتصر المتعلم على إحدى
الرتبتين، أو عاقته دون الترقي لما بعدها عوائق، فقد نول ما فيه كفاية من غير أن يخفق مدة من حياته فيما لا فائدة فيه لمثله.
أما الرتبة العليا التي لا يقصدها إلا من طمحت همته إلى أن يكون عالماً معلّماً، فلابد فيها من تتبع عروق المسائل، واستقصاء آثارها، وحث مطية الفكر في أنجادها وأغوارها، على شريطة أن لا يلتفت المعلم إلى المباحث المتعلقة بعبارات المصنفين؛ فإنها داعية إلى خلط الفنون بعضها ببعض من غير كبير فائدة، والاشتغال بتحرير أصل من أصول العلم وصناعتها أفيد للطالب وأجدى، ويستغنى في تقوية الملكة وتشحيذ الذهن بالمباحث المتعلقة بنفس المسائل.
ودعانا السيد مصطفى بن الأكحل إلى منزله، وهو من أفاضل القوم، لا يحل بالبلد غريب، ولاسيما إن كان من أهل العلم، إلا وأكرم مثواه، وأحسن ضيافته، وحضر تلك المأدبة جماعة من أعيان العلماء؛ مثل: العالم الفاضل الشيخ بوقندورة، والشيخ عبد الحليم، والشيخ محمد بن مصطفى خوجة، فنضحوا بماء لطافتهم عن صدورنا وحشة الاغتراب، وتساقط من بين مذكراتهم العلمية ما تلذه عيون الألباب.
وجرت بمناسبة قول بعض الجماعة: أنا لا آكل لحماً، وقد آكل حوتاً، مسألة: من حلف أن لا يأكل لحماً هل يحنث بأكل الحوت أم لا؟ فقال أولئك السادة: لا يحنث؛ رعاية للعرف بمقتضى المذهب المتمسكين به مذهب أبي حنيفة، فسقنا نحن ما نقله ابن كمال باشا في "تفسيره" من أن سفيان الثوري أنكر ذلك على أبي حنيفة محتجاً بآية:{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12].
فقال أَبو حنيفة لرجل: اسأل سفيان عمن حلف لا يجلس على بساط، وجلس على الأرض، هل يحنث أم لا؟ فإن قال: لا يحنث، فقل له: قال تعالى: {الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]، فلما سأله وأجابه بعدم الحنث، وأورد عليه الآية، علم أن ذلك تلقين من أبي حنيفة. وذهب المالكية إلى الحنث؛ تمسكاً بالآية، وهو عند تحقق العرف بعدم تسمية الحوت لحماً مشكل لقاعدة: أن العرف مقدم على القصد اللغوي، ولم يحضرني حيئذ إلا أنه فرع مشهور بني على قول ضعيف، وهو أن المقصد اللغوي يقدم على العرف، أو العمل بقاعدة: أن الحنث يقع بأقل الوجوه؛ بخلاف البر، فقاعدته: أنه لا يقع إلا بأكمل الوجوه، فمن حلف ليسافر، لا يبر في يمينه إلا إذا سافر مسافة القصر، وإن سمّي ما دونها سفراً عرفاً ولغة، ومن حلف لا يسافر، حنث بسفره دون مسافة القصر.
وبعد طي بساط ذلك المجلس، ذهبنا إلى المسجد الذي أسسه السيد مصطفى بن الأكحل، فشهدنا مجلس ختم الشيخ عبد الحليم لكتاب في التوحيد لا أتذكر الآن ما هو؛ لأن الشيخ إنما قرر ما يتعلق بسورة الإخلاص، وبين كيف ينتزع منها العقائد الدينية بطريقة استحسنتها جداً، حتى إني كنت من المحرضين له على إقراء درس في التفسير زيادة عما هو بصدد إقرائه مثل درس السعد على "التلخيص".
ثم عدنا إلى السمر، وتناولنا أطراف البحث في مسائل، منها: مسألة اشتراط الولي لعقد نكاح المرأة، فأفادنا الشيخ محمد بن مصطفى خوجة: أن أبا يوسف، ومحمد بن الحسن يقولان باشتراط الولي، وهو قول عامة الفقهاء، وأسند ذلك إلى "عقود الجواهر المنيفة"، ثم مال بنا الكلام إلى أن
الواجب على العلماء أن يسعوا في بيان أحكام الشريعة، وبث تعاليمها في صدور الناس، وإن لم يسألوا عن ذلك.
فنقل لنا ذلك الشيخ عن ابن العربي ما يؤيد هذا، وهو أن المسائل الدينية يجب على العالم تعليمها، ولو بدون سؤال، بخلاف غيرها، فلا يطالب بتعليمها إلا عند السؤال.
وأخذ الجماعة في استحسان السفر، وييان فوائد الرحلة، فقلنا: تأييد ذلك: أن ابن العربي بعد أن حقق إباحة الاستياك للصائم بالنقل عن القاضي سيف الدين في كتاب "العارضة" قال: ويوم حصلت هذه المسألة، قلت: الحمد لله الذي أفادني هذه في الرحلة، وعلمت أني لو لم أحصل غيرها، لكفتني.
وقال في "الأحكام" عند قوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} [الأعراف: 189]: اختلف علماؤنا في راكب البحر، هل حكمه حكم الصحيح، أو الحامل؟ فقال ابن قاسم: حكمه حكم الصحيح، وقال الأشهب: حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر، وابن القاسم لم يركب البحر، ولو عاين ما يشاهده المسافر فيه، لكان رأيه كرأي أشهب.
والتقينا بالفاضل البارع السيد يوسف بن سماية، فوقفنا معه موقف التسليم والوداع أمداً لم يتجاوز 20 دقيقة، وقد لاح لنا على خطاباته ملاطفة جميلة تشف عن جودة فكرة، وحلاوة في الأخلاق.
استطلع رأينا في تفسير قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185} على معنى: ابتدئ فيه نزول القرآن، فقلنا: ذلك التفسير صحيح، ونسبه المفسرون إلى ابن إسحاق، والأحاديث الدالّة على
إنزال القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وإن كانت صحيحة، لا يتعين حمل الآية على معناها.
ودفعتنا المناسبة إلى الكلام على العمل بالحديث الضعيف، فقلنا: قال الفقهاء: إن الحديث الضعيف لا يعمل به في أحكام الحلال والحرام مطلقاً، ويعمل به في فضائل الأعمال بثلاثة شروط: أن لا يكون شديد الضعف، ولا يعتقد العامة نبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وأن يتدرج بمعناه تحت قاعدة كلية من قواعد الشريعة.
وذهب أبو بكر بن العربي إلى أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً. وسامرنا بدكان السيد علي بن الحداد الشيخ مصطفى بن الطالب أحد علماء تلمسان، والمتولي خطة الفتوى بصور الغزلان (1)، وكان له ميل شديد إلى المباحثات العلمية، ويحب التطلع على علل المسائل، وربما هجم على إبداء ما يلوح له من ذلك.
حاول في أثناء المذاكرة أن يفرق بين الكفارة والحدِّ في عرف الشريعة؛ بأن الكفارة تستعمل في عقوبة ما هو حق لله، والحد يطلق على عقوبة ما فيه حق لمخلوق، فنازعه بعض المحاضرين بأن عقوبة الزنى تقع على ما هو حق لله، وتسمى حداً، فقلنا: إن كثيراً من الفقهاء يطلقون القول بأن الحق في الزنى لله، ويبنون على هذا: أنه إن تاب، برئت ذمته، والتحقيق أن لأقارب المرأة المزني بها في ذلك حق أيضاً؛ لما يلحقهم من العار وهتك الحرمة، وذلك مما لا تغفره التوبة، كسائر الحقوق المتعلقة بالمخلوقين، والأمثل أن يقال: إن الحدود تستعمل في العقوبات الخالصة، والكفارة يغلب إطلاقها
(1) بلدة بالجزائر.
على الطاعات التي تقع في مقابلة جناية.
وانجر بنا البحث إلى مسألة تقديم الكفارة على الحنث، وذكر الخلاف في إجزائها، فقلنا: ذهب أبو حنيفة إلى أن سبب الكفارة هو الحنث، وعليه فلا يجزي التكفير قبله، ورأى أن الكفارة بدل عن البر، فلزم أن يكون موضعها عدم المبدل منه، وذهب مالك إلى أن سبب الكفارة هو اليمين، والدليل عليه قوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].
فإن المعاني إنما تضاف إلى أسبابها، وعليه، فيجزي التكفير، ولا يلزم عليه تقدم الحكم على شرطه؛ لأن الحنث إنما هو شرط في انحتام الكفارة من غير تخيير، لا شرط في أصل وجوبها، وحدثنا الشيخ مصطفى المذكور: أنه كان قرر درساً بمحضر بعض الإفرنج، وقال في خلاله: إن العرب هم سكان الحاضرة وإن كانوا أعاجم، والأعراب هم سكان البادية، وإن لم يكونوا من العرب، فعارضه بعض الحاضرين بأن المتعارف: أن العرب اسم الجيل المخصوص، سواء سكنوا البادية، أو الحاضرة، والأعراب اسم لمن يسكن البادية من ذلك الجيل، فطالعنا وقتئذ بعض كتب في اللغة، فعثرنا فيها على شبهة فيما قرره الشيخ في "المصباح": وأما الأعراب -بالفتح-، فأهل البدو من العرب، الواحد أعرابي، وزاد الأزهري فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، قال: فمن نزل البادية، وجاور البادين وظعن بظعنهم، فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف، واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب، فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء، وذكر حديث:"أحب العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي".
فقال الشيخ مصطفى: هذا الحديث تكلم فيه. بيان ما أشار إليه: أن
الحديث رواه البيهقي في "الشعب"، والحاكم في "المستدرك"، والطبراني في "معجمه"، وكلهم من طريق يحيى بن بريد، وهو ممن يروي المقلوبات، وضعفه أحمد وغيره، وتابع يحمى على رواية هذا الحديث محمد بن الفضل ابن عطية، ومحمد بن الفضل متفق على ضعفه واتهامه بالكذب، فلا يصح للمتابعات، ولكن للحديث شاهد رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" من رواية شبل بن العلا عن أبيه عن جده، عن أبي هريرة، مرفوعاً:"أنا عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي". وهذا الحديث ضعيف فقط، لا صحيح، ولا موضوع، ولا يثبت به أن كلام أهل الجنة عربي؛ إذ الأحاديث الضعيفة لا يكتفي بها في العلميات.
وزرنا المكتبة العمومية، فرأينا فيها عدة من الكتب الغريبة، مثل:"القبس على موطأ مالك بن أنس"، "وترتيب المسالك على موطأ مالك"، هجت أسفاً على أني لم أتمكن من زيارتها إلا في آخر يوم من أيام إقامتنا، حتى إني لم أستوف مطالعة أنموذج الكتب بتمامه (1).
(1) لم ينشر الإمام تتمة الرحلة في مجلة "السعادة العظمى"؛ لتوقفها عن الصدور، ولم نعثر عليها في مجلات أخرى، أو بين أوراقه.
ومن خلال مطالعاتي لمجلدات مجلة "الهداية الإسلامية" وجدت في العدد السابع من المجلد الحادي عشر (ص 582) وتحت عنوان "الشيخ الأخضري صاحب السلم والجوهر المكنون" ما كتبه الإمام: هو من علماء بلاد الجزائر، ولد سنة عشرين وتسعمائة وبلغ من السن اثنين وثلاثين سنة بالوقوف على التاريخ معاينة، وأظنه توفي سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة، وقبره اليوم مشهور ويُزار في "ينطيوس" وهي قرية قريبة من بلدة بسكرة من عمل الجزائر.
اطلعنا على هذا في نسخة محفوظة من شرح الشيخ محمد بن محمد بن علي بن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= موسى الشغري الجزائري للجوهر المكنون. وقد وقفت على قبره في القرية المذكورة في بعض رحلاتي إلى بلاد الجزائر.
ملاحظة: هذا الشرح يؤكد أن الإمام محمد الخضر حسين زار الجزائر عدة مرات، وأنه زار ولاية "بسكرة" ومدينة "طولفة" التابعة لها وهي مكان ولادة والده الحسين وجده علي بن عمر. ولكن تتمة الرحلة -للأسف- لم نقع عليها.
ذكرت هذه الملاحظة رداً على همسات في الجزائر. لماذا لم يقم الإمام بزيارة موطن آبائه وأجداده!